أفكار منتصف النهار (22) للحزن وزن

السادسة والنصف صباحاً في اليوم التالي لمجزرة الكلية الحربية في حمص ، أهرب من الحزن وأمشي في شوارع باريس ، العتمة بنفسجية فالشمس في حداد على أرواح الشهداء ، شباب بعمر الورود تخرجوا شهداء ، ألتقي بعمال التنظيف يكنسون كوم الأوراق اليابسة الكثيفة على الأرصفة وتحت الأشجار ، أتمنى لو أتحدث إليهم أي حديث ، أتابع المشي شاعرة بثقل على كتفي ، هو الحزن طرد الملاكان عن كتفي ، عادة كنت أنقل نظري بين الأشجار الباسقة الخضراء وبين كوم الأوراق اليابسة على الأرصفة وأقول هكذا هي الحياة : أمل أخضر ويأس أو حزن بني ، اليوم لم أنظر إطلاقاً إلى الأشجار ،أنصت لصوت المكانس تكنس الأوراق الميته وأحلامي التي طالما كانت عنيدة ، لكنها اليوم كشمعة تلفظ أنفاسها بعد أن ذابت من حمل كثير من الدعوات والأمنيات . ثمة مقهى وحيد مقاعده وطاولاته الصغيرة من الخشب ، وشاب يمسح الندى عن الطاولات ، جلست على مقعد وهم الشاب أن يمسح الطاولة المبتلة ، رجوته ألا يفعل ، فندى الخشب دموع ، قال لي لم نبدأ العمل بعد ، نظرت إليه وقلت : لو تكرمت أحتاج فنجان قهوة ، أحسست أنه جفل من نظرتي ، لعله أحس بحزني الذي يرتشح من مسامي ، أحضر لي فنجان القهوة مع قطعة بسكويت فكرت هل سيتمكن أهالي شهداء المجزرة أن يُقدموا القهوة أثناء العزاء !! فغلاء القهوة فوق طاقتهم . مسحت بحنان على سطح الطاولة بكلتا يدي وقلت لها أشكرك أنك تبكين نيابة عني ، فقد جفت دموعي منذ زمن طويل ، نبهني الشاب اللطيف أنني ألبس كنزتي بالقلوب ، ضحكت ، انصرف إلى عمله في مسح الطاولات والكراسي . لم أكن أفكر بشيء فالحزن قد حول عقلي إلى عصيدة صلبة لا تفرز شعوراً ولا فكرة ، تنميت أن أكون روبوت . طلبت فنجان قهوة آخر ، : القهوة في سوريا مشروب الحداد . وجدتني أخرج قلماً من حقيبتي وأكتب على المنديل الورقي للمقهى أسماء المجازر التي حصلت في سوريا ، يا إلهي كم أنا فاشلة في مواساة روحي المتألمة حتى الثمالة ، ودوماً تحضرني أولاً ( مجزرة الحولة ) التي راح ضحيتها أكثر من خمسين طفلاً بعمر سنتين أو ثلاث سنوات ، أجسادهم متلاصقة ملفوفة بقماش أبيض وأيدهم البضة وأرجلهم مربوطة بحبل ، وبقايا أحلام وذهول على أهدابهم ، في ذلك اليوم كنت مدعوة لحضور حفل زفاف قريبة لي وبعد العرس في الكنيسة حفلة في فندق فخم ، كنت بحالة ذهول أسكن الهول وصور أطفال الحولة تحاصرني ، حاولت الاعتذار لكن ابنتي ألحت علي أنني يجب أن أحضر العرس في الكنيسة على الأقل ، ودخلت الكنيسة ورائحة البخور تُلطف حزن وحشي في روحي ، وكنت لا أعي شيء وقفت في زاوية بعيدة ولم أسمع سوى عبارة : بالمجد والكرامة كللهما . لا أذكر كم مرة ترجع صدى تلك العبارة في روحي ، وتحول المجد والكرامة إلى وشاح من حرير يُغطي أجساد مجزرة أطفال الحولة . واعتذرت عن حضور الحفل الباذخ وتعجبت كيف سيقدر المعازيم أن يرقصوا ويضحكوا وهم في قمة الأناقة وثمة خمسين طفلاً أموات للتو !!! وعدت إلى البيت تابعت حلقة من مسلسل ( واحة الغروب ) وانتظرت رحمة النوم ، لكنني وأنا متكومة كجنين في سريري أحسست أطفال الحولة حولي قمت وكتبت مقالاً بعنوان ( قرابين للشيطان ) . ونُشر المقال بعد يومين ، لا أنسى تعليق إحدى السيدات التي لا تفوت كل أحد الصلاة في الكنيسة قالت لي : أنت لا تفهمين ، أنت عاطفية تأكدي أن أطفال الإرهابيين سيكونون حتماً إرهابين . سألتها ببرود : كيف تعرفين ؟ قالت : لأنهم يتشربون عقلية وإجرام أهلهم . لم أعلق بكلمة . وكتبت على المنديل الورقي مجازر حلب الشهباء وكيف كان الأعلام السوري يكتب بالأحمر العريض : حلب تحت النار وتدفق ملايين النازحين من حلب إلى اللاذقية ، والقصص المُروعة التي سمعتها منهم خاصة تلك التي سمعتها من أطفال حلبيين مُروعين وهم يصفون لي كيف قصف الصاروخ بيتهم ، وأحد الأطفال بعمر سبع سنوات بكى وهو يقول لي : خالتو لم أستطع أن أجلب نظارتي الطبية من البيت الذي تهدم . مجزرة تلو مجزرة . أيه طاقة رهيبة لدى الإنسان ليتحمل كل تلك المجازر !!! هل أوصل القهر والهول الشعب السوري إلى حالة من تبلد المشاعر أو الاكتئاب الحاد أو اليأس بأعلى درجاته ، وما قالته صديقتي : الحمد لله أن هناك موت كي نرتاح من هذه الحياة . في وطن صارت الحياة عبئ ثقيل لا يُطاق والموت رحمة .

كيف يُمكن لسوري أن يكتب بعد ساعة من مجزرة الكلية العسكرية في حمص : إنا لله وإن إليه راجعون !!! أيه حالة من اليأس والخنوع تجعل إنساناً يشهد مجزرة مروعة ( رآها العالم كله ) ألا يُعطي رأياً ، ألا يصرخ وألا يغضب وألا يشتم !! ألا ينهار من القهر على موت مئة وعشرين شاباً سيتخرجون من الكلية العسكرية وأهلهم يتابعون الحفل ، أن يُصبح الموت في سوريا نمط حياة ، فعلينا كل يوم أن نجدد حزننا وأن نبدأ يومنا بكتابة لانهاية لها لعبارة : الرحمة لروحه والمغفرة لذنوبه ونتمنى للميت جنان الخلد . ترى ما هي ذنوب هؤلاء الأطفال والشبان وكل السوريين ؟ هل الحلم بالحرية والعيش الكريم ذنب ؟ لا يتسع وقت السوري ليحزن على إبنه أو قريبه أوجاره ، لا وقت كافي للحزن على عزيز وحبيب لأن كل يوم يتجدد الموت ، نلهث وراء عبارة ( الرحمة لروحه ) لا وقت سوى لهذه العبارة ، لا وقت للأمهات الثكالى لتحضير الطعام فالشعب السوري يعيش على الخبز والأمهات الثكالى يقضين وقتاً طويلاً في المقابر يزرعن الحبق على قبور أولادهم ويسقون الحبق بدموعهن . علماء الإجتماع كتبوا كتباً هامة عن حالة يأس خطيرة تصيب الشعوب ، حيث ينعدم الأمل بوجود ضوء في نهاية النفق . لكن دوماً هناك احتفالات وإنجازات وانتصارات وصمود وتصدي .

أشفقت علي شمس باريس المُتعجرفة وأشرقت أخيراً شاحبة ، تركت المقهى وبيدي المنديل الورقي وقد سجلت عليه بتأني ما أذكره من أعداد المجازر في سوريا . بقي سؤال يحفر في عقلي : أي إلهام أحس به وزير الدفاع السوري ليترك الحفل قبل دقائق من المجزرة !!! سؤال سيبقى مُعلقاً في ذيل إحدى المُسيرات .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (34) ثورة الأمهات السوريات الثكالى

في 21 من آذار 2015 سوف تُدشن ثورة سورية حقيقية تدخل عامها الخامس ، أو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *