مدخل كلية الندسة المدنية.دمشق

مقاطع من سيرة ذاتية (7)

الورقة السابعة

طريق الملعب البلدي ومعرض دمشق الدولي. والمرور جانب باب “الشوسمها”.

عشت في كفرسوسة حوالي 21 عاماً. ولمَا انتقل سكننا إلى أول داريا، لم أنقطع عن كفرسوسة. ففيها أصحاب وأقارب لي، وكنت أفضل التسوّق منها لمعرفتي بمحالها المفضلة ( الخضار والفواكه واللحوم والألبان والحلويات الشعبية،  وكل ما يلزم من الأدوات  والإكسسوارات ).

قبل أن يصبح ذهابي إلى دمشق ركوباً بالباص أو السرفيس، كان السير على الأقدام أيسر لنا وأقرب، فالأماكن التي كنا نروِّح عن أنفسنا فيها، كانت تتصل ببساتين كفرسوسة التي نعرفها شبراً شبراً.

رفاهيتنا ومتعنا كانت محصورة بحضور مباريات كرة القدم في الملعب البلدي، وهي مباريات شبه أسبوعية. وفي شهر أيلول، الموعد السنوي لمعرض دمشق الدولي، كنا نقصده يومياً إلا ما ندر. على مقربة منهما الملعب والمعرض، وفي منطقة كيوان، على شارع بيروت، كانت صالة لنادي الغوطة، فيها طاولات “البينغ بونغ” و” الفيشة”، ( حتى الآن أجهل سبب تسميتها بهذا الاسم” فيشة”)، وهو اسم لها في جميع الأمكنة كافة. إضافة لذلك، وفي المكان الذي أقيم عليه فندق الميريديان ونادي الضباط الجديد، كانت الحديقة الدمشقية الأكبر والأشهر، المسمَاة “حديقة المنشية”، كنا نقصدها في أيام الجمعة، كما تقصدها العائلات الشعبية في دمشق، وأحيانا نجمع في مشوار واحد المتع الثلاث: (حضور المباراة، ثم الذهاب إلى المعرض، وقبلهما منذ الصباح نمارس هوايتنا في نادي الغوطة، وفي غير موسم المعرض، كنا نقصد حديقة المنشية، قبل المباراة أو بعدها، وغالبا في فصل الصيف بعد المباراة، فالنهار الطويل كان يتيح لنا ذلك).  وجميع هذه الأماكن المذكورة، كانت مدفوعة الأجر، وباستثناء نادي الغوطة، لنلعب البينغ بونغ أو الفيشة، كنا نعبر بالخفاء، تسللاً دون قطع تذكرة لدخول معرض دمشق الدولي، أو مباراة في كرة القدم. حتى في لعبة الفيشة، لم نعدم حيلة لنكرر اللعب بالفيشة دون الدفع، فعندما نفتح باب الكرات البلاستيكية الصلبة الصغيرة، بإدخال القطعة المعدنية الشبيهة بالنقود، ونجذب المقبض لتنزل الكرات، نبقيه مشدودا للخارج ونسنده بقطعة خشب أو معدن تمنعه من معاودة الإغلاق، فتدخل الكرة في ” المرمى” وتتدحرج لتنزل خارج الطاولة، نلتقطها ونعاود اللعب.

  الطريق إلى تلك الأمكنة (الملعب والمعرض بموسمه ونادي الغوطة) واحد، من كفرسوسة حتى منطقة الجمارك، وقبالها كان طريق ترابي يوصلنا إلى مرتفع يطل على المعرض وعلى الملعب. في هذا الطريق كان ثمة بناءان، كلاهما لنفس العمل، وهما ” الكرخانة”، ولتخفيف وطأة مفردة كرخانة كان البعض يسمونها: “المحل العمومي”. ( ويبدو أنها ترجمة مهذبة بتصرف للتعبير الفرنسي الدارج (الدار الكبيرة)، ويتألف هذا “المحل العمومي” من بناءين، منفصلين لكنهما متقاربين، واكتشفنا من خلال مرورنا من هناك سر البناءين.

الأول الذي نعبره كان لعامّة الرجال وللجنود، والثاني كان للضباط. وفيه التسعيرة تختلف، كرخانة الضباط كان الدخول إليها أغلى من كرخانة عامة الشعب والجنود.

وحين قرأت لاحقاً، في عمر متقدم، عن تاريخ “البغاء”، تبين لي الفرق بين القطعة النقدية التي يدفعها الرجل للعاهرة، فتذهب لصندوق المعبد، كطقس في حضارات آشور والإغريق والرومان، قبل إلغاء الإمبراطور قسطنطين لتلك المهنة “الجنس المقدس”، وبين عاهرات عصرنا حيث يأخذ القوّادون” موظفو الدولة”، ورجال الشرطة، ثلثي مردود العاهرات، والثلث المتبقي يبقى لهن لتستمر قدرتهن على الحياة،(حياتهن لإشباع غرائز الرجال)، لأستنتج أن الحضارات القديمة كانت أقل استغلالاً لبائعات الهوى. زد على ذلك أنهن كن مقدسات لدى عامة الناس ووسط طبقة الكهنة.

في أول عهد حافظ الأسد، تم إلغاء الكرخانة، وأزالوها، وبمكانها أشادوا بناء كلية الهندسة التي تتبع جامعة دمشق، لكن القوّادين تكاثروا وانتشروا في أماكن كثيرة، أولها وأهمها ساحة” الشهداء”، المعروفة باسم المرجة. وصارت فنادق الدرجة الثانية والثالثة، إلى جانب بيوت سرية مخصصة لتجارة الجنس، كرخانة أوسع، وفرصتها متاحة، من خلال غطاء للقوادين، بتستر بعضهم خلف مهنة ” سواق التكسيات العمومية”.

لقد كنا مضطرين للمرور قرب ذلك المكان، فالطريق الوحيد، والأكثر سهولة، للتسلل دون دفع ثمن تذكرة الدخول، هو من هناك، نخترقه وصولاً إلى مرتفع بسيط يطل على الملعب البلدي والمعرض، ويفصلهما عن المرتفع نهر صغير من فروع بردى، نجتازه صيفا وخريفا دون عناء، أما في الشتاء والربيع، كان علينا تسلق واحدة من أشجار الصفصاف، التي تتدلى أغصانها إلى الجهة المتصلة مباشرة بالطريق إلى الملعب البلدي. أحيانا والماء مرتفع في النهر كان لا بد من بعض البلل لثيابنا حتى ننتقل إلى الجهة المقصودة، وكان لسان حال عقلنا الباطن: ” البلل ولا الفشل”.

قبل اكتشافنا لهذا الطريق، عند “معبر الكرخانة” كنا نرى الأولاد ينزلون بنهر بردى الرئيسي الممتد على طول شارع بيروت، والعريض نسبيا، وكثيرا ما كان ماؤه مرتفعاً، وللدخول، بعد الغوص بالماء، كان لا بد من تسلق جدار إسمنتي وفوقه درابزون من الحديد، وتحرسه الشرطة، وكم كانت العملية شاقة للنجاح في العبور. لقد كان طريق الكرخانة إنجازاً، فالنجاح بالوصول إلى المعرض مضمون، والتعب يكاد لا يذكر، وأما الشرطة العسكرية، التي تحرس حدود الملعب في بعض الأحيان، فلقد نجحنا في تجاوزها وإفشال تأثير بطشها وسطوتها.

فضولنا، حين نعبر من جانب الكرخانة في طريقنا إلى الملعب البلدي أو المعرض، دفعنا لمحاولة اكتشاف ما بداخل هذا البناء، في البداية نبطئ السير عند باب المكان، لنلقي لثوانٍ معدودات نظراتنا إلى الساحة الداخلية، التي تتفرع بعدها مداخل الغرف المخصصة” للعمل”. و مرة إثر أخرى، صرنا نطيل الوقوف أكثر، فيركض شرطي نحو الباب لينهرنا، فنمضي إلى مشوارنا المقصود.

في ساحة الكرخانة الداخلية هناك حنفية ماء تصب على بركة صغيرة من” الموزاييك”، فكرنا بالدخول وحجتنا “العطش” للماء، بينما الحقيقة هي عطش الاكتشاف لما يجري. فيتقدم نحونا قوّاد وشرطي، يطلبون بطاقاتنا الشخصية “الهويات”، ولم نكن قد حصلنا عليها، فيطردوننا مع تنبيه أن لا نكرر فعلتنا، ويردفون: ” لما تطالعوا هويات يحق لكم الدخول…”. فارتبط انتظارنا للوصول إلى سن الثامنة عشرة بالسماح لنا دخول هذا المكان، لنتفرج. كانت “الفرجة” على كل شيء غوايتنا. من كرة القدم إلى المعرض ولاعبات التنس والسباحات، وإذا رأينا عن بعد شجاراً، نهرع نحوه، لا لنفك الاشتباك بل لنشهد مَنْ مِن المتشاجرين سيهزم الآخر، ولم تخل تلك الفرجات من انخراطنا ضد المتفوق الأقوى، غير أن لهفتنا للفرجة على الكرخانة كانت أقوى، لأنها أمر غريب عنَا.

عندما عرفنا أن السوريين يحق لهم استصدار الهوية الشخصية في سن السابعة عشرة، بينما نحن الفلسطينيين في الثامنة عشرة امتعضنا، واعتبرناها تمييزاً بيننا وبين السوريين. وكانت ثقتنا بأنفسنا كبيرة، ولا تنقصنا “المرجلة”، بل ونعتبر أنفسنا أشد بأساً منهم، فعلقتهم معنا، في الملعب أو المعرض أو حديقة المنشية، كانت في غير مصلحتهم، فيتجنبون الاحتكاك معنا، ويرددون في وصفهم للضربة القوية أنها مثل “البوكس الفلسطيني”. لعل استنتاجهم هذا عن قوة البوكس الفلسطيني، لأنهم تأثروا بمشاهدة مباريات الملاكمة حين كان أقوى الملاكمين “فهد طنبور” ينتمي إلى “جنسية لاجئ”، فأكثر منافسيه كانوا يهزمون بالضربة القاضية.

لم نكن نقترب من باب كرخانة الضباط، فهي محروسة من الشرطة العسكرية، التي كنا نخشى أفرادها لشدتهم وقسوتهم، تجربتنا معهم بدأت عندما كنا نتسلل إلى الملعب البلدي، وكانوا يتكفلون بواجب الحراسة على حدود الملعب عندما يكون فريق الجيش، أو فريق الطيران، أحد الفريقين في المباراة. أحزمتهم غليظة، وأجسادهم قوية، ونظراتهم عدوانية، ولباس الرأس، المخصص لهم، ناري مهيب غير عن الشرطة المدنية، وكنا نكرههم أكثر من كرهنا للشرطة المدنية.

مع ذلك حدث أكثر من مرة، وهم يحرسون المداخل “غير الشرعية للملعب” أن نعد خطة لإيذائهم، فنحن في الأعلى وهم في الأسفل، ينتظرون نزولنا لنعبر النهر، ليضربوننا بالهراوات والعصي المقطوعة من الأشجار. ينزل بعضنا الى مجرى النهر، فيصعدون هم لملاقاته بالضرب، فيبدأ الباقون منا برجمهم بالحجارة قبل أن يصلوا لرفيقنا، ونضحِي بجزء من الشوط الأول، فمن عادتهم أن يتركوا حراسة المعبر ليدخلوا ويتفرجوا على الفوتبول، بعد بدء المباراة بقليل، عندها نتقدم إلى دربنا، ونلتف لنبدو وكأننا قادمين من البوابة الرئيسية.

في يومياتنا الطبيعية، في حينه، لم تكن بطاقة الهوية ضرورة لتنقلنا، أو لتجوالنا في الأمكنة كافة، ولم نكن نعرف سوى بطاقة المدرسة، التي لم نكن نحملها إلا بمناسبات قليلة، عند حجز بطاقة سينما من الدرجة الأولى، كان ثمن بطاقة الطلاب أرخص، كذلك سعر بطاقة التنقل بالباص أو الترومواي” الترين”.

السعي لاكتشاف الكرخانة حرك لدينا الرغبة بسرعة الحصول على البطاقة الشخصية. وكم فرحنا عندما حصل واحد من” الشلة الشقية- البريئة”، الأكبر سناً منَا، على بطاقة هويته. حينها اقترحنا عليه أن يكون مندوبنا للبدء بالتجربة، على أن نجمع نحن ثمن الدخول ( ثلاث ليرات ونصف)، اقتنع زميلنا بعد حيرة وارتباك. فدخل هو، ونحن أبطأنا السير على الطريق المتجه إلى معبرنا نحو الملعب، وعقلنا مشغول بما سيحصل مع المتطوع لاكتشاف “الحياة” داخل الكرخانة.  لم يطل الوقت حتى رأيناه قادماً بخطوات مترنحة مطأطئ الرأس، فساورنا الظن أن من يمارس الجنس يصبح هكذا بسبب الجهد أو المتعة أو.. أو. وصل، فرشقناه بأسئلتنا ونحن نحيط به كدائرة تفور منها اللهفة. كان جوابه خليطاً من ندم واستياء، ثم أوضح لنا كيف عاملته المرأة تلك، فهي رفضت نزول صدره على صدرها، ولم تقبل أن يضع شفتيه على وجهها، ولما أبدى استياءه من رفضها هذا، ردد على مسامعنا ما قالته له “شو مفكّر حالك عبد الحليم حافظ لتبوسني”، وما أغاظه أكثر أن الوقت الذي استغرقه معها من لحظة البداية حتى النهاية، مجرد ثوان، ولم يعرف كيف حصل ما حصل. وأبدى لاحقا قناعته أن الزواج هو الحل، فالزوجة لا تمانعك من التقبيل أو الالتحام بجسدها من كافة الأرجاء. وتشاء الأقدار أن يتزوج مرتين (وفشل في الحياة الزوجية). لماذا؟ لا أعلم.

صار ذكر اسم عبد الحليم يستفزه، ونحن أطلقنا عليه اسم “عبد الحليم حافظ” لنغيظه. واحد من “شلة الزعرنة”، مازحه قائلا: إذا هيك لازم ترجّع لنا ما دفعناه لك. ولأن الشيء بالشيء يذكر، كما يقولون، وبعد حوالي عقدين من السنين تقريباً، روى لنا صديق عن تجربة له مع بائعة هوى في كرخانة بيروت، لا تتعلق “بالتقبيل أو النزول على صدر بائعة الهوى”. فقد قال لنا أنه دخل إلى الغرفة، واستلقت هي على السرير، جلس نصف عار، وراح يحدثها عن ضرورة الإقلاع عن مهنتها، ويطري على صباها وجمالها، بينما هي تتابع التعري وتنظر إلى الوقت في ساعة على الجدار، ويستمر هو متوغلاً في إلقاء دروس بالأخلاق والإنسانية والشرف، ولم ترد عليه بأية كلمة، كل ما فعلته أن وضعت قدمها على صدره ودفعته دفعة قوية وهي تقول له: “قوم انقلع… أبوك على أبو رئيسك ( أحمد حسن البكر)”، لأنها خبيرة باللهجات فزبائنها من كل الأقطار، وعرفت أنه عراقي، فامتثل لها ولم يحاول شيئاً، وأسرع في ارتداء قميصه وبنطاله” (ووينك يا ساحة البرج).

لم أكن ملاكاً، غير أنني لم أعرف المرأة عن هذا الطريق. كانت صدمة رائحة النشادر، المنبعثة من الساحة الترابية الخارجية الموصلة إلى باب الكرخانة، حيث يتبول الخارجون من غرف بائعات الهوى، بعد قضاء “شهوتهم” تلبية لغريزتهم، رائحة بشعة ومقززة،  كانت أول اتصال لي مع زاوية من هذا العالم، فيغزوني الاشمئزاز والقرف، أما صورة نساء الكرخانة، وهن يتجولن في الساحة الداخلية فلم تكن تحرك في أية رغبة، بل على العكس كانت صادمة لي، ولكنني كنت أنبهر بمشهد لاعبات التنس” كرة المضرب”، حين أراهن في ملعب التنس، شرق الملعب البلدي لكرة القدم،  كنا نتوقف لنتمتع برشاقة حركاتهن وقفزاتهن. لقد كن نساءً حقيقيات ومدهشات، كذلك السبَاحات في المسبح البلدي. وبدرجة أقل كانت لاعبات الكرة الطائرة تستحوذن على متعتي في المشاهدة، أما لاعبات كرة السلة، فما كنت أعيرهن كثير اهتمام. عندما أصبحت كرة القدم رياضة مسموحة للنساء في ألمانيا في العام 1970، وكان التلفزيون ينقل مقاطع من مبارياتهن، لم أستظرف دخول المرأة لعالم كرة القدم، أما الملاكمة النسائية والمصارعة الحرة، فكنت أنبذها وأكرهها، واتضح أنها استغلال تجاري للمرأة من شركات رأسمالية في بلاد الغرب. ولا علاقة لذلك بـ “الذكورية” التي يكثر الحديث الثقافي عنها منذ عقود، باعتبارها نزعة للتفوق على النساء.

 تجربة أخرى دخلتها المرأة في العالم ولم تكن مستساغة لدي، حين أصبحت  في البلاد المتقدمة شرطية أو جندية في الجيش. وما اعتبرت ذلك دليل تطور وتقدم ورقي (القذافي كان لديه مجندات لحراسته، ورفعت أسد أيضا أدخل الراغبات من السوريات، الطامعات بالمال والوظيفة، ودخول الجامعات عن غير حق، إلى سرايا الدفاع وسلاح المظلات). غير أن موقفي من المرأة التي تحمل سلاحاً وترتدي زياً عسكريا، تغيَر جذرياً عندما أصبح عدد من النساء ينخرطن في “العمل الفدائي الفلسطيني، المسمى لاحقاً بحركة المقاومة”. كنت وأبناء جيلي نقيم لهن شأناً عظيماً ونفتخر بهن، إلى حد التقديس.

بعد وقت قصير، اكتشفت ورفقائي من الفتيان، أن مسبحين في كفرسوسة تدخلهن النساء. الأول وكان موقعه بالضبط، عند جسر كفرسوسة على المتحلق الجنوبي، وكان اسمه”  المسبح الأولمبي”، في يوم الأحد كان مخصصا للعائلات، وكان رواده في ذلك اليوم من العائلات الأجنبية، أو عائلات الطبقة الغنية غير المحافظة. كنا نذهب ونقف على باب المسبح نتفرج على النساء حين يدخلن، وكان ممنوع علينا الدخول في ذلك اليوم. كانت بركة المسبح مرتفعة عن مستوى الطريق العام، وجدران المسبح تحجب أنظارنا، فلم يكن بمقدورنا رؤيتهن بثياب السباحة. كنا نلوذ بزاوية عند أطراف بناء المسبح من الخارج، لنتمكن من رؤية أجساد السباحات، حين يصعدن منصة مخصصة من أجل القفز إلى البركة. و كم كان ذلك القرد العائد “للحجي” صاحب المسبح، أو مستثمره، يغيظنا، فيقف على المدخل، مع الحجي، وعندما تقترب إحداهن للدخول يقترب فيرفع لها فستانها وينظر هناك، وأحياناً، حين يكون بين يدي الحجي، يقترب ” ليفلفش ويبحبش” في صدور النساء عند المدخل. إنه قرد ” أزعر جدا”.

 كان مسبحنا المفضل، لأنه الأرخص، مسبح المزة، الواقع في جانب مطار المزة، والبركة فيه بأطوال أكثر، وماؤه يتجدد باستمرار، هناك ضخ متواصل للماء من البئر، يسقط على مجرى اسمنتي، ويجري ليصبح كشلال على بركة السباحة. في طريقنا إليه، كنا نعبر أمام مسبح الأندلس، وفيه تفرجنا على نساء كثيرات، فجدرانه لها فتحات كثيرة، مغطاة بقضبان معدنية على علو مترين، ولم تكن تمنعنا من القدرة على الرؤيا، فنتسلق ونرى السباحين والسباحات.

 زبائن مسبح الأندلس، طيلة أيام الأسبوع، من الدبلوماسيين، أو من الجاليات الأجنبية التي تعيش في دمشق. في هذا المسبح أدهشنا “البكيني” فأكثر النساء فيه كن يرتدين “المايوه” ذي القطعتين، ومن الألوان كافة. غير أن لوني المفضل “النهدي” نادرا ما كان لوناً للبكيني على أجساد السباحات الجميلات. وكان لا بد أن أقنع نفسي بجمال بقية الألوان ودفء العديد منها، كالمشمشي الذي انحاز إليه، وبتعصب، واحد من شلة الفتيان. لازمت دهشتي باللون النهدي، وكان ملاذي إليه، في مزج ألوان طلاء الجدران، أو الأبواب والشبابيك. أو أمزجها أنا بيدي ، ألعب دون حاجة عملية للَلون .

النهدي يدهشني. واكتشافه لعبة ممتعة….

سأتابع اللعب.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *