أفكار منتصف النهار (12): “مغطس بالشوكولا”: حكايا من سوريا

ديوان ( مغطس بالشوكولا ) للشاعر والكاتب السوري ماهر راعي ، الحائز على منحة آفاق للثقافة والفنون عام 2019

قرأت بانبهار وتأثر شعر ماهر راعي *( مغطس بالشوكولا )  الحائز على منحة آفاق للثقافة والفنون2019، هو شعر الحياة ،خاصة الحياة في سوريا ، حيث أن كل فكرة أو صورة مهما بدت عادية وبسيطة فهي تحفر في القلب وتُعبر ما يشعر به المواطن السوري من ألم وأمل ، من يقرأ ( مغطس بالشوكولا ) لا يشعر فقط بالتأثر والإعجاب ، بل يشعر أنه قد شارك ماهر راعي في الكتابة ، فهو يُصور الحياة في سوريا بكل جوانبها كما لو أن شعره موشور نرى من خلاله حياتنا في سوريا ، وكل وجه من وجوه الموشور يُرينا جانباً من حياة السوريين ، ماهر راعي لا يلجأ أبداً لتجميل صوره أو ابتكار صور من خياله لإبهار القارئ بفتنة اللغة ، بل نشعر أن كتابته تنبع من الأرض ومن الشجر وكأنه مجرد وسيط يترك الأحياء والناس والطبيعة يتكلمون ، هو لا يعتمد اطلاقاً على غواية اللغة بل يعتمد على غواية الحقيقة ، الحقيقة المؤلمة ، لكن من بذرة الألم يزهر الأمل والفرح . في مقطع من مغطس بالشوكولا بعنوان ( يُشبه أن أكتب البلاد …) :

يشبه سوسنة مدهوسة – ويشبه نوماً بأغطية مبلله بأمطار تسقط في شارع ليس قريباً – يشبه مقهى مزدحماً بالقش والحجارة – وبمعدات البناء التي لا تلزم – ومزدحماً بأصوات مستعارة – وتنهدات مستعارة – وأصابع مستعارة – وبشر حقيقين وعراة حتى العظم – إنهم – يا للهول – يضحكون مثل قنافذ في قصة أطفال – قديمة – لم أعد أذكر اسمها –أذكر أن البرد كاد يقتلهم – بينما تمنعهم مسافة الشوك الناشب من الالتصاق – يُشبه سنونوة أتت في غير موسمها – لتجرب حركة فاتنة نسيت أن تنفذها الربيع الفائت – يُشبه حطباً في مركبة فضائية – حمله رجل مهووس بالحنين – وبرائحة الكرة الأرضية – – ويشبه عاشقة تمر في شارع مريب – حيث لمحت قديسين بجدائل – يقضمون سجائر مطفأة – ويستندون إلى حلمات زوجاتهن – يشبه أنني أكتب البلاد من أولها إلى أولها ) .

ماهر راعي يكتب سوريا فعلاً ( البلاد ) ، السوريون المروعين من رداءة الحياة من الجوع والجوع ذل ، وهم بشر حقيقين يقاومون كل القهر والبؤس وانعدام الحرية ، هم المهوسين بالحنين لربيع حلموا به وتاقوا إليه وماتوا في سبيله لكنه لم يأتي ، كم تحفر في القلب عبارة ( بشر حقيقين وعراة حتى العظم ) عبارة تُشبه لوحة تجسد المأساة السورية التي أُطلق عليها اسم مأساة القرن .

مقطع آخر من ( مغطس بالشوكولا ) :

( أكتب في أوقات مناسبة تماماً – أشياء لا تمت لي بصلة – أشياء لا أصدقها – أشياء قالها صديقي لعدوي – أشياء قالتها جدتي ولم تكن تعني ما تقوله تماماً – أكتب من على سطح المبرد وفي قلب المبراة – على قضبان الدبق وفي لعاب الضباع – وقرب وبر كلب هرم –وفي هاوية حفر – وفي لجة الجب – وعلى مجداف يابس غير موثوق فيه – وأكتب ما أراه يصلح للدفن السريع في أي وقت – اليوم أو من السنة – وأبقى مبتسماً

أكتب في أوقات غير مناسبة – حين يُلقي علي السلام صيادون بثياب صيد أنيقة – يمرون بقربي – مرحين – صاخبين – أصواتهم تشبه مبرداً قاسياً – أترك لهم ابتسامات مخدوشة قرب الحشائش – وأحياناً قرب الشجرة الكبيرة يستريحون في طريق عودتهم – إن عادوا – كما أترك كل مرة لهم باروداً مبللاً لكنهم لا يعيرون إنتباهاً –وكثيراً ما يتبولون عليه بالخطأ – وأرمي في دربهم كتاباً وألبوم صور عن عصافير لا تحط-كذلك لا يأبهون له أبداً –يعاملونه كما يعاملون كلب صيد هرم – ثم يقهقهون في طريق العودة – إن عادوا –

يحضر بحر اللاذقية أمامي وكنت أدهش من كثافة الصيادين الصابرين أن يكون البحر كريماً كي يتذوق أطفالهم طعم السمك ، كي يعرفون كيف يرسمون سمكة حين تطلب منهم المعلمة أن يرسموا سمكة ، كي ينسوا لدقائق طعم الخبز الرديء ورغيف الخبز العاري الذي يفطرونه أو يتقاسمونه مع رفاقهم في المدرسة ، هؤلاء لم يكونوا أصلاً صيادين بل آباء جياع لأطفال جياع يصبرون ساعات تحت شمس الصيف الحارقة أو تحت المطر والبرد ، وتماماً كما وصفهم ماهر راعي – بأصواتهم التي تشبه مبرداً قاسياً – قسوة الحياة والقهر ، وهم لا يلتفتون إلى شيء ، فقد جفف ذل الجوع وسحق الكرامة أرواحهم ، هم يقهقهون ويضحكون ساخرين من أنفسهم عسى السخرية تُلطف الألم ، وقد لا يعودون .

يكتب ماهر راعي كما لو أنه يُصور الحياة في سوريا ، كأنه يترك الأشياء تكتب عن نفسها أو ينقل كلامها بأمانة ، وهو يكتب في هاوية الحفرة ، فالمدن الفقيرة بالفن والنظافة والجمال والحرية والكرامة تصبح أشبه بحفرة ، أشبه بأرض بور لا يُمكن أن تتفتح فيها بذور الحياة والفرح والحرية ، لكن هوى الشعر وهوى وطن يعشقه بكل جوارحه ( سوريا الحبيبة  تجعل ماهر يخلق خلطة سحرية في كتابته وصدقه فيتحول كل الألم والقهر إلى جمال ، والجمال قوة ، والجمال مُنقذ يعبر بنا من ضفة اليأس إلى ضفة الأمل ، الشعر الإبداعي هو عبور من التفاهة ورداءة العيش إلى الأمل وتنتعش البراعم الذابلة في الروح وتتفتح بالشعر المبدع ، فالكلمة تشفي ، وفي البدء كانت الكلمة ، والكلمة حق .

من يقرأ ( مغطس بالشوكولا ) يحس بنبض الحياة في سوريا ، كنبض الدم في العروق ، كنبض النسغ في قلب الشجرة ، هو شعر الحياة بأدق تفاصيلها ، ديوان رائع أشبه بموشور كل سطح منه يُرينا حياتنا في سوريا ، أحسست حين انتهيت من قراءة ( مغطس بالشوكولا ) أنه مكتوب بالروح ، فالروح تملك لغة عالية وإبداعية للتعبير عن الإنسان في كل ظروفه وفي مأساته .

شعر الحياة هو ما يكتبه ماهر راعي وسأختم بهذا المقطع :

( كما تذكرت ما رواه لي أبي : كنت بمثل عمرك – أسافر إلى مدينة مجاورة – لنبيع بضائعنا ونجلب غيرها مما نسوقه هنا – كنا ننحشر في حافلة عجوز ومملة تخنقها أنفاسنا – وروائح ثيابنا – وفي الطريق توقفنا فجأة إذ لمحنا – حافلة في أسفل الوادي كأنها حافلتنا – وبضائع مبعثرة ورجال ممددين قربها كأنهم نحن – كان الدمار مخيفاً – هبطنا بلهفة – وما أن وصلنا حتى صعقنا لمشهده – رجل يجلس القرفصاء على صخرة – بكل بساطة وهدوء – يدير ظهره لكل ذلك الدمار المهول حوله – في يده سكين صغيرة – يقشر بطيخة يبدو أنها مثله كذلك نجت وحدها ….

*ماهر راعي شاعر سوري، يعمل في تدريس مادة الفلسفة له العديد من المقالات المنشورة في المنصات المختلفة، وله  أعمال شعرية مطبوعة ، منها:

-ديوان ” مرمية هكذا في الهواء” 2014

-ديوان ” مغطس بالشوكولا” 2019

-سيناريو فيلم قصير ” شلل”: إخراج آرام عبد الرحيم 2020

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (34) ثورة الأمهات السوريات الثكالى

في 21 من آذار 2015 سوف تُدشن ثورة سورية حقيقية تدخل عامها الخامس ، أو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *