أم سعد وأم عسكر: من المرأة المكافحة إلى المرأة المقاومة

مع نكبة 1948 عانت المرأة شظف العيش وقسوة الحياة فاضطرت إلى العمل لإعالة أسرتها محتملة الظروف القاسية في سبيل الحصول على لقمة العيش، وقد جسّد غسان كنفاني هذه المرأة في روايته ” أم سعد” (1969).

صارت أم سعد منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا نموذجاً للمرأة الفلسطينية اللاجئة، وطغى هذا النموذج وانتشر بين الأوساط الفلسطينية التي تقرأ الأدب، بل غالباً ما حاول الكتّاب بعد كنفاني أن يتناولوا نماذج إيجابية لنساء فلسطينيات مكافحات ومضحّيات لا يترددن في ترك أبنائهن يلتحقون بالمقاومة الفلسطينية، علّهم يُخرجون جيل الآباء والأجيال التي ولدت في المنفى من حياة الذل، ويعيدونهم إلى مدنهم وقراهم وسهولهم وجبالهم وبحرهم.

أم سعد غسان كنفاني امرأة حقيقية من لحم ودم، عرفها غسان واستوحى منها شخصيته الروائية، وربما لهذا عاشت معنا طويلاً فبقينا نتذكرها ونكتب عنها. امرأة لم تتعلم في المدارس والجامعات لكنها تملك وعياً عميقاً بالحياة، حتى إنها ترى أعمق ممّا يراه الراوي صاحب الضمير الثوري المعذب، فتقف إلى جانب الخادمة اللبنانية الفقيرة وترفض أن تنافسها على رزقها حين يحاول ناطور العمارة استغلالهما. ولم يقتصر وعيها على هذا، فهي حين تستحضر الماضي الفلسطيني في سنة 1936 تنطق درراً تعبّر عن وعي متقدم.

بعد” أم سعد” كثرت الكتابة عن المرأة الفلسطينية وأدوارها المتعددة: فهي حملت من عبء الحياة أكثره، وهو ما صوّرته سحر خليفة في رواياتها من “الصبّار” (1976) إلى “عبّاد الشمس” (1979) إلى” باب الساحة” (1990)؛ وصارت المرأة عاملة في المصانع الإسرائيلية، وأم سجين يقبع ابنها في الأسر، فكثرت همومها وتعددت وتشعّبت، وباتت تمضي جزءاً من أيامها في زيارات السجون لترى أبناءها الأسرى. هذه المعاناة سيكتب عنها جمع كبير من الكتاب، أذكر منهم عزت الغزاوي في مجموعته القصصية ” سجينة” (1987)، ووليد الهودلي في روايته” فرحة” (2020)؛ وحين تشارك في النضال ومقاومة الاحتلال تقع أسيرة وتمضي أعواماً من عمرها في السجون، وهذا ما لاحظناه في سيرة عائشة عودة “أحلام بالحرية” (2004) و”ثمناً للشمس” (2012)، وفي رواية وداد البرغوثي” البيوت” (2021)، وفي أعمال أُخرى غيرها.

في الانتفاضة الأولى في سنة 1987، كان للمرأة الفلسطينية مساهمة لا يستهان بها، وصار الروائيون يكتبون عن دورها ممجدين بطولاتها في الصبر والتحمل والمشاركة الفعلية في الأحداث. وربما تُعدّ رواية سحر خليفة ” باب الساحة” خير مثال لذلك، فالكاتبة لم تكن بعيدة عمّا يجري على أرض الواقع، وإنما كتبت عن نماذج نسوية يعرفها معظم الفلسطينيين جيداً.

في انتفاضة الأقصى في سنة 2000، ساهمت المرأة الفلسطينية مساهمة كبيرة ولافتة انعكست في العديد من النصوص الروائية. فقد كتب بعض الروائيين عن نسوة حقيقيات لا متخيلات: نسوة يعرفهن أبناء المدن والقرى والمخيمات، ومن هؤلاء النسوة فرحة، وأم عسكر التي توفيت في 23 نيسان / أبريل 2023.

فرحة هي والدة أسيرين من عائلة البرغوثي هما عمر ونائل، وقد صار اسمها شائعاً على الألسن، وخصّها وليد الهودلي برواية تحمل اسمها” فرحة” (2021)، رسم فيها صورتها مثلما هي. إنها لا تقل صلابة وقوة عن أم سعد كنفاني، إن لم تكن أكثر صلابة، وإلى جانبها تقف أم عسكر (نايفة منصور).

عندما كنت أسير في نابلس وأتحدث مع بعض الناشطين السياسيين كانت تتردد بعض الأسماء النسوية الشجاعة على ألسنتهم، ومن هذه الأسماء أم عسكر التي لم يقتصر ترداد اسمها على ألسنة الناشطين فحسب، بل ذُكر اسمها أيضاً في نصوص روائية كتبها أدباء أسرى، وصارت شخصية روائية.

سألني ناشط سياسي مرة:

– ألا تعرف أم عسكر؟

فأجبته:

– لا؛ لا أعرف أم عسكر.

فقال لي:

– يجب أن تتعرف إليها، فما من متابع لما جرى في انتفاضة الأقصى في البلدة القديمة في نابلس لا يعرفها. إنها شخصية معروفة لدى أكثر شباب الانتفاضة، وخصوصاً المطاردين.

وعدني الناشط بأن يرتب لي زيارة لأتعرّف إليها، فأنا أكتب عن النصوص الأدبية التي عالجت الانتفاضة، وقد تكون حاضرة في العديد منها.

تعرفت إلى أبو عسكر ولم أتعرف إلى أم عسكر. التقيت به عشرات المرات، فهو يبيع المشروبات الساخنة حيث يقيم هو وعائلته في سوق الحدادين في البلدة القديمة. وسوق الحدادين مكان مألوف لي شخصياً منذ سنة 1965، إذ كنت أتردد على بيت خالتي أم عارف يعيش، والطريف أنني تعرفت في بيتها إلى جاراتها ممّن كنّ أرامل مثلها، فعُرف حوشهن بحوش الأرامل، لكنني للأسف لم أتعرف إلى أم عسكر، فأبو عسكر لم يدعني إلى بيته، وأنا لم أسعَ للتعرف إليها. كانت لقاءاتي به عابرة وسريعة، وغالباً ما كنت أعتذر عن شرب الشاي أو القهوة أو النسكافيه أو الزهورات التي يبيعها. كان أبو عسكر هادئاً وصامتاً وحزيناً، لا يتكلم كثيراً، وسأعرف وأنا أتابع ما كُتب عنه أنه كان عُرضة لمساءلات ومضايقات من الاحتلال. لم يكن مثل أبو سعد في رواية كنفاني الذي كان يهرب من واقعه إلى الجلوس في المقاهي وينتظر أن تعمل زوجته لتعيله، وأن تحرر له الجيوش العربية وطنه السليب.

لقد كُتب عن انتفاضة الأقصى العديد من الروايات التي تجري أحداثها في نابلس، وهي روايات كتبها مَن يقيم في المدينة، أو مَن يتردد عليها من أبناء الريف، أو مَن يهتم بالشأن الفلسطيني: سحر خليفة” ربيع حار” (2005)؛ عفاف خلف” لغة الماء” (2007)؛ سهاد عبد الهادي “ذاكرة زيتونة” (2007)؛ كميل أبو حنيش “الجهة السابعة” (2021)؛ وليد الشرفا” ليتني كنت أعمى” (2019)؛ الروائي إلياس خوري في الجزء الثالث من روايته” أولاد الغيتو” وعنوانه “رجل يشبهني” (2023).

كُتبت رواية كميل أبو حنيش “الجهة السابعة” عن أم عسكر باسمها، وخصوصاً في جزئها الثالث الذي هو أقرب إلى نص تسجيلي سِيَري لكميل نفسه الذي شارك في الانتفاضة، وأمضى جلّ وقته، قبل اعتقاله، في البلدة القديمة من نابلس. وحين كتب تجربته عن فاعليات في الانتفاضة بعد 17 عاماً من اعتقاله، أورد أسماء حقيقية يعرفها مَن له صلة بكميل أو بمدينة نابلس أو بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن هذه الشخصيات أم عسكر وربحي حداد ويامن. صحيح أنه لم يهتم ببناء شخصيتها وشخصيات كثيرة أُخرى بناء فنياً، وأنه كتب عنها مثلما عرفها، وبالتالي لا تُعدّ شخصيات روائية مكتملة ومقنعة فنياً، إلّا إنها لمَن يعرفها تظل عالقة في ذهنه.

هنا نأتي إلى المهم، وهو كيف بدت صورة أم عسكر في مخيلة الراوي كميل أبو حنيش؟

وقد نبحث لاحقاً عن أمثلة مشابهة لها في روايات أُخرى قد يكون كتّابها استمدوا منها مادتهم الخام لبناء رواياتهم.

أم عسكر واحدة من نسوة فلسطينيات عديدات في الرواية، فيهن مَن تشبهها وفيهن مَن تختلف عنها، وقد قال السارد نفسه هذا: “الناس في الأحياء ليسوا مثل أهالي البلدة القديمة، وليسوا كلهم على شاكلة أم نائل وأم عسكر وأم مهند، وعدد من الرجال الذين وقفوا إلى جانبنا في كل حين.” فأم عبد الله صاحبة العمارة التي لجأ إليها ليختبىء فيها، حين عرفت أنه مطارد خافت على عمارتها وفزعت وأصيبت بالهلع، ثم تدبرت الأمر معه كي يغادر.

في البلدة القديمة يلتقي السارد بأم عسكر “تلك المرأة الخمسينية الصلبة التي نذرت حياتها للوطن وللشباب المطاردين. كانت أُمّاً للجميع.”

وكلما ضاقت به وبرفاقه السبل، كانوا يذهبون إليها فتستقبلهم بعاطفة الأمهات،” ولا تدّخر فرصة لتقريعنا كما تفعل الأمهات. تفتح بيتها لكل المطاردين من كل الفصائل، وهناك في بيتها يتناولون الطعام ويلتقون بالأمهات والأولاد والزوجات.”

عندما مرت أيام على السارد لم يستحمّ فيها يقرر الذهاب إلى بيته في حارة الياسمينة، وفي الطريق يلتقي بنائل أحد أبناء القسّام، والذي يمازحه بشقاوة ويسحبه من ذراعه ليدخله إلى بيت أم عسكر التي ترحب بهما: “ابتسمت ملامحها الأمومية الحنونة الدافئة الخالية من أي تصنع. حاولتُ الاعتذار ومغادرة البيت، فأنا لم آلف أم عسكر بعد، مع أنها تفتح بيتها للجميع، وتعاملنا بأمومة صادقة.”

تجهّز له الحمام وتغسل ملابسه المتسخة وتبتسم فلا يجادلها، إذ “كيف يمكنك أن تجادل امرأة وهبت نفسها للوطن عن طيب خاطر، وكرست حياتها وبيتها لمَن تبقّى من مقاومين، مجسدة قوة المثال والنموذج في زمن القسوة والتحديات المريرة.”

ويستمر السارد في الحديث أكثر عنها: “لقد كانت بلسماً يداوي جراح المقاومين المطاردين النازفة. إنها امرأة تلخص بطولات المرأة الفلسطينية وعظمتها.”

ويتساءل السارد وهو في حضرة الحديث عنها: “مَن قال إن اجتياح السور الواقي وما أعقبه من اجتياحات قد كسرت إرادة الناس وطمست وعيها؟” ويُتبع تساؤله بتساؤل آخر: “ماذا نقول عن أم عسكر وأمثالها الذين تحدوا الاحتلال واحتضنوا المقاومة في أحلك الظروف وأصعبها؟”

وتبدو أم عسكر في نظره: “قمر البلدة القديمة وشمسها، أم المطاردين والأسرى والشهداء، تلك المرأة التي فتحت بيتها للعشرات، بل للمئات من المطاردين، معظمهم سيمضي شهيداً أو أسيراً، وظلّت على هذا الحال سنوات طويلة.”

لم تنجب أم عسكر سوى ابنة وحيدة، لكنها عاملت جميع المطاردين كأبناء لها، وخصت منهم نادر السامري بمعاملة خاصة. لقد تبنّته رسمياً دون الجميع، وأحبته بجنون إلى درجة أن مَن يراهما لا يشك لحظة واحدة في أنها ليست أمه وأنه ليس ابنها، “وهو ما يعكس أصالة هذه المرأة وثقافتها الثورية العفوية.” ونادر السامري هو ابن الطائفة السامرية في نابلس الذي انتمى إلى المقاومة الفلسطينية وما زال يقبع في السجن.

في ختام حديث السارد عن أم عسكر يقول: “لم تبالِ أم عسكر، ولم تجزع ولم تتراجع عن مهمتها في رعاية واحتضان المطاردين.”

في 23 نيسان / أبريل 2023، توفيت أم عسكر وما زال الروائي كميل أبو حنيش يقبع منذ سنة 2003 في السجن ومثله نادر السامري.

ما تجدر ملاحظته هو أن كميل ينتمي إلى فصيل غسان كنفاني نفسه، فهو قرأه وتأثر به وذكره في روايته وفي بعض ما كتب. ولذا، هل من المستغرب أن نجد هذا التشابه أيضاً بين أم سعد وأم عسكر؟

المراجع

– أبو حنيش، كميل. “الجهة السابعة”. عمّان: دار فضاءات، 2022.

– البرغوثي، وداد. “البيوت”. نابلس: دار الشامل للنشر والتوزيع، 2021.

– خلف، عفاف. “لغة الماء”. رام الله: مركز أوغاريت الثقافي، 2007.

– خليفة، سحر. “باب الساحة”. بيروت: دار الآداب، 1990.

– خليفة، سحر. “ربيع حار”. بيروت: دار الآداب، 2018.

– ـخليفة، سحر. “الصبّار”. بيروت: دار الآداب، 2013.

– ـخليفة، سحر. “عبّاد الشمس”. بيروت: دار الآداب، 2008.

– خوري، إلياس. “رجل يشبهني”. بيروت: دار الآداب، 2023.

– الشرفا، وليد. “ليتني كنت أعمى”. عمّان: الدار الأهلية، 2019.

– عبد الهادي، سهاد. “ذاكرة زيتونة”. عمّان: دار الشروق، 2007.

– عزام، سميرة. “خبز الفداء”. “مجلة الآداب”، المجلد 8، العدد 1 (1960)، ص 66 – 69.

– عودة ، عائشة. “أحلام بالحرية”. رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2004.

– عودة ، عائشة. “ثمناً للشمس”. رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2012.

– الغزاوي، عزت. “سجينة”. القدس: اتحاد الأدباء والكتاب، 1987.

– كنفاني، غسان. “أم سعد”. في: “الآثار الكاملة: المجلد الأول / الروايات”. بيروت: مطبعة دار الكتب، 1972.

– الهودلي، وليد. “فرحة”. رام الله: مركز بيت المقدس للأدب، 2020.

المصدر: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1653990?fbclid=IwAR12ldNVzTJzXXL88XbsaoKpD5EUc8Yh8PLkYkq86AzU-Gxn5Ma9hWARZEo

تم النشر بإذن من الكاتب

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

تداعيات حرب 2023 / 2024: رغيف خبز الفلسطينيين المغمس بالدم

 (بنيامين نتنياهو) بعد أحداث 7 أكتوبر، وعزز قوله هذا وزير دفاعه (يوآف غالانت) حين قال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *