جورج أورويل : الثورة التي تأتي بدون تخطيط مسبق عواقبها وخيمة.

إعداد محمود أبو حامد

في العام 1946، نشر الأديب الإنجليزي جورج أورويل روايته الشهيرة “مزرعة الحيوان” في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاقت نجاحاً هائلاً، حيث بيع منها أكثر من نصف مليون نسخة في عامها الأول. وبعدها بـثلاث سنوات نشر رواية “1984” التي تنتمي لأدب الواقع المرير “الديستوبيا” ولاقت نجاحاً أكبر. وفي السنوات التي تلت ذلك، تركت كتابات أورويل علامة لا تمحى على الفكر والثقافة الأميركية، فبعد أن سرب المخبر( *إدوارد سنودن) وثائق سرية لوكالة الأمن القومي عام 2013 صعدت مبيعات روايات أورويل إلى صدارة قائمة أفضل الكتب مبيعاً في أمازون، وبصعود دونالد ترامب الى الرئاسة في عام 2017 صعدت من جديد..

وبعد الربيع العربي عاد من قرأ أعمال أورويل إلى قراءتها مرة ثانية، وتصدرت اهتمامات الشباب عامة والسوريين خاصة.. وكأنها باتت صالحة لكل زمان ومكان ؟؟

إريك بلير

جورج أورويل هو الاسم المستعار لإريك آرثر بلير ، الصحافي والروائي البريطاني الذي اشتهر بالوضوح والذكاء وخفة الدم والتحذير من غياب العدالة الاجتماعية ومعارضة الحكم الشمولي وإيمانه بالاشتراكية الديمقراطية.

كان أورويل يحتقر المثقّفين، إلّا أنّه كان واحداً منهم.. وكان ناقداً أدبيّاً وثقافيّاً استطاع بأسلوبه المبسّط ولغته الإنكليزيّة السلسة أن يُفهمَ النقد للعامّة. كان صحافيّاً أحال الكتابة السياسيّة إلى فنٍّ راقٍ. وأفضل كتّاب المقال بالإنكليزيّة – بشهادة النقّاد – في عصره. وكان أوّل من جعل الرواية السياسيّة تصل إلى مرتبة الفنّ الخلّاق المميّز. لقد جعل مهمّته أن يقول الحقيقة في زمن كان معاصروه قد صدّقوا أنّ التاريخ هو الكذب..

ولد أورويل عام 1903 في الهند الاستعمارية، وانتقل لاحقًا إلى إنجلترا، حيث التحق بمدارس النخبة، وبعد الانتهاء من المدرسة، التحق بالخدمة المدنية البريطانية، وعمل في بورما (ميانمار حاليا). وفي سن الـ24، عاد أورويل إلى إنجلترا ليصبح كاتبًا.

وكتب أورويل في النقد الأدبي والشعر الخيالي والصحافة الجدلية، واهمها مقالات عن الحرب الأهلية الإسبانية.. وفي عام 2008م وضعته صحيفة التايمز في المرتبة الثانية في قائمة “أعظم 50 كاتب بريطاني منذ عام 1945” واستمر تأثير أعمال أورويل على الثقافة السياسية السائدة ومصطلح أورويلية الذي يصف ممارسات الحكم الاستبدادي والشمولي والتي دخلت في الثقافة الشعبية مثل ألفاظ عديدة أخرى من ابتكاره مثل الأخ الأكبر والتفكير المزدوج والحرب الباردة وجريمة الفكر وشرطة الفكر.

عانى أورويل من مرض السل في وقت مبكر، وتُوفِيَ في 21 يناير من العام 1950 ولم يبلغ حينها سوى السادسة والأربعين من العمر، وكانت وصيته الأخيرة : ” لا أريد لجسدي أن يحرق، أريد أن أدفن في مقبرة في نفس المكان الذي مت فيه.” وكأنه لم يشأ لتلك الأفكار والمشاريع التي تصخب بها حواسه أن تتحول إلى رماد …لم يشأ لحالة الغليان الفكري أن تنتهي مع آخر نفس يلفظه. ماذا لو كان بيننا اليوم صاحب رواية 1984 هل يكتب رواية جديدة أم يكتفي بإعادة نشر كتابه بنفس التفاصيل ونفس المسار ولكن فقط من 1984 الى 2022؟

حين كتب 1984 لم يفكّر جورج أورويل في مسارات الدّول العربيّة وثورات الرّبيع العربي ولكن طرح تصوّرات عامّة عن مآل الضغط والتفقير في بلد الحزب الواحد والأخ الأكبر أو الزّعيم الديكتاتور فتنبّأ بالثّورة ومجتمع ما ” بعد الحقيقة ” في العالم العربي..

الشمولية والاشتراكية

خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، حقق أورويل نجاحاً متواضعاً ككاتب مقالات وصحفي وروائي. كما خدم كجندي متطوع مع مليشيا يسارية قاتلت نيابة عن الجمهورية الإسبانية خلال الحرب الأهلية الإسبانية. وخلال الصراع، عايش أورويل بنفسه كيف يمكن للدعاية السياسية (البروباغندا) تشكيل الوعي السياسي وبناء سرد مزيف للأحداث من خلال متابعة التقارير -غير الدقيقة- للأحداث التي عاشها بنفسه.

ولخص أورويل في وقت لاحق الغرض من كل كتاباته منذ الحرب الأهلية الإسبانية فصاعدا، وقال “لقد كان كل سطر كتبته منذ عام 1936، بشكل مباشر أو غير مباشر، ضد الشمولية وعن الاشتراكية الديمقراطية”.

لم يحدد أورويل في هذا المقطع ما كان يقصده بالشمولية أو بالاشتراكية الديمقراطية، لكن بعض أعماله الأخرى توضح كيف فهم هذه المصطلحات.

كانت الشمولية (الكُلِّيانية) نظاماً سياسياً يركز على فرض السلطة والسيطرة على كافة جوانب الحياة.

وتجسد الموقف الشمولي عند أورويل في شخصية أوبراين في “1984”، وأوبراين هو شخص خيالي قدمه كمسؤول حكومي قوي يستخدم التعذيب والتلاعب لفرض السلطة على أفكار وأفعال بطل الرواية، وينستون سميث.

بشكل ملحوظ، يتعامل أوبراين مع رغبته في السلطة على أنها غاية في حد ذاتها. ويمثل أوبراين القوة والسلطة من أجل السلطة فحسب (وليس لأي هدف أكبر)، وكان أوبراين عضوا في “الحزب الداخلي” تنكر في شخصية عضو من الأخوية (المقاومة الثورية)، ليخدع أعضاء المقاومة ويوقعهم في الفخ.

الأسد ووحيد القرن

تتعلق الكثير من رؤى أورويل القوية بموقفه المناهض للشمولية. وفي مقالته عام 1941 بعنوان “الأسد ووحيد القرن”، كتب أورويل عن “الفكرة الشمولية القائلة إنه لا يوجد شيء اسمه القانون، هناك فقط القوة” بعبارة أخرى تعتبر تلك المقولة أن القوانين يمكن أن تحد من سلطة الحاكم، وتسعى الشمولية إلى طمس حدود القانون من خلال الممارسة غير المقيدة للسلطة.

وبالمثل، في مقالته عام 1942 بعنوان “النظر إلى الوراء في الحرب الإسبانية”، يجادل أورويل بأن الشمولية يجب أن تنكر وجود حقائق محايدة وحقيقة موضوعية. ويعرّف أورويل الحرية والحقيقة على أنهما “ضمانات” ضد الشمولية، إذ إن ممارسة الحرية والاعتراف بالحقيقة هما أفعال لا تتوافق مع السيطرة المركزية الكلية التي تتطلبها الشمولية.

لقد فهم أورويل مبكراً أن الشمولية يمكن أن توجد في اليمين واليسار السياسيين. وبالنسبة له كانت كل من النازية والشيوعية شمولية، وسعى في أعماله لمقاومة السماح للقادة بالانخراط في السلوك الشمولي، بغض النظر عن الانتماء السياسي. مؤكداً أن أفضل أدواتنا لمقاومة الشمولية هي قول الحقائق والحفاظ على الحرية. وفي كتابه الصادر عام 1937 بعنوان “الطريق إلى ويجان بيير”، كتب أورويل أن الاشتراكية تعني “العدالة والحرية”. وتلك العدالة التي يشير إليها تتجاوز مجرد العدالة الاقتصادية، لتشمل العدالة الاجتماعية والسياسية.

يشرح أورويل ما يعنيه بالاشتراكية في مقالة “الأسد ووحيد القرن”. ووفقًا له، تتطلب الاشتراكية “مساواة تقريبية في الدخل (لا يجب أن تكون أكثر من تقريبية)، والديمقراطية السياسية، وإلغاء جميع الامتيازات الوراثية، وخاصة في التعليم”.

في توضيح ما يعنيه بـ”المساواة التقريبية في الدخل”، يقول أورويل إن المساواة في الدخل لا ينبغي أن تكون أكبر من نسبة حوالي 1 إلى 10. ويعني ذلك أن أورويل يمكن أن يجد من الأخلاقي أن يربح الرئيس التنفيذي 10 أضعاف رواتب موظفيه، ولكن لا يربح 300 ضعف أكثر، كما يفعل الرئيس التنفيذي العادي في الولايات المتحدة مثلاً..

وكما ويناقش أورويل في وصفه للاشتراكية ما هو أكثر من عدم المساواة الاقتصادية. وتشير كتاباته إلى أن مفهومه المفضل للاشتراكية يتطلب أيضًا “الديمقراطية السياسية”. وقد ميّز أورويل بين “مفهومين للديمقراطية”. يشير المفهوم الأول إلى السلطة السياسية التي تقع على عاتق عامة الناس. والثاني يتعلق بالحريات الليبرالية الكلاسيكية، مثل حرية الفكر. ويبدو كلا المفهومين للديمقراطية وثيق الصلة بما يعنيه أورويل بالاشتراكية الديمقراطية.

وبالنسبة لأورويل، الاشتراكية الديمقراطية هي نظام سياسي يوفر المساواة الاجتماعية والاقتصادية مع الحفاظ على الحرية الشخصية بقوة.

ويرى البعض أن وصف أورويل للاشتراكية الديمقراطية واعترافه بوجود أشكال مختلفة يمكن أن تتخذها الاشتراكية، يظل مهمًا اليوم نظرًا لأن الحوار السياسي الأميركي حول الاشتراكية غالبًا ما يغفل الكثير من الفروق الدقيقة التي يقدمها أورويل للموضوع. وعلى سبيل المثال، غالبًا ما يخلط الأميركيون بين الاشتراكية والشيوعية. في حين يساعد أورويل في توضيح الفرق بين هذه المصطلحات..

ومع هذه المستويات العالية من عدم المساواة الاقتصادية، والاعتداءات السياسية على الحقيقة وتجدد المخاوف بشأن الشمولية، ما تزال أفكار أورويل مناسبة للواقع الآن كما كانت قبل 76 عاماً.

أدب “الديستوبيا”

في عمله الذي ينتمي لأدب الديستوبيا أو “الواقع المرير” يبدأ الأديب البريطاني جورج أورويل أحداث روايته “1984” بمذكرات يكتبها بطل الرواية ونستون سميث عن فيلم شاهده.

يكتب سميث واصفا مشهدا سينمائيا رآه في فيلم تظهر فيه سفينة مليئة باللاجئين تتعرض للقصف في مكان ما بالبحر الأبيض المتوسط، ويستمتع الجمهور بمشهد الرصاص الذي يخترق جسد أحد اللاجئين الذي يحاول السباحة بعيدا عن طائرة مروحية، ثم يختلط الماء بالدم ويغرق.

ويبدو مشهد ضرب سفينة اللاجئين في الرواية =-لتي تغير اسمها من “الرجل الأخير في أوروبا” إلى “1984”- شبيها نوعا ما بمشاهد سفن خفر السواحل اليونانية التي ظهرت في مقاطع فيديو وهي تحاول منع قوارب اللاجئين من الوصول لسواحل الجزر اليونانية، بينما تتعرض القوارب لإطلاق نار ومحاولات لإغراقها.

وفي مقال نشره موقع “لورنينغ مايند” الأميركي، قالت الكاتبة شيري هورد إن اقتباسات جورج أورويل تنطبق على معايير عالم اليوم السياسية والاجتماعية، وكتب روايته الشهيرة “1984” لتكون وسيلة الضوء على “الكُليانية” أو النظام الاستبدادي المطلق، ولطالما سعى لإسقاط الأجندات السياسية والاجتماعية “الخفية” في عصره. وتدور أحداث الرواية في إمبراطورية أوقيانوسيا الخيالية، حيث تخضع لسلطة الحزب الواحد الذي يشرف عليه الأخ الأكبر، وكل شخص في الرواية مراقب.

ورغم أن الرواية كتبت في نهاية أربعينيات القرن الماضي فإن العديد من الأفكار التي أوردتها لا تزال موجودة في عالم اليوم، وتقول الكاتبة إننا لسنا متحررين من أنظار “الأخ الأكبر” ولسنا أحرارا كما يبدو، وأورد التقرير نماذج من أبرز اقتباسات جورج أورويل في رواية “1984”: “الأخ الأكبر يراقبك” بالحديث عن الحقائق يشير هذا الاقتباس بشكل مباشر إلى أنك لا تملك أي حرية أو خصوصية على الإطلاق، وكل خطوة تخطوها تراقبها الحكومة.

وفي رواية أورويل “1984” كان هذا الاقتباس بمثابة تحذير من عدم معارضة الحكومة وتذكير المجتمع بأنه تحت المراقبة بشكل دائم، وعلى الرغم من عدم وجود قوانين فإن هناك “شرطة الفكر”.

وتشبه الفكرة الخيالية في الرواية قيام مواقع التواصل الاجتماعي بإزالة المشاركات لأسباب سياسية أو فكرية بحجة أنها تشكل تهديدا أو تنافي سياسات الموقع أو المجتمع، وكأن الأخ الأكبر يراقبنا على الدوام ويقوم بحظر المنشورات.

وفي الزمن الحالي تستخدم شركات مواقع التواصل الاجتماعي جيوشا كبيرة من المشرفين البشريين وتقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة مستخدميها على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ليقوموا بالإبلاغ عن أولئك الذين يرتكبون “جرائم فكرية” ويحذفون منشوراتهم من الوجود الافتراضي، وكثيرا ما يتم حذف المنشورات بدون أي تدخل بشري، ودون القدرة على الاعتراض.

وفي أحداث الرواية يعمل سميث في وزارة الحقيقة، ومهمته هي إعادة كتابة التقارير صحف الماضي لتتوافق مع الواقع الحالي، ويعيش سميث في حالة دائمة من عدم اليقين، حتى أنه ليس متأكداً من أن العام الذي يعيش فيه هو في الواقع عام 1984.

التمرد والوعي

يقع وينستون (بطل الرواية) في حب امرأة تدعى جوليا، وكانا معارضين لنظام دولتهما الشمولي.

وبينما كان وينستون رجلا مثقفا يسعى جاهدا للتمرد ولتغيير الواقع وتنوير عقول الآخرين كانت جوليا ببساطة متمردة لمصلحتها الشخصية فحسب، وبعبارة أخرى لا يتطلب كونك “متمردا من الخصر إلى الأسفل” تمردا فكريا، وتستهزئ جوليا بكلمات وينستون التي تثبت أيضا أن علاقتهما لن تنجح أبداً.

وتقول الكاتبة إن هذه المواقف والعلاقات نفسها موجودة اليوم على أرض الواقع، ولا تساهم في أي تغيير حقيقي يذكر.

“لن يتمردوا أبدا إلى أن يصبحوا واعين” تتطرق الكاتبة إلى مثال آخر على حالة جوليا، ومثال كذلك على الأشخاص “العاجزين” في عالمنا الآن، إذ يتحدث وينستون عن الناس كما لو أنهم نائمون، ويعني عدم إدراك ما يحدث حقا النوم وعدم الاستيقاظ على الإطلاق، فكل ما تراه وتسمعه وتجربه هو مجرد حلم، إنه ليس حقيقيا، ومع ذلك فقد تم تدريبك على رؤية الوهم على أنه الحقيقة.

وتظهر في الأحداث حقيقة أن مجتمع الرواية تمارس فيه السيطرة الاجتماعية من خلال التضليل والمراقبة، وحتى الأفكار والعقول يجري التلاعب بها.

كما أدرك أورويل أن الأنظمة القمعية تحتاج دائما إلى أعداء، وفي “1984” أظهر كيف يمكن إنشاؤهم بشكل تعسفي عن طريق إثارة الشعور الشعبي من خلال الدعاية.

وإلى أن تستيقظ من الحلم وتدرك الحقيقة كاملة فلن تتمرد أبدا على القوالب الجاهزة، وسيبقى دماغك مغسولا وستتعامل مع الأشياء بكل دوغمائية، ويؤسفني أن أخبرك بهذا، لكن أورويل كان يعرف جيدا كيف ستكون حياتنا اليوم، وكيف يكون كثير منا فاقدين للوعي ومنساقين مع القطيع، بحسب تعبير الكاتبة.

حفظ الأسرار

“لأول مرة أدرك أنه إذا كنت تريد الاحتفاظ بسر يجب عليك أيضا تحفظه من نفسك” على الرغم من أننا نعتقد أنه يمكننا الاحتفاظ بسر فإنه لا يمكننا الاحتفاظ بهذا السر بنجاح إلا إذا أخفيناه عن أنفسنا.

وبعبارة أخرى، يجب أن نصدق الأكاذيب التي نقولها لأنفسنا ونتظاهر بأننا لا نعرف الحقيقة، وهذا يعني فصل جزء من نفسك عن الآخر كما لو أن الجزء المنساق في الحياة اليومية لا يعرف السر، وبطريقة ما يشبه الأمر غض الطرف عن الحقيقة.

“الحرب هي السلام.. الحرية هي العبودية.. الجهل قوة” في رواية “1984” يبدو أن أورويل فهم جيدا كيف نجحت الدولة في غسل أدمغتنا ودفعنا لقبول الواقع كحقيقة ثابتة، وحتى اليوم يرى كثيرون أن شن الحرب يؤدي إلى السلام، ويرون كذلك أن الحرية تتمثل في إبقاء الآخرين تحت القمع تحت دعاوى الحفاظ على “سلامتنا”.

كما نشهد أيضا حقيقة أن يكون البقاء جاهلا مصدر قوة، وذلك عندما نكون خائفين من الإفصاح عن الحقيقة والتغريد خارج السرب وعندما نواصل اتباع هذه الأكاذيب الثلاث والسير على منوال الأغلبية، ونغمض أعيننا عن الحقيقة بشكل تام.

وختمت الكاتبة مقالها بأنه لأمر محبط عندما ندرك أننا نرضخ للحكم الاستبدادي الصارم يفكر نيابة عنا بدلا من التفكير بأنفسنا، ودون الوعي بذلك -تتابع الكاتبة- “يجب أن نستيقظ وندرك حقيقة وضعنا” لعلنا نحدث بعض التغييرات في عالمنا اليوم شيئا فشيئا، على الأقل يمكن أن نتحلى بالمزيد من الأمل والقوة.

مزرعة الحيوانات

تسير رواية “مزرعة الحيوان” لمؤلفها جورج أورويل في نفس الخط الروائي للكاتب، والذي اعتاد نقذ الأنظمة السياسية، ومن خلال الرواية يتضح أن جورج ينتقد الثورة الروسية لسنة 1917. ويبدو أن أفكاره أورويل تُعد بمثابة مداخيل لفهم عالم السياسة، والجميل فيها أنها تنطلق من واقعه لتَنفتح على العالمية في تحليله الروائي، ولهذا نجد معظم رواياته يُمكن إسقاطها على عدة مجتمعات، خصوصا دول العالم الثالث، وهذا ينطبق على رواية 1984. هكذا إذن يُنظّر جورج أورويل لعالم السياسة، هذا العالم الذي تحكمه قواعد تستعصي على الفهم، ويحوم حولها الغموض، هذا الأخير يحاول أورويل توضيحه في مجمل أعماله الروائية، لكي يضع نصب عيني القارئ ما يختبئ في عالم السياسة.

كما ونستخلص من رواية مزرعة الحيوان أنها تناقش مسألة الديمقراطية من زاوية أخرى، ويطرح أورويل هذا المفهوم على أرض الواقع، محاولا التأكيد على غيابه رغم الادعاءات، وأن المصالح هي التي تحكم وتحدد ما يجب أن يكون، وهنا تتجلى الديكتاتورية.

الموت هو المصير

لقد اتخذ جورج في من الحيوانات شخصيات مناسبة لروايته، إذ أنه بعد الثورة أصبح لكل حيوان وظيفة خاصة، ونمط خاص في العيش، وهذا الوضع لا يلقى رضا بعض الحيوانات، هذه الفئة هي التي يُصطلح عليها بالثوار، ويكون حينئذ الموت هو المصير الذي ينتظر هؤلاء، لأن مخالفة النظام يمكن أن يجني على صاحبه ما لا يحمد عقباه، وبالتالي فالمسائل تتجاوز ما يتجلى لنا في الواقع، لتصبح حرية الإنسان بدون معنى في عالم يدّعي الديمقراطية.

وقد انطلق جورج أورويل في روايته من مزرعة تعود ملكيتها لإنسان، وله مجموعة من الحيوانات في هذه المزرعة؛ خنازير، حمير، دجاج، كلاب، بط، …، وحدث أن حاول صاحب المزرعة في أحد الأيام أن يُعنّف بعض الحيوانات نتيجة عمل غير لائق صدَر من هذه الحيوانات، فأخد السوط وحاول ضربها، لكنها لم تتقبل ذلك فثارت ضده، وقامت بطرده من المزرعة. وحينئذ تحررت هذه الحيوانات من السلطة البشرية، وأصبحت تحكم نفسها بنفسها.

وهذا الوضع يستلزم وجود تنظيم، والتنظيم لن يتأتى إلا بوجود قائد يحدد ويقرر ما يجب أن يكون، وبما أن هذه المسألة جديدة على الحيوانات فقد قررت الاحتكام إلى الخنازير التي كانت تبدو لهم أكثر ذكاءا من البقية، ولهذا تكفّل خنزيران بذلك، ثم بدأ الاتفاق على مجموعة من القوانين والبنود، ومن هنا بدأت الأوضاع تتحسن وأصبحت منتظمة بقيادة الخنازير، مع أخد آراء بعض الحيوانات الأخرى بعين الاعتبار. وحدث أن حاول صاحب المزرعة العودة لاسترجاع مزرعته، وأحضر العُدّة اللازمة، لكن ذلك باء بالفشل بعد أن وضعت الحيوانات خطة محكمة لهذا الهجوم.

قوانين أكثر صرامة

وهكذا بدأت القوانين تصبح أكثر صرامة وأكثر تنظيما بقيادة الخنزيرين، لكن هذين الآخرين كانت لديهما أهداف أخرى، إذ أن كل واحد منهما يحاول إبراز جدارته بالقيادة على حساب الآخر، فكان أن اقترح أحدهما بناء طاحونة يمكن أن تساهم في إنتاج الكثير مع جهد قليل، ولقي ذلك اعتراضاً من الخنزير الآخر، وهذا الآخر كان يعد العدة للقضاء على الخنزير الذي اقترح بناء الطاحونة، وقد كان يخطط لذلك من قبل، إذ تمكن من تربية مجموعة من الكلاب في مكان خاص، حتى جاء اليوم الذي سوف يتم فيه التصويت بخصوص بناء الطاحونة، واتفق الخنزير الثاني مع الكلاب من أجل مهاجمة الخنزير الأول، لكن الخنزير تمكن من الهرب.

وهذا ما طرح مجموعة من التساؤلات لدى بقية الحيوانات حول هذا المشهد، ولماذا رفض الخنزير الثاني بناء الطاحونة، ويبدو أن هذا الخنزير كان أكثر ذكاء، لأن هدفه هو إفساد سمعة الخنزير الهارب بأي وجه كان. ثم بعد ذلك اقترح هو نفسه بناء هذه الطاحونة، وأخبرهم بأن الخنزير الهارب هو الذي سرق منه الخطة. وبعد أن تم البدء في بناء الطاحونة، وجدوها منهارة في صباح أحد الأيام، فكان من القائد إلا أن ألصق التهمة بالخنزير الهارب، ممّا بدأ يقوي سلطة الخنزير الذي أصبح قائداً ورئيساً، وتلك الكلاب التي تمكن من تربيتها لا تفارقه وتدافع عنه.

وبعد أن تمكنوا من إعادة بناء الطاحونة شن البشر هجوما جديداً عليهم فتم تدمير الطاحونة، ولم تستطيع الحيوانات مواجهتهم إلا بعد أن شاهدوا طاحونتاهم منهارة، وحينها تمكنوا من الهجوم على البشر وتمكنوا من طردهم بعيدا، وهذا الفعل جعلهم يحسون بالانتصار مجددا، ونسوا الطاحونة المنهارة، لكن الخنزير القائد لم ينس ذلك، فأمرهم ببنائها من جديد رغم الظروف المناخية القاسية، ورغم ظروف العيش التي أصبحت صعبة في المزرعة، وقد تمكن القائد من تشجيعهم على بناء الطاحونة بطريقة أفضل من الأولى.

وهذا أعطى تقديراً واحتراماً أكثر للخنزير القائد، وتم بناء الطاحونة، وتغيرت مجموعة من القواعد التي تم الاتفاق حولها، وكلها كانت تسير في مصلحة القائد، وهذا الآخر تمكن من العيش بطريقة مختلفة عن الحيوانات، وأصبح يتعامل مع البشر عن طريق وسيط خاص، ويتم قبول كل مقترحاته بدون نقاش، وهكذا وجدت الحيوانات نفسها تحت قائد جديد، أكثر قوة وديكتاتورية من صاحب المزرعة، وتلك هي نتيجة الثورة الفاشلة، والتي لا تحكمها ضوابط وأهداف محددة.

رواية مزرعة الحيوانات مليئة بالدروس المتعلقة بما يدور في عالم السياسة، وخصوصا في الجانب المتعلق بالثورة، ومن خلالها يدرك القارئ أن المسائل لا تسير بالشكل الذي تظهر عليه، بل هناك خبايا تتحكم في زمام الأمور. ويستنتج القارئ أن الثورة التي تأتي بدون تخطيط مسبق، يمكن أن تكون عواقبها وخيمة. كما أن الثقة العمياء في القائد بمثابة استسلام وخضوع له.

*إدوارد جوزيف سنودن :تقني وعميل وموظف لدى وكالة المخابرات المركزية، عمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومي قبل أن يسرب تفاصيل برنامج التجسس بريسم إلى الصحافة. وقد وجه له القضاء الأمريكي رسمياً تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطني دون إذن والنقل المتعمد لمعلومات مخابرات سرية لشخص غير مسموح له بالاطلاع عليها.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (34) ثورة الأمهات السوريات الثكالى

في 21 من آذار 2015 سوف تُدشن ثورة سورية حقيقية تدخل عامها الخامس ، أو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *