القسم الأول
آلاف من الحجاج المسيحيين واتباع الطوائف المسيحية العربية في الوطن يؤمّون دير مار الياس الكائن على جبل الكرمل في الموقع الذي يُعرف بـ “ستيلا ماريس” في حيفا. ينعم هؤلاء بأجواء تأملية من الهدوء والسكينة التي تُميّز المكان. وموقع الدير الحالي يتميّز بكونه على قمة جبل تمّ تعريفه منذ عقود طويلة بـ “جبل مار الياس”. وتظهر تسميته هذه في الخرائط البريطانية وأيضّا في خرائط مؤسسات وجمعيات استكشافية سابقة. وارتبطت قدسية الجبل بالنبي الياس (إيليا أو الياهو) الوارد ذكره في الكتاب المقدس – العهد القديم وأيضًا الجديد. وخصوصًا، بما يتعلّـق وهذا الموقع صراعه المستميت مع كهنة البعل الكنعانيين. فهو من دعاة التوحيد، وهم من دعاة التعددية أو الوثنية كما يُسميها آخرون. وتكوّن تقليد مسيحي منذ مئات السنين بأن يؤمّ المسيحيون هذا الجبل ويقيمون طقوسهم الدينية وكذلك طقوسهم الشعبية على مختلف أشكالها، وأبرز مواسم الاحتفال بها في عيد مار الياس في 20 تموز من كل عام. فكما أن هناك في فلسطين مواسم دينية – شعبية مثل موسم النبي روبين والنبي صالح والنبي صموئيل وغيرها. وكانت هذه المواسم تمتد على مدى أسبوعين يعيش فيها المشتركون أجواء دينية – شعبية تراثية يختلط فيها الديني بالفلكلوري. إلّا أنّ موسم مار الياس قد وضعت إدارة دير مار الياس الكرمل نهاية له قبل 15 عاما عندما منعت من الوافدين المبيت وإقامة طقوس وتقاليد شعبية، واكتفت بتوفير فرص للصلوات والطقوس الدينية الصرفة. وهكذا، تمّت عملية إجهاض هذا الاحتفال دون أي مشاورات مع أطراف أخرى. واعتقد أنه الأخير الذي كان يتم بأشكاله التقليدية على طول مساحة الوطن.
أما الدير نفسه فهو بملكية الرهبنة الكرمليّة التي تأسّست في نهاية القرن الثاني عشر خلال الحملات الصليبية (أو كما يُسميها مؤرخو تلك الحقبة بـ “حملات الفرنجة”). وصادق بابا روما على تأسيسها. وأقام الرهبان ديرًا لهم في وادي السِيّاح الواقع غربي المدينة الحالية، ولا تزال آثاره قائمة إلى اليوم وبملكية الرهبنة المذكورة. ثمّ تركوا الموقع إثر هزيمة الصليبيين وخروجهم من فلسطين في نهاية القرن الثالث عشر. إلّا أنّ الراهب بروسبير حظي بموافقة حكام المنطقة من آل طربيه الحارثيين في 1631 بالحصول على موافقتهم لعودة الرهبنة إلى جبل الكرمل. وأقام صوامع للرهبان على سفح موقع ستيلا ماريس. وكانوا يصلون في مغارة الأنبياء – الخضر (حاليا تحت سيطرة اليهود الذين جعلوها محصورة فيهم باسم “مغارة الياهو”). ولا تزال بقايا هذه الصوامع هناك بين التلفريك ومغارة الأنبياء -الخضر. وتمّ إخلاء هذه الصوامع بأمر من الشيخ ظاهر العمر الزيداني(1767) إثر شكاوى دراويش مغارة الخضر. فبدأ الرهبان بالتفكير في إقامة ديرهم في موقع آخر عند قمة الجبل. وتم ذلك في نفس العام الذي جرى فيه هدم الصوامع. واتخذه نابليون مقرًّا له (1799) مستخدما غرفه قاعدة عسكرية ومشفى لجنوده. وبعد خسارة نابليون وهزيمته أمام أسوار عكا، صدر أمر بهدم الدير وما حواليه. إلّا أنّ تأثير العلاقات الفرنسية العثمانية ساهم في إعادة السماح للرهبان بإعماره من جديد وفقًا لمخطط آخر. فوضع حجر الأساس في 1827 وتمّ تدشينه في 1836. وهو الدير القائم اليوم، مع إضافات أخرى عليه مع مرور الزمن. حيث تمّ بناء أقسام أخرى منه إلى الجهة الشرقية، خصوصًا للضيوف ولاستيعاب المزيد من الرهبان. وأغلق الدير في بداية الحرب العالمية الأولى على يد الحكومة التركية وطُرِد رهبانه. إلّا أنّه أُعيد افتتاحه بعد انتهاء هذه الحرب، وسط احتفال مهيب بإعادة تمثال السيدة مريم إلى الدير محفوفًا بالفرق الكشفية الحيفاوية، ولا زال الاحتفال يتمّ سنويا في الأحد الثاني بعد عيد الفصح الغربي. وطبعًا، شهد الدير توسعات كثيرة مع مرور الزمن إلى أن أصبح مُكتمِلا بشكله الحالي. والرهبنة الكرملية تملك مساحات واسعة من الأراضي في الجبل المحاذي للدير، كما أنّها تملك مبنى الفنار حيث القاعدة العسكرية الإسرائيلية التي سيطرت عليه وزارة الأمن، وهذا المبنى هو فيلا عبدالله باشا حاكم عكا. إلّا أن الرهبنة اشترته في السابق. لكنها ممنوعة من استعماله لأغراض أمنية. وكذلك تملك الرهبنة أملاكاً ومؤسسات تعليمية ودينية في مدينة حيفا وخارجها أيضا.
ولعب الدير دورًا إنسانيا وضميريا وأخلاقيا في عام النكبة 1948 حيث آوت إليه مئات من العائلات اللاجئة والنازحة من مدينة حيفا إثر هجمات منظمة الهاغاناه على الأحياء العربية فيها. ووفّر الدير الأمن والأمان لطالبي اللجوء فيه لأشهر طويلة، ريثما تنقشع غيوم الحرب وتظهر ويلاتها على أهالي المدينة كما على كامل الوطن السليب.
وها هو الدير يستفيق من الصمت والهدوء الذي يعيشه وفقا لأنظمة وأحكام الحياة الديرية الكرملية، وهذه المرة (ابتداء من شهر حزيران الماضي) بفعل اقتحامات متدينين يهود من التيار الحريدي أتباع الراب أليعيزر برلاند. وتُعرف حركته المتطرفة باسم “شوفو بنيم” أي “عودوا أيها الأبناء”. وبرلاند هذا متهم حُكم عليه بالسجن 18 شهرا لقيامه بتنفيذ اعتداءات وتحرشات جنسية. كذلك وُجهت إليه تهمًّا بالاعتداء على مواطنين. بالإضافة إلى تهم فساد ورشاوى وسواها من الموبقات. برلاند من الداعين إلى اقتحام المتدينين اليهود لقبر يوسف في نابلس. وهكذا فعل مع مريديه واتباعه، إذ دعاهم إلى اقتحام دير مار الياس بذريعة أنّ قبر النبي أليشع(اليسع) موجود فيه. وهذه الشائعة ليست جديدة، بل هي قديمة تعود إلى نهايات القرن الـ 19، حين انتشرت إشاعات في ذلك الوقت بأنّ مواقع كثيرة في فلسطين فيها قبور وأضرحة لأنبياء ومرسلين من العهد القديم، وهي جزء من عملية الترويج السابقة للاستيلاء الفعلي على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. فعمليات الاقتحام المتكررة وإن اتخذت الصبغة الدينية مظهريًا، إلّا أنّها تحمل في جوهرها وباطنها أهدافا سياسية محضة. فالفكر الاستعماري الذي منه تمّ تأسيس المشروع الصهيوني بإقامة دولة يهودية في فلسطين يتبنى خفية ودون العلن مثل هذه التوجهات التي تخدم الأجندة السياسية في نهاية المطاف، وعنوانها: الاستيلاء والسيطرة على كل ما هو غير يهودي، يعني إسلامي ومسيحي. ولذلك هبّ المسيحيون ومعهم أيضًا إخوانهم المسلمين والدروز وهيئات وجماعات يهودية مستنيرة ضد هذه الاقتحامات غير المبررة والتي قضّت مضاجع رؤساء الطوائف المسيحية في الوطن وخارجه.
في الحلقات القادمة سأتطرق إلى تحليل ظاهرة الاستيلاء على المكان المقدس وردود فعل أتباعه سياسيا ودينيا واجتماعيا وسلوكيا.
************
القسم الثاني
تحرّكت الجماعات المسيحية في حيفا وقرى ومدن الجليل من أجل نُصرة دير مار الياس على جبل الكرمل في موقع ستيلا ماريس خلال شهر تموز الماضي، ولا يزال عدد من الشباب في هذه الجماعات مرابط في ساحات الدير لمنع مجموعات من المتدينين اليهود المتطرفين من القدوم إلى الدير ومحاولة اقتحامه. وجدير بالواصلين إلى الدير وكل من يولي هذه القضية اهتمامه أن يتعرّف على الجماعة اليهودية المُقْتَحِمة، ومن يقف ورائها وما هي خلفيتها الفكرية الدينية والسياسية. وأيضًا أن يتعرّف على مواقف جماعات دينية يهودية متزمتة منها. لهذا رأيتُ أن أُخصِّص هذه الحلقة للتعريف بمؤسّس الجماعة المُقْتَحِمة وأيضًا توجهاته الدينية والاجتماعية والسياسية. فقمتُ بجمع معلومات كثيرة من مصادر عدّة سواء بالعبرية والإنجليزية لفهم طبيعة هذه الجماعة وما تريد تحقيقه. وأرجو المعذرة إنْ كانت هذه الحلقة طويلة نوعا ما، إلّا أنّ الظروف تقتضي نشر المعرفة لفهم كيفية التعامل والرّد.
مُتَزَعِّم هذه الجماعة هو اليعيزر برلاند وهو من مواليد 1937 في حيفا. نشأ في أحضان عائلة يهودية متدينة حريدية(متزمتة). وتأثّر في شبابه بحركة دينية اسمها “أبناء عكيفا”. والتحق بمعهد ديني في مستعمرة كفار حسيديم القريبة من حيفا. أمّا زوجته فتنتمي إلى عائلة يهودية حريدية ذات توجهات قومية متطرفة. أمّا برلاند فتابَعَ تعليمه الديني في مؤسّسات حريدية تابعة لتيار “حسيدوت برسلاف”.
وتمحور نشاط برلاند في جذب الشباب اليهودي العلماني للعودة إلى جذوره الدينية. وتولّـى رئاسة معهد ديني باسم “شوفوا بنيم”( عودوا أيّها الأبناء) في مستعمرة بني براك في 1978. ثمّ قام بنقل هذا المعهد إلى أحد أحياء القدس القديمة في 1982. وأحدث تعديلاً على اسم المعهد بحيث أصبح “رحمة من صهيون”.
ونشب خلاف ونزاع داخل التيار الحريدي المتطرّف وبين الحاخام برلاند، حيث صدرت فتوى دينية بمنع دخوله إلى الكُنُس بشكل عام. وتمّت تنحيته. إلّا أنّه انتقل إلى مستعمرة بيتار عيليت ومنها أدار شؤونه الخاصّة وشؤون معهده.
أمّا على الصعيد العام فقد وجَّهت إليه الشرطة تُهما عديدة منها تُهم التحرّش الجنسي والأعمال المشينة واللجوء إلى استخدام العنف ضد أشخاص بدعوى تزويدهم الشرطة بمعلومات عنه وعن أفراد عائلته.
برلاند يُقرّر مغادرة إسرائيل والانتقال إلى المغرب، ومنها إلى زيمبابوي في 2013. ولما انتهى سريان تأشيرة إقامته فيها اعتقلته السلطات وطردته إلى جنوب إفريقيا مع عدد كبير من اتباعه ومرافقيه. ومنها هرب إلى هولندا بعد ملاحقة السلطات الإفريقية له. لكنه عاد إليها بعد أن تمّ نشر إعلان بطلب تسليمه إلى السلطات الإسرائيلية بواسطة الإنتربول. وتمّ ذلك في 2016.
وعلى هذه الخلفية أصدر حاخامات كبار في تيار برسلاف بيانا دعوا فيه إلى ابتعاد المتدينين عن التعامل مع برلاند. وقُدِّمت بحقِّه دعوى قضائية بتهمة الاغتصاب والتحرّش الجنسي. لكن أُبرِمَت صفقة بين النيابة العامة والادعاء باعترافه بالتهم المنسوبة إليه، وحُكِم بالسجن 18 شهرًا.
وأفرجت السلطات الإسرائيلية عنه في أعقاب إصابته بمرض سرطان القولون وألزمته المكوث في بيته. فعاد إلى القدس، وعندها عمّم حاخام برسلاف بيانا اعتبره “خاطئا وهادما للتوراة ومخربا للعالم”.
وأصدرت محكمة ربّانية شملت تيارات حريدية في اليهودية الدينية قرارها(في أيار 2020): بأن برلاند قام بأعمال مشينة، مرفوضة من طرفهم بالكلية.
ووُجِّهت ضدّه ملفات أخرى في قيامه بأعمال مشينة ضد قاصرة في تشرين الثاني 2020.
وبالرغم من ملفاته الجنائية هذه، فإنّه حصل على موافقة من المحكمة المركزية في القدس بمغادرة إسرائيل للسفر إلى بلدة “أومان” في أوكرانيا للاحتفال بعيد رأس السنة العبرية عند قبر الحاخام نحمان برسلاف الكائن في هذه البلدة. إلّا أنّ السلطات الأوكرانية حظرت دخوله إلى أراضيها.
أمّا الملفات الأخرى التي عالجتها الشرطة والمحاكم في إسرائيل بالنسبة لبرلاند فهي في باب الاختلاس المالي والتهرُّب الضريبي من مبالغ تقدّر بملايين الشواقل تلقاها تبرُّعًا أو عطية من مؤيدي تياره. وأيضًا فإنّ أبرز مصادر مدخولاته غير المُصَرّح عنها حصل عليها بمساعدة من بناته اللاتي كُنّ يجبينها مقابل صلوات وأدعية لمرضى بأمراض خطيرة قابعين في مستشفيات في القدس وخارجها.
وربط برلاند نفسه بقضية مقتل مواطنين إسرائيليين في عام 1986. إلّا أنّ الشرطة لم تصل إلى الأدلة الكافية لإدانته بالرّغم من الشكوك الكثيرة التي حامت حوله.
أمّا بخصوص آرائه ومواقفه فيمكن الإشارة إلى أنّه من داعمي ومؤيدي زيارة أضرحة الصديقين والأولياء اليهود، ومنها زيارة قبر يوسف في نابلس. ويَعتبر برلاند كلّ صدّيق تجليًّا لـ “الوكيم” أيّ “الله” على هيئة إنسان، وأنّ باستطاعته فِعل المعجزات.
أمّا ما يتعلّق بـ “دير مار الياس الكرمل” فإنّ أعضاء المعهد الديني “شوفوا بنيم” لمؤسسه ومديره الحاخام برلاند فيدّعون أنّ النبي اليشاع بن شافاط مدفون فيه. ويدّعي هذا المعهد أنّه غير معني بتملُّك الكنيسة والدير. وأنّهم لن يوقفوا محاولاتهم لإقامة صلواتهم وطقوسهم التلمودية سواء كان ذلك عند مدخل الكنيسة أو داخلها كما فعلوا في مرّات سابقة قبل اندلاع الأزمة وتعمُّقها في شهر تموز الماضي.
يستند ادِّعاء برلاند واتباعه على ما كتبه الحاخام نتان مبرسلاف، وهو تلميذ الحاخام نحمان برسلاف (أحد كبار مؤسسي تيار برسلاف والمعتبر أنّه الملك المسيح، والمدفون في بلدة “أومان” في أوكرانيا). وكان الحاخام نتان قد زار جبل الكرمل في عام 1823 وكتب وصفًا لزيارته هذه في يومياته ذكر فيه أنّ النبي اليشاع مدفون هناك. وجاء ما يلي: “من هناك (من مغارة الياهو – أيّ مغارة الأنبياء، وبلسان الفلسطينيين من أهالي حيفا تحمل هذه المغارة اسم “مقام الخضر”. الملاحظة بين القوسين هي من قلمي وليست من يومياته). سِرنا حتى وصلنا إلى قبر اليشاع بن شافاط، حيث مكان صلاة تابع لهم (يقصد المسيحيين دون ذكرهم لأسباب عقائدية كما اعتقد. وهذه العبارة إضافة مني للتوضيح). والموقع قريب من حُطام موقعهم الذي هدمه الباشا. ولهذا يمكن الوصول إلى قبره المقدس”.
ويقوم اتباع برلاند بتلاوة صلاة كتبها بنفسه ومطلعها (وهذه ترجمتي لها من العبرية):”يا إله العالم القادر على كلّ شيء، في الساعة التي أحنو فيها على قبر اليشاع النبي، امنحني عُمرًا أطول، وقُدرة على إحياء الموتى. ومن اليوم الذي أحنو فيه عند قبر اليشاع، أنّ أحوز على قدرة إحياء الموتى وشفاء المرضى في العالم من الكورونا والشلل والسرطان وأمراض العيون… يهودا وغرباء… ويرى عجائبك وعظمتك أيُّها الرب…”.
ولا بدُّ من التنويه هنا، أنّه بالرّغم من عدم إصدار حكومة إسرائيل أو وزراء فيها أو حتى أعضاء كنيست يهود أيّ بيان استنكاري رسمي خلال شهر تموز المنصرم، إلّا أنّه داخل التيارات الدينية اليهودية الحريدية هناك معارضين لعمليات اقتحام تقوم بها جماعة برلاند. ونشرت مقالات حول هذه المعارضة، منها مثلاً ما اطلعت عليه على موقع 970(حيفا الحريدية – https://www.970.co.il/) التابع للحريديم، جاء فيه: “هذه مجموعة مشبوهة قرّرت أنّ قبر النبي اليشاع كائن في هذه الكنيسة (دون الإشارة إلى اسم كنيسة مار الياس الكرمل، وهذه الجملة منّي)، ونجحت في إثارة القلاقل وتعريض متدينين يهود آخرين للأذى”. ويستغرب هذا الموقع من مسألة وصول جماعة برلاند إلى “ساحات الدير والكنيسة فيما إذا صدرت فتوى أو إجازة بإقامة صلاة في مكان عبادة غريب، وهذه فرصة للتذكير بأنّها تُسبّب الأذى لمواطني حيفا”(إلى هنا بيان موقع 970).
حتى أن تيار حسيدوت برسلاف استنكر ما قامت به مجموعة برلاند واعتبرتهم خارجين عن خط هذه الحسيدوت.
بالمقابل يدّعي أعضاء مجموعة برلاند أنّهم حضروا إلى المكان لأداء صلاة وزيارة لخمس دقائق فقط. ولم يكونوا يتوقعون تطور المسألة إلى غضب عارم من المسيحيين. ويدّعون أيضًا أنّهم لا يأتون بناء على تشجيع من الحاخام برلاند، إنّما من مؤسس تيارهم الحاخام نتان برسلاف!
لكن الأمر ليس بهذه السذاجة مُطلقا. إذ إنّ برلاند يريد التوصل إلى اتفاق مع السلطات الإسرائيلية بتنظيم وصول جماعته إلى الموقع، أي إلى الكنيسة. وتفيدنا بعض المصادر أنّه – أيّ برلاند – توجّه بطلب من هذا القبيل إلى ايتمار بن غفير وزير الأمن القومي في حكومة إسرائيل ليقوم بتسهيل العملية. وعلينا الإشارة هنا إلى العلاقة بين برلاند ومعهده الديني وبن غفير. فبن عفير قد تولى إدارة ملفات برلاند وعدد من جماعته في معهد “شوفوا بنيم” أمام المحاكم الإسرائيلية.
وأيضًا بهدف المعرفة واستخلاص العبر، علينا الاستماع إلى ما قاله أحد أعضاء هذا المعهد واسمه رحاميم براخا: “هذه الزيارات ليست شأنًا خاصًا بمعهد وحركة “شوفوا بنيم”، إنّما تخصُّ كلّ شعب إسرائيل. إذ لا يُعقل أن يقتصر مكان مقدّس في إسرائيل على الغرباء”. وأضاف براخا: “إذا أردتم خلاصًا وتريدون المسيح فما عليكم إلّا الوصول إلى ستيلا ماريس. هذا المكان محجوز من قبل المسيحيين. ولا يمكننا إجبارهم إلّا بأن نسيطر على النبي اليشاع. وعلى الجميع الوصول إلى هناك بالحافلات وسيارات الدفع الرباعي وإنقاذ/خلاص (غئولا/ גאולה)، كما أنقذنا ضريح “أومان”.
إذن، نلاحظ أنّ هذا التيار وإن كان يدعو الآن إلى السيطرة على دير مار الياس بذرائع وهمية وتخيلية، إلّا أنّ مثل هذا التصريح يخفي ورائه خطة واسعة للسيطرة على مواقع دينية مسيحية أخرى، كما حصل ويحصل في عمليات سيطرة واستيلاء تيارات يهودية دينية متزمتة على مواقع دينية اسلامية في الوطن. وسأقدِّم مثالين على هذا الأمر لتوضيح ما يقومون به. الأوّل من حيفا ذاتها، حيث قامت مجموعة من اليهود المتزمتين واعتقد أنّ بعضهم من اتباع برلاند بالسيطرة على “مقام الشيخ عيسى” الكائن في حيّ العتيقة/ محطة الكرمل بحيفا ووضعوا شاهدًا من الرخام باعتباره قبر الحاخام رمبان، وتثبيت لافتة تحتوي على صلوات تلمودية يعلوها شعار بلدية حيفا. وقد نبّهت إلى هذه القضية منذ سنوات إلّا أنّ أحدًا لم يأخذ الأمر بجدية. أمّا المثال الثاني فهو مقام أبي هُريرة في القرية الفلسطينية المُهجّرة والمُدمّرة “يبنة” – أُقيمت على أراضيها مستعمرة يافني/יבנה – إذ تمّ تحويله قبل سنوات طويلة إلى ضريح الربان غمليئيل.
بمعنى آخر، سنشهد في الفترة القادمة زيارة في وتيرة الاقتحامات لهذه الجماعة، وقد يكون لغيرها، إلى موقع دير مار الياس. فما يحصل من محاولات الاقتحام المستمرة لباحات المسجد الأقصى المبارك في القدس هو دلالة قاطعة إلى أن مثلها يتم وسيتم في حيفا وفي مواقع أخرى.
إذن، المسألة غير محصورة في الإطار الديني فقط، وإن كان هذا هو الظاهر إلى الآن، وإنّما لهذه الاقتحامات أبعاد سياسية معالمها واضحة وتندرج ضمن الصراع على المكان المقدس كجزء من عملية السيطرة والاستيلاء على “المكان العربي الفلسطيني” في فلسطين التاريخية. وبناء عليه، المطلوب ليس ردود فعل ونشاطات عاطفية وبيانات منمّقة بالكلام اللطيف والتسامحي والمُهَادِن، وإنّما اتخاذ خطوات ضمن خطة استراتيجية يشترك في وضعها مسؤولو الكنيسة وشخصيات ذات خبرة في مواجهة الأزمات والصراعات. وأيضًا إحداث تحول في الخطاب الكلامي لتكون معالمه أكثر جرأة ووضوحًا وغاية. ما جرى حتى الآن هو حلقة أولى في مسلسل طويل لن ينتهي إلا بحسم قوي.