مقاطع من سيرة ذاتية (10)

الورقة العاشرة

زاوية من ليل دمشق.

المدن في الليل تختلف عنها في النهار. شوارعها تأخذ استراحة من خطو العابرين ذهاباً وإياباً. في النهار كانت دمشق الستينيات مليئة بالحركة دون ازدحام، هادئة رغم حركة الناس الدؤوبة لقضاء حاجاتهم، أو إنجاز أعمالهم، مسترخية، رغم تعب شوارعها وأرصفتها من حمولة كبيرة، في مساحة جغرافية ضيقة، قياساً بالعواصم الأخرى في العالم. آمنة رغم صعود العسكر، المستجد، إلى عرش السلطة في العام 1963، لم يكن الرعب قد انتشر فيها، وإن كانت طلائعه قد بدأت علاماته في الظهور، ذلك حين أصبحت الشوارع والأرصفة متعبة من قسوة الأحذية العسكرية تدوس على صدر المدينة، ومن بدء انتشار الأزياء العسكرية بألوانها الزيتية أو المرقطة، فوق أجساد تختال في مشيتها ونظرات عيونها، حيث ينطلق منها الغلو والقسوة.

ليل دمشق كان أقل صخبا، وأكثر هدوءاً. خلاله تأخذ الأرصفة والشوارع استراحتها لتستقبل ثقل نهار جديد. لكنه في إحدى زوايا الليل كانت لوحة أخرى، أتيح لي معرفة خطوطها وألوانها.

في العام 1964، وعلى ما أذكر في فصل الصيف، زمن العطلة المدرسية، عثرت على فرصة عمل دائم، كعامل ليلي في الفندق الأموي، الذي كان مصنفا في حينه (درجة أولى فئة ب). كانت مهماتي اليومية خدمة طلبات النزلاء داخل الفندق، من تحضير الشاي والقهوة أو المرطبات، واستلام الملابس المراد تنظيفها لوضعها في غرفة الغسيل حتى يأتي عامل الغسيل في الصباح.  بعض الزبائن كانوا يغسلون ثيابهم بأنفسهم على الغسالة الخاصة بالفندق، وتحديداً أولئك النزلاء الدائمون، إضافة إلى تأمين شراء ما يحتاجون من السوق، وتلبية طلباتهم من وجبات الطعام، إن أرادوا تناولها داخل غرفهم. كما كنت أستقبل الزبائن الجدد، الذين يأتون ليلاً، وهم قليلون عادة، وأرشدهم إلى أرقام غرفهم، وأستمع إلى ما لا يعجبهم في ترتيب مفروشات الغرفة، وأبلغ المدير إن كان قادرا على إضافة شيء، أو تبديل قطعة أثاث لتناسب طلبهم.

ما جعلني أرتاح لعملي الليلي في الفندق، أنني صرت قادرا على تلبية متطلبات حياتي خلال المرحلة الثانوية. كنت أدفع القسط السنوي للمدرسة وأشتري الكتب والمستلزمات الأخرى. أمران جديدان دخلا على حياتي في تلك المرحلة، التدخين الذي بدأته في الصف العاشر، واقتحامي للفوز بصفات الرجولة” قل الذكورة”، بحلاقة ذقني مبكراً بالشفرة وماكنة الحلاقة القديمة، وهي تكاليف إضافية ساعدني عملي على تغطيتها دون أن أشعر بالعوز. وأذكر أنني جرحت ذقني أكثر من مرة قبل أن أتقن تمرير الشفرة على وجهي دون أن يسيل دم قليل من ذقني.

ليلاً من الساعة العاشرة أبدأ عملي، وفي السابعة يأتي العمال النهاريون، يحضرون فطورهم من مطعم الفندق، ونتناوله معاً، ثم أتجه إلى مدرستي القريبة، جانب مبنى الإذاعة القديمة، في مدخل حي القنوات من جهة شارع النصر( ثانوية النداء العربي)، وبعد انتهاء الدوام المدرسي ظهراً، أذهب إلى البيت لأنام ساعات قليلة، وأحياناً لا أنام، لأنني أكون قد اكتفيت من ساعات نوم متقطع خلال عملي الليلي .

زبائن الفندق كانوا من شرائح مختلفة. بعضهم يقيمون بشكل دائم في الفندق، والآخرون يترددون في مواسم عملهم التجاري، أو للاصطياف الذي كان ينشده الخليجيون والسعوديون وقليل من العراقيين.

النزلاء الدائمون كانوا من الفنانات” الأرتيستات”، العاملات في الملاهي الليلية، راقصات ومغنيات، ومن جنسيات مختلفة، عربيات وسوريات وأجنبيات. ومن بين هذه الفئة كان رجل مصري عازف إيقاع بالفرق المصرية الكبرى التي كانت ترافق أم كلثوم ، اسمه محمود، وإلى جانبهن كان بعض النزلاء رجال دين، مسلمون ومسيحيون.

الفئة الثالثة من زبائن الفندق  سياسيون مناهضون لحكومات بلدانهم، أو نشطاء سريون فلسطينيون، كانوا، وهذا ما تبين لي بوقت لاحق، يحضرون لانطلاق العمل الفدائي الفلسطيني، الذي كنت شاهدا على انطلاقته الأولى في العام 1965.

لأكثر من سبب، كنت أرتاح لفئة الأرتيستات، أهمّه، أنهن بحكم إقامتهن الدائمة، صرت أفهم نفسياتهن ومتطلباتهن، كما أنهن على ما يبدو، وجدن في عمري الصغير، مصدر اطمئنان للتعامل الشفاف والصريح معي، عكس حذرهن من العاملين الآخرين الكبار في العمر، مع أن قامتي وتكويني الجسدي كانا يظهرانني بعمر أكبر من الحقيقة، وعلمت منهن لاحقاً أنهن تقدرن لي مواظبتي على الدراسة نهاراً، إلى جانب عملي الليلي في الفندق لخدمة الزيائن.

ذات الأمر، مع الزبائن الذين يترددون كثيرا على الفندق خلال فصول السنة ، ومع عازف الإيقاع المصري. فهم حين علموا أنني طالب في الثانوية، أخذوا يتعاملون معي بتقدير ومحبة، و راحوا يطرون عليَ بكلماتهم اللطيفة والمشجعة. أما رجل الدين المسلم، كان يحاول بحديثه المقتضب معي التعرف إلى  الأرتيستات، ويتغطى في نهاية كلامه بالدعاء لهن بالمغفرة. لقد فاجأني ، خلال نزوله في الفندق، بتغيير اللباس “المشيخي” بارتداء طقم حديث وقمصان حريرية ثمينة، وباستخدام أنواع من العطور، غير المخصصة للمشايخ والمتدينين ،وكذلك يخلع لفة رأسه، ويستمر هكذا حتى موعد مغادرة الفندق عائداً إلى حلب.

سألني مرة عن عمل آخر للفنانات غير تقديم عروضهن في الملاهي” الكباريهات”، لحظتها لم أفهم ما يقصد، فهو يختم كلامه عنهن بطلب” المغفرة” لهن، لكنني ما لبثت أن اكتشفت بحثه عن معاشرة واحدة منهن، ظناً منه أنهن عاهرات، ويمكنه تلبية حاجته  للمعاشرة الجنسية. كان هذا الشيخ، في موعد خروجهن من الفندق، يجلس في الصالون، يتظاهر أنه يشاهد التلفزيون، يحدِق بهن برغبة واضحة تطفح من عينيه ممزوجة ببريق الاشتهاء. سألني مرة عن إحداهن أين تعمل، في أي ملهى؟ كنت أعرف أين تعمل، غير أنني قلت له لا أعرف. إلى أن لاحظته يوماً، وفي موعد انتهاء عمل الفنانات، يعود بذات توقيت عودتهن إلى الفندق.

رجل الدين المسيحي، القادم من القدس قبل احتلالها بالكامل في حرب حزيران، كان أكثر دقة بتصريف أموره. يحضر معه زجاجات الويسكي، ولا يتحرج من طلب مكعبات الثلج ليلاً، ولم يكن يستبدل ثيابه كرجل دين مسيحي بثياب مدنية. كانت سميرة توفيق غرامه الفني حين يسمعها تغني على شاشة التلفزيون، يحدق بها باهتمام وتند من ملامحه علامات السعادة، وحين تنتهي من الغناء تفتر ملامحه ويركن إلى الهدوء مع استياء تظهره عيناه، وكأنه يريدها أن تستمر في الغناء طوال فترة البث.

كانت مواعيد غيابه ( رجل الدين المسيحي )عن الفندق لا تتصل بمواعيد غياب الفنانات نزيلات الفندق، وكذلك مواعيد عودته. يخرج أول المساء ويعود في منتصف الليل، تغمر وجهه البهجة، ويخطو باسترخاء. هل ذلك نتيجة لأدائه صلواته؟ لا أظن ذلك لأن مواعيده لم تكن لتتصل بمواعيد الصلاة المسيحية، خاصة صباح الأحد، كان على الغالب يستيقظ متأخرا بعد نوم عميق بتأثير الويسكي.

السياسيون، من النزلاء، كانوا يتسترون على لقاءاتهم، ويأتي إليهم زوار من غير النزلاء. يجلسون في غرفهم لساعات، ويغادرون جلساتهم على مراحل. ولأنني في تلك المرحلة كنت قد بدأت الشغل بالسياسة، وبالعمل السري، كنت قادرا على استشفاف ما يكمن خلف لقاءاتهم. أكثر من ذلك، كنت قادراً، بفراسة ربما، أومن تجربة متخيلة، على معرفة من هم المتقدمون في مراتبهم عن سواهم، وغالباً كان المتقدمون ليسوا من النزلاء، وما أن يحضروا حتى تغلق الغرفة التي يقصدونها، وبعد ساعتين تنتهي الجلسة ويغادر من هم ليسوا نزلاء، أما النزلاء فيذهبون كل إلى غرفته.

شخصيتان، واحد عراقي والآخر فلسطيني، كنت أراهما يترددان على الفندق ويجتمعان كل مع المنتمين لحزبه أو منظمته، عرفتهما لاحقا من خلال التطورات في المنطقة (العراق والأردن). الأول كان صدام حسين، والثاني أبو داوود، محمد داوود عودة من قادة الصف الثاني في فتح. رغم أن صدام كان بعثياً، والسلطة في حينه بيد حزب البعث، لكنه كان يتحرك بحذر نسبي، وكأنه لم يكن مطمئناً للاحتمالات التي سيمضي إليها حزبه، حزب البعث. أبو داوود كان أقل حذراً، مع شيء من التكتم، غير أن واحداً من جماعته، وهو موظف فلسطيني كان قادماً من الكويت في عطلة الصيف، دعاني، بعد أن عرف أنني فلسطيني، إلى الاندماج بحركة فتح، وسلمني بعض الأعداد من نشرة ” فلسطيننا”، فأبديت له انتقادات لفتح، وأخبرته أنني أعرف منتسبين لفتح من أقاربي، ولم أتبعهم في الانتماء. بقي يودني، ويتعامل معي بثقة واحترام، ويشجعني على متابعة الدراسة.

الأرتيستات والسياسيون كان يجمعهم التكتم. الفنانات لم يعملن بأسمائهن الحقيقية، وتلك عادة عند أكثر الفنانات والفنانين، لأسباب فنية وليست أمنية، والسياسيون يخفون طبيعة عملهم إلى حد بعيد، ويستخدمون أسماء ليست حقيقية، أما الاحتكاك بين الطرفين، الفنانات والسياسيون، فلم يكن موجوداً. لم أكن ألاحظ ذهابهم إلى الكباريهات، ولا تقصدهم التقرب من نزيلات الفندق، باستثناء واحد منهم كان يراقب الجالسين في الصالون وعندما يرى إحداهن ( الراقصة المصرية الشابة والجذابة)، يجلس ويطلب القهوة أو الشاي. سألني مرة إن كان باستطاعته تقديم فنجان قهوة لها وهي في الصالون، فأحلته إليها يسألها, فقبلت ووجهت له كلمات شكر بكل رتابة وأدب. ظن أن ذلك فتح له الباب لتعميق العلاقة أبعد من الجلوس المتزامن في الصالون قبالة التلفاز، وكان أن كشفت لي، بعد فترة، عن طلبه إليها مرافقته لقضاء وقت معه خارج الفندق، فاعتذرت وأفهمته أنه ليس من عادتها تلبية هكذا دعوات لأي رجل.

كثيرة هي الأشياء التي اتضحت لي خلال عملي الليلي في الفندق، وأهمها أن الآلام التي تفتك بأرواح الأرتيستات لا يتوقعها أحد، كما أنهن، أقصد من عرفتهن خلال عملي، لا يمكن وصفهن بالعاهرات على الإطلاق.

في توقيت عودتهن من عملهن، كانت تبدو على وجوههن علامات الوجع والحزن، وكثيرا ما انتابهن موجات بكاء قبل النوم، خاصة المصريات واللبنانيات. أكثر من مرة حين أحاول مواساة هذه أو تلك، كنَ يبحن لي بعذاباتهن، واضطرارهن للعمل بعيداً عن بلدانهم وأسرهم، فبعضهن كان لهن أطفال ترعاهم جداتهم لأمهاتهم، فالأزواج منفصلون وهو السبب الرئيس لانخراطهن في عملهن بالنوادي الليلية، وبمؤهلات حرفية قليلة غالباً، خاصة  المغنيات . هنَ بالعموم من طبقات شعبية فقيرة، ومسحوقة أحياناً.

الفنانات الأوروبيات( اليونانيات والإسبانيات والقبرصيات)، كنَ أقل حزناً وألماً، ولعلًهن كنّ منسجمات مع عملهن،  الذي لا نظرة سلبية له في بلادهن، فضلاً عن عقودهن الأفضل مع أصحاب النوادي الليلية والملاهي، بسبب أنهن جزء من فرق يتم الاتفاق معها بشكل جماعي، وبأجور أعلى وبطريقة دفع مريحة ومنضبطة بالمواعيد.

لم يكن يخلو أمر بعضهن من علاقات مع رجال بعيداً عن العمل، وخارج الفندق، لكنها علاقات أقرب الى الاستمرار والديمومة، وهو ما يمكن وصفه بعلاقات حب وانسجام، ولا يمكنني اتهامهن بممارسة” الدعارة”.

كان عليَ البقاء صاحياً إلى حين عودتهن من العمل، وأوقات عودتهن مختلفة حسب برنامج السهرة في الملهى، خاصة وأن بعضهن كن بعد فقرتها الفنية تجلس على الطاولات مع الزبائن ” أنكجيه” لتحسين دخلها.

في تلك الليلة من شهر أيار من العام 1965، واجهت موقفاً غير متوقع على الإطلاق. كنت سهران مع مدير الفندق في صالون الاستقبال بالطابق الأرضي، أقرأ بعض الدروس، وأتبادل مع المدير بعض الأحاديث. في الساعة الثانية والنصف حضرت مسرعة الفنانة المصرية، الراقصة سلوى عز الدين، وهي دائماً أول من يحضر من الفنانات لأنها تنهي فقرتها وتغادر الملهى نحو الفندق. أسرعت وفتحت باب المصعد الخارجي، ودخلت وأمسكت الباب الداخلي الخشبي” الأوكورديون”، في هذه اللحظة دخل مسرعاً رجل مفتول العضلات وبنيته قوية، وتبعها دون أن يتوقف أمامنا ليسأل عن أي شيء، فهو ليس من نزلاء الفندق، وقفت في طريقه وهو متَجه لباب المصعد، مد ذراعه يريد إمساك الباب لمنع المصعد من الحركة، فمددت يدي وأمسكت ذراعه وظهري إلى باب المصعد ووجهي بوجه ذلك الوحش البشري، تحرَك المصعد فتركت ذراعه، بينما هو يطلق شتائمه القذرة على الراقصة التي كان يريد الانقضاض عليها. واتجه مغادراً الفندق، وهو يطلق عبارات التهديد العشوائية.

بعد مغادرته قال لي مدير الفندق: ماذا فعلت؟ ألا تعرف أنه العقيد ( فلان الفلاني) وله صولة وجولة في سلطة البعث، واقترح علي أن أغيب قليلاً عن الفندق لأحمي نفسي من انتقامه، حتى لو ذهبت إلى البيت. ركبت رأسي ورفضت اقتراحه، وبقيت معه في بهو الفندق، وكنت ألاحظ خوفه علي من عينيه ومن ارتباكه لتوقعه أن لا يمضي الأمر “على خير”. في تلك اللحظة، عندما وقفت بوجه الكولونيل “العقيد” لم أفكر بأي شيء سوى مواجهته، وحتى لو كنت أعرف أنه ضابط مهم فأظن أنني لن أتخذ موقفاً آخر.

مضت ربع الساعة تقريباً على المواجهة، فاتصلت الراقصة من غرفتها على سنترال مكتب الإدارة، و طلبت من المدير، بعد أن عرفت بانكفاء العقيد ومغادرته الفندق، أن أصعد عندها ولا أبقى في البهو، وهو ما وافق عليه المدير.

استقبلتني بكلمات الشكر والامتنان وطفرت من عينيها دمعتين، ثم عانقتني وقبلتني من وجنتي، وطلبت مني الغياب عن الأنظار داخل الفندق، وأدخلتني إلى غرفتها وأوضحت لي أن هذا الضابط يعاكسها دائماً عندما تنهي فقرتها، ويدعوها إلى الذهاب معه، فتتهرب منه وترفض، وموظفو الملهى كانوا يهابونه.

سألتها إن كانت تريد طعام العشاء، فاتصلت بالمدير وطلبت وجبتي فتة من مطعم سحلول الملاصق للفندق، لأتناول معها العشاء المتأخر. لكن حدثاً كبيراً ومفاجئاً منع تناولها للعشاء. في هذه الأثناء، وقبل وصول العشاء طرقت بابها زميلتها التي عادت من عملها، وهي مضطربة لتبلغها أن أعواد المشنقة منصوبة في ساحة المرجة، واقترحت عليها الذهاب لحضور لحظة الإعدام، دون أن تعرف من الذي سيلتف الحبل على رقبته.

أبلغت مدير الفندق بذلك، وإذ به يعرف أن تنفيذ حكم الإعدام بالجاسوس كوهين سيتم عند الفجر. أكثر الفنانات خرجن واتجهن نحو ساحة المرجة، التي لا تبعد عن الفندق سوى مئة متر، ونسيت الراقصة الطعام واقترحت أن أخرج معها لحضور لحظة الإعدام.

وصلنا إلى الساحة، كانت الأعمدة الخشبية منصوبة، ورجال الشرطة يطوقون المكان وينتظرون. جاءت سيارة حكومية، نزل منها رجل دين يهودي “حاخام” واتجه إلى مقر الشرطة القريب جداً من ساحة الإعدام، وبعد عشر دقائق تقريباً ظهر رجلا شرطة وبينهما رجل باللباس المدني مكبّل اليدين إلى الخلف، واتجهوا إلى وسط الساحة حيث منصة الإعدام.

صعد كوهين درجتين ليقف على أرض المنصة تحت عود المشنقة الأفقي. كان صعوده بطيئاً، ومشى خطوات قليلة منحني الظهر.

لحظتها، أشاحت الفنانات بوجوههن قليلاً، فهن من جهة لديهن فضول مشاهدة الحدث ومن جهة أخرى ينتابهن الرعب من حضور حفلة موت بحبال المشنقة.

قبل إدخال رأس كوهين بطوق المشنقة، صعد الحاخام إلى درج المنصة، وتحدث بكلمات قليلة لم يسمعها أحد، ثم نزل وأدار ظهره وغادر الساحة، ربما لأنه لا يجوز في تقاليد اليهودية أن يبقى، كرجل دين، في المكان لحظة إعدام يهودي آخر.

يومها أول مرة في حياتي أشاهد تنفيذ حكم الإعدام. في طفولتي، تصادف مرة وأنا برفقة أمي إلى عيادة الأونروا في سوق ساروجة، وجود جمهرة من الناس تنظر إلى أجساد ثلاثة متدلية وأعناق الرجال مائلة جانبياً، كان قد تم تنفيذ الإعدام فيها عند الفجر، ومن تقاليد السلطات ترك أجساد المشنوقين لساعات حتى يراها الناس، قبل أن يرسلوا جثامينهم إلى المقابر.

كانت عيون الأرتيستات ذاهلةً، يختلط فيها الخوف مع الحزن مع الصدمة من هول المشهد، خاصة تلك اللحظة التي دفع فيها الجلاد قاعدة المنصة ليتدلى جسد كوهين وهو ينتفض بحركات سريعة قبل أن يهدأ جسده متدلياً ومتمايلاً قليلاً قبل أن يستقر وقد انحنى رأسه على كتفه.

بدوري، قبل تنفيذ الشنق، كنت أقرب إلى الفرح، فها هو جاسوس إسرائيلي يلقى عقابه موتاً على أعواد المشنقة في دمشق. أما، وكوهين ينتفض وجسده يهتز بسرعة، ثم يهدأ وتنتهي حياته، فلقد سرى في نفسي تيار من الألم، وأحسست بوهن جسدي واجتاحتني موجة صقيع، وكأنني حيدت ما قام به ونظرت له كإنسان يلاقي مصيره شنقاً.

 نظرت  الراقصة سلوى عز الدين إلي وسألتني:

 زعلت يا مصطفى؟ أجبتها بالنفي ولكنني بينت لها أنني مضطرب، فأمسكت بيدي واتجهنا إلى الفندق، نجرجر خطانا، وباقي الفنانات كذلك.  وأصبح الفضاء واجما. والفنانات جميعهن لم يتناولن وقتها وجبتهن المعتادة، فأعددت لهن القهوة وأحرقن عشرات السجائر، وتخلفن عن موعد نومهن.

في الصباح وقت ذهابي إلى مدرستي، تجنبت المرور من ساحة المرجة حتى لا تقع عيناي على جثة كوهين المتدلية، وعلى الصدر يافطة كرتونية بيضاء مكتوب عليها بيان “النصر” بالقضاء على الجاسوس الأشهر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

استمر عملي في الفندق حتى شهر نيسان 1967، حين لم يبق لموعد امتحانات البكالوريا سوى شهرين تقريبا، ولا بد لي من المواظبة على الدراسة أطول وقت، فانقطعت عن العمل،  وما كنت أعرف أن الامتحان سيتوقف في اليوم الثاني لبدء الامتحانات، لأن امتحاناً آخر واجهنا عندما طرح موشي دايان أسئلته على “الأمة” من فوهات المدافع، وفشل العرب بالإجابة على امتحانهم الذي طرحته إسرائيل.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *