رسالة من برلين: حول الوضع في ألمانيا في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر

بيتر غوردون

ترجمة محمود الصباغ

تعيش ألمانيا حالة فريدة من تقييد النقاش العام، فرضته السلطات هناك،  حول  هجوم حماس [الوحشي]  في 7 تشرين الأول/أكتوبر وما أعقبه من هجوم مضاد مدمر  شنته إسرائيل بشكل  لم يسبق لها  أن فعلت من قبل.  ولعل ما تشهده ألمانيا في هذا الصدد يعكس، على وجه الخصوص أهوال “الشواه” [ المحرقة] والإبادة الجماعية لما يقرب من ستة ملايين يهودي -ما يعادل ثلث يهود العالم آنذاك- ولعل كل هذا ألقى على كاهل المواطنين الألمان عبء مسؤولية فريدة من نوعها لجهة ضمان عدم تكرار التجرية وتجنيب الأقلية اليهودية مثل هذه الجرائم مرة أخرى. وعملت جمهورية ألمانيا الاتحادية، منذ تأسيسها في العام 1949، إلى تبني وتأييد ما يرقى إلى سياسة رسمية للدعم القاطع لإسرائيل. وهو دعم لا يزال على هذا  الحال إلى حد كبير حتى اليوم، رغم العديد من التغيرات الملحوظة في الثقافة السياسية الإسرائيلية وصعود أصوات أكثر تشدداً وعنفاً في وسط اليمين الديني المتطرف، على مدى العقود القليلة الماضية، تطالب بالاستحواذ على جميع الأراضي (بما في ذلك قطاع غزة والضفة الغربية) لصالح اليهود وحدهم دون غيرهم، بل دعت، في بعض الأحيان، إلى طرد الفلسطينيين. حتى أولئك الذين تبلغ نسبتهم 20% من السكان والذين يعتبرون، رسمياً، مواطنين إسرائيليين رسميا ولديهم أحزابهم السياسية الخاصة.

ويعيش اليوم في ألمانيا الكثير  من أبناء الشتات الفلسطيني -من بينهم أحفاد من فروا من ديارهم عندما تأسست إسرائيل في العام 1948، ففي برلين وحدها يعيش ما بين  35,000 إلى 45,000 فرد من أصول فلسطينية. والمفارقة التاريخية اللافتة هنا تكمن في أن المنطقة التي كانت ذات يوم موطناً لثقافة فرعية يهودية مزدهرة، والتي كانت مستهدفة بالإبادة، أصبحت الآن موطناً لأكبر مجتمع فلسطيني في جميع أوروبا قاطبة. وسوف يساعد هذا السياق في تفسير سبب تزايد حدّة الاحتجاجات والاحتجاجات المضادة في ألمانيا بشكل خاص. وظهر في خضم هذه التظاهرات العديد من البيانات والعرائض التي حظي  بعضها باهتمام واسع خلال الشهر الماضي،

ومن بين تلك البيانات التي تستحق اهتماماً أكبر هي الرسالة المنشورة باللغة الإنجليزية أدناه -نشرت أول مرة باللغة الألمانية في 28  تشرين الأول/أكتوبر  بتوقيع أكثر من 180  شخصية من الأكاديميين المقيمين في ألمانيا أو الذين يدرسون فيها. وتعتبر الرسالة جديرة بالاهتمام والملاحظة لنبرتها المتوازنة، ووضوحها الأخلاقي، واستعدادها للاعتراف بالمسؤولية المشتركة عن العنف الذي ارتكبته كل من حماس وإسرائيل، رغم أنها لا تخجل أو لا تتهرب من التصريح بأن الحملة العسكرية الإسرائيلية غير المتناسبة ترقى إلى شكل من أشكال “العقاب الجماعي”  ضد المدنيين الذين لا يمكن تحميلهم المسؤولية أو محاسبتهم عمّا قامت به حماس بدعوى حرية الفلسطينيين. ويظهر أن أحد الأهداف الرئيسية للرسالة هو الإصرار على حق جميع الجماعات في ألمانيا في الاحتجاج تأييداً للفلسطينيين ودعماً لهم. وتقر الرسالة أن هذا الحق بات الآن في خطر؛ فقد عبّر  أبرز القادة السياسيين في ألمانيا، وعلى رأسهم المستشار أولاف شولتس، عن دعمهم لإسرائيل بشكل لا يرقى إليه الشك ولا يقبل الجدل كالتزام وواجب  أخلاقي لعموم المواطنين الألمان. وكان المستشار الألماني قد أعلن، في خطابٍ له  أمام المشرّعين بعد وقت قصير من هجمات حماس: “يحتم علينا تاريخنا الخاص، ومسؤوليتنا المستمدة من الهولوكوست، أن نجعل من واجبنا الدائم الدفاع عن وجود وأمن دولة إسرائيل”.

تعمل هذه النظرة شديدة العمومية على محو الأصوات العديدة لليهود، سواء في إسرائيل أو في أماكن أخرى، بما في ذلك ألمانيا، والذين يدينون سياسات الحكومة الإسرائيلية. كما أنها تقيد حرية  الفلسطينيين في ألمانيا في التعبير عن انتقاداتهم لإسرائيل وتضامنهم مع ضحايا القصف في غزة. وقد أعلن عن حظر العديد من الاحتجاجات العامة في أنحاء ألمانيا -حصلت  الاحتجاجات المبكرة على الإذن بالتظاهر  باعتبارها وقفات احتجاجية صامتة.

ومن بين الجماعات التي منعت من التظاهر: منظمة “الشبيبة ضد العنصرية Youth Against Racism ” و”يهود برلينيون ضد العنف في الشرق الأوسط Jewish Berliners Against Middle Eastern Violence “. وأبلغت السلطات الحكومية القائمين على السياسة التعليمية المدارس أنه يمكنهم منع الطلاب من ارتداء الكوفية أو الملصقات التي تحمل عبارة “فلسطين حرة”. وشعرت المؤسسات الثقافية بضغوط مماثلة للحد من  أي حدث يمكن تفسيره على أنه متعاطف مع القضية الفلسطينية. ومثال ذلك ما حدث في معرض فرانكفورت للكتاب، أكبر معرض تجاري للكتاب في العالم وحدث سنوي تظهر فيه المطبوعات الجديدة لأول مرة، حين سحب تكريمه للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي بإلغاء حفل توزيع جائزة كتابها “تفصيل ثانويMinor Detail ” والذي كان مدرجاً ضمن فعاليات المعرض.

ومن بين المفارقات العديدة لهذا الوضع أن الشعار الذي تبنته بعض الجماعات المؤيدة للفلسطينيين -فلسطين حرة “من النهر إلى البحر”- يشبه إلى حد كبير لغة وأهداف حزب الليكود اليميني الإسرائيلي الموضحة في ميثاقه المعلن سنة 1977 والذي ينص على “السيادة الإسرائيلية الحصرية “بين البحر ونهر الأردن”. وحذر فيليكس كلاين، الذي يشغل منصباً رسمياً بصفته “مفوض الحكومة الاتحادية للحياة اليهودية في ألمانيا ومكافحة معاداة السامية”، من “الكراهية المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل” بسبب “هتاف الناس”  “من النهر إلى البحر،  فلسطين حرة”. فهذا الهتاف من شأنه، كما يرى كلاين “إنكار حق إسرائيل في الوجود”. وفي الوقت الحالي، يعتبر استخدام الشعار محظوراً قانونياً في ألمانيا ويخضع  من يستخدمه  إلى الملاحقة الجنائية بتهمة “التحريض على الكراهية”، رغم أن من يستحضر  فقرة ميثاق الليكود المذكور أعلاه  لن يتعرض إلى ملاحقة ومحاكمة مماثلة.

لا تعتبر إسرائيل، بالنسبة للكثير من أفراد الشتات اليهودي مجرد دولة مثل أي دولة أخرى. بل هي رمز للكرامة اليهودية والبقاء، ويجد بعض اليهود صعوبة في تمييز الفرق بين معاداة السامية والانتقاد المشروع لسياسات إسرائيل، رغم ما هو مفترض أن يكون بديهياً بقاء سلوك كل دولة منفتحٌ على  النقد، فيما لو اعتبرنا أن المعايير العالمية للقانون الدولي وحقوق الإنسان تحتفظ بمعنى ما في جوهرها. وعلى النقيض من ذلك، لا ترمز إسرائيل، بالنسبة للكثير من أبناء الشتات الفلسطيني، إلى الكرامة بل إلى نزع الملكية. ووجودها كدولة يهودية، مدعوماً بإمدادات لا حصرية وغير مشروطة تقريباً من المساعدات العسكرية الأمريكية، يعني استمرار العنف والإذلال، ويحدد معاني متعددة قد لا يمكن التوفيق فيما بينها لكنها جميعها تضمن  أن أولئك الذين فروا في العام 1948 لا يمكنهم العودة إلى ديارهم. “أبدا مرة أخرى”.

يبدو الوضع الحالي في ألمانيا مزرياً على عدة أصعدة. فقد ألقيت زجاجات المولوتوف على كنيس يهودي في برلين، وأعرب العديد من المواطنين اليهود عن خوفهم  نتيجة شعورهم  بعدم الأمان في الشوارع الألمانية؛ وقد نصحهم فيليكس كلاين بتجنب ارتداء ملابس يهودية محددة مثل الكيباه في الأماكن العامة. وفي الوقت عينه، ازدادت بحدة حوادث المصنفة “إسلاموفوبيا”. وبحسب رويترز، ذكرت الشرطة الألمانية  تلقت ثمانية مساجد على الأقل “طرودا بها أجزاء ممزقة من القرآن ممزوجة بالبراز” منذ بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر. وليس مستغرباً، في ظل مناخ التوتر المتصاعد والكراهية، حصول مكاسب انتخابية واضحة للحزب اليميني المتطرف، حزب البديل من أجل ألمانيا AfD،  في ولايتي بافاريا وهيسه الغربيتين.

علاوة على ذلك، كانت الأقلية الفلسطينية في ألمانيا على وجه الخصوص، إلى جانب الجالية العربية والمسلمة على وجه العموم، هدفاً لتدابير الشرطة القمعية والمراقبة الحكومية المشددة والدقيقة. ودعت الحكومة الألمانية الاتحادية في برلين مؤخراً إلى “يوم عمل” ضد معاداة السامية، وفي بافاريا فتشت الشرطة سبعة عشر منزلاً لمن يشتبه في قيامهم بالتحريض المعادي السامية. واتهم المشتبه بهم في ميونيخ ونورمبرغ بالانتماء إلى مجموعة على الإنترنت نشرت عبارات مثل “الغاز لليهود”. [ بمعنى احرقوا اليهود].

ولكن تعريف معاداة السامية أصبح الآن فضفاضاً ومهلهلاً بما فيه الكفاية بحيث لم يعد  يقتصر فقط على حالات خطاب أو سلوك الكراهية الواضح؛ بل بات يميل أيضاً  إلى إسكات أي صوت ينتقد تصرفات إسرائيل الحالية في غزة أو يعبَر عن دعمه لحركة المقاطعة BDS  والتي تمثل، في الحالة العادية، استراتيجية غير عنيفة  عادةً ما تكون مسموحة عند توجيهها ضد دول أخرى. وفي غضون ذلك، اقترح الائتلاف الحاكم في ألمانيا -الذي يضم الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر- مجموعة جديدة من التوصيات القانونية والسياسية بعنوان (“المسؤولية التاريخية” لحماية الحياة اليهودية في ألمانيا) والتي من شأنها تهديد من يشتبه في سلوكهم المعادي السامية بإمكانية الترحيل أو الحرمان من الجنسية. وقد اشتكى الفلسطينيون والناشطون المؤيدون للفلسطينيين من تعريض حريتهم في التعبير  لقيود حادة، وأشاروا إلى المفارقة التي يطلب منهم تحمل أعباء ماضٍ ألماني غير مسؤولين عنه بأي حال.

وثمة واحدة من أكثر المفارقات إيلاما في النقاش الحالي في ألمانيا كانت سبباً لفتح باب تصدع اليسار نفسه على مصراعيه. ففي 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، ظهر بيان بعنوان “مبادئ التضامن” على الموقع الإلكتروني Normative Orders ، وهو عبارة منصة بحثية مرتبطة بمجموعة  فلاسفة يعرفون أنفسهم ضمن إرث مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية. ومن أبرز الموقعين على البيان يورغن هابرماس، الفيلسوف والمنظّر الاجتماعي، الذي اشتغل على مدار حياته المهنية الطويلة  على مكافحة قوى التعصب والاستبداد السياسي في ألمانيا أكثر من أي مفكر عام آخر. ويؤكد البيان على المبدأ الأساسي المتمثل في “التضامن مع إسرائيل و[مع] اليهود في ألمانيا”، لكنّه يشدّد أيضاً على ضرورة التناسب في الرد العسكري الإسرائيلي؛ ويصر البيان على ضرورة أن يكون المبدأ التوجيهي الناظم لما يحصل “منع وقوع إصابات بين المدنيين وشن حرب مع احتمال السلام في المستقبل”. وفي يوم نشر البيان، استضافت منصة “ Normative Orders ” مؤتمراً عن الإسلاموفوبيا في ألمانيا. غير أن البعض أشار إلى عدم كفاية البيان ذاته في التركيز على العنصرية المتزايدة ضد العرب أو انتهاك حقوق الفلسطينيين.

ولا يزال الجدل مستمرا. في ألمانيا كما في أي مكان آخر، وأصبح تبادل الاتهامات بمعاداة السامية أو الإسلاموفوبيا أمراً شائعاً جداً، على الرغم من انتفاء أي دور لهذه الاتهامات على الإطلاق لإنهاء الحرب. وحتى وقت كتابة هذه السطور، كان ما يقدر بنحو 15,000 من سكان غزة قد لقوا حتفهم.

يمثل النداء التالي أدناه -الذي وصفته بعض وسائل الإعلام الألمانية خطأ بأنه يقلل من شأن معاداة السامية أو يشيطن إسرائيل- خطوة مهمة في الدفاع عن حقوق من يرغب في التحدث بوضوح ومسؤولية ومن يدين إسرائيل لهجومها الحالي على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

________________________________________

رسالة من برلين – نداء إلى الجمهور من الأكاديميين النقديين

منذ المذابح التي ارتكبتها حماس في إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر وما تلاها من عقاب الجيش الإسرائيلي الجماعي لغزة، حظرت سلطات برلين العديد من الاحتجاجات تضامناً مع السكان المدنيين في غزة. وشمل ذلك مظاهرة لجمعيات يهودية، ومظاهرة أخرى تحت شعار “شباب ضد العنصرية”، فضلاً عن العديد من المظاهرات من قبل الجمعيات الفلسطينية، على الرغم من إطارها الواضح كفعاليات مؤيدة للسلام. وبصفتنا نقادٌ أكاديميون، ندعو حكومة الولاية إلى التوقف الفوري عن ممارسة هذا النوع من القمع السياسي والكف عنه، والذي يتضمن أيضاً تعليمات قمعية رادعة للمدارس صادرة عن مجلس الشيوخ في برلين (على سبيل المثال حظر ارتداء الكوفية الفلسطينية).

لقد ازدادت الهجمات المعادية للسامية في برلين بعد السابع من تشرين الأول/  أكتوبر. ومنذ ذلك الحين، وصل قمع الشرطة ضد الفلسطينيين إلى مستويات مقلقة تنذر بالخطر، وطال القمع أيضاً  من يتضامن مع فلسطين، وكذلك ضد قطاعات كبيرة من السكان في منطقة نويكولن Neukölln التي تقطنها أغلبية مهاجرة في برلين. ويتطلب ضمان سلامة الشعب اليهودي في برلين استجابة المجتمع ككل، بما في ذلك الهياكل والبرامج التعليمية المناهضة للفاشية، وبرامج التعليم السياسي الديمقراطي (الذي يستلزم عكس تخفيضات التمويل الكبيرة)، وفهم أفضل لتنوع الحياة اليهودية. ولكن ما يحدث هو عكس ذلك تماماً؛ حيث يتم تجريم منطقة بأكملها من خلال تدابير قمعية مثل التنميط العنصري. مما يستدعي أيضاً رد فعل تضامني رداً على هذه التطورات.  

يتعرض  اليهود وكذلك الشباب والأطفال الفلسطينيون لعنف الشرطة في سياق المظاهرات بسبب تصاعد القمع الحكومي. ومن غير المقبول هذا الانتهاك للحقوق الأساسية في حرية التعبير والتجمع، فضلاً عن كونه  بعيداً بصفته أداة فعالة ذات جدوى في مكافحة معاداة السامية الكامنة المتزايدة في ألمانيا.  وقد أشار إلى كل هذا أكثر من مائة فنان ومثقف يهودي يعيشون في ألمانيا، وذلك في رسالة مفتوحة بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر  الماضي.

تعبّر الهجمات المعادية للسامية مثل محاولة الحرق المتعمد لكنيس Kahal Adass Yisroel في شارع Brunnenstrasse  في منطقة Berlin-Mitte في 18 تشرين الأول/ أكتوبر ، والمظاهرات ضد سياسات دولة إسرائيل أمام المؤسسات اليهودية ، عن مساواة الحكومة الإسرائيلية مع الشعب اليهودي. ومثل هذه المعادلة، في حد ذاتها، تعتبر سلوكاً واضحاً  لمعاداة السامية. ويسود منطق المساواة أيضاً في السياسة الألمانية والمجال العام إلى حد مثير للرعب والقلق، وإن لم يكن مفاجئاً. ويتضح ذلك، على سبيل المثال، بدعم السياسيين والصحفيين، بالإجماع تقريباً، للعمليات العسكرية للحكومة الإسرائيلية بحجة مفترضة  أن مثل هذا الدعم يعبر عن تأييد للدولة اليهودية- حتى مع انتقاد الأمم المتحدة الفعلي لهذه العمليات ووصفها بالإبادة جماعية/ كما يرى بعض الخبراء. وينبغي لنا التأكيد، عندما يتم التذرع بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس في إطار القانون الدولي، على أن القانون الدولي يحظر العقاب الجماعي لمجموع السكان المدنيين، فضلاً عن تدمير البنية التحتية المدنية.

لقد اعتاد الناس في ألمانيا، على تجاهل الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2007 وذلك في انتهاك صريح للقانون الدولي بما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على السكان المدنيين. إن التأكيد على الدعم المطلق غير المشروط للحكومة الإسرائيلية، في هذه اللحظة بالذات، سوف يقود إلى تغذية وهم يرى بقدرة الاحتلال العسكري على توفير فرص للسلام والأمان. وفي هذا السياق، يتم تفسير المسؤولية التاريخية لألمانيا تجاه الشعب اليهودي الناتجة عن الشواه [المحرقة] بطريقة تمنع المواجهة النقدية مع سياسات اليمين المتطرف العلنية لحليف جيوسياسي مهم.

قدمت الصحفية الإسرائيلية عميرة هاس، مؤخراً، تعليقاً في صحيفة هآرتس الإسرائيلية لا تكاد تنشره أي وسيلة إعلام ألمانية في الوقت الحالي وتقول فيه:  “لقد خنتم مسؤوليتكم منذ أمد، أيها الألمان. تلك المسؤولية “الناشئة عن الهولوكوست”  -مسؤولية قتل أهلي؛. عائلة والدي، من بين عائلات آخرين، ومعاناة الناجين. لقد خنتم تلك المسؤولية اليوم بدعمكم المطلق غير المشروط لإسرائيل التي تحتل وتستعمِر وتحرم الناس من المياه وتسرق الأرض وتسجن مليوني غزّي في قفص مزدحم وتهدم المنازل وتطرد سكان أحياء وتجمعات بأكملها من منازلهم، وتشجع عنف المستوطِنين. ولا ينبغي للدول القومية، من منظور ديمقراطي، منح بعضها البعض دعماً غير مشروط وغير نقدي. ويجب لهذا أن ينطبق أيضا على العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل”.

في الأيام الأولى التي تلت 7 تشرين الأول/أكتوبر، تم التقليل من شأن المذابح في جنوب إسرائيل واحتجاز الرهائن من قبل حماس، والاستهزاء، في بعض الحالات من حزن الأقارب الإسرائيليين. ثم بدأت مرة أخرى قطاعات كبيرة من وسائل الإعلام، فضلاً عن العديد من السياسيين على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات، في وصف أي تعبير عن التضامن مع المدنيين الفلسطينيين بأنه تافه أو حتى تمجيد لحماس بطريقة شاملة، باتباع منطق المساواة القاتل والعنصري.

لا ينبغي مساواة الشعب الفلسطيني بحماس، مثلما لا يجب مساواة الشعب اليهودي بالحكومة الإسرائيلية. وعلاوة على ذلك، ينبغي الاعتراف بالحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة وسياسة الاستيطان في الضفة الغربية، التي تشكل انتهاكا للقانون الدولي بنفس القدر، كسياق سياسي للأحداث التي تتكشف حالياً.  ومن يفشل أو يرفض الأخذ بمثل هذه السياقات في الاعتبار  لا بد أنه يتبع أسلوب الحكم المسبق، ويقفل الباب أمام التعامل مع الأسباب الاجتماعية والسياسية للعنف، ويجعل من نفسه شريكاً في خلق مزيد من التصعيد للصراع الحالي.  وكما يتضح من الوضع في برلين، لا تكاد توجد حالياً أي إمكانات تقريباً لأفراد الشعب الفلسطيني في ألمانيا للتعبير عن أنفسهم كمواطنين سياسيين لهم منظورهم الخاص ومطالبهم بحق تقرير المصير. وفي الواقع ، كان هذا هو الحال لبعض الوقت الآن. وأي تعبير من هذا القبيل ، سواء كان سياسياً أو أدبياً أو فنياً ، سوف يواجه بشكل متزايد شكوكاً كاسحة في كونه معادياً للسامية.

تعتبر  برلين موطناً لأكبر جالية فلسطينية في الشتات الأوروبي. وأحد أبعاد الواجب الدستوري للحكومة هو حماية الأشخاص الذين يعيشون هنا. وهذا ينطبق على الشباب الفلسطيني، الذين يواجهون بدلاً من ذلك لامبالاة من السياسة الألمانية وقطاعات واسعة من الجمهور تجاه معاناة السكان المدنيين في غزة، والذين يتم وضعهم الآن تحت الشبهات العامة، وتجريمهم وتهديدهم بالترحيل من قبل السياسيين. وينطبق هذا أيضا على  الذين ينتقدون النظام الحاكم في إسرائيل من اليهود الذين تستحوذ السياسة الألمانية والجمهور على حزنهم وألمهم على أقاربهم في وطنهم، والذين تم تقييد مساحة تعاطفهم العام أيضاً.

إن الافتراض بأن قمع الشرطة والقيود المفروضة على الحقوق الأساسية سيضمن الحماية لهؤلاء السكان هو افتراض خاطئ.

القمع يغذي الاستياء والعنف يولد عنفاً مضاداً ويقوض أشكال العيش المشترك التضامني الذي يمارس في العديد من الأماكن في برلين. وبالتالي سوف يضر  مسار العمل الذي تتخذه الشرطة بجميع من انخرطوا في شرك هذه الحرب. فسلوك الشرطة لا يقيد فقط الحقوق السياسية الأساسية للأشخاص الذين ليس لديهم دولة خاصة بهم للدفاع عنهم، بل يمنع بصورة فعالة قيام تحالفات سياسية بين الفئات المهمشة في برلين، الذين يتم التنديد بهم علناً وإدانتهم والتمييز ضدهم في النقاش الحالي المناهض للهجرة في ألمانيا. وحقيقة أن الدعوات إلى ترحيل الفلسطينيين تتعالى في نفس الوقت الذي تندلع فيه حرب في إسرائيل وفلسطين، ويتعرض السكان المدنيون لخطر العنف العسكري المنهجي والطرد، تشهد على ازدراء خبيث بشكل خاص للإنسانية.

في اليوم التالي لهجوم حماس على المدنيين الإسرائيليين، احتفل حزب البديل من أجل ألمانيا صاحب  البرنامج اليميني المتطرف، بنجاحات انتخابية كبيرة في ولايتي بافاريا وهيسه.

وفي بافاريا، تم انتخاب هوبرت أيوانجر Hubert Aiwanger ، الذي اكتسب سمعة سيئة جديدة قبل فترة وجيزة فقط نظراً للاشتباه به بنشر كتابات مباشرة معادية للسامية للمرة الأولى. إن تحديد التهديد المعادي للسامية في ألمانيا في المقام الأول في الاحتجاجات ضد العنف في غزة  إنما يعبر عن نزعة شعبوية عنصرية ويتجاهل الميول المعادية للسامية ذات العمق التاريخي والقوية اجتماعياً في قطاعات واسعة من المجتمع والشرطة والهيئات التشريعية.

إن مهمة البحث النقدي تتضمن توصيف وتسمية العلاقات الاجتماعية المنتجة للقمع والاضطهاد وتحليل ترابطها وعلاقاتها المتبادلة.

وحتى لو كانت العنصرية ومعاداة السامية تستند إلى ديناميكيات مختلفة من القمع، فيجب محاربتهما في ظل ذات الظروف الاجتماعية، مما يعني أيضاً محاربة الظروف الاجتماعية التي تتم إعادة إنتاجها أو استنساخها فيها.

يجب أن تكون كيفية ظهور المعاناة والعنف في الوقت الحاضر بمثابة المقياس لتحديد الخطوط السياسية لهذا النضال.

إن الفهم غير التاريخي لمعاداة السامية وإحياء ذكرى الهولوكوست، كما ساد منذ فترة طويلة في أجزاء كبيرة من المجتمع الألماني، يقوض الحساسية إزاء علاقات العنف متعددة الاتجاهات والمعاناة التي تسببها. هذه الحساسية هي شرط التضامن.

ضد معاداة السامية. ضد العنصرية وعنف الشرطة.

أطلقوا سراح جميع الرهائن وأوقفوا إطلاق النار الآن.

برلين، 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2023

الموقعون لا يتحدثون نيابة عن مؤسساتهم.

الموقعون الأوائل أدناه.

للاطلاع على القائمة الكاملة والمتزايدة للموقعين، انظر الرسالة الأصلية باللغة الألمانية هنا.( https://docs.google.com/forms/d/e/1FAIpQLSdQexuMBpgFM3PK0DJUtRwYd1ZuKo3bIvsNrShXc11orOmzrA/viewform)

المصدر: https://www.bostonreview.net/articles/letter-from-berlin/

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

تسمية شوارع حيفا والقدس وأم الفحم والهوية العربية الفلسطينية: تشكيل شعب في خارطة

ماعوز عزرياهو وربيكا كوك ترجمة: محمود الصباغ استهلال يقول جون بيرغر “تنشغل النزعات القومية -جميعها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *