“إسرائيل” تنجح والفلسطينيون ينتصرون / بديهيات لا تذكر ولا تنسى (رقم 2)

يختار كل منا ما يريد من الأفكار والقيم والتوجهات التي يحولها بقدراته الذاتية الى إيمانات ونهج وقداسة. إن الإصغاء وتقديم آيات الاحترام والضيافة واللياقة، لشخص أو فكرة أو شأن، هم جزء قيم من هذه القدرات، سواء كانت عن فهم وإدراك لاختلافها وتميزها عن الأشخاص والشؤون الأخرى أو بسبب ندرتها، في نطاق الحياة الخاصة لكل منا.

لطالما اختارت أصوات بيننا، أصوات مناضلة وطنية صادقة وشرسة، أن تردد بأعلى صوت عدم “اعترافها” ب “وجود” الكيان الصهيوني، رغبة عارمة منها لأن يتحول ما تردده إلى “حقيقة” يوما ما.  لكن لم ينجح أسلوب التعامي هذا، في زعزعة قشة في الكيان ولا بالانتشار بين الفلسطينيين ذاتهم.

نظر الفلسطيني، الذي يَعي كونَهُ أرشيف المستقبل، ورأى ومن ثم تمعن وتفحص ودرس وقاس أطوال وأعراض هذا الكيان بعمق، لكي يتمكن من ابتكار أساليب لمواجهته في الميدان، إذ أن العدو لا يقبع في صفحات كتاب أو صحيفة، ولا على لسان شاعر أو في قلب عاشق حالم، وإنما هو سرطان يتغلغل في رئة الحياة والأرض التي يمتلكها، يعيشها وتحميه ويحميها.

كثيرون لم يفهموا العلاقة بين الحال الفلسطيني وأحوال بلادهم، وأقتصر دفاعهم المستميت عن فلسطين على الظلم والحق التاريخي والدين وقداسة الأرض.  آخرون تماهوا معها، تبَنوها، بفكر وعشق، لكن يبدو أن قِلّة فقط تواصلوا فعليًا مع الحال الفلسطيني حيث أدركوا أحوالهم والخطر الممتد المتربص بهم أيضًا. وشتان ما بين المساندة والإدراك – الدعم أو الدفاع عن النفس

توالت الصدمات والمطبات واشتَهرَت المفاجآت بِسُرعةِ قصفِها للفلسطيني، منذ عشرات السنين، ورغم كوارثية الحال والخوف من الوقوع في اعتيادية الذل، شَكّل وعي الفلسطيني لحجم التهديد، أحد مقومات درعه الحامي.  أما ما حدث مع أولئك المساكين الذي طالما أملوا بشاعرية كبيرة عدم “تواجد” الكيان الصهيوني الغاشم، فقد سقطت الكثير من دروعهم الحامية في مواجهة أول قصف، إذ أنهم لم يصدقوا يومًا بأن الكيان استهدفهم مباشرة ولا يزال، لكنه يَتَمهَّل باجتياحهم لكي يتمكن من فلسطين المستعصية أولا ً.

إن اشتياق الفلسطيني إلى بيته، إلى أيام راحة بال وسعادة، لم يعشها قط، هو اشتياق مزمن، حَلُمَ ولما زال يَحلُم بأن يعيش وكأنه حر، وكأنه آمن، وكأنه يخطط لمستقبل قريب ما، دون أن يُقاوٍمَ أو يُقاوَم، دون أن يَرى ما لا يريد أو أن يٌكشَفُ على من لا يَرغب بالتواصل معهم. لكنه سرعان ما يعاود الإدراك والعمل لكي يكون ذلك من قَدَر الجيل القادِم.

وفيما كان منغمسًا بتربية أمَلِه، المعلن والدفين، بأن يحصل على سيادة أيًا كانت، حتى لو أنها كتلك التي تعيشها الدول العربية، داهمته أحوال الشعوب العربية بانضمامها الى حُلمه وتبنيها لشوقه. لم يكن ذلك فعليًا في الحسبان، خاصة وأن الشعوب العربية كانت في دول مقموعة أما هو ففي قمع دون دولة.

رغم تكرار السؤال الذي أصبح أشبه بتهليلة لطفل قَلِق، “هل سَتُحَرر فلسطين باقي الشعوب العربية، أم أنها، أي، الشعوب العربية هي التي ستحرر فلسطين؟”، يُدرك المواطن المشتبك* بفطرته ورؤيته النضالية، إمكانية الحفاظ على استمرارية نضاله وأرضه ووجوده مقابل مشروعات العدو، التي تُنَكِّل به دون توقف وعلى جميع المستويات. إلا أن صوتاً ما لا يكل من الهدهدة، يعاود الطنين في أنحاء جسده حتى الأذنين، أن تحرير فلسطين، الإنسان والأرض والفكرة، لن يتحقق ويكتمل دون تحرير الشعوب العربية مجتمعة وبفضل اجتماعها حرة. لعل هذا السؤال هو أهم التمائم التي يحملها الفلسطيني في عنقه منذ الولادة!

وتختلف الأعناق وأهميتها مع اختلاف المراتب.

كما هو حال أعناق الكثير من سلطات الدول العربية، تَقبِض الأيادي الإسرائيلية على أعناق وحناجر “القيادات” الرسمية للشعب الفلسطيني، على اختلافها في كامل أنحاء فلسطين التاريخية. لكن الاختلاف مع الدول العربية الأخرى لا يقبع فقط في نوعية وأهداف الأيادي القابضة على الأعناق، والسياسات والمراوغات المعتمدة مع كل من هذه الدول، وإنما في مبدأ الاعتراف بسيادة دولة. فالأيادي الإسرائيلية القابضة على فلسطين التاريخية المحتلة حتى اليوم، في غياب الدولة ورغم وجود سلطتين، لا تزال تسعى و “تنجح” في مشروعها لاستبدال شعب بآخر، وثقافة بأخرى. نعم يمكننا القول بأن هذا ليس بجديد، لكن الجديد هو الاستنفار الشرس لما يسمى “بالقيادات الفلسطينية” ذاتها، بكل السبل المتاحة من أجل البقاء في المشهد رغم الأعناق المعلقة ورغم انعدام أفق الدولة أو حتى الاعتراف بمسؤوليات “سلطة”.

ما زالت إسرائيل (وحلفائها من السلطات المحلية والدولية) تحصد النجاحات في أغلب مشاريعها وخططها المدروسة بجهد وتعمق مُسبقَين، والنجاح هو تخطي سقف محدد مسبقاُ يسمح للناجح بالعبور الى المرحلة التالية.  ولا زال الإنسان الفلسطيني (الفرد -المجموعة-الرؤية) ينتصر لوجوده رغم نجاحات العدو، مستمرًا برسم مستقبله والتحضير للجيل القادم وبتجذير ذات الكينونة، “الخطرة” بعيون الناجح، وعلى نجاحه المأمول القادم.

ومن اهم أسباب انتصار الفلسطينيين على نجاحات الكيان الصهيوني هو تعدد وجوه المقاومةوعظمة أعدادها وأفرادها مقابل “المؤسسة” الواحدة، التي تختزل، شاءت أم أبت، أفرادها أو مكوناتها مهما تعددت، تحت خطاب وفعل واحد.

الانضمام الى المؤسسة يعني إلغاء تميز الجهة أو الشخص المُنضَم، وبالتالي فإن تَنازُل القيادات الفلسطينية-في أراضي ال 48، والضفة الغربية وغزة -عن مواقعها القيادية وانضمامها الى “السلطة” هو بحد ذاته فك الوحدة مع الشعب الفلسطيني.

أما المرحلة التالية، بطبيعة الحال، فتُعنى بمعادلات داخل ساحات السلطة ذاتها، حيث لا مكان للشعب. ويظهر ذلك جليًا في مشهدية حياة الفلسطيني اليوم، والتي هي نتاج التنافس الشرس بين السلطات (الاحتلالية والمحلية التنفيذية) على جودة أدواتهم وأساليبهم في ترجمة المشروع العام /المشترك، مع المرور القسري في مرحلة التخلص من كل “الشوائب” المعيقة.

في منافستها الشرسة مع قدرات الكيان للتخلص من “الشوائب” المتمثلة بصوت الشعب، والذي أصبح عقبة أمام مشروعها، جمعت السلطة الفلسطينية كل “قواها” واستَثمَرتها في قمع التعبير وإخماد الرأي المختلف في الشارع الفلسطيني، مع إيمان مهول بقدرة الطالب المجتهد الانتصار على أستاذه!

يذكرنا هذا بالجهود الجبارة التي بذلها كثير من العرب-اليهود الذين استُقدِموا، مهجّرين أو مسافرين، إلى فلسطين من اجل بناء كيان الحليب والعسل، لكنهم وجدوا أنفسهم يعيشون القمع والذل، بسبب أصولهم العربية، فما كان من بعضهم إلا أن قرر أن ينافس أعتى مجرمي الحرب الصهاينة في الفاشية، من أجل “الارتقاء” إلى مستواه في الإجرام واستحقاق المساواة معه. قام هؤلاء بالتنكيل وقتل وتهجير الفلسطينيين بأبشع الطرق كتأشيرة دخول لمجالس السلطة.

مثلًا، تعمل السلطة مؤخرًا على تعزيز اعتيادية إهانة المرأة الفلسطينية، الرمز، الفكر والجسد، علنًا. وذلك تمثلًا بتعامل سلطة الاحتلال لسنوات طويلة، ونزعًا ل “قداسة رمز” لطالما تَغَنّى به الفلسطينيون وطنيًا، إلى جانب تأطير اختلاف المرأة  في المجتمع الذكوري الذي نعرفه جميعًا.

فجأة، قامت سلطة أوسلو بِسَحق الاختلاف (الجندري) الذي عززته، بذاتها، كما سلطات العالم السياسية والدينية طويلًا بين المرأة والرجل، وأصبح التعامل معهما متساويًا من أجل قمع تواجدهما معًا وعلى حد سواء، في ساحات السؤال أو النقد، الفكر، النضال. أو حتى ذكرى إنجازاتهم في انتزاع حرية من بعد اعتقال في سجون عدو أو تعذيب أو انتصار لاستمراريتهم. إذ أن ماضيهم النقي أصبح من الشوائب التي تُخطّر على مشاريع السلطة المستقبلية. وأصبح قمع هذا التواجد والحراك من أعتى أولوياتها وأكثرها إلحاحًا من اجل الحفاظ على نفسها واستقرار حالها.

فيما لا تزال فلسطين الفكرة والتاريخ استثناء ومرجع، جهدت “سلطاتنا” في تمييع وإفراغ الخصوصية الفلسطينية من معان ومصطلحات كثيرة، مثل “الوطن، الإنسان، الحقوق، التاريخ، الطبيعة، المساواة… وتمثلًا بسُلطات العالم أيضًا، اتخَذَت من الضجيج الذي خلقَتهُ على منصات التواصل الاجتماعي درعًا واقيًا، يُشغل الشعوب بالكلام وموسيقى الصوت الصاخبة. إلا أنها اكتشفت، عدم قدرتها الكافية للإحاطة به والسيطرة على انتشاره. أصبحت الأصوات تتواصل فيما بينها عبر قنوات أخرى أكثر عصرية، فكرية وإنسانية، وأصبحت بالتالي تشكل خطرًا أكبر مما قد تقوم به “الذراع”، كما كان الحال “قديمًا”.

لذا، تَصدَّرَ قمع الصوت لائحة أولويات السلطة، وعَلا شأن التُهم والتَفَنُّن بأشكال العقوبات. أي وبالتالي، تم تهميش كامل لعالم الجسد، سواء بجماله، حرمته، قداسته أو فضائحيته، لا فرق، كما وفكرة الألم، روابط الدم، كبار وصغار العمر أو القدرة الجسدية والعقلية، مما يفسر البطش الحالي في الجسد الفلسطيني بأيدي فلسطينية، والذي لن يُدرج في لوائح الانتهاكات الحقوقية العالمية، إلى حين ظهور مستثمر ذكي للحالة.

أما بعد، فسيكون على الشعب التحلي باليقظة والصبر، من أجل التصدي للمرحلة القادمة من مشروع السلطات، المتمثل بإعادة تعزيز الخطاب الدينوسياسي، وخاصة الإسلام السياسي الأكثر أثارة، إغراء ونجاعة على ملاعب السياسة العالمية. مشروع يهدف إيصال المرأة الفلسطينية أولًا، والرجل المتماثل معها، إلى مرحلة إعلان الندم والتمني بأن تعيد السلطة الوطنية سحلها وركلها وأهانتها ثانية بدل أن تصبح سبية للملتحين الجدد….ولنا أن نتخيل ما سيحدث لرجالنا وأطفالنا وكبارنا.

إن فُحش، وليس استثنائية، حال السلطات الفلسطينية، هو الذي يجعله يحتل مركز هذا النص. فقد قمعت سلطات عربية أخرى شعوبها بظلامية وغباء وعنف وجهل أودى ببلادهم الى حضيض لكن لم تصمت أصوات الشعوب المقموعة هذه، رغم سقوط الكثيرين منها في براثن الأعداء ورغم ضياع البوصلة كما ورغم ازدياد عدد المنتفعين والبائعين في صفوف الشعوب، إلا أن   النضال مستمر من اجل استعادة مشروع الشعب.

لأن السلطة الرسمية، وحين تنفصل عن بوصلتها الشعبية، تفقد القدرة على التواصل مع مفاهيم مثل الذاكرة، الحلم، التواصل وحتى العناق الإنساني. تتقوقع تلقائيًا في الحاضر ذو السقف المنخفض والإيرادات السريعة. ويبقى الحلم بقوة-الذاكرة، سلاح الشعب الأهم ووقوده، بما في ذلك تَكَونه في رحم أنثى وانبعاثه من جسدها وأن مصير جسده التراب وروحه التحليق. لذا تستمر مشاريع رجال السلطة بالنجاح حتى موتهم، ويستمر انتصار الإنسان لأجيال متحدة مع الأرض وبقاء الوطن والنضال من اجل حقوقه وسيادة ملكيته التاريخية لمولده ومولدهم.

رغم قوة الجمع والاتحاد، إلا أن فكرة التغيير والانتفاض ضد حال جائر لطالما انبثقت من شجاعة فرد.

تلهث السلطات خلف بعضها لتستجدي توقيعًا أو إعلانًا أو صفقة، بينما يستطيع الإنسان منا أن يُقسِم، باستعراض كما بخشوع، ويقدم الدلائل والإثباتات لإيمانه العميق بأن ليس بمقدور أي دولة في العالم أن تضاهي قيمة دولة فلسطين التاريخية الحرة، الديمقراطية، التقدمية، الإنسانية، العلمانية، النسوية. إذ أنها لم تولد بعد ….

في ظل القمع الوحشي واللاإنساني تصبح اللاجدوى وفقدان الأمل مطب سياسي أكثر مما هو أنساني طبيعي، إذ أنه يقع في سلم إنجازات السلطات، يزيدها ثقة في نجاعة اساليبها وأملاً في نجاح أكبر. لذا لا تَجتَر الجمال طعامها حبًا في مذاقه وإنما لاستطالة الحياة.

كل الحيوانات ليست قادرة على الاجترار أو الصبر على المجاعة، لكن من يستطيع منهم فإنه يمتلك مفتاح البقاء في الأوقات العجاف.

سبتمبر 2021

**كان د. عادل سمارة قد أطلق مصطلح “المثقف المشتبك” منذ عشرون عامًا ، مصطلح قَدَّره وتلاحم  معه فكرًا وممارسة المناضل الشجاع الشهيد باسل الأعرج . ومن بعده…

عن علا طبري

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *