صورة من مطعم وكالة الغوث في مخيم شنلر/حطين 1985
صورة من مطعم وكالة الغوث في مخيم شنلر/حطين 1985

ورقة من سيرة ذاتية (3)

الورقةُ الثّالثة

(المعاركُ على قروشٍ قليلةٍ. والشبابيكُ المطليةُ بالأزرقِ النيليّ. دخولٌ مبكرٌ لسوقِ العمل، واندلاعُ حروبِ أولادِ اللاجئين).
من حليبِ الأونروا إلى بقجةِ الثيابِ العتيقةِ، ومن الأكياسِ الورقيةِ إلى عصرِ النايلون، ومن بيعِ الترمسِ إلى اكتشافِ النهديّ. ومن باصِ “الديزوتو” الفرنسيّ، إلى المرسيدسِ الألمانيّ والفولفو السويدي… وإلى ثنائياتٍ كثيرةٍ، كانت المشاهدُ الجديدةُ للحياةِ العامةِ، ولتجربةِ حياةِ طفلٍ تدهشهُ الأشياءُ البسيطة.
لو سألتمْ أيَّ فلسطينيّ -ممَّن تفتَّحَ وعيُهم بعدَ اللجوءِ، وكانت أعمارُهم بعمرِ النَّكبَةِ، أقلَّ قليلاً أو أكثرَ قليلاً- ما الذي تكرهُهُ من أيام طفولتك؟؛ سيكونُ الجوابُ بنسبةِ 99%، حليبُ الإعاشةِ وحبّاتُ زيتِ السمكِ المقترنَةِ بكوبِ الحليبِ الصباحيّ في مدارسِ وكالةِ الغوث. وهناكَ مقامُ كرهٍ آخرَ للحليب، فمَع نشوءِ وكالةِ الغوثِ، قاموا بتوزيعِ حصصِ حليبٍ سائلٍ لأفرادِ العائلةِ كلَّ صباح، وعلى الأبناءِ -قبل الذهابِ إلى مدارسِهم- التوجُّه لمركزِ توزيعِ الحليب، وإيصاله للبيتِ ثمَّ العودةُ بسرعةٍ إلى مقاعدِ الصفوفِ في مدارسِ الوكالةِ ذاتِها (الأونروا).
كانَ واجبُ استلامِ حصَصِ حليبِ الأسرةِ الصباحيّ، عقاباً لأجسادِنا الطريَّةِ في الشّتاءِ القارص. إذ كان علينا أن نجتازَ مسافةً من البيوتِ إلى مركزِ توزيعِ الحليبِ، ونعود. ثمَّ نُسرِعُ بارتداءِ ثيابِ المدرسة، وحملِ كُتُبِنا ودفاتِرنا ونمضي ركضاً قبلَ أن يقرعَ جرسُ بدايةِ الدرسِ الأوّل. وكانَ التخلُّصُ من هذا العقابِ الصباحيّ “الحليبي” يقتَضي أن نبيعَ حصصنا لتاجرٍ، يأخذُ الكميَّةَ حَسْبَ عددِ الأنفار، وبسعرٍ بخسٍ، لنكتشفَ لاحقاً أنَّهُ يملكُ بقرتينِ هولنديتين، يخلِطُ حليبهما “بحليبنا” الذي يَشتَريهِ منَّا.
وسوفَ تمضي العقودُ الطويلةُ، قبلَ أن يَنشأَ بيّني وبينَ الحليبِ تطبيعٌ للعلاقةٍ الغذائية. وحتى لا أنسى ولا أتنكر نهائياً للحليب، لابدَّ أن أخبركم حقيقةَ أنّه كانت لي علاقةٌ طيبةٌ مع حليب البودرة، والذي كانت توزّعُهُ وكالةُ الغوث في حصصِ التموينِ الشهريّة أو لنَقُل “الإعاشة”، فنخلطهُ -نحن الأطفال- مع السكر ونأكله ناشفاً، ونتمتع به كامتيازٍ غذائي عندما لا نملكُ خمسةَ قروشٍ سورية “فرنك” أو نصفه، لنشتري به حباتِ سكاكر متنوعة الألوان والمذاقات (خضراءُ وصفراءُ وليلكيّةً وبرتقاليةً وحمراء)، ونعرفها باسم المطعَّم أو “منضمينا”، هكذا كان يسميها البائع. أمّا السكرُ الذي نَخلطه بحليبِ البودرة، فكان يخذُلُ المذاق، ويعكِّرُ المزاجَ عندما يكونُ لونه خرنوبياً، غيرَ مكتملِ التكريرِ والتنقية. وكنا نتعجَّبُ كيف يتحرك هذا السكر حين نضعه في صحن أو وعاء، ودون أن يقتربَ منه أحد أو يلمسه، كان مشهداً غريباً، يُدهِشُ عقولنا. لم نَكن نقدِّرُ أنَّ الرطوبة الباقيةَ فيه بسببِ عدم اكتمالِ تكريره، هي سرُ “السُّكَرِ المتحرك”، فعندما يبدأ بالجفاف بعدَ أن يتعرضَ للهواء، تبدأ ذرّاته بالانزياح عن بعضها البعض، فنندهش، لكننا كنا نستمتع بلعبة “سكَر الإعاشةِ المتحرك”.
كلَّ صباح، وفي الفرصةِ بين الحصتين الأولى والثانية، كانت تنتظرنا في المدرسةِ حَلَّةُ حليبٍ مذابٍ بالماء، وعلى كلِّ طفلٍ أن “يكرَع” كوباً منه، في وعاءٍ معدني نحمله معنا يومياً، كانَ له ذراعٌ تطوى، وكنا نعلقه على خاصِرَتنا فوقَ زنّارِ صدريّةِ المدرسة، سوداءُ اللون في حينه، ذات القَبَّةِ البلاستيكية البيضاءَ حولَ العنق. وقد كان ذاكَ الوعاءُ يشبهُ ما كان يحمِلُه الجنودُ خلالَ الحرب العالمية. وعند اصطفافنا طابوراً أمامَ باب غرفة الآذن، كان يقفُ أحدُ المعلمين ليراقبَ إذا ما امتنع أحدُ الأطفال عن شرب حصته من الحليب. حليبٌ فاترٌ، ورخو، تبدو الزُرقةُ عليه ظاهرةً أكثرَ من البياض، غيرُ مُحلَّى، وما كان يزيدنا اشمئزازاً وكُرهاً لشربه؛ ارتباطُه بحبةِ زيتِ سمكٍ كروية، إذ بعد أن نبتلعها، وإن فشلنا في التخلص منها خوفاً من عقابِ المعلم الذي يراقبنا، لا نلبثُ -في الحصة الثالثة- أن نتجشأ مذاقاً زَفراً، نتنَ الرائحةِ والمذاق. فكان الحليبُ باقترانهِ بزيتِ السمك أشبَهَ بعقابٍ صباحي يوميّ لا مهربَ منه.
كان يتمتعُ بعضُ معلمي المدرسةِ بكوبِ حليبٍ في كأس زجاجيّ، ولم يكن مصدرهُ “الحَلَّة” التي يَسكُبُ لنا منها آذنُ المدرسةِ أبو حسن، إذ اكتشفنا أن الآذنَ يذيبُ حليباً مجففاً كاملَ الدسم وثخينَ القوام، ويعطيه للمعلمين تحتَ أنظارنا. وما استطعنا أن نرفضَ نصائحَ المعلمين لنا عن فوائد الحليب، وما كنا نتجرأُ على القول لهم -عندما يُدَعّمونَ نصائحَهم بالقولِ: أنّهم “شخصياً” يشربون مثلنا كوباً من الحليب يومياً- أنَّ الحليب الذي تشربونه ليس كحليبنا “الزايط والفاتر”.
في السنوات اللاحقة، في الصف الثالث الابتدائي وما بعده، وَجَد أكثرنا طريقةً للتخلصِ من الحليب، ومثلَها لهرسِ حبّةِ زيت السمك، سيئةِ الصيت. فقد كنا نتسللُ، بعد التظاهر بارتشافِه أمام المعلم”المراقب”، إلى مسقطِ ماء حنفياتِ الماء، ندلُقه ونفتح الصنبور خلفه، وبانتباهٍ كامل لحركةِ المعلم الرقيب ونظراته. أما حبةُ زيتِ السمك، فوجدنا طريقتين للتخلصِ منها، إّما أن نلقيها أرضاً ونسحقها بأحذيتنا، فتفوح رائحتها النتنة، أو أن نقذِفها عالياً فوقَ سطحِ غرفِ صفوف المدرسة، ونتنفسَ الصعداءَ من عقاب الحليب وزيت السمك.
تطورت خدماتُ وكالةِ الغوث “الأونروا”، فأنشأت مطاعمَ تُقدمُ وجبةً يوميةً واحدةً لكلّ طفلٍ بين عمر 3 سنوات حتى 12 سنة، حسب ما أتذكر. وإضافةً لتلك “المطاعم”، بدأت وكالةُ الغوث بتوزيعِ الألبسة المستخدمة”البالة” مرةً أو مرتين في السنة، بالتزامن مع موعدِ “الإعاشة”/ المؤن الغذائية، وكانت تخصصُ جزءاً من تلك الألبسةَ للتوزيع في المدارس. ولم نكن نهتم للاختلاف بين ثياب الذكور وبين ثياب الإناث، خاصةً السراويلُ والقمصانُ والأحذية، نأخذ ما يعجبنا دون تدقيق. ومنذ لحظة وصولنا لبيوتنا، نرتدي ما استلمناه، ونخرج سعداء بالثياب الجديدة. لم أنتبه، لجهلي بالجِزَمِ والأحذية، أنّ الحذاءَ الأنيقَ الفاخرَ الذي وقعَ اختياري عليه خلال التوزيعِ هو “بنَّاتي”، نظرَت أمي إلى قدميَّ، وصمتت قليلاً، ولم تلفت انتباهي لذلك. فبالنسبة لها هو حذاءٌ يحمي القدمين ويحافظُ على دفئهما، لكنّها راحت تسعى لمقايضته بحذاءٍ ولّاديّ، ومن خلالِ سؤالها لأمهاتِ الأطفال، كانت تطلب رؤيةَ الأحذية التي استلموها، فعثرت على حذاءٍ مناسبٍ كان من نصيب إحدى بناتِ أقاربنا، واقترحت عمليةَ “تبادلٍ” أفضت إلى حلّ يرضي الطرفين.
ويبدو أنَّ اللاجئين هم أوَّلُ “الجندريينَ” في “الأمة العربية”. ذلكَ حين استمرَ أبناؤهم يرتدونَ الألبسة والأحذية دون تفريقٍ بين ما هو منها للإناث وما هو للذكور. حتى وبعد اكتشافهم أن الألبسة الأنثويةَ تختلفُ في بعض الجوانب عن الألبسة الذكورية. (ردة السترةِ الأنثوية، وموضعُ أزرارِ القمصان، وسحاب السروال، وكعب الحذاء أو الجزمة. زد على ذلك ألوانُ قطع الثياب).
كانت تجمعاتُ الفلسطينيينَ في دمشق، قبل إنشاءِ مخيم اليرموك، تتوزع على: دوما والقابون وجوبر وبرزة وحرستا و(حي الأكراد) -قبل أن يعرّبَه نظامُ حزب البعث، فيطلقَ عليه اسمَ ركن الدين- ودمَّرْ والمزة وكفرسوسة، وحارةُ اليهود التي راحت تدريجياً تسمى “حي الأمين”، وفي هذه المناطق أُنشِأت مطاعمُ وكالة الغوث.
قبل افتتاح المطعم، شاعَ الخبر بيننا نحن الأطفال، فمضينا نتخيلُ مطعماً يقدِّمُ ما لذَّ وطاب، لافتقادنا ما نشتهيه في وجباتِ بيوتنا الفقيرة، وتوهمنا أنّهم سيقدمونَ لنا لحماً مشوياً، وبطاطا مقلية، ومحاشي، وقس على ذلك. وعندما بدأَ المطعم عمله، كانت وجبةُ اليوم الأوّل فاصولياء حب يابسة، مع ذرّاتِ لحمٍ معلب، تسبحُ في كميةٍ كبيرةٍ من مرقِ الطماطم “دبسها”، فكانت صدمتنا كبيرةً وموجعة، لكننا التهمناها بينما كانت تتفحصُ ملامحنا عيونُ مدير المطعم والعاملين فيه، لتقدير الموقف، واكتشاف إذا ما كنا مسرورين بوجبة الفاصولياء تلك. وعندما استنتجوا أننا لم نكن سعداءَ بتلك الوجبة، خاطبنا مدير المطعم -وهو من أبناء بلدتنا “بلد الشيخ” وله صلة قرابة بجدي- قائلاً: بكرا يا أولاد الغداء كفتة!
بالعموم، كانت الوجباتُ التي نتمتعُ بها محدودة، رغم تحضيرها السّيء. وشملت قائمة الطعام ما يلي: “الكفتة” المحضَّرةُ من اللحوم المعلبة، والحصةُ قرصٌ واحدٌ بحجم قرصِ الفلافل، و”الكبة” المحشوة بكميةٍ هائلةٍ من البصل، قرص واحد فقط لكل” زبون” أيضاً، والقليل من لحم المعلبات، والبيض المسلوق، بيضةٌ لكل طفل وإلى جانبها قطعةُ خضارٍ أو بطاطا مسلوقة.
أسوأُ أيامِ المطعم، تلك عندما تكون الوجبةُ عبارةً عن صحنِ شوربة عدس غير ناضج، أو العدس الحب مع السلق والبصل، والمعكرونا المسلوقة مع قليلٍ من مرق البندورة. ومن أجل التحايل علينا، كانت خطةُ الإدارة، أن تقدم في مثل هذه الأيام، “تحلاية” يعني ” دوسير”، من فاكهةِ الموز أو البرتقال، تعويضاً عن سوءِ وجبتي العدس والمعكرونة. أمّا أيامُ الكفتة أو البيض المسلوق أو الكبة، فكانَ الدوسير” رز بالحليب” أو “مهلبية” وهي الحليب مطبوخاً مع النشاء. كانَ تخطيطاً ماكراً، يهدفُ إلى إرضائنا وتعويضنا عن ظلم العدس والمعكرونا.
حاولنا تحييد أيامِ الطعام غير المرغوب، فلا نذهب إلى المطعم. قبل يومٍ كنا نعرفُ طعامَ يوم الغد عن طريق العاملات، فكنَّ يهمسن لنا: بكرا شوربة أو” بكرا معكرونة. فنغيبُ عن الوجبة، وأحياناً طمعاً بالموزة أو البرتقالة، نكابرُ على مذاق الطعام السيء، ونذهب حباً بالفاكهة. لكن في مثل هذه الأيام لم نكن نكمل الكمية المخصصة لكل واحد منا، المسكوبة في طاسات من الألمنيوم.
أحياناً، نخسر الوجبةَ الشهيةَ “كبة، بيضة وقرص كفتا”، جرّاءَ معاقبةِ الأساتذة لنا، بمنعنا من الخروجِ إلى فرصة منتصف النهار، حين كان دوامنا ينقسمُ إلى فترتين: قبل الظهر وبعد الظهر. فكلُّ تقصيرٍ في الوظائف، أو مشاغبةٍ خلال الدرس، وفي باحة المدرسة، عقوبتها تكون بتأخير خروجنا ظهراً، حيثُ يكونُ المطعمُ قد توقف عن تقديم الطعام. إنما كان يساعدنا في تخطيط حياتنا المدرسية؛ تسريبُ عاملات المطعم لنا أخبارَ وجبة طعام اليوم التالي، فحينها نهملُ الدروس، ولا ننضبط داخل الصف، غير مكترثين بحرماننا من الخروج وقت تقديم الطعام اليومي. ولا أستطيع الجزم إن كان إغلاق باب المطعم، قبل دقائق من موعده المعتاد، في أيام الكبة والبيض والكفتة، يتم بتخطيط مسبقٍ من مدير المطعم وبالاتفاق مع العاملين والعاملات، أم أننا كنا نظن ذلك شكاً منا بنواياهم. ولكن أغلبَ الظنِّ أن شكنا كان في مكانه، فلقد لاحظ عددٌ من التلاميذ، المقربين من أسرةِ هذه العاملة أو تلك، أن أطفالَ تلك الأسر كانوا يحملون بين أيديهم، عصراً، أقراص الكفتة أو الكبة أو البيض المسلوق، حتى أنّهم في اليوم التالي يحضرون زوادتهم من الطعام في فترة المدرسة، بما يكشف أن ما في حوزتهم هو من أكل المطعم.
أمضيت مرحلة التعليم الابتدائية، من الصف الأول حتى الخامس، في مدرسة بلد الشيخ في المزّة.
تصادَف إتمامي للمرحلة الابتدائية مع انتقالِ سكننا إلى كفر سوسة، بعد تقدمي لامتحان الشهادة الابتدائية “السرتفيكا”، في مدرسة حافظ إبراهيم في المزة. وكنتُ في الدفعة الأخيرة التي تتقدم لامتحان السرتفيكا، فبعد ذلك أصبحَ الانتقال من الخامس إلى السادس وحتى التاسع “البروفيه” يتم تلقائياً كبقية الصفوف.
ولضيق حال أسرتي، كنت في النهارات الطويلة والدافئة، أحملُ صينيةً فيها حباتُ تفاحٍ صغيرة، مغطسةٍ بمحلول سكري لونه أحمر، يصبح جامداً بفعل حباتٍ من “ملح الليمون”، وحينَ يبرد المزيجُ يصبحُ له قوامٌ ثخين يعلق على حبات التفاح المشكولة بعود صغير. هذا ما كانت أمي تعده لي في عصاري أيام الربيع، لأحصلَ على قروشٍ قليلةٍ تعين على سد بعض الحاجات اليومية. وحين تشتدُ درجةُ حرارة الطقس كانت أمي تعد لي إبريق ” ليموناضة”، أخرج به في دروب الحي، لأحصل على خمسةِ قروشٍ ثمنُ كوبٍ من الشراب. ورغم قِلَّة مردودِ مبيعاتي من “العنبر” وشراب الليمون “المغشوش”، والمصنوع من السكر والماء وملح الليمون والصبغة الصفراء، إلّا أنني كنت أفوز بنشوةٍ تجعلني كطائرٍ يحلق في الفضاء من شدة الفرح والشعور بالسعادة. طفلٌ صغيرٌ يعودُ وهو يغلقُ راحته على نقود معدنية قليلة، لكنها بنظره وحساباته تفتح درباً لاستمرار الحياة.
تطورت “تجارتي” كبائعٍ جوال في الحي، عندما أضافت أمي صنفاً جديداً للمواد التي تجهزها للبيع، فأدخلت “الترمس”. وكان لها زبائنها لأنها تعوّض الفقراء عن “الموالح- المكسرات”. ومردودها كان جيداً قياساً بسواها (الليموناضة والعنبر والتمر هندي).
هكذا كانت صعوبات الحياة وقسوتها. الأب ينحتُ في الصخر في جبال المعضمية، والأم تسرق بعض الوقت لتخيط بيديها ثوباً لامرأة، أو ترقع بنطالاً لتحصل على ربع ليرة سورية، وأنا وكنت لا أزالُ في السابعة أو الثامنة من عمري، أتجول بصينيةِ العنبرِ تارةً وبإبريق الليموناضة تارةً أخرى، لأحصلَ على أربعينَ قرشاً، وربما أقلَّ أو أكثر قليلاً، وأنا أنادي ليموناضة بفرنك ” برد قلبك يا عطشان”، أو “عنبر أطيب من العسل بفرنك”، رح ننفق قرب ياولد!. ولولا الطحين الذي كانت تقدمه الأونروا، إلى جانب كميات قليلة من الحبوب والزيوت، والسكر غير مكتمل التكرير غالباً، إضافة لمواد غذائية أخرى، بشكل غير دوري، مثل معلبات السردين، أو السمك المقدد، والحليب المجفف، لما كان منتوجُ نحتِ الصخر الذي يجلبه عمل والدي، مع ما تنتجه أمي وهي تفني نظرها وأصابعها بالخياطة والترقيع، وفوقهما القروش القليلة التي أحصل عليها من مبيعاتي، كافياً لتوفير أبسط مقومات الحياة.
تطورت خبراتي، مع أبناء جيلي، وصرنا نجمع من الدروب والحقول بذور المشمش المرة ونبيعها لرجل جوال ينادي: (ياللي عندو بذر مشمش وياللي عندو قزاز مكسر وياللي عندو نحاس)، فصارت أبوابُ “الرزق” واسعة. نجمع الأواني الزجاجية المكسورة، وبذور المشمش، وقطع النحاس التي هي غالباً أسلاكٌ كهربائيةٌ مغلفةٌ بالكاوتشوك/ المطاط، نقوم بحرقِ الغلاف ثم نسحبُها ونلفها لتصبحَ كروية وننتظر الرجل الجوال الذي يدفع لنا ثمنها قروشاً قليلة.
براءة الطفولة اختلطت، من أجل تحصيل أكثر من القروش، بتعلُّم الغش. كنا نخلط مع بذور المشمش بذورَ الخوخ، لنأخذَ ثمنها أكثر، ومع أسلاكِ النحاس، أو أيّة قطع نحاسية، نحشو أسلاكاً وقطعاً معدنيةً أخرى ليزداد وزنها، وإن اكتشفَ “تاجر الخردوات” حيلتنا، ندَّعي الجهل بالفرقِ بين بذورِ المشمش وبين بذور الخوخ، أو بين قطعِ النحاسِ وقطعِ المعادن الأخرى.
لم نتوقف ونحن نبحثُ عن النحاس وبذور المشمش والزجاج المكسور، عن التجوال في الشوارع والدروب. لقد اكتشفنا مصدرَ رزق كبير هناك، في الأرض البور، البعيدةِ عن مساكننا، في المنطقة التي افتتح فيها أوتوستراد المزة، وشُيّدَت عليها الفيلات والعمارات “الراقية”، إنه “المقلَب”، هكذا كان اسمه الرائج، وهو في حقيقتهِ مزبلةٌ كبيرة، تُلقى بها أطنانٌ من القمامةِ المتنوعة، القادمةِ من أحياءِ دمشق، وفيها كنا نعثر على الزجاج المكسور وعلى قطعِ وأسلاكِ النحاس، فتضاعفَ دخلنا.
لقد كان دخولُنا المبكّر لسوقِ العمل والإنتاجِ “والتجارة”، مترافقاً مع التنافس بيننا، كلٌّ يطمحُ أو يطمع بتحصيل “ثروةٍ” أكبر. ظهرَ ذلك في تسابقنا على الخروجِ المبكّر من منازلنا، نجوبُ دروبَ المزة أو طرقاتها المنفتحةِ على الحقول والبساتين، بحثاً عن “الثروة”، وعندما اكتشفنا “المقلب- المزبلة”، أخذ التنافسُ طريقاً آخر للوصولِ المبكر إلى ذلك المكان، وكنّا نعرفُ مكان “الثروة- القمامة الطازجة”، فقبلَ يومٍ نكون قد عايّنا الموجودات، ونعرِفُ القمامةَ الجديدة، فهي تبدو ظاهرةً لنا، مميزةً عن قمامةِ الأمس وما قبله. وبالطبع من يصلُ منا أولاً يفتشِ بها، يقلِبها، يبعثرها، ليفوزَ بما يبحثُ/ نبحث عنه.
ذلك التنافسُ “على الثروة” ما لبِثَ أن صارَ صراعاً، ثم “احتدم التناقض”، كما يقولُ محللو ومفكرو العصر، فتحولَ إلى حربٍ على جبهتين. الأولى” جبهةُ الطريق إلى المزبلة” والثانية “جبهةُ اختراقِ الحقول والبساتين” للبحث عن بذورِ المشمش أساساً، وما يمكننا العثور عليه من نحاسيات أو زجاجٍ محطم.
كان سكن اللاجئين الفلسطينيين في المزة موزعاً على تجمعين أساسيين، الأول ويسمى”حوش سبيِس”، ولا زال موجوداً حتى اليوم، وقاطنوه ينحدرون من قرى الحولة، ومن طيرة حيفا، وامتدادُ موقع الحوش يفضي إلى مصدر “الثروة الرئيسي”، (المقلب- المزبلة، وبلغة مهذبة مجمع القمامة). والتجمّعُ الآخر، الذي كانت أسرتي تقطنه، كان معروفاً باسم: “حارة مْريْ”. وهي أقربُ إلى دروب البساتين، ومن يعرفُ أوتوستراد المزة، ومشفى الرازي، وبناء نقابة المهندسين، هناك كانت بيوتنا، قبل أن يجتاحها “الزفت” وتصبحَ من أهمِ شوارعِ دمشق وأكثرها طولاً واستقامةً. كذلك “حوش سبيس” هناكَ، خلف بناء نقابة المهندسين.
أحدُ الفروق، بين التجمعين الفلسطينيين في المزة، هو أن قاطني “الحوش”، لم يكونوا يدفعون أجراً مقابل سكناهم، لأن الحوش لم يكن مملوكاً لأحد، وهو عبارةٌ عن أبنية عتيقةٍ من أيام الفرنسيين، لم تكن معدةً للسكن، ربما كمستودعاتٍ أو إسطبلاتٍ للخيول، أجرى عليها اللاجئون تصليحات وتقسيمات تتيح لعدد كبير نسبياً من العائلات الإقامة فيها، ودون مقابل. أما بيوتنا في حارةِ مْريْ، فهي مملوكةٌ لأبناءِ المزة، وبالإيجار قطناها، لكنه إيجارٌ بسيط، لا يتجاوز ليرتان إلى خمس ليرات، حسب مساحة الغرفة، وملحقاتها، وغالباً كنا نعيشُ عدداً من العائلات في سكن مشترك، لا يوجد فيه مطابخ ولا حمامات، بل هناك مساحة صغيرة، في أرض الدار، لقضاء حاجةِ عدد من الأشخاص “مراحيض- تواليتات”، وبمصطلحات تلك الفترة، يطلق عليها “بيت المي” وهو عبارةٌ عن حفرةٍ في التراب، معزولةٍ بألواح الزينكو، وعلى بابها ستارة من الخيش، أو بطانية إعاشة عتيقة، تنفتح على حفرة أكبر مغطاة بما تيسر من المواد (خشب وتنك وبعض أغصان يابسة)، يتم تعزيلها كل شهر في الشتاء وفي الصيف كل شهرين، وهناك رجال يقومون بهذه العملية مقابل أجر زهيد، يأخذون فضلاتنا المتجمعة بعد أن يرفعوها بتنكات، ويلقون بها في بورة أرض بعيدة قليلاً عن البيوت، فتملأ رائحتها الفضاء قبل أن تجفَّ تماماً.
كان أولادُ الحوش يسيطرون على الطريق الذي علينا المرور عبره عند ذهابنا لجمع “الثروات” من المقلب، أمّا هم فلا بدَّ أن يمروا من طريق “حارة مْريْ” –حارتنا- حين يقصدون البساتين. في وقت عبورنا قرب الحوش، كان أولاده “يعيقون تقدمنا” نحو المقلب حتى لا نصل قبلهم، وسلاحهُم كان الحجارةُ التي يحولونها إلى قذائفَ يطلقونها علينا كي نبقى متأخرين، وليتمكنوا من الوصول قبلنا. وكان المصطلح المستخدم بلغتنا في وصف تلك العمليةِ “الحربية”: (مراجدة). وضعهم الاستراتيجي جغرافياً كان متميزاً ومتفوقاً، غير أنَّ ما يجعل التوازن في “الحرب” متاحاً، أنه لعبورهم نحو البساتين لجمع الثروة كان لا بدَّ من أن يمروا بحارتنا، أو من محاذاتها “حارة مريْ”، فيصبحُ سلاحنا “حجارتنا” قادراً على إعاقتهم ومنعهم من حرث الدروب قبلنا، والتنقيبِ بها عن بذورِ المشمش وأسلاك النحاس والزجاجِ المحطم، فتكون الغلبةُ لنا.
حجارتهم وحجارتنا كانتا تحققان إصاباتٍ كثيرة، بعضها بل أكثرُها على الأقدام أو الصدور، والأقلُّ منها تصيبُ الرأس، فتسيلُ الدماء، وكنا نسمي تلك الإصابة في الرأس “فشخ”، فنقولُ أولاد الحوش “فشخوا فلاناً”، وهم يقولون أولاد حارة مري “فشخوا فلان!”، وبعد كلّ إصابةٍ مباشرةٍ على الرأس، يحدثُ اتصالٌ بين الأهالي، ويتمُّ الاتفاقُ على تأديب الأولاد من “المعسكرين”. فتتوقفُ الحربُ يومينِ أو ثلاثة، ثمَّ تعودُ رحاها من جديد في اشتباكاتٍ لم تتوقف، ولم تنته، إلّا عندما بدأ عددٌ من الأولاد الذين أصبحوا فتياناً، بالبحث عن مجالٍ آخر لجمع “الثروة”.
لقد تراجعت حدةُ الاشتباكات بين”الجبهتين” ثمَّ توقفت عندما بدأت حرب السويس 1956، العدوان الثلاثي على مصر، إذ أنّهُ في تلك الأيام كنا نبتهج لزمور الخطرِ حين يملأ الفضاء، ونتجمع في الشوارع، حتى الكبارُ من أهالينا. لقد عشنا الحربَ تلك على أكثر من محور، فبالإضافة “لزمامير الخطر”، والذي لم نره إلّا بما رمزت له نوافذ بيوتنا المطليّة بالأزرق “بنيلة الغسيل”، وبتلك الحزم الضوئية الصاعدة من الأرض، لتتجولَ في السماء بحثاً عن”طائراتٍ معادية”، لم نرها، ولم تخبرنا الإذاعات عن أيَّة غارةٍ على دمشق. ومما يُذكر بهذا الخصوص، أن يُعلِنَ المذيع الأشهرُ في إذاعةِ دمشق في تلك الفترة “عبد الهادي البكّار”، بصوته الإذاعي المميّز: (هنا القاهرة من دمشق)، وذلك عندما قصفت الطائرات المعادية إذاعة القاهرة.
كان جهازُ الراديو نادرُ الوجود، فيتجمعُ الكبار عند بابِ محل الحلاق يستمعون لما يتيسر لهم من الأخبار. أمّا نحن الصغار، فكنا نصعد من بيوتنا باتجاه الشارع العام الذي يتجه شمالاً إلى دمشق، والاتجاه المعاكس كان يتجه إلى الحمة مروراً بالقنيطرة، اعتقاداً منّا أننا من هناك سنرى الحرب. في الحقيقةِ لم نرَ شيئاً، ماخلا بعضُ سياراتِ “الجيب ويلز” وفيها جنودٌ يضعونَ الطواقي الحمراء “شرطةٌ عسكرية”.
لقد انتهت الحرب في السويس، وتوقفت حربنا نحن “أبناءُ اللاجئين” في المزة، عندما اكتشف الفتيان، بعمر التاسعة والعاشرة، مصدرين للحصول على القروش القليلة. الأوّلُ، وهو موسمي، بيعُ المثلجات “الأسكا والكلاسيه”، والثاني هو الآخر موسمي، بيع الصبّارة، بعد شرائِها رخيصةً من ضامني الحواكير في أرض المزة، وتنظيفها من الشوك بغسلها في الماء، وتقشير الكوزِ عند البيع، فأدواتُ العمل بسيطة: (وعاءٌ فيه ماء، وصينيةٌ واسعةٌ وسكينٌ صغيرة). ولم يكن مردودُ هذه العملية يتجاوزُ أربعين أو خمسين قرشاً.
في مرحلةِ “الأسكا والصبّارة”، اختلفَ التنافسُ بيننا، ولم يعد “حرباً” بين أبناء الحوش وبين أبناء حارتنا -حارة” مْريْ”- إنّما تحوَّل إلى تنافسٍ مختلط، غيرُ محكومٍ بجغرافيا سكن اللاجئين الفلسطينيين في المزة. فبين أبناءِ العم من سكان حارتنا، انبثقَ تنافسٌ على البيع الأفضل، ومن له صوتٌ أقوى كان يُعتَقَدُ أنه سيبيع بوقتٍ أسرع. أمّا تسويق الصبّارة، فكان الشُطّار يبدلون أماكنهم، وأحياناً يبيعون بضاعتهم وهم يتجولون بين الأحياء الصغيرة.
لا أتذكر بالضبط كم كان عمري، عندما وافقَ صاحبُ محل البوظة، تسليمي تيرموس صغير، يتسِّعُ لعشرينَ قطعة أسكا، لكنني بالتأكيد لم أكن وصلتُ إلى العاشرة. ولم أصل إلى مرحلةٍ متطورةٍ في حمل تيرموس يتسعُ لثلاثين أو أربعين “حبة أسكا، إلى جانب خمس حبات من الكلاسيه”، أو لاستلام تيرموسين، كان الأكبر مني سناً يحملونها كلّ علبة على كتف، واحدةٌ للأسكا، والثانيةُ كلاسيه، فيجنونَ مردوداً مضاعفاً. وكان حلمي في تلك المرحلة أن يأذن لي صاحب البضاعة (عمر السهلي، وعزت السهلي) باستلام علبتين واحدة للأسكا، والأخرى للكلاسيه، فهذه الأخيرة كان ربحُ بيع القطعة الواحدة منها مضاعفاً.
أصعب الأوقات، خلال العمل ببيع الأسكا، كان عندما تنتهي الكميةُ إلّا قطعةً واحدة، فنشعرُ نحن الأطفالُ بأننا نبذلُ جهداً ووقتاً من أجل بيع قطعة واحدة، فنعودُ بها إلى محل استلامِ البوظة متأملين أن يشتريها زبونٌ ما في طريق العودة، وقبل عشرين متراً من المحل، إن بقيت معنا، نخرجها ونأكلها، ونسلمُّ التيرموس لصاحبِ البضاعة، ونكونُ قد خسرنا جزءاً من مردود بضاعتنا. والأسوأُ -قل الأكثر وجعاً لنا- أن يطلُبَ رجلٌ لأولادهِ أربعَ قطعٍ، وليس لدينا إلّا واحدة، فنتأملُ أن يوافق صاحبُ المحل على تسليمنا تيرموس أكبر، لنسدَّ حاجةَ “المستهلكين”، أو أن يوافق على تسليمنا علبتين نضعُ كلَّ واحدةٍ على كتف، فنكسبُ أكثر.
اختصاصنا الثاني في التجارةِ أيام طفولتنا، بيع الصبّارة، كان أيسر، فهي لا تتلفُ كحبات الأسكا إن مرَّ عليها وقتٌ قبل بيعها. ندفعُ ثمنها مقدماً لضامن حاكورةِ الصبّارة “شروة صبارة”، وننظفها من الشوك بأوراقِ الشجر والترابِ ثم نغسلها بالماء حتى يزولَ أكثرُ الشوكِ عنها. وفي المساء إن نجحنا ببيع الكمية، نحتَسبُ رأس المال، ونخصمه من “الغلة” ليتبين لنا ما جنيناه. وفي أفضل الأحوال، لم يكن يصلُ المردود الصافي لأكثرِ من خمسين قرشاً، وفي تلك الأيام كانت قيمتهم جيدة.
“مزاويّة ياصبّارة، أم الشامات يا حلوة”، هكذا كنا ننادي للترويج لبضاعتنا. لكن المقطع الثاني “أم الشامات يا حلوة”، استخدمناه في سنِ الفتوةِ والمراهقة، لنغازل- نلطِّشَ، الفتياتِ ممن على وجوههن شامة، وأذكرُ إحداهُن كان لها ثلاثُ شامات، موزَّعاتٌ بين أعلى العنقِ تحت الخد، وبين صحن الخد.
أدهشنا باص “المارجيريوس” الذي دخل الخدمةَ في نقلِ الركاب من المزة إلى دمشق وبالعكس. قبلَه كان الباص الفرنسي العتيق بطيئاً، ويحتاج تشغيل محركه إلى “المنويل”، ومقاعده من الخشب أو المعدن القاسي، وسعته محدودة، فكان الركوبُ وقوفاً هو الأمر الشائع. وتبعه، بعد فترة قصيرة، باصا المرسيدس والسكانيا. ومن شدةِ انبهارنا بموديلاتهما الحديثة، رحنا ننتظرُ قدومهما ومغادرتهما، لنتأملها فقط، وهي تسيرُ على الشارع العام، وفي دواخلنا أمنيةُ ركوبهما. وعندما كنت أرافق أبي، في أيام الجمعة، إلى سوق الحدادين في دمشق، بغرضِ سقي فولاذ الشوكة المعدنية الضخمة، التي يستخدمها في عمله بتفتيت الصخور، أٌلِّحُ عليه لانتظار أحدث الباصات، وأحياناً تكونُ المدة الفاصلةُ بين باصٍ وآخر تقاربُ الساعة، وهدفي هو التمتعُ بباص السكانيا الحديث. وخلال انتظارنا للباص، كنتُ أسأل أبي عن الطريقِ المعاكس لاتجاه العاصمة دمشق، أين يُوصِل؟، فيجيبني إلى معضمية الشام، فأسأله: وبعد المعضمية؟، وهكذا حتى القنيطرة والحمة. طيّب وبعد الحمة؟ فيزفَرُ بضيقٍ ويقول:
فلسطين، ويطلبُ مني وقفَ الأسئلة.
عشقي لدربِ الطواحينِ كان أكبرَ وأجمل. هو دربٌ يمتدُ في منعطفاتِ البساتين، من المزة حتى كفرسوسة. ولم يغيّر من عشقي لدرب الطواحين انتقالُ سكن الأسرة إلى كفرسوسة، فبقي الطريق واحداً، لكن من كفرسوسة إلى المزة والعودة. وكنت حينها في الصف السادس الابتدائي، ومدرستي في دمشق، منطقةُ البحصة. واستخدامُ الباص صارَ واجباً يومياً، لكنني كنتُ أوفر أحياناً أجرةَ الركوب لأضيفها لخرجيتي، وأذهبُ مشياً على الأقدام حوالي (7) كم ذهاباً وإياباً.
في هذا الزمن بدأ عندنا عصر النايلون. ومَضيتُ إلى اكتشاف اللونِ النهديّ، والمصعدِ الكهربائي، وأفلامِ (أودي مورفي، وبرت لانكستر وكيرك دوغلاس وتوني كورتيس…) في السينما الشعبية الرخيصة. لكن الأكثر متعةً كان شارلي شابلن، ولوريل وهاردي ولويس دي فونيس. هؤلاءَ كانوا يسكبونَ البهجةَ والفرحَ على نفوسنا. أمّا الممثلاتُ الفاتنات، فسوفَ انتبه إليهنَ في سنواتٍ لاحقة، الأوروبياتُ أولاً ثم العربيات. أبرزهن (صوفيا لورين وميلين ديمنجو وكلوديا كاردينالي وجين مانسفيلد وجينا لولو بريجيدا، لكن بوقتٍ متأخرٍ اجتاحَت الفاتنة الفرنسية بريجيت باردو كل المساحات، وداعبَ جسدُها مخيلتنا مع طورِ المراهقة الأولى..)
لكن طفولتي المبكرة لم تكن تخلو من عنصر الفرجة. ففي أيامِ الصحو -وهي طويلةٌ في دمشق وسوريا عموماً- كان يحضرُ إلى شوارع المزة الداخلية، وعلى مقربةٍ من حارتنا، رجلٌ يحملُ على ظهره صندوقاً له عددٌ من النوافذ الزجاجيةِ الدائريةِ الصغيرة، وينادي:
(تعا اتفرج يا حباب على عنتر وأبو زيد الهلالي وفاطمة المغربية) بفرنك الفرجة. فنقصده وتُدهِشُنا طريقةُ تحريكِ يده للصور ونقلها. وإن لم يكن بحوزتنا الخمسةُ قروش” فرنك” نعطيه خبزاً “كماج” أو ما تيسر من بقايا موادِ الإعاشة. وكنّا نسمي ذلك الصندوق “صندوقُ العجائب”.
كما أنّ حلاقاً فناناً كان يحضِّرُ مسرحَ الدمى في دكانه، فيبهرنا، خاصةً وهو يقلد أصواتَ الدمى، وندفع قبل بدءِ العرضِ بالطبع، خمسةَ قروشٍ أيضاً. لكن عالمَ السينما سيبهرنا وسيحركُ فينا أحاسيسَ ومشاعرَ ممتعةٍ، ومحفزةٍ للتفكيرِ والخيال. وفي المرحلة الإعدادية سيتاحُ لي دخول صالات السينما في دمشق. وكان في المدينة حينها أربعُ صالات (أميّة وسوريا وغازي وعائدة) ثمنُ تذكرةِ الدخول إليها ربعُ الليرة “خمسةٌ وعشرونَ قرشاً”، ثمّ في مرحلةٍ لاحقةٍ امتلكنا القدرةَ والشجاعةَ لدخول دور السينما الفاخرة في ذلك الوقت، بسعرِ 50 قرشاً أو 60 للبطاقة.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *