اسحق رابين وياسر عرفات يوقعان اتفاقية أوسلو في البيت الأبيض ويتوسطهما الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. المصدر: ويكيميديا

كيف نتحدث عن فشل منظمة التحرير الفلسطينية

هيلينا كوبان

ترجمة محمود الصباغ

من الصعب تصديق أنه قد مرت خمسون عاماً منذ أن كنتُ أجلسُ في إحدى غرف السكن الجامعي في أكسفورد مع “حسين آغا” و”أحمد سميح الخالدي”، ابن عم “رشيد الخالدي” وغيرهم من الشخصيات البارزة في المجتمع العربي في جامعة أكسفورد، أستمع إلى مناقشاتهم حول الوضع الخطير الذي تمرّ به حركة التحرر الفلسطينية (ومعبراً عن اعتراض عرضي). خلال العام الماضي [تقصد الكاتبة بـ “العام الماضي”، أي العام الذي سبق اجتماعها بالآغا والخالدي]، حيث قام المقاتلون الفلسطينيون، الذين طردتهم إسرائيل في وقت سابق من الضفة الغربية، بتحدي حكم الملك حسين في الأردن. فرد عليهم الملك حسين بما بات يعرف بـ “أيلول الأسود” 1970. وكان لايزال رجال حرب العصابات يترنحون، في ربيع العام التالي، من هول ما جرى في أيلول الأسود، وكانوا يكافحون من أجل إعادة تجميع صفوفهم في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الواسعة في لبنان. أمّا نحن في أكسفورد، فقد  كنا نقرأ، بشغف، أي قصاصة تنقل لنا الأخبار التي يمكن أن نحصل عليها عن إنجازاتهم هناك.

حصلتُ بعد تخرجي من الجامعة بعام واحد، أي سنة 1974، على فرصة السفر إلى بيروت للبدء  في العمل كمراسلة أجنبية. وخلال السنوات السبع التالية، التي قضيتها هناك، كان أحد أكبر الثوابت في جعبتي الإخبارية هو الحدث الفلسطيني، واستمر الوضع هكذا حتى العام 1981 حيث كان نداء الأمومة يدفعني لعدم الاستمرار في التملص من المراوغة المتهورة، مثل مراسلي غرينغو* الآخرين في المنطقة، فمضيتً مع أطفالي إلى هارفارد. وهناك كتبتُ، بوصفي زميلة في الجامعة، كتابي الأول،منظمة التحرير الفلسطينية: الشعب، والسلطة، والسياسة”. وبعد ذلك، حصلت على مهنة أقل إرهاقاً، نوعاً ما، كمؤلفة وكاتبة عمود في [صحيفة] “كريستيان ساينس مونيتور”. وكان رشيد الخالدي، في غضون ذلك، بدأ مسيرته المتميزة في التدريس والنشر.

ولكن ماذا عن وأحمد وحسين؟

من السهل جداَ ملاحظة أنهما ما زالا في أكسفورد، وكلاهما الآن من كبار المساعدين في كلية سانت أنتوني (التي تأسست، بالمناسبة، من المكاسب غير المشروعة التي حققها تاجر الأسلحة غريب الأطوار أنتونين بيس، وتلك قصة أخرى لا متسع لها هنا).  ولكن الحقيقة المهمة، هنا، هي قيامهما بأدوار رفيعة -وإن كانت غير رسمية في بعض الأحيان- كمستشارين سياسيين ودبلوماسيين لقادة منظمة التحرير الفلسطينية. وتظهر هذه الحقائق، التي لا ينبغي الاستهانة بأهميتها، في السير الذاتية التي يقدمانها في نهاية المقال الطويل “تصفية حساب فلسطيني: حان وقت بداية جديدة”، والذي نُشر مؤخراً في فورين أفيرز -لكن لم يتم ذكر هذه المعلومة عنهما في أي مكان في المقالة ذاتها، وهو، باعتقادي، أمر مؤسف، إذ مما لاش ك فيه أن آغا والخالدي يفوّتان فرصة مشاركة رواية منطقية وواعية من الداخل، من خلال عدم إخبار القراء مقدماً بأنهم كانوا مستشارين رئيسيين لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وخليفته محمود عباس (أبو مازن)، وهو ما قد يلقي الضوء أكثر على الخطأ الدبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك، فهما كانا واضحين بالإشارة إلى أن ثمة شيء ما قد حدث بشكل خاطئ. واختتما، في بداية المقال، تقويمهما التمهيدي لإنجازات الحركة الفلسطينية حتى الآن بالقول: “باختصار، فشلت الدبلوماسية الفلسطينية فشلاً ذريعاً. ويتطلب الأمر موهبة استثنائية لتحويل الإجماع شبه الكامل بين العرب والمسلمين حول مستقبل فلسطين والقدس، إلى مجرد مسألة أخرى مطروحة على أجندة عربية مزدحمة”. من الواضح أن عبارة “يتطلب موهبة استثنائية” هي عبارة تهكمية ليس أكثر، غير أنهما، من ناحية أخرى، أهملا ذكر أن الكثير من المواهب الدبلوماسية التي اعتمد عليها قادة منظمة التحرير الفلسطينية كانت مواهبهما هما بالذات. ولك، عزيزي القارىء، أن تتخيل كم  كانتْ مقالتهما ستكون أكثر قوة، وغنية بالمعلومات، وذات أسس متينة لو أنهما كانا صريحين بشأن الأحكام التي شاركوها مع عرفات حول ميزان القوى ودور الولايات المتحدة في المنطقة، من بين أمور أخرى، وكم كنا سنعرف، بالأحرى، نستكشف، لماذا كانت تلك الأحكام خاطئة جداً بما لا يقاس.

لعب حسين آغا وأحمد سميح الخالدي، خلال الأشهر الحاسمة بين نهاية حرب الخليج 1991 وتوقيع إعلان أوسلو 1993 في حديقة البيت الأبيض، دوراً رئيسياً في تقديم المشورة لأبي مازن، الذي أثّر بشكل كبير على دبلوماسية عرفات السلمية في تلك الفترة. وقاما، بشكل مباشر وغير مباشر، بتوجيه عرفات نفسه. وأنا أعرف هذا، شخصياً، لأنني كنت أشاركُ في قيادة مبادرة “المسار الثاني” الإسرائيلية الفلسطينية في العاصمة واشنطن، وهي المبادرة التي نالت ضوءُ أخضراً غير مباشر من وزارة الخارجية، وبسبب مشاركتي هذه، كنتُ على اتصال جيد بحسين آغا وبالعديد من الأشخاص الذين كان يتعامل معهم. (استقلتُ في ربيع العام1993 بسبب خلل وظيفي في المنظمة المعنية. غير أن هذا لم يمنع أن أتلقى دعوة لحضور حفل توقيع أوسلو (حضرت مراسم التوقيع، وذهلت إلى حد عدم تصديق ما تراه عيناي).

كان الكثير من الفلسطينيين الآخرين يزودون قيادة منظمة التحرير(التي كانت في تونس في ذلك الوقت) بكثير من المعلومات. وكان من بينهم أشخاص من الشتات -مثل إدوارد سعيد، الذي اعتقد أن أوسلو كانت خطأ فادحاً- لكن الأهم من كل هذا، يتمثل في قادة المجتمع المخضرمين القادمين من داخل فلسطين، مثل، الزعيم اليساري المخضرم في غزة، الدكتور حيدر عبد الشافي، أو  فيصل الحسيني، الشخصية التي تحظى باعتراف واسع باعتباره رأس المجتمع الفلسطيني في القدس، وأقل ما يقال عنها، أنهما شعرا بالهلع من سعي عرفات الحثيث نحو اتفاقات أوسلو. كان هؤلاء الرجال وغيرهم من قادة المجتمع من الضفة الغربية وغزة منذ العام 1987 قد وجهوا وقادوا الانتفاضة الجماهيرية في الضفة الغربية المحتلة وغزة والمعروفة باسم الانتفاضة الأولى، والتي كان استمرارها أقوى ورقة تقبض عليها  م ت ف من الناحية السياسية في ذلك الوقت. بشكل حاسم، كان لدى الدكتور عبد الشافي والحسيني، وقادة المجتمع الآخرين من داخل فلسطين أيضاً، فهماً جيداً ودقيقاً وحاسماً للطريقة التي تستخدم فيها الحكومة الإسرائيلية قوتها. وناشد هؤلاء القادة [ياسر] عرفات من أجل الاستماع إلى مخاوفهم بشأن اتفاقيات أوسلو، قبل وبعد توقيعها، وتمثلت أحد مخاوفهم، على وجه الخصوص، بعدم إشارة الاتفاقيات إلى ما سوف يحدث بعد فترة السنوات الخمس المؤقتة المنصوص المذكورة، بسبب فشل الجانبان في التوصل إلى اتفاق سلام نهائي. لكن عرفات وأبو مازن وقّعا الاتفاقية دون الإصغاء إلى الدكتور عبد الشافي أو غيره من القادة ذوي الخبرة الآخرين من داخل فلسطين الذين يعرفون ما يحتاجه مجتمعهم.

بدأت عقارب السنوات الخمس الانتقالية للاتفاقات تدق في العام 1994، عندما عاد عرفات إلى الأراضي المحتلة من منفاه الذي كان قد بدأه في أواخر العام 1967 (عندما طُرد هو وآخر مجموعة فلسطينية مسلحة من الضفة الغربية إلى الأردن). عندما عاد عرفات وأبو مازن والبقية من عناصر فتح في م ت ف -إلى جانب بعض الأعضاء الآخرين من فصائل المنظمة- إلى وطنهم الذي تحتله إسرائيل، استقبلوا استقبالاً حاراً  من قبل الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. لقد مثل هؤلاء القادة رموزاً، تكاد تكون اسطوريّة، للنهوض الوطني الفلسطيني، وأنشأوا، بمجرد دخولهم وبموجب مرسوم في أوسلو، “سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية المؤقتة” التي تنازلت لها قوات الاحتلال الإسرائيلي، ببطء، عن بقع متزايدة من الأراضي في المنطقتين المحتلتين. وجرت الانتخابات الافتتاحية لرئاسة السلطة الفلسطينية وجهازها التشريعي في العام 1996. ولم يفاجأ أحد بانتخاب عرفات رئيساً. كما كان فوز فتح في الانتخابات التشريعية أكثر وضوحا لأن حركة حماس القومية الإسلامية الأصغر سناً قاطعت الانتخابات تماماً.

حضرتُ، في أيار\ مايو 1999، عندما اقتربت نهاية الفترة “المؤقتة”، مؤتمراً حول مفاوضات السلام في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية. وكان من الواضح أن مفاوضات الوضع النهائي ما زالت قريبة من النجاح ولن يتغير شيء عندما يفشل المفاوضون في الوفاء بموعد السنوات الخمس  النهائي. كان عرفات وأبو مازن ورفاقهما، بحلول ذلك الوقت، مرتاحين للغاية من الوضع الراهن في رام الله والمموّل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، ولا يهتمون كثيراً بأي شيء آخر -مثل القمع العسكري الإسرائيلي القاسي والمنتظم في جميع أنحاء المناطق المحتلة واستمرار دفع الحكومة الإسرائيلية لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية والبنية التحتية الواسعة اللازمة لدعمها، ورفضها السماح لسلطة الحكم الذاتي المؤقت بممارسة أي صلاحيات على الإطلاق في القدس الشرقية المحتلة. وخلال تلك الزيارة، والعديد من الزيارات الأخرى التي قمت بها إلى الضفة الغربية وغزة في تلك السنوات، سمعتُ الكثير عن مدى سوء فشل عرفات ومفاوضيه في فهم تفاصيل ما كانوا يتفاوضون عليه في أوسلو. فعلى سبيل المثال، وفي الوقت الذي كان معظم الناس لا يزالون يعتقدون فيه أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية يمكن وينبغي إزالتها يوماً ما، وافق عرفات على أنه يمكن للحكومة الإسرائيلية، خلال الفترة المؤقتة للاتفاقات، بناء “طرق التفافية” التي من شأنها السماح للمستوطنين التنقل بحرية بين المستوطنات وإسرائيل دون الاضطرار إلى مواجهة “مخاطر” المرور عبر البلدات والمدن الفلسطينية. واستخدمت حكومة أرييل شارون، بزعامة الليكود والتي كانت في السلطة من العام 1996 إلى العام 1999 ذلك “الإذن” الممنوح في أوسلو لبناء شبكة جديدة تماماً من الطرق السريعة المخصصة للإسرائيليين، فقط، في جميع أنحاء الضفة الغربية، والتي قلبت الجغرافيا البشرية للمنطقة بأكملها، مما سهل السفر السريع للمستوطنين، مع عزل البلدات والمدن الفلسطينية عن بعضها البعض. من المؤكد أن هذه الطرق السريعة لم يتم بناؤها أبداً لتكون مؤقتة فقط. أمّا فيما يتعلق بالقدس، فقد جلستُ مع فيصل الحسيني عدّة مرات في مقره المحاصر “بيت الشرق” في القدس الشرقية واستمعتُ منه، كما أخبرني، وتكاد الدموع تفر من عينيه أحياناً، عن سوء فهم مفاوضي عرفات في أوسلو لوضع المدينة. وكيف بيعت المصالح الحيوية للفلسطينيين هناك. وانتهت الاتفاقيات قبل نحو اثنين وعشرين عاماً. وما كان يُعرف باسم “سلطة الحكم الذاتي المؤقت” سقطت عنه منذ فترة طويلة توصيف “المؤقت” و”الحكم الذاتي”. لقد عاشت “السلطة الفلسطينية” فترات متكررة من الغيبوبة، بعد فترة طويلة من نسيان الأساس المنطقي الأصلي لوجودها -كهيئة “مؤقتة” بانتظار التوقيع الوشيك على اتفاق الوضع النهائي.

أشار آغا والخالدي، بحق، في مجلة فورين أفيرز إلى أن دبلوماسية م ت ف  / السلطة الفلسطينية، منذ أوسلو كانت ضعيفة المستوى للغاية وانهزامية، لكنها كانت كذلك فعلاً أثناء و قبل أوسلو، وهذه حقيقة لا ينبغي نكرانها. وفي الوقت الذي يقدمان فيه عدداً من الملاحظات الجيدة حول الحالة المروعة للقيادة السياسية الفلسطينية، فقد كانت هذه الملاحظات مليئة بالإغفال والسهو والمراجع المضللة. فهما، على سبيل المثال، يعلنان عن انتهاء “الصراع العربي الإسرائيلي الرسمي”. دون أن يشيرا إلى  سوريا ولبنان -الدولتان الحدوديتان مع  إسرائيل، ولكن لمصلحة من تستمر، قطعاً، حالة الحرب؟ ثم يخلط الكاتبان في مقالهما بين “الفلسطينيين” وقيادة م ت ف  / السلطة الفلسطينية -وهذه الأخيرة عبارة عن مجموعة صغيرة من القادة العجائز كبار المسنين، وجميعهم على جدول رواتب الولايات المتحدة، ويمتد أقصى زعمهم بامتلاكهم “السلطة” على 3 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية (حيث تواجه العديد من التيارات السياسية الأخرى قمعاً شديداً من السلطة الفلسطينية). لا تمثل م ت ف / السلطة الفلسطينية، بأي طريقة ذات مغزى، مصالح 80 % أو أكثر من الشعب الفلسطيني  الذين يعيشون في أماكن أخرى -سواء في المنفى القسري للشتات (60%)، أو في غزة (حوالي 13 %)، أو في إسرائيل نفسها كمواطنين إسرائيليين (حوالي 8 %).

وعندما يشير آغا والخالدي بإيجاز إلى الدور الذي تلعبه حماس في غزة، فإنهما يغفلان أي سياق تاريخي. لنتذكر، تراجعت حماس، في العام 2006، أي بعد عامين من وفاة عرفات وعام واحد من انتخاب أبو مازن رئيساً للسلطة الفلسطينية، عن الموقف الذي اتخذته في العام 1996 وقررت المشاركة الكاملة في الانتخابات التشريعية الجديدة للسلطة الفلسطينية. ورحّب الإسرائيليون ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بهذا القرار الذي من شأنه أن يساعد في التفاوض على أشكال مشاركة الحركة. وكان أن فازت حماس، بشكل واضح، في انتخابات كانون الثاني (يناير) 2006، فازت حماس بانتصار واضح. شنت إسرائيل وواشنطن وأبو مازن وحليفه الرئيسي، آنذاك، محمد دحلان على الفور محاولة وحشية لكنها فاشلة للاستيلاء على السلطة من يد حماس في معقلها العتيد  في غزة. وفرضت إسرائيل وواشنطن وأبو مازن بعد ذلك حصاراً مشدداً خانقاً على غزة لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. (اختلف دحلان مع أبو مازن ويتردد من حين لآخر أنه يسعى لاستبداله). لم يقل أغا ​​والخالدي شيئًا عن جهود العام 2006 لإلغاء  نتائج الانتخابات. إنهم لا يقولون شيئاً عن الحصار المفروض على سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية. ولم يذكروا شيئاً عن الهجمات العنيفة للغاية التي شنتها إسرائيل على كل من الضفة الغربية وغزة في عامي 2002 و 2003، وضد غزة وحدها في 2008 و 2012 و 2014. هذه الإجراءات الإسرائيلية، والإذن الكامل الذي منحته واشنطن لكل منهم لعبت دوراً كبيراً في تشكيل (والحد) من الإمكانيات في فلسطين اليوم. لكن آغا والخالدي لم يذكرا أياً من تلك التواريخ. ويمكنهما-من خلال هذا المحو المهم للذاكرة التاريخية، أن يتخيلا أنه مع وجود الكوكبة المناسبة من المفاوضين يجلسون على طاولة مناسبة، قد  يتحقق، اليوم، شكل ما من أشكال المفاوضات برعاية الولايات المتحدة. وهما يقترحان أن تكون هذه المفاوضات على نوع ما من أشكال السيادة “الناعمة”. ويجادلان بأنه من المستبعد “احتمالات حصول [الفلسطينيين] على سيادة “صلبة”، بناءً على مفاهيم القرن التاسع عشر للدولة القومية، مع سيطرة كاملة وكاملة على الأرض والحدود والموارد.”  ويتابعان القول: “قد يبدو هذا الاستنتاج قاسياً ، إلا أن خيار الفلسطينيين قد يكون بين التمسك بوهم السيادة الصلبة المهزوم للذات.. وتبني نسخ أكثر ليونة، كما في حالة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مما قد يوفر ذلك، لهم، مخرجاً، على الرغم من أن ذلك سيكلف ما تم تحديده حتى الآن باعتباره امتيازاً وطنياً. ويجب أن تكون الترتيبات الأمنية الحدودية، في ظل السيدة الناعمة، ثلاثية الأطراف في كل من الضفة الغربية (الأردنية والإسرائيلية والفلسطينية) وغزة (المصرية والإسرائيلية والفلسطينية). قد تكون الشروط الدقيقة لمثل هذه المقايضات قابلة للدفع نحو الأمام، لكن الشرط المسبق هو تعديل الخطاب السياسي الذي لم تتبناه النخبة السياسية الفلسطينية بعد”. ولا يعد اقتراحهما  بخصوص إشراك الحكومتين المصرية والأردنية بشكل أوثق في المفاوضات حول الوضع في غزة والضفة الغربية، على التوالي، جديداًـ  ليس بأي حال،- كما نه لم يكتسب أي زخم في الماضي. لكن الأهم الخلل الشديد  في وجهة نظرهما ،عديمة القيمة، القائلة بأن السيادة “الصارمة” والمفاهيم الأخرى في صميم القانون الدولي، [الذي أرسى قواعده  القاضي الهولندي هوغو غروتوس من القرن السابع عشر استناداً إلى مبدأ الحق الطبيعي، أي مجموعة الحقوق الطبيعية التي يكتسبها الفرد، كهبة طبيعية له بوصفه فرداً من الجنس البشري]. في الواقع، عبّر المؤلفان مراراً وتكراراً عن ازدرائهما لمفهوم القانون الدولي ككل، واصفين إياه، على سبيل المثال، بأنه “أحد الأوهام الأكثر ديمومة الذي يعشش في عقول القيادة الفلسطينية”. وبالتالي، يضعون أنفسهم على طرفي نقيض مع التيار الرئيسي الناشئ في الفكر السياسي الفلسطيني العام.

سعى المثقفون الفلسطينيون من جميع أنحاء العالم -وبشكل حاسم من داخل قيادة م ت ف  / السلطة الفلسطينية- بشكل متزايد إلى استخدام القانون الدولي للدفاع عن السلطة التي تركوها. لقد استخدموه أيضاً لوضع علامات قد تساعد -مع تحول ميزان القوى العالمي بعيداً عن العالم أحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة -في دعم قضيتهم لتحقيق نتيجة أفضل لبلدهم. ينبغي النظر، في ضوء ذلك، إلى قرار قادة السلطة الفلسطينية / م ت ف بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية كدولة عضو. لا أحد يتوقع من المحكمة الجنائية الدولية أن  تقدم للفلسطينيين فجأة، سواء في الأراضي المحتلة أو في المنفى، الدعم المقنع الكامل لمطالبهم الرئيسية مثل الإنهاء الكامل للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وقطاع غزة، وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ممتدة وتربط بين هاتين المنطقتين، وعودة اللاجئين من حربي 1948 و 1967 إلى ديارهم وأراضيهم. لكن يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تحدد ملامح قانونية دولية مهمة للمستقبل، وتقترح، في الوقت عينه، بعض الإمكانيات للحد من، وكبح، بعض العنف الذي تستمر إسرائيل تنفيذه يومياً ضد الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها. تم وضع هذه الأفكار بشكل مقنع في كتابات بعض الكتّاب والخبراء القانونيين الفلسطينيين الأمريكيين، مثل نورا عريقات أو ليزا حجار، ولم يرد أي ذكر لأي منهما في مقال آغا ​​والخالدي.

بالعودة إلى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عندما تراجعت وتيرة واتجاه واندفاع وتدفق  الحرب الأهلية في لبنان بطرق غير متوقعة، كان حسين آغا وأحمد الخالدي يدخلان بيروت كل بضعة أشهر في مهمة غامضة. نحن الذين عشنا هناك  طوال الوقت  كنا نمزح بقولنا: “آه، أحمد وحسين في المدينة. من المحتمل أن ننعم بالهدوء لبضعة أيام قادمة”. وأثناء وجودهما هناك، نادراً ما كانا يبديان اهتماماً بما يجري من أحداث في مخيمات اللاجئين، حيث يقوم معظم العمل السياسي والتنظيمي الفلسطيني. يبدو أنهمت انفصلا عما كان يحدث على الأرض آنذاك، كما فعلا لاحقاً في التسعينيات؛ وما زالا يفعلان اليوم.

اجتمع الفلسطينيون، على مدار القرن الحالي، من داخل وطنهم التاريخي -سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو في أرض دولة إسرائيل عام 1948 – ومن الشتات الواسع في مجموعة من المنتديات عبر الإنترنت، وطرق العصف الذهني لمواجهة التحديات الوجودية التي يواجهها شعبهم. وكان موقع  الانتفاضة الإلكترونية Electronic Intifada  (EI) لـ “علي أبو نعمة” أول هذه المنتديات. ثم هناك موقع جدلية Jadaliyya  (ذات المنظور الوسع والبعد الأكثر قومية)، تبعتها الشبكة Al-Shabaka وغيرها. حتى أن مجلة الدراسات الفلسطينية المحترمة Journal of Palestine Studies (التي يحررها رشيد الخالدي منذ عدة سنوات) قفزت إلى عالم المناقشات والمنتديات على الإنترنت. وتعتبر الشبكة، من بعض النواحي، الأكثر إثارة للإعجاب من بين هذه الجهود على الإنترنت. وقامت مؤسستها نادية حجاب وزملاؤها بتصميمها، منذ البداية، كمركز فكري عالمي وافتراضي للسياسة العامة للفلسطينيين. وليس مستغرباً، خلال العام حيث اضطرت فيه جميع مراكز الأبحاث في العالم تقريباً إلى الدخول على الإنترنت، كانت الشبكة قد تألقت حقاً. ندوتهم حول “استعادة م ت ف؛وإعادة إشراك الشباب” “Reclaiming the PLO; Re-Engaging Youth”   أو “تحت المجهر: القيادة السياسية الفلسطينية” “Focus on Palestinian Political Leadership”    كانت غنية بالأفكار والمناقشات الثرية والعميقة. بشكل تصارع العديد من الكتاب، بصورة حاسمة أحياناً، في هذه المنتديات على ما يجب أن يفعله الفلسطينيون في ظل الأوضاع السائدة حيث مازالت إسرائيل مستمرة في بناء المستوطنات والبنية التحتية الخاصة بالمستوطنين فقط، في الضفة الغربية مع  التوصل إلى قناعة بأن طرح “حل الدولتين” الذي دعا إليه أبو مازن منذ فترة طويلة بات أمراً مستحيلاً إنجازه.

بعد العام 1999، عندما تجاهلت الحكومة الإسرائيلية (بدعم كامل من الولايات المتحدة)، بشدة وبلا مبالاة، مهلة الخمس سنوات المحددة في أوسلو لاستكمال اتفاق الوضع النهائي، وواصلت مشروعها الاستيطاني دون توقف، أصبح الأمر واضحاً لدى الفلسطينيين والعديد غيرهم -بما في ذلك عدد قليل من الإسرائيليين اليهود مثل ميكو بيليد أو مؤخراً جيف هالبر- أن حل الدولتين غير قابل للحياة. وأصبح، بالتالي، من الواضح أيضاً أن برنامج منظمة التحرير الفلسطينية الأقدم والأكثر جرأة والذي يهدف إلى إقامة دولة واحدة وعلمانية وديمقراطية في كل فلسطين الانتدابية يجب إعادة إحيائه بشكل عاجل.

انحرفت المنظمة عن تلك الرؤية السابقة لتدعم مشروع دعم حل الدولتين منذ العام 1974 فصاعداً. وتابعت إصرارها، لفترة طويلة بعد ذلك، على الاحترام الكامل لحق عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم وبيوت أجدادهم التي نفوا منها في عامي 1948 أو 1967 أو بعد ذلك ، وهو الحق  الذي أقرته الأمم المتحدة. ولكن هذا الإصرار أصبح أكثر ضعفاً، بعد أوسلو، وغالباً ما حذف بصور كاملة من خطاب المنظمة التي صار ينظر لها منذ ذلك الحين، أي منذ أوسلو، من قبل فلسطينيي الشتات على أنها تخلّت تماماً عن مطالبهم وشكاويهم وحنى حقوقهم المعترف بها دولياً وهي التي كانت قبل ذلك قد احتُضنت في الأصل في مخيمات لاجئي الشتات الفلسطيني الغاضبة. لذلك لا عجب أن  يبذل المثقفون الفلسطينيون من أبناء الشتات قصارى جهدهم للحفاظ على الحياة -أو إحياء- الرؤية القديمة لدولة ديمقراطية واحدة في كل فلسطين التاريخية. كان إدوارد سعيد من بين الأوائل لذي قاموا بذلك. ثم عبّر علي أبو نعمة، في العام 2006، عن دعوته الواضحة: “دولة واحدة: اقتراح جريء لإنهاء المأزق الإسرائيلي الفلسطيني” One Country: A Bold Proposal to End the Israeli-Palestinian Impasse.. أجرى فيه مقارنة صريحة للتحول الديمقراطي الذي حدث في جنوب إفريقيا في العام 1994. وخاضت مجموعة واسعة من الفلسطينيين، طوال فترة الحقبة الحالية من الخطاب الفلسطيني المعولم بالكامل تقريباً، نقاشات عديدة حول قضايا مختلفة مرتبطة بهدف إقامة الدولة الواحدة، عالجوا فيها، أيضاً، التفاصيل العديدة حول كيفية تنظيم وقيادة مجموعة واسعة من الحركات المختلفة، وتواجه هذه التحركات عقبات خطيرة ليس فقط في المناطق التي تحتلها إسرائيل، ولكن أيضاً في لبنان وسوريا والأردن وحول العالم.

ومازالت فئة قليلة غير هؤلاء الذين ينتمون لخطاب القرن الحالي هذا، يصرفون وقتهم وجهدهم لمناقشة مفاهيم مثل “السيادة الناعمة” التي اقترحها آغا والخالدي. ويبدو اقتراحهم كأنه يعبّر، أو يشير، إلى النهاية الملطخة والمحتضرة لذيل مذنب يدعى أوسلو مر بالقرب من العالم منذ وقت طويل جداً ولكن لم تتح له فرصة الوصول إلى اليابسة.

علاوة على ذلك، ربما نشهد نهاية مميتة لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها. لقد التزم قادتها، بشكل لا رجعة فيه، بأوسلو قبل ثمانية وعشرين عاماً، ومن المستحيل تقريباً تخيل أنهم سيتركون الترتيبات التي انبثقت عنها. إن ادعاءهم القديم بأن م ت ف هي “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” يبدو الآن ادعاء فارغ بكل معنى الكلمة -لا سيما في ضوء استبعادهم الطويل وغير المبرر لحماس من صفوفها- . وثمة، هناك حديث يدور اليوم حول إمكانية إجراء جولة أخرى من الانتخابات لما يقرب من ثلث الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي التي تحتلها إسرائيل. وربما ستوافق فتح، كما فعلت  في العام 2006، على إشراك حماس في العملية. وربما توافق حماس على المشاركة. ولكن حتى لو حدثت تلك الانتخابات – “لو” كبيرة جداً هنا -فلن يحل ذلك التحدي الأوسع للقيادة الفلسطينية على المستوى الوطني الذي يكمن في أزمة منظمة التحرير الفلسطينية.

لم أرَ حسين آغا أو أحمد الخالدي منذ سنوات عديدة.  ولو قيض لي أن أراهم اليوم، فسوف أحثهم على ترك الصومعة الحداثية في سانت أنتوني والمشاركة بشكل أكثر جوهرية في المناقشات الواقعية التي تحدث في الخطاب الفلسطيني المعولم اليوم. إذ يمكنهم، بفضل خلفياتهم واتصالاتهم، تقديم  مساهمة مميزة وهامة. على عكس ما يقدموه لقراء مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs  والذي يبدو كـأنه مضيعة لمواهبهم.

…..

هوامش المترجم

*ظهر مصطلح غرينغو Gringo في اللغتين الإسبانية والبرتغالية بمعانٍ مختلفة، ويشير في العموم إلى كل من يتكلم لغة لا يفهمها الناطقون بالإسبانية وبصورة خاصة الأمريكيين والكنديين والبريطانيين والأستراليين،  علماً أن المتكلمون بالإنكليزية يستخدمون المصطلح كنوع من السخرية والاستهزاء بالين يتكلمون الإسبانية والبرتغالية. بينما يشير المصطلح حصرياً إلى مواطني الولايات المتحدة في كل من بنما والمكسيك وهندوراس وإكوادور، وبيرو تشيلي وكولومبيا وفنزويلا. ويعتقد أن المصطلح يعود بأصوله إلى معركة إل لامو التي ارتدى فيها الجنود الأمريكيين اللباس العسكري الأخضر، فكان المكسيكيون يهتفون Green Go! ، بمعنى ارحلوا أيها الخضر، ثم تحول مع الوقت إلى غرينغو  Gringo

العنوان الأصلي: How We Speak About the Failure of the PLO

المصدر: https://bostonreview.net/global-justice/helena-cobban-how-we-speak-about-failure-plo

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

ردود الفعل الدولية على الانتفاضة السورية (آذار 2011 – حزيران 2012)

استهلال ثمة حرب في سوريا .. حرب حقيقية موصوفة،  وليست حرب كلمات و أشعار و …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *