تداعيات حرب 2023 / 2024: رغيف خبز الفلسطينيين المغمس بالدم

 (بنيامين نتنياهو) بعد أحداث 7 أكتوبر، وعزز قوله هذا وزير دفاعه (يوآف غالانت) حين قال مكشرا: لا ماء. لا كهرباء. لا طعام. لا وقود، ولم يكتف بالقتل.

دمرت إسرائيل المباني وهجرت سكان شمال القطاع ووسطه نحو الجنوب، ثم منعت لفترة طويلة دخول المواد الغذائية، فعز الرغيف وهلك الناس جوعا، حتى ليصح أن تنعت هذه الحرب بحرب الطحين والرغيف أيضا، وقد يكتب روائي رواية يسميها “شوال طحين” أو “كيس طحين” أو “الرغيف” أو “الموت جوعا” أو “أبو عمرة”، وتسميات مثل هذه عرفها الأدب العربي والفلسطيني، فللروائي اللبناني توفيق يوسف عواد رواية “الرغيف” (1939) ولسميرة عزام قصة “خبز الفداء” (1960) ولمحمد كمال جبر مجموعة “شوال طحين” (1980) وللمغربي محمد شكري سيرة “الخبز الحافي” (1972 بالعربية 1982) ولمحمود درويش قصيدة “الخبز” (1977)، وفي متشائله أتى حبيبي على تسمية العرب الرغيف “أبو عمرة” وذلك حين كتب عن اللداوية التي هاجرت إلى عمان وعاشت مع زوجها الفقر والجوع “تستف الثرى” (1974).

لم نشاهد أشرطة فيديو تصور المعارك بين المتقاتلين وحسب، ولم نقرأ فقط عن أخبار المعارك، ولم نر جثث الجنود الموتى أو صور الجرحى منهم فحسب، بل كثيرا ما قرأنا عن الجوع والموت جوعا لقلة المواد الغذائية ونقص الطحين، فاضطر الناس إلى أكل الخبز المصنوع من علف الدواب، وقرأنا أيضا عن قتلى كثر قنصهم القناصة أو قتلتهم المسيرات أو المدفعية وهم يسعون للحصول على كيس طحين، وشاهدنا وقرأنا ما هو أكثر.

قرأنا عن ابن جاع أبوه فغامر ابنه، في حصار جباليا، ليحضر له كيس طحين، فقنصه قناص. لم يعد الابن سالما ولا وصل الطحين، وشاهدنا شريط فيديو لامرأة تركت أولادها الخمسة مع أبيهم لتحضر لهم الطحين، فلما شعرت بثقل في صدرها ولعب الفار في عبها خوفا، عادت لتطمئن عليهم، فلم تجد الدار ولا الأولاد والزوج. لقد سوتهم القذائف بالأرض.

وأنا أتابع أخبار الطحين واختلاطه بالدم والجوع والاستغلال حضرت إلى ذهني أعمال أدبية فلسطينية عديدة أتى كتابها على رحلة الجوع في حياة الفلسطيني منذ 1948، بل ومنذ أيام السفر برلك.

كانت سميرة عزام في قصتها أول من كتب عن خبز مغمس بالدم، فحين حوصر المقاومون في عكا وجاعوا غامرت سعاد بالخروج لتحضر الخبز لهم، فقنصها القناصة وهي عائدة، فسال دمها على الخبز، واضطر المقاومون إلى أكله حتى يصمدوا، فلم تكن لترضى لهم أن يموتوا جوعا. لقد حكى رامز لرفاقه المقاومين قصة فداء الحياة بالجسد والدم وهي قصة عرفتها أرض فلسطين “كلوا! هذا هو جسدي.. وهذا هو دمي فاشربوا”.

ولم يختلف غسان كنفاني عنها كثيرا، ففي خمسينيات 20 كتب قصته “القميص المسروق” التي أتى فيها على متاجرة بعض مسؤولي وكالة غوث اللاجئين بطحينهم، حيث يؤجلون تسليمه شهريا مدة عشرة أيام ليبيعوه للتجار غير عابئين بجوع أهل المخيم. هكذا كان كيس الطحين يمشي في الليل “إن رأيت الآن كيس طحين يمشي من أمامك فلا تذع السر لأحد” يخاطب اللاجئ اللص أبو سمير أبا العبد اللاجئ الذي عرض عليه العمل معه، ولكنه يرفض على الرغم من حاجته إلى النقود لشراء قميص لطفله الذي يقر من البرد.
في الحرب الأهلية في لبنان، كتب محمود درويش قصيدته “الخبز” عن حرب الجياع، ومنها “لم يكن للخبز في يوم من الأيام هذا الطعم، هذا الدم هذا الملمس الهامس هذا الهاجس الكوني هذا الجوهر الكلي هذا الصوت هذا الوقت هذا اللون هذا الفن هذا الاندفاع البشري هذا السحر”.

وعندما استحضر بعض الكتاب، مثل جمال بنورة، في قصصهم، زمن الحكم التركي كتبوا عن المجاعة التي حدثهم عنها أجدادهم. نقرأ هذا بوضوح في قصة “هكذا قال جدي”، فالجد يحكي للحفيد عن أيام الغربة التي قضاها بالجوع والألم “وصلت بنا الأمور إلى حد أكلنا الشعير المخلوط بروث الحيوانات.. نحافظ به على بقائنا ..” وفي قصة “حكاية جدي” (1981) يخاطب الجد الحفيد متسائلا: “هل تستطيعون أن تصمدوا إذا حدث إضراب لمدة ستة أشهر؟ هذا ما فعلناه… كنا نكتفي بأكل الخبز والزيت والعدس والقطين.. هل تكتفون أنتم بذلك؟”، ولا أعرف ماذا سيقول الجد لو امتد به العمر وعاش في شمال قطاع غزة منذ 7 أكتوبر حتى اليوم؟!!
وإن اتخذنا من طفولة شاعر فلسطيني نموذجا نقارنه بحياة أطفال غزة في هذه الأيام فليس أوضح من طفولة الشاعر أحمد دحبور الذي هاجر أهله من حيفا في 1948، وكان في الثانية من عمره، فعاش في مخيم لاجئين، فقيرا معدما أقام وأهله في غرفة واحدة، بل إن أخاه الأكبر تزوج في الغرفة نفسها وكان الفاصل بين العريسين وبقية أفراد الأسرة مجرد حرام نصب.

ومن المؤكد أننا إن عدنا إلى الأدبيات التي صورت حصار مخيم تل الزعتر في بيروت في 1976، مثل رواية ليانة بدر “عين المرآة” فسنقرأ كتابة لا تختلف عما نقرؤه ونسمع عنه في هذه الأيام في غزة.

المصدر: https://madar.news/?p=310582

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

تداعيات حرب 2023/ 2024: تـداعـيـات قـراءة روايـة ابتسام عازم «سفر الاختفاء»

عندما كتبت عن يافا نبهني بعض القراء إلى رواية ابتسام عازم «سفر الاختفاء» (2014). وعندما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *