الديماس. ريف دمشق

مقاطع من سيرة ذاتية (11)

 الورقة الحادية عشر.

السنة التي كبرت فيها عشر سنوات.

في شهر آب 1967 تابعت، بعد انقطاع شهرين تقريباً، تقديم ماتبقى من مواد امتحان شهادة البكالوريا، ولم أكن متحمساً للذهاب الى الامتحان، فلم أراجع الدروس بعد التوقف الذي فرضته حرب حزيران.

دخلت الامتحان غير آبه بالنتيجة، النجاح أو الرسوب كانا متعادلين عندي، ذلك جراء الاستهتار بأهمية الشهادة، بل والتعليم بكامله. فلقد أسست الهزيمة أمام إسرائيل إرادة التحدي، ومعانقة حلم كبير يستحق السعي لتجسيده، والتضحية بكل شيء من أجله.  حينها ارتبطت فكرة المستقبل بمفهوم ” مستقبل الجماعة” الشعب والأمة.

نجحت في البكالوريا الفرع الأدبي، ومضيت إلى فضاء مختلف، عن ذلك الفضاء الذي اقترحته علي الفنانة سلوى. لقد كانت رغبتها مساعدتي في متابعة الدراسة الجامعية في مصر، فهي تنتهي من عقدها مع مشغّليها في نهاية العام 1967. ولم تكن راغبة في تجديد عقدها كراقصة، كانت ترغب في تأسيس عمل تجاري صغير لها في القاهرة ( محل لبيع الثياب، أو ورشة خياطة لتصنيع بدلات للعرائس). ولقد شرحت لي عن ما وفّرته خلال سنوات ثلاث من رواتبها، وهو يتيح لها تنفيذ ما تصبو إليه بعد عودتها إلى مصر. كنت أستمع إليها مذهولاً في دواخلي، خاصة أنني فهمت من تناولها للموضوع رغبتها أن نعيش معاً، أي زوجين، ونعمل معاً، وأتابع دراستي حتى التخرج. موقفي من دعوتها لي لمتابعة التعليم في مصر، والعيش معاً، كان أشبه بالخيال، وحين رفضته لم يكن بسبب طبيعة عملها كراقصة، فهي حائزة على بكالوريوس تجارة من جامعة عين شمس، ولا لأنها تكبرني بسبع سنوات تقريباً. لقد كانت بنيتي الجسدية تظهرني مجايلاً لها.

عندما علمتْ أنني سأنقطع في نيسان عن العمل في الفندق، أوصتني بزيارتها في الأوقات المتاحة، ولأنها لاحظت أنني لا أملك ساعة يد، أهدتني واحدة قبل توقفي عن العمل، أما  زيارتي لها في الفندق، لتطمئن عليَ، كانت قليلة، فانشغالي في الدراسة كان يأخذ الوقت الأطول، ودائماً تعاتبني على الغياب. المرة قبل الأخيرة، التي رأيتها فيها، كانت في أواخر أيار، 1967، قبل بدء الامتحان بعشرة أيام. قبل سفرها النهائي، إلى مصر، أرسلت لي مع أحد العمال لتبلغني بسفرها وضرورة لقائنا للوداع، فذهبت لوداعها الذي كان مريرا وقاسياً. أحسست أنني لا أريدها أن تغادر دمشق.

تقدمت بعد النجاح في الثانوية إلى معهد إعداد المعلمين، “الصف الخاص”، لأن مدة الدراسة فيه سنة واحدة فقط، وكانت التجربة الأولى في سوريا لإعداد المعلمين بنظام السنة الواحدة المكثفة بعد البكالوريا، وبعدها ألتحق بالعمل وأبدأ بتحصيل راتب شهري، كانت حياة الأسرة بحاجة إليه.

في المقابلة التي أجرتها معي أستاذة أخصائية بإعداد المعلمين، (هي حسب بعض المتقدمين زوجة المرحوم أكرم الحوراني) لم أكن مكترثاً، أجيب تلقائياً، ولاحظت حينها، أن السيدة التي أجرت معي المقابلة لم تكن تهتم بإجاباتي، فهي كانت تقرأ ملامح وجهي، إن كنت مضطرباً أو هادئاً، ومع ذلك كانت إجاباتي صحيحة غالباً، والسؤال الذي لا أعرف الإجابة عليه، أصرح لها بجهلي به.

حين أتت على هواياتي، وسألتني إن كنت أعرف الرسم، اعترفت لها أنني أعرف رسم لوحة واحدة فقط، ذلك البيت الريفي المنعزل وسطحه قرميدي، وأمامه عربة وحصان. أعطتني ورقة وبعض الأقلام الملونة لأرسم. رحت أحرك القلم على الورقة وأسرق نظرة إليها لأكتشف لغة وجهها، كانت تنظر إلى حركة أصابعي، وتنتقل إلى وجهي تدرس شخصيتي، وقبل إتمام اللوحة” التاريخية”، أعفتني من المتابعة، لكن ملامحها في نهاية المقابلة أوحت لي بارتياحها من نتائج مقابلتها لي.

في انتظار نتائج القبول في دار المعلمين “الصف الخاص”، توفرت لي فرصة العمل في شركة الصناعات النسيجية المتحدة، المعروفة، قبل التأميم بمعمل” الدبس”، على طريق دمشق درعا، قبالة مفرق سبينة. فضلت ذلك العمل على العودة للعمل في الفندق، فشهادة البكالوريا تفتح لي طريق الارتقاء بدرجات الوظيفة، زد على ذلك شغفي بمعايشة ” الطبقة العاملة الصناعية”، لأنها “الأساس” في صناعة تاريخ التقدم، حسب النصوص التي كنت قد قرأتها حديثاً على الورق بين دفات الكتب.

داومت في شركة النسيج والغزل شهرين وأكثر قليلاً، ونسيت أنني تقدمت بطلب الالتحاق بالصف الخاص، لأتخرج معلماً بعد سنة فقط. حين أعلنت نتائج المتقدمين كان اسمي بين المقبولين، فاحترت، هل أتابع دوامي كعامل مؤهل للترقي بسرعة، أم أقدم أوراقي للبدء في الدوام بدار المعلمين في حمص. لكن شاغلاً آخر استحوذ على تفكيري واهتماماتي، حيث المحور الأساس لحياتي بعد هزيمة حزيران، كان النضال “الثوري” بمواجهة “إسرائيل والإمبريالية والرجعيات العربية”، وهو ما أدى إلى قناعة تشكلت لدي أن البقاء في معمل النسيج أو الذهاب إلى دار المعلمين، أمران ثانويان، فإن بقيت في المعمل، أو ذهبت إلى دار المعلمين، سيكون مستقبلي بعيداً عن الخيارين المذكورين.

شهران ونيف قضيتهما عاملاً في قسم الغزل في معمل”الدبس”، تعرفت خلالهم على عمال القسم، وكانت غالبيتهم من أبناء ريف دمشق، عندهم ملكيات أراضي صغيرة، تنتج لهم جزءاً من الدخل، وراتب المعمل يحسن أوضاعهم أكثر. لم يكن وعيهم لذاتهم “وعياً طبقياً”، الأمر الذي حيَرني، فهم لم يكونوا يتقبلون أفكار الصراع الطبقي، ولا تعنيهم الفكرة الإشتراكية. القدماء منهم، قبل عهد التأميم الذي حصل في 1963، كانوا يحبذون زمن الملكية الرأسمالية الخاصة للمعمل، فهم خلال تلك الفترة، ترسخ في تجربتهم، مع إدارة المعمل “الرأسمالية البرجوازية”، فضائل وامتيازات مادية أهم من الشعارات التي ملأت جدران المعمل وساحاته، وشوارع البلاد كافة.

بدأت الدراسة، في الصف الخاص، بدار المعلمين بحمص، في أواخر تشرين الثاني 1967. طلاب الدار كانوا من مختلف المحافظات السورية. نظام الدار اقتضى المبيت فيها، وتناول وجبات الطعام المجانية، زيادة على مخصص شهري نقدي لكل طالب، يبلغ 28 ليرة سورية ونصف على ما أذكر، أما نصف الليرة فأنا متأكد منها، لأنها كانت تثير تندرنا عن ضرورتها. لماذا لا تصبح ليرة، أو تلغى ليبقى عدد الليرات صحيحاً.

كان بناء دار المعلمين واسعاً ومنظماً. غرف كثيرة للدروس، مختبر للتدريب، مطعم لتناول الوجبات، صالة لغسيل الثياب والشراشف، ملاعب فوتبول وكرة السلة والطائرة، مساحات من الحدائق، قاعة للمحاضرات والأمسيات الثقافية. إضافة لمهاجع النوم التي نأوي إليها ليلاً أو في أوقات الراحة نهاراً.

السنة الدراسية التي قضيتها  بدار المعلمين في حمص، لم تمكني من التعمق في معرفة المدينة وناسها، فالإقامة الدائمة في الدار، للدراسة والنوم، جعلت الاتصال بأبناء حمص شبه معدوم. لكن بعض الجوانب التي تبينت لي خلال احتكاكي المحدود والسريع بحياة المدينة، جعلتني أستحسنها وأكون صورة إيجابية عن أبنائها.

يفتخر أبناء حمص بمدينة خالية من المتسولين، وتلك حقيقة لمستها في جولاتي بأرجاء المدينة. وبظني أن حمص هي أول من شهدت ولادة المسرح العمالي، وأتيح لي، في آخر أيام معهد المعلمين، مشاهدة عرض مسرحي قدمته الفرقة المسرحية الأولى في المدينة، التي كانت تعتمد، إلى جانب العروض الثابتة في صالة متخصصة، على فكرة المسرح الجوال، عندما تذهب الفرقة نحو الناس لتقدم عروضها في الأماكن المتاحة. من ضمن تلك الجولات كان نصيب دار المعلمين عرضاً من بواكير نشاطها.

بين دمشق وبين حمص كنا نلاحظ الفرق في أسعار المواد، الغذائية خاصة. في حمص كانت أرخص بشكل ملحوظ. وكانت مفاجأة لنا استخدام الحماصنة أوزانا تختلف عن دمشق. كانت الأوقية 250 غراماً، والكيلو هو ألف غرام لكن أجزاءه أربع أوقيات، فتبدو في الأوقية”بركة”.

في المدن الكبيرة نسبياً، وحمص تعد ثالث أكبر مدينة سورية، بعد دمشق وحلب، لا يشهد المرء في حمص مشاجرات واشتباكات بالشتائم وبالأيدي، وأحياناً بأدوات حادة، لم أتذكر أن شاهدت شجاراً واحداً خلال إقامتي القصيرة في المدينة. يبدو أن الانطباع، عن أهل حمص أنهم  مسالمون هو حقيقة إلى حد بعيد.

الأمر التفصيلي الغريب، الذي لاحظته في حمص، وفي مطبخ دار المعلمين، كان تقديم وجبة من “الجزر المحشي” بالرز واللحم، وهو مالم نعتد عليه في دمشق، ولم أسمع من أمي أن الفلسطينيين كانوا “يحشون” الجزر. عرفت من أبناء الخليل أنهم يحشون اللفت، وتذوقته، كان لذيذاً إلى حد ما. مفاجأة غذائية أخرى غريبة على ذائقتي الغذائية، شاهدتها في حمص، وهي وجبة عشاء  في الدار،  تتألف من الرز بالحليب، والمقبلات إلى جانبه”رأس بصل يابس”. لم أستسغ جمع البصل إلى الرز بالحليب على الإطلاق.

في خريف العام 1968 تخرجت من الصف الخاص معلماً للمرحلة الابتدائية، وتم تعييني في مدرسة قرية الديماس، مسافة عشرين كيلومتراً عن دمشق تقريباً، وربما أكثر قليلاً. كنت سعيداً في التعيين هناك، فصديق من أعز الناس كان سبقني في العمل معلماً بذات القرية، وكان يسكن مع معلم آخر ببيت في القرية، رخيص الإيجار، فاقترحوا أن أشاركهم السكن للتغلب على صعوبة المواصلات، ولتوفير أجور النقل اليومية من دمشق إلى الديماس، إضافة إلى الاقتصاد بالوقت، فالزمن الذي نحتاجه للوصول إلى الديماس كان يتطلب منا أن نستيقظ باكراً جداً، أو نتأخر عن الدوام ، خاصة في الموعد الصباحي، فسكنت مع زميليَ في غرفة واحدة، والأجرة رخيصة (25) ليرة نتقاسم تسديدها نحن الثلاثة.

قرية الديماس ليست نائية جداً عن دمشق، إلا أنها كانت “تنأى” بنفسها عن حياة المدينة. أيام قليلة ويتعرف المرء على أبنائها، ويطلع على قصصهم، ويطل على مكانة هذه العائلة أو تلك في الأهمية. لم تكن المصاهرة بين العائلات تلغي مابينهم من خصومات متوارثة أو مستجدة، وهي خصومات على قضايا صغيرة.

 أبرز ” الشخصيات” في القرية، مدير المدرسة وهو من أبنائها، وضابط برتبة نقيب في حينها، وحارس القرية، الذي هو شاعرها في الأفراح، والقابلة ” الداية”، وهي بالفعل ” لم يكن عليها مخباية” إضافة لسائق عند أحد المدراء العامين بدمشق، ومعهم شيخ المسجد، المستورد من العاصمة.

العمل الأساسي لرجال الديماس كان في مجالين:

مصلحة تعبيد الطرقات ورصفها، والأهم، الأكثر جدوى، التهريب من حدود لبنان” دير العشائر والمزرعة”، إلى الديماس ،باستخدام البغال، ثم نقلها بالسيارات إلى دمشق لبيعها هناك. شهدت كثيراً لحظات قدوم البغال المحملة بالمواد المهربة من لبنان إلى سوريا، كان أصحاب تلك البغال يسبقونها قليلا، لينتظرونها في القرية، داخل مقهى صغير يطل على طريق مجيء البغال، ويفرحون وهي تطل من السفح الجبلي المقابل، تصل البغال فينزلون بضاعتهم، ويبدأون ترتيب طريقة إيصالها للسوق في العاصمة.

في الديماس، عرفت بالملموس جماليات الأغنيات والأشعار التراثية، عن موارد الماء، عين الماء، أو النبع، وفي الديماس كانوا يدعون مورد الماء” المنهل”. لم تكن المياه الصالحة للاستخدام، الشرب والطعام، تصل إلى البيوت.  للمنهل وظيفة أخرى غير جلب الماء، فالعشاق كانوا يترقبون عشيقاتهم على طريقه أو في ساحته، يتبادلن النظرات مع الشبَان بخجل، والشاطر من العشاق كان يقترب من محبوبته، مسافة مترين ويقول لها بعض الكلمات عن بعد . كانت قصص المنهل تتدحرج على ألسنة النساء الكبيرات، وبخبرتهن يعرفن من يريد هذه البنت من الشباب أو تلك، ومَنْ مِن الشباب يحب فلانة.

ذات يوم انتشر خبر في القرية عن قصة عاشق اختطف حبيبته من عند مورد الماء، لأنها ذهبت ولم تعد، واتجها معاً من طريق جبلي يفضي إلى قرية دير قانون في وادي بردى، فانشغلت النساء والرجال بالقصة. اللوم انصب على الصبية المخطوفة، أما الشاب فأثنوا عليه كرجل شجاع يفعل ما يريد. غاب عن الديماس يومها شاب وفتاةً و”بغل”. قال البعض إن صاحب البغل متواطئ في عملية الخطف، وقال آخرون إن الشاب أخذ البغل دون علم صاحبه. عاد البغل قبل عودة “الزوجين” إلى بلدتهم آمنين ومبتهجين.

كان الشاب قد أطلعني، وزميل آخر، على سر علاقته بمحبوبته، واشتكى لنا عن رفض أسرته التقدم لأسرتها بطلب الخطوبة، فألمح لنا بأنهما سيهربان معاً “خطيفة”، ولم يبلغنا عن موعد إقدامه على الخطوة. هو متخلف عن الخدمة العسكرية، ولا يستطيع عقد القران رسمياً، وأهله أرادوا الانتظار. خطف حبيبته فوضع الجميع أمام الأمر الواقع.

الإضاءة المنزلية كانت تعتمد على القنديل “ضوء الكاز”، وأحياناً اللوكس قوي الإضاءة، ولم تكن البرادات والغسالات والتلفزيونات من مقتنيات أبناء القرية. الترانزستور كان جهاز الاستماع للراديو فقط.

من داخل القرية المرتفعة عن الشارع العام، على طريق دمشق – بيروت، كانت حركة الطريق وما يمر فوقها واضحة، الشغل الشاغل لأبناء القرية من مراقبة الشارع رصد حركة سيارات الجمارك، ليوقتوا نقل بضائعهم المهربة متجاوزين توقيت مرور الدوريات. إطلالتهم على الطريق العام، كانت تسمح لهم برؤية تحركات الأرتال العسكرية، ذهاباً وإياباً، فينشغلون بتحليل اتجاه تلك الأرتال وهدفها.

مرة، وكان بعد يوم من هجوم إسرائيلي على العرقوب في لبنان، مر رتل عسكري كبير، مدافع جر، ودبابات على الناقلات، وسيارات مشاة، وأمامهم سيارات الشرطة العسكرية، وجرى النقاش في ساحة المدرسة بين أعضاء في الجمعية الفلاحية والمختار ومدير المدرسة ومعلميها. كانت القناعة لدى أكثرهم أن الرتل متجه لخوض معركة للرد على العدوان. يومها قال أحد الفلاحين عبارة تصلح دليلا على ما يدعى “الوعي الشعبي العفوي”، قالها ( كل هالضراط ما بفك مغص) بعد أن صمت كل الوقت الذي استغرقه النقاش. أدهشتني العبارة، من فلاح لا يقرأ ولا يكتب، ولا زالت محفورة في ذاكرتي. والأدهى أنه وهو يطلق تلك العبارة كان يدقق نظراته بملا محي، الأكيد أنه أمسكني” متلبساً” بتأييد فكرته، فهو بعد ما قال تلك الجملة، سألني: شو رأيك أستاذ؟ كانت فكرتي في تلك الأيام، بعد هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في حزيران 67، تدعو للاعتماد على” الحرب غير النظامية”، فالجيوش الكلاسيكية عاجزة عن إلحاق الهزيمة بإسرائيل.

لم يكن بناء المدرسة كافياً ليستوعب ست صفوف، وهو ماجعل الدوام فيها على دفعتين. كانت مديرية التربية تسعى لتوسيع المدرسة، باستئجار غرف جديدة، ولو لم تكن متصلة بالبناء المدرسي الأساسي. وجدنا غرفتين في طرف البلدة، وعندما علم الأهالي اعترضوا، لاعتقادهم، بسبب إشاعة منتشرة في البلدة، أن المكان المراد استئجاره “مسكون بالجن”. لم أكن مقتنعاً بتلك الأوهام، فأبلغت أهالي البلدة أنني سأذهب ليلاً لأتحقق من تلك الخبرية، ولم أتفاجأ أن الأصوات الصادرة ليلاً من صوب الغرفتين، والضوء الظاهر عن بعد، هما من فعل البشر، ورافقني في استكشاف الأمر أحد شباب القرية. تبينت الحقيقة التي كنت متأكداً منها، حين وجدت عددا من شباب القرية يلعبون الورق وبعضهم يشرب الكحول، فدخلت عليهم، وقاموا من جلستهم مرتبكين، خائفين من علم أهلهم وقريتهم، فأعطيتهم الأمان، ووعدوا أن لا يعودوا للجلوس في المكان “وانتهت قصة “الجن”. وانتهى الاعتراض على تحويل الغرفتين إلى صفوف إضافية تستوعب عدداً أكبر من التلاميذ.

الراتب الأول الذي قبضته من مالية التربية، هو أكبر مبلغ يصل إلى يدي حتى حينه، راتب شهرين حوالي 450 ليرة سورية. وعلى الفور أبلغت أمي ضرورة شراء غسالة كهربائية، وعلى ما أتذكر أن ثمنها كان 425 ليرة، وشعرت بسعادة بالغة يومها، فكان يؤلمني تعب أمي وهي تستخدم طبق الغسيل” الطشت- اللجن” وتبذل جهداً مضنياً لغسيل ثياب أسرة كبيرة العدد.

 لقد كان يوم شراء الغسالة الكهربائية “يوماً تاريخياً”، غمرني فيه الفرح، لأن فرح أمي ملأ المكان والوقت.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *