أفكار منتصف النهار (17) ناظم حمدان: فنان في زمن صعب، تفرد في الأسلوب وغزارة في المعنى

يبدو الفنان السوري المبدع ناظم حمدان وصاحب دار ( دال للنشر ) للوهلة الأولى شخصاً مرحاً كريماً جداً وسعيداً . الابتسامة لا تفارق وجهه وحفاوته بكل الناس مثيرة للاستغراب في زمن قاسي جداً أفقد الكثير من الناس قدرتها على الفرح والابتسام . عرفت ناظم منذ سنوات طويلة حين كان لا يزال موظفاً في دار الحوار ، وأعترف أنني لم أعرفه في الحقيقية إلا بعد أن ترك دار الحوار ، وانطلق ناظم في مجال النشر الغزير لكتب مهمة جداً وأسس دار ( دال للنشر ) . هو أول من ترجم لخالد الحسيني وفي ظروف بالغة الصعوبة من قطع طويل جداً للكهرباء إلى غلاء سعر الورق والحبر كان ناظم كفدائي ومغامر يلوي ذراع كل الصعوبات ويُتحفنا بأروع الكتب المترجمة خاصة ، صديقتي المُترجمة المبدعة راغدة خوري تعاقدت مع ناظم حمدان ترجمت أكثر من عشرين كتاباً صادرة عن دار دال بطبعات أنيقة أذكر منها رواية ( ملعون دوستويفسكي ) ورواية ( حجر الصبر ) . وكم كان كريماً مع من يعمل معه  كان يُعطي المترجمين كل ما يطلبونه من نسخ ، وتعامل ناظم مع المترجم المبدع محمد حبيب الذي ترجم رواية ( العمى ) لساراماغو وأيضاً ترجم لخالد الحسيني وترجم رواية رائعة ( رجل مُنصب ) . روايات ولا أروع كانت كنجوم مضيئة في سماء سوريا والعالم العربي مُقدماً نموذجاً لإنسان يلهث وراء حلمه واثق أنه يُمكن أن يحققه . كل المقربين من ناظم حمدان أدهشتهم انطلاقته الصاروخية في دار النشر التي أسسها ( دال للنشر ) وأيضاً إبداعه في الرسم بطريقة مميزة خاصة به . كأن أجنحة نبتت لناظم حين ترك عمله كموظف في دار الحوار . قد لا يعرف الكثيرون أن ناظم مثقف عالي الثقافة وقارئ ممتاز وكم أدهشتني مكتبته الكبيرة في بيته والتي تضم الكثير من الكتب المهمة والنادرة ، ولا أنسى يوم استعرت منه رواية ( النمل ) لم أعيدها له حتى الآن . ناظم من الناشرين النادرين الذين يُعيدون طباعة كتاب لأحد الكتاب إذا وجد فيه خطأ أو نقص بسيط في الصفحات يُعيد الطباعة على نفقته الخاصة متحملاً الخسارة وحده . وقد كنت شاهدة على كتابين لأصدقاء حصلت أثناء الطباعة أخطاء يُمكن أن يُمررها أي ناشر آخر لكن ناظم حمدان لا يُمررها هو يتوق للكمال . وغايته تأسيس ثقافة حقيقية تُغني الروح والفكر وتكون دار ( دال للنشر ) منارة ثقافية وأملاً وسط واقع فقدت فيه الثقافة هويتها وغايتها وأصبح الكل يلهث وراء لقمة العيش .

أعترف أنني لست ناقدة للرسم لكنني أتذوقه ، لا أنسى تأثري وإعجابي وأنا أتأمل لوحة لناظم تمثل جسدين متلاصقين لعاشقين يحضن كل منهما الآخر لكن حبلاً ثخيناً يلفهما من قمة الرأس حتى أسفل القدمين واللوحة – ومعظم لوحات ناظم حمدان يطغى عليها اللون الرمادي خاصة والألوان القاتمة هو لون واقعنا السوري الذي فقد البهجة والفرح ، تأثرت كثيراً بتلك اللوحة أحسست أن الحب يختنق ولا يمكنه التنفس ولا العيش وسط عقلية متخلفة اجتماعيا واحتشدت ذاكرتي بصور مئات العشاق في الأزقة والحدائق في العتمة والبرد والظلام وقرب حاويات القمامة ، لا يملكون ثمن فنجان قهوة في مقهى ومعظم الناس ينظرون إليهم باحتقار وإدانة ويصفونهم أنهم يتغازلون كقطط وكلاب الشوارع . أهداني ناظم تلك الصورة أرسلها لي إلى باريس ، وهي تزين بيتي .

يومياً يتحفنا ناظم برسوم رائعة تُشبه الحياة في سوريا ( وتشبه أيضاً حياة إنسان اليوم في أزمته الوجودية ) لوحات ناظم حمدان التي يطغى ليها اللون الرمادي والألوان القاتمة هي صورة حياتنا في المرآة . مرآة الحقيقة . لكن كم هو مهم أن يرى الإنسان نفسه في مرآة الحقيقة وسط تضليل كبير وممنهج على جميع المستويات الفكرية والفنية والجمالية ، في لوحة رسمها ناظم بعنوان ( المأتم ) أبهرتني ، أجساد لا نهاية لها لنساء لا ملامح واضحة في الأجساد فكلها مغطاة بالأسود أو الرمادي أو الذهبي وهن يدرن لنا ظهورهن وفي نهاية اللوحة يُمكن للمتفرج أن يتخيل أن النساء هن الأمهات الثكالى ذاهبات لزيارة الشهداء الأبطال فلذات أكبادهن . لوحة المأتم هي صورتنا في مرآة الحقيقة إذ أن النشاط الاجتماعي الوحيد في سوريا هو التعازي . أسراب من النساء يذهبن كل يوم لتعزية أخت أو قريبة مات ابنها بتنوعات سبل الموت في سوريا . لا يلتزم ناظم بمدرسة فنية في الرسم فقد ابتكر مدرسته الخاصة إذ يكفي أن تلمح أحد الرسوم لتعرف أنها لناظم . لوحات لا تراعي – غالباً – القيم الجمالية ولا المقاييس الجمالية المُتعارف عليها ، خطوطه ملتوية وثمة كتل في الأجساد تحس بثقلها كوجع مكبوت أو صارخ ، ثمة لوحات تبدو بسيطة جداً مثل لوحة تمثل باطن الأقدام المتلاصقة ، شعرت بألم الجياع الحفاة ( المعذبون في الأرض ) . لوحة لوحش يفتح فمه وفي جوف الفم ناس . كل لوحة من لوحات ناظم حمدان هي تعبير عن معاناة السوري وكل إنسان متألم .

المرأة في لوحات ناظم حمدان حاضرة بقوة ، امرأة عارية من القيود ، امرأة تعبر عن ذاتها ومشاعرها ومعاناتها ورغباتها أيضاً ثمة إيحاءات إيروتيكية جميلة جداً في نساء ناظم حمدان ، هو يكسر مفهوم العفة الزائفة للمرأة فهي عارية لتكشف روحها وجسدها معاً والجسد مكان حضور الروح ( كما يقول جبران خليل جبران ) .

كل لوحة يرسمها ناظم تترك في أرواحنا دهشة ، كم تأملت لوحة القبر صندوق أسود بشاهدة على القبر في نهايته تخرج أقدام كثيرة ، أهي مقابر جماعية ؟ ثم أطيل التحديق بالقبر وتبدو الأقدام الخارجة من نهايته كأغصان أشجار أو طيور تهم بالطيران في سرب . يستعمل ناظم في رسومه كثيراً السلاسل الغليظة التي تكبل الإنسان والحبال ، نشعر تماماً أن الروح هي المُكبلة كالجسد .

ابتكر ناظم حمدان المُبدع إبن بلدي طريقته الإبداعية  الخاصة في الرسم بهوى كبير واندفاع وكأنه بهذا الدفق الكبير من اللوحات التي تعبر عن حياة السوري خاصة وكل إنسان مُعذب يحاول أن يحرف انتباهنا عن وجع الأرض وذل لقمة العيش وانطفاء الفرح والأمل ونسيان القدرة على تأمل الجمال والفن .  ناظم حمدان لا يسمح لي أن أحكي كم هو إنساني وكم يدعم محتاجين وكم يفرح لإبداع المبدعين . هو نموذجاً لإنسان يؤمن أن الأحلام تتحقق .

كل التقدير والمحبة لصديقي إبن بلدي المبدع برسومه الرائعة التي تحمل بصمته وبدار النشر الرائدة ( دال للنشر ) التي أغنت المكتبة العربية بكتب بالغة القيمة .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (34) ثورة الأمهات السوريات الثكالى

في 21 من آذار 2015 سوف تُدشن ثورة سورية حقيقية تدخل عامها الخامس ، أو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *