في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ لينتج عن هذا التطور محتوى هائل من النصوص المكتوبة عبر الذكاء الاصطناعي، والتي ربما من الصعب تفريقها عن تلك التي يكتبها الإنسان.
وتتعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي في الكتابة، إذ يمكن لأنظمته توليد نصوص بشكل تلقائي ودون تدخل بشري، كما يمكنه إنشاء محتوى مساعد للكتّاب والباحثين، عبر البرمجيات وإنشاء شبكة من المعلومات والمقالات والمواد الكتابية التي يحتاجونها لإنتاج نصوصهم. إضافة إلى إمكانية تحرير النصوص عبر مراجعة وتصحيح الإملاء والقواعد النحوية، وكذلك إمكانية تحويل المحتوى الكتابيّ إلى نصّ مسموع.

الكاتب الاصطناعي: شاعرٌ وباحثٌ وإعلاميّ

يمكن القول إنه لم يبق هناك مجال في عوالم الكتابة لم يقتحمها الذكاء الاصطناعيّ؛ ومنها: الكتابة الإعلامية بما تتضمنه من مقالات صحافية وتقارير إخبارية وغيرها، والكتابة الإعلانية والتسويقية؛ حيث يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج محتوى إعلاني جذّاب لتسويق المنتجات والخدمات واستهداف العملاء. ومن المجالات أيضًا الكتابة الأكاديمية، عبر توليد الذكاء الاصطناعي مقالات وأوراق ومقترحات علمية وغيرها في شتّى التخصصات العلمية. يضاف إلى ذلك الكتابة القانونية؛ حيث يمكن للذكاء الاصطناعي كتابة وتحليل العقود والاتفاقيات والوثائق القانونية، والكتابة الطبية، عبر إنشاء تقارير طبية وتحليلات وتشخيص الحالات المرضية وتقديم توصيات علاجية. وهناك أخيرًا الكتابة الإبداعية، إذ أصبح من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج الشعر والرواية والقصة والخاطرة.

إذًا من الواضح أن دخول الذكاء الاصطناعي عالم الكتابة يطاول قطاعات عريضة من ممارسي الكتابة من صحافيين وإعلاميين وباحثين وأدباء وشعراء، ويؤثر على هذه القطاعات وعلى كيفيات الإنتاج النصّي فيها بطرق مختلفة. على سبيل المثال، وفيما يتعلق بتأثيره على أساليب التعليم الأكاديمية، يرى باحثون أن أهمية أداة المقال البحثي، الذي كان الطريقة التي يتعلم بها الطلاب كيفية البحث والتفكير والكتابة، على وشك أن تتلاشى. وكان كيفن برايان، الأستاذ المساعد بجامعة تورنتو، قد نشر تغريدة على تويتر يعبّر فيها عن دهشته من برنامج الدردشة الآلي الجديد لشركة “أوبن آي إيه” قائلًا: “لم يعد بإمكانك إعطاء اختبارات منزلية وواجبات منزلية… حتى في أسئلة محددة تتضمن الجمع بين المعرفة عبر المجالات، فإن روبوت شات “جي بي تي” هو بصراحة أفضل من طالب في مرحلة ماجستير إدارة الأعمال[1]“…

على الصعيد الإعلامي، يرى المدير التنفيذي لمجموعة الإعلام الألمانية أكسل سبرينغر، ماثياس دوبفنير، أن الصحافيين معرضون لخطر استبدالهم بأنظمة ذكاء اصطناعي مثل “تشات جي بي تي”، وهو يشير إلى أن أدواته تعدّ ثورة في ميدان المعلومات، وستكون قريبًا أفضل في تجميع المعلومات من الصحافيين البشر[2]. أما في مجال الأدب والشعر، فأصبح بالإمكان إنتاج قصائد بأساليب شعراء معروفين[3]، ودخول الذكاء الاصطناعي عالم الأدب بخاصّة، يفتح الباب أمام مزيد من التأمل والجدل حول وجود “كاتب اصطناعي” إلى جانب الكاتب الإنسان، ومدى تأثير هذا الوجود على أشكال الإنتاج الأدبي، وعلى فعاليّة وإنتاج الكاتب الإنسان.

جدليّة الدقة

لا شك في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي توفر العديد من المميزات منها: توفير الوقت والجهد؛ إذ يصبح بالإمكان توليد نص بسرعة تفوق سرعة الإنسان بشكل كبير جدًا، فكتابة المقال التي قد تتطلب من الإنسان بذل ساعات من الوقت، تتم بالذكاء الاصطناعي عبر دقائق معدودة. إضافة إلى ميزة إنتاج محتوى هائل من النصوص، والكتابة بلغات عدة، والقيام بعمليات التدقيق اللغوي والتحرير، والدقة والتحكم في الأخطاء والتعديل عليها بسرعة. هذه الميزات كانت إجابة أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي على سؤال “ما هي مميزات الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي.؟”، وذلك بعد التعديل والإضافة عليها.

غير أن مسألة تميّز الذكاء الاصطناعي بالدقّة والتحكم في الأخطاء يجب ألّا يُعوّل عليها، إذ هو يتعامل مع شبكة ضخمة من المعلومات والبيانات التي تحتوى أيضًا على ما هو مضلِّل ومغلوط ومنقوص، وإعادة إنتاج هذه المعلومات المغلوطة يؤدي إلى خللٍ متوقّع في التراكم المعرفيّ في شتى المجالات العلمية والأدبية، ولفهم ذلك يجب أولًا فهم الكيفية التي يعمل بها الذكاء الاصطناعي.

عند سؤال الذكاء الاصطناعي عن الآلية التي يعمل بها لإنتاج النصوص كانت الإجابة كالتالي: يعمل الذكاء الاصطناعي في الكتابة والمقالات وغيرها من أنواع الكتابة بواسطة أنظمة التعلم الآلي والتحليل اللغوي، والذي يعمل على فهم وتجزئة وتحليل النصوص، ثم يتم تدريب النماذج الرياضية المتخصصة على المعطيات الأولية لهذه النصوص لإنشاء نماذج تنبؤية تُستخدم لإنشاء محتوى جديد. يتم تدريب الحواسيب على عدة عناصر أساسية لإنتاج نصوص مكتوبة بدقّة ومنها: معرفة قواعد النحو والصرف، وفهم المعاني والمفردات المرتبطة بها، وتصنيف البيانات وفهم سياقها، وقياس احتمالات الأحداث اللغوية الآتية في النص، وتوليد الأفكار والتفكير الإبداعي لإنشاء نصوص ذات جودة عالية. وتستخدم هذه التقنيات العديد من التقنيات الحاسوبية المختلفة مثل تقنية التعلم العميق (Deep Learning) وتقنية تحليل اللغة الطبيعية (NLP). وتُستخدم هذه التقنيات بشكل واسع في تطوير الروبوتات اللغوية وأنظمة الترجمة الآلية والبرمجيات الخاصة بالنشر على الإنترنت وغيرها من التطبيقات.

وعلى الرغم من أن النص السابق كان قد احتاج إلى تحرير لغويّ، إلا أن الإجابة جاءت على قدر كافٍ من الدقة والاختصار. لكن السؤال، حول دقّة محتويات النصوص، وتأثير المعلومات المضلِّلة في أساليب إنتاج النصوص كذلك، في المجالات العلمية والطبية والقانونية والأدبية وغيرها، يبقى قائمًا؛ حيث تحتوي الشبكة المعلوماتية اليوم على كمّ هائل من المعلومات المضلِّلة والخاطئة، والتي يقوم الذكاء الاصطناعي بإعادة إنتاجها عبر نصوص جديدة، وبالتالي ترسيخها لتكون هي الصحيحة والمعتمدة حتى يثبت، بالتجربة العملية، خطؤُها. ولكن عملية التضليل ذاتها تبقى مستمرة، عبر المستخدمين الذين ينشرون معلومات مغلوطة بقصدٍ أو بغير قصد، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، وكذلك عبر الذكاء الاصطناعي، والذي يشارك في عملية التضليل تلك، لصالح شركات ومؤسسات ودول ذات أجندة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية معينة.
افتقار الحسّ والأسلوب

إلى جانب الميزات التي ذكرت أعلاه حول الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي، إلا أن أحد أبرز ما تفتقر إليه هذه الكتابة هو الحسّ الإنساني، بما يتضمنه من مشاعر وأفكار إبداعية وذاكرة وجدانية تضفي بظلالها على النص، بل هي تمثل روحه وجوهره وتشكّل مع عوامل أخرى الأسلوب الخاص بكل كاتب. هذا الحسّ الإنساني يتم مراكمته عبر التجربة الخاصة بكل كاتب، والتي تتأثر بالضرورة بعوامل التاريخ/ الزمان والمكان، وهذه التجربة بدورها هي التي تصقل أسلوب كل كاتب وشاعر. هكذا كان لكل من مشاهير الأدب والشعر أسلوبه الخاص في الكتابة.

هذه التجربة الإنسانية لا يعيشها “الكاتب الاصطناعي”، فهو يظل محرومًا من اتساع أفقها وانفتاحها على اللانهائي من احتمالات الخيال والإبداع وتوالد الأفكار والمعلومات، والتي تتولّد عبر تراكم الظروف وتداخلاتها وتعقيداتها، الطبيعية والمكانية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعبر تراكم التجربة الخاصة بكل فرد كذلك. وهو يبقى، أي “الذكاء الاصطناعي” أو “الكاتب الاصطناعي” أسير معلومات رياضية وجافّة؛ قد تقيم هذه المعلومات علاقات وقد تشكل “ذاكرة”، غير أن ذلك لا يكفي لاكتمالها لتشكّل نصًا إنسانيًا قادرًا على التأثير وخلق الصيرورة المعرفيّة التراكمية والمتجددة. ومن هنا يمكن فهم طبيعة نصوص الذكاء الاصطناعي التي تظهر وكأنها مُستنسَخة وخالية من تمايز الأساليب وتَفرّدها بين نص وآخر.

 تحفّظات ومخاوف

ولعل أبرز التحفظات والمخاوف تجاه الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي تتمثل في كونه قد يسلب الإنسان مكانته ككاتب؛ فبالإضافة إلى تأثيراته التي تطاول أساليب إنتاج النصوص وأشكال النصوص، فهو يهدد أيضًا فرص العمل وقد يزيد من نسب البطالة بقيامه بوظائف صانعي المحتوى في المجالات المختلفة. وهو ما ينفيه الذكاء الاصطناعي ذاته، إذ يجيب على سؤال “هل يمكن أن يحلّ الذكاء الاصطناعي مكان الكاتب الإنسان؟” قائلًا: “بالرغم من أن الذكاء الاصطناعي يستطيع إنتاج نصوص بدقة عالية، إلا أنه يفتقر إلى القدرة على صنع القرارات الإبداعية بنفس الأسلوب الذي يستخدمه الكاتب البشري، حيث يمزج الكاتب البشري بين الخيال والواقع والتجارب الشخصية والعواطف والرؤى الفريدة والأساليب والمنهجيات الخاصة به، مما يجعل نصوصه بديعة وتصمد أمام اختبار الوقت. هذا لا يعني أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون مساعدًا للكاتب البشري، ويستخدمه الكاتب لتحسين عمله وزيادة دقة الكتابة، ولكنه لن يحلّ محل الكاتب البشري لأن الأفكار والإبداع والخيال والرؤى يمكن أن تتولد فقط من الإنسان، وليس من الآلات”.

بين الذكاء والعقل

يلاحظ أن الذكاء الاصطناعي يستخدم مصطلح “الكاتب البشري”، والذي يحيل إلى سياق مادي من بشرة وجسد وهيكل، وهذه رؤية توافق آليات عمل الذكاء الاصطناعي الذي يبدو وكأنه ينظر إلى الإنسان باعتباره مرآة؛ أي أنه، القصد الإنسان، جهاز حاسوب أيضًا مشابه ومماثل له، وما هو عبارة إلا عن شبكة من المعطيات والمعلومات وعمليات وأساليب التفكير التي تؤدي إلى نتائج ومخرجات معينة، والذكاء الاصطناعي يحاول بدوره تقليد هذه الشبكة الإنسانية والتماثل معها. في حين أن المصطلح الذي يرجحه هذا المقال هو “الكاتب الإنسان” الذي يحيل إلى معانٍ تحرّر الإنسان من كونه جسدًا وهيكلًا معلوماتيًا فحسب، وتحفظ له مكانته باعتباره مخلوقًا تميّز في الوجود بعقله وجوهره الإنساني.

كما لا بد من نقد مصطلح “الذكاء الاصطناعي”، إذ إن مفردة “ذكاء” لا تحيل فقط إلى القدرة على الفهم والاستنتاج والتحليل، بل يُعرّف ذكاء الإنسان أيضًا على أنه القدرة على التمييز بقوة فطرته وذكاء خاطره، وهناك مصطلحات أخرى تتعلق بالذكاء مثل الذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي والتي يختص بها الإنسان، ومن الصعب جدًا، ولا نبالغ إذا قلنا من المستحيل، أن يمتاز بها الذكاء الاصطناعي. ولعل ترسيخ ارتباط مفردة “الذكاء” بالتكنولوجيا في الأذهان، عبر مصطلحات مثل “الهواتف الذكية” و”الذكاء الاصطناعي” وغيرها، يعزز من فكرة أن الذكاء حكر على الآلة، أو يجعل الآلة في مكانة معرفية أعلى من الإنسان المُبدع الأول لهذا الذكاء الاصطناعي ومطوّره. ما يؤثر في المستقبل البعيد أو القريب على ثقة الإنسان بقدراته، وعلى قدراته بالتالي، إذ لا شك في أن الثقة والدافع والمحفّزات الداخلية عوامل تلعب دورًا محوريًا في التطور النفسي والعقلي للإنسان.

نفترض أخيرًا أنه سيكون هناك في المستقبل القريب، بل يبدو أنه موجود حاليًا، ثلاثة أصناف من الكتّاب؛ الأول: الكاتب الإنسان الذي سيستمر في إنتاج النصوص غير مستعينٍ بتقنية الذكاء الاصطناعي إلا نادرًا أو لا يستعين بها مطلقًا، وربما يكون أكثر هؤلاء من الأدباء والشعراء. والثاني: هو الكاتب الاصطناعي الذي يُتوقع تطويره في المجالات العلمية والإعلامية والتسويقية بخاصة، ليكون له دور رئيس فيها. أما الكاتب الثالث فهو مزيج بين الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي، إذ يقومان بتوليد نصٍّ عبر التعاون والمشاركة، بحيث يقوم الذكاء الاصطناعي بتقديم نصوص أشبه بالمواد الخام للكتابة، تحتوي المعلومات والبيانات اللازمة والأفكار المقترحة، بينما يقوم الكاتب الإنسان بتهذيب هذه المعلومات والمواد الأولية وإعادة إنتاجها وصياغة الأفكار بأسلوبه الخاص، تمامًا كما تمت الاستعانة في هذا المقال بالذكاء الاصطناعي في بعض أجزائه.

هوامش:

[1] ينظر: “بحوث الإنسانيات والتكنولوجيا… هل ينهي الذكاء الاصطناعي عصر المقال الجامعي”، الجزيرة نت، 26/12/2022، https://bit.ly/3OICqaY

[2] ينظر: إبراهيم شمص، “الذكاء الاصطناعي: هل تهدد هذه التكنولوجيا مستقبل وفرص الصحافيين”، BBC، 24/05/2023، https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-65227031

[3] ينظر: هلا كريّم، “الشعر والأدب والكتابة الإبداعية على طريقة الذكاء الاصطناعي”، Independent عربية، 16/02/2023، https://bit.ly/3MFVHal

المصدر: https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2023/6/1/%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A?fbclid=IwAR29Vc8nb7GIP-_Wrk4hRjeRc-U1iQZtxefm0wDg-9_uXH12d_h8fvmz6tM

تم النشر بإذن من الكاتبة

عن مليحة مسلماني

شاهد أيضاً

حول سرديّة النكبة في الآداب والفنون والوعي الجمعي

تمثّل النكبة ذاكرةً لصيقةً بالهوية الفلسطينية، بل وجوهرًا فيها، وتنفتح صفحات هذه الذاكرة على قضايا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *