زكريا الزبيدي في عيون صديق

استهلال

“اليوم هو الثاني عشر من أيلول، ستة أيام مضت على “الهروب الكبير” لزكريا ورفاقه من سجن جلبوع الإسرائيلي. وكم صدمت حين سمعت خبر “إعادة” اعتقالهم.

لقد آمنت حقاً، أو تمنيت وأردت تصديق نجاتهم .. إنه أمر يشعرك بالشلل حيث لا أحد يستطيع فعل أي شيء.. “علينا فعل شيء ما في الشارع”، كان هذا أول ما فكرتُ به! أنا في فرايبورغ الآن؛ ولا وقتَ للكلام الرومنسي .. أريدُ التعبير عن غضبي وعن حزني الآن وهنا: في قلب هذا “العالم الحر”.. أريد الخروج إلى الشارع والتظاهر ولو وحيدة، ..

لا أحاول سرد قصة هنا.. لا.. في الحقيقة لا أدعي امتلاك مثل هذا الترف أو تلك الموهبة، لكن ما أراه هو جنون حقاُ، علينا جميعا أن نفعل شيئاً. أعلم إني قد أبالغ في مشاعري، وأعلم أيضاً أن ما يمكنني القيام به لن يهزم إسرائيل في واقع الحال.. لكن إسرائيل هذه الإسرائيل ليست أكثر من “وهم من غبار”.

لن أوقف حديثي عن فلسطين قط، وعن رفع الوعي وإظهار عيوب إسرائيل، أينما كنت.. في الجامعة.. في الشارع.. مع الأصدقاء.. مع العائلة، أو من خلال الأوراق والأبحاث، أو على الجدران.. يكفينا اختبار حساسيتنا إزاء المعايير الغربية الهشة”

….

هذه المادة جزء من حوار ممتع دار مع الصديقة الرومانية “أندريا ميدفيغي” والصديقة العزيزة سوسن أحمد، بعد ما أعلن عن اعتقال زكريا الزبيدي ورفاقه إثر هروبهم من سجن جلبوع في السادس من أيلول 2021 . وتعمل أندريا حالياً على رسالة دكتوراة في الدراسات الحضرية في جامعة بازل\ سويسرا عن اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك في دمشق\ سوريا. تعود مادة هذه المقالة، في معظمها للنقاشات معها أثناء الأيام الأولى لهروب زكريا الزبيدي ورفاقه من سجن جلبوع. ولا بد لي من أن أتوجه بالشكر إلى الصديقة سوسن التي وقع عليها عبء جمع هذه المادة.

زكريا الزبيدي في عيون صديق

اليوم هو الثاني عشر من أيلول 2021، ستة أيام مرّت على “الهروب الكبير” من سجن جلبوع* الإسرائيلي. “علينا فعل شيء ما في الشارع”، كان هذا أول ما فكرت به**. مروّع ما حدث وما سيحدث!! أنا في فرايبورغ الآن؛ لست بعيدة عن بازل حيث توجد جامعتي.. لا وقت للكلام المنمق.. أريد أن أعبّر عن غضبي الآن وهنا في قلب “العام الحر”، كما يصفون.. أريد أن أنظم مظاهرة ولو وحيدة، وأذهب إلى الشارع وأحتج، لكن الناس هنا غير مبالين، بل ربما لم يسمعوا الأخبار! إن كان كذلك، فهذا هو الجنون بعينه..

لا أحاول كتابة قصة هنا، في الحقيقة لا أدعي مثل تلك الموهبة، لكن ما أراه هو جنون حقاً، علينا جميعا فعل شيئ ما.. أحاول العثور على علم فلسطيني على الأقل، يصدمني مدى جهل الألمان!! لقد عشت هنا من قبل، لكنه مثل عالم آخر.. والمنظمة الوحيدة التي أعرف أنها تفعل أشياء في فلسطين لديها خلافات داخلية.

أعلم إني قد أبالغ في مشاعري, وأعلم أيضاً أن أي عمل أقوم به لم يهزم إسرائيل، لكن إسرائيل، “هذا الوهم من غبار”*** ليست قدراً محتماً، وسوف تهزم ذات يوم.. أو هكذا أشعر حين أتأمل عيون أطفال غزة. هناك عدد قليل منهم ممن التقيتهم يرغبون فعلاً مغادرة هذا البلد العنصري، شهادات بعضهم قوية فعلاً، لكنها غير كافية، يرغبون في المغادرة، بعضهم فعل، لكن أكثرهم لا.. لماذا!.. لماذا يقولون ذلك إذن؟

عندما يُطلب مني، في العادة، تقديم نفسي، أبدأ في القول: “من أين أتحدث، ومع من أتضامن؟” أعتقد أننا معتادون على البدء، في تعريفنا لأنفسنا، في سرد دراساتنا، أو وظائفنا، أو جنسيتنا، بحيث ننسى ما هو مهم بالفعل في الحياة. وهكذا، أبدأ دائماً في القول إنني أقف متضامنة مع الفلسطينيين، وشعب الصحراء الغربية، وكشمير، والسكان الأصليين، والكويريين، والأشخاص ذوي الإعاقة، والأشخاص ذوي التنوع العصبي، وجميع الذين تعتمد كرامتهم وحريتهم على كرامتي.. أنا حالياً أعيش متنقلة بين ألمانيا وسويسرا، وأعمل على أطروحة الدكتوراه في جامعة بازل بسويسرا، لكنني عشت في السويد على مدار العام ونصف العام الماضيين. حصلت على درجة البكالوريوس في فقه اللغة في رومانيا، وحصلت على درجة الماجستير الأولى في الدراسات الثقافية والنقدية في جامعة وستمنستر في لندن، ودرجة الماجستير الثانية في جامعة ألبرت لودفيغ في ألمانيا وجامعة فلاكسو بالأرجنتين. وطُلبَ مني، خلال الأشهر الستة من حلقة الماجستير القيام بفترة تدريب كجزء من برنامج الأطروحة هذا، ذهبت إلى فلسطين لأول مرة. لقد كنت بالفعل مهتمًة بمعرفة المزيد عن الأوضاع هناك، وسألت الأصدقاء، كتوصية، أين يتوجب علي الذهاب، بالأحرى، من أين أبدء؟. نصحني  العديد بمسرح الحرية في الضفة الغربية، وهكذا وصلت إلى هناك.. قبل ذلك لم تكن لدي أي فكرة عما يكون “زكريا الزبيدي”، رغم إني كنت قد سمعت عنه لماماً.

وصلت إلى رام الله ذات يوم من العام 2017، وقد صادف وصولي حركة احتجاج كبير لدعم إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، وهناك التقيت بلال السعدي (رئيس مجلس إدارة مسرح الحرية TFT)، ونبيل الراعي (المدير الفني آنذاك) وميكايلا ميراندا (التي كانت، آنذاك، تدير مدرسة المسرح، مع نبيل الراعي). تم تقديم زكريا لي على أنه (زكريا) فقط، كنت أعلم من هو ولكن لم أكن أعلم شكله الخارجي. لقد بدا مهتماً جداً بدراستي، وسرعان ما دخلنا في نقاشات وحوارات عن الأدب وعن إدوارد سعيد، ومحمود درويش. كان في قمة اللطف والتواضع رغم أنك تستطيع أن تستشف القوة في عينيه. كان  شغوفاً، لديه اهتمام بالغ بالثقافة وأهميتها. ثم اكتشفت، بعد بضعة أيام قليلة عندما وصلت إلى جنين، من هو “زكريا الزبيدي” بالفعل.

في ذلك الوقت كنت قد قررت كتابة رسالة الماجستير عن المقاومة الثقافية في فلسطين، مع التركيز على مسرح الحرية، وعلى مدار الأشهر التي أمضيتها في جنين، أجريت العديد من المقابلات مع زكريا، وناقشت، غالباً، أطروحاتي وأطروحته، والمنهجية المستخدمة، والخلفية النظرية.. إلخ. وأود أن أذكر في هذا الصدد، أن زكريا اعتقل قبل أن تتاح له الفرصة لعرض أطروحته، كنتُ في الأردن في ذلك الوقت، أنتظر مرور بعض الوقت قبل المحاولة مجدداً دخول فلسطين مرة أخرى. وأتذكر أن هذه كانت، في الواقع، واحدة من أول الأفكار التي خطرت ببالي عندما سمعتُ الأخبار المروعة -أنه لن يحصل على فرصة لعرض أطروحته والحصول على شهادته لأنني أعلم كم كان الأمر مهماً  كثيراً عنده، وكنت متحمسة للغاية لترجمتها إلى اللغة الإنجليزية ونشرها. إنها مفارقة سخيفة أن يكون زكريا قد كتب عن تجربته كشخص “مطلوب” ليُسجن هو وليس غيره قبل التخرج مباشرة! ومع ذلك، أنا متأكدة من نشر أطروحته في وقت ما. ولعلي لا أضيف جديداً حين أقول من الممكن جداً أن للسلطة الفلسطينية علاقة بهذا الأمر، لكنني بصراحة لا أعرف ما إذا كانوا قد فعلوا ذلك. لكن لن يكون هذا غريباً، بالنظر إلى مدى فساد السلطة ومدى الضرر الذي ألحقوه به وما زالوا يلحقونه بحركة المقاومة الفلسطينية. يعلم الجميع تنسيقهم مع الإسرائيليين، ويتم تدريب عناصرهم معاً، ويستخدمون أساليب التعذيب ذاتها، ولديهم نفس قاعدة البيانات. وزكريا لكونه زكريا لم يخش التعبير عن موقفه، وكان يشكل تهديداً لكل من يبرر الاحتلال.  وكثيراً ما كان يردد، كما  كان يفعل جوليانو أيضاً، أن الفلسطينيين يرزحون تحت أنواع عدة من الاحتلالات.. احتلال الأرض، واحتلال العقل. ومن وجهة نظري، تلعب السلطة الفلسطينية دوراً رئيسياً في كليهما. وأنا هنا أعبر عن رأيي الشخصي ليس إلا، ولا أتحدث نيابة عن زكريا أو سواه. لكنني أعتقد جازمةً أن أطروحته، تشكل، مثل أي نشاط آخر كان يقوم به، تهديداً للاحتلال الإسرائيلي. وحتى إذا كنا ننتقد السلطة الفلسطينية والقوى الأخرى، فمن المهم النظر إلى هذا في سياق الفرق الجسيم في ميزان القوة، نتيجة لإرادة إسرائيل في السيطرة على كل جانب من جوانب حياة الفلسطينيين لتقسيمهم وحكمهم، و تأليب الفلسطينيين ضد بعضهم البعض.

انخرطت، في المدرسة الصيفية للمسرح، التي كانوا يقيمون فيها في ذلك الوقت، وعملت على مسرحية مع الأطفال. لقد كانت إلى حد بعيد أكثر تجربة مدهشة في حياتي، لقد تعلمت الكثير منهم. كانت إحدى أعظم اللحظات عندما كنا نتحدث عن أهمية المسرح في المخيم، وتاريخه، وعن جوليانو مير خميس (المؤسس المشارك لمسرح الحرية) ومع زكريا وجوناتان ستانزاك.

قُتل جوليانو ميرفي في الرابع من نيسان\ أبريل 2011  داخل سيارته أمام المسرح، كما يعلم الجميع. ومازال القاتل، حتى يومنا هذا، غير معروف، لكن لا يمكننا تجاهل إلى أي جانب كان ينحاز. كان الأطفال يرفعون صورته عالياً وهم يهتفون” “جو لي-آ-نو” ، “جو لي-آ-نو”، لقد كان من المدهش رؤية إرث جوليانو حياً ينبض في قلب المخيم، ليس هذا فقط ،لكن أيضا والدته (آرنا) التي لازالت على قيد الحياة، و (سميرة) والدة زكريا .ربما يعلم الجميع أنه قبل مسرح الحرية كان هناك ما يعرف باسم  (المسرح الحجري)، الذي أسسته آرنا وسميرة خلال الانتفاضة الأولى. لن أخوض في هذه التفاصيل هنا، لكني أوصي حقاً بأن يشاهد الناس “أطفال أرنا”، إنه فيلم وثائقي رائع! ( كان الإسرائيليون يكرهون جوليانو حد الموت فعلاً، والجميع يعرف لأن جوليانو عاد الى المخيّم، مخيم جنين، بعد الانتفاضة الثانية، ليكشف أن معظم أعضاء فرقته قد استشهدوا إثر اجتياح المخيّم  في العام 2002 ، مما دفعه للعودة إلى هناك، وقد اقترح عليه زكريا” الذي كان طالباً سابقاً في المسرح الحجري إعادة بناء مسرح الحرية والاستمرار بمشروع والدته، وهذا ما حصل في العام 2006، تاريخ تأسيس مسرح الحريّة)

تم إنشاء المسرح الحجري في الطابق العلوي من منزل سميرة الزبيدي، وكان زكريا وشقيقه “طه” قلب مجموعة الأطفال ضمن برنامج الرعاية والتعلم.  كان الفن والمسرح على وجه الخصوص من العوامل الجوهرية في تربية زكريا. بالطبع، بما أن المقاومة الثقافية أو أي نوع آخر من المقاومة اللاعنفية يُعاقَب عليها من قبل إسرائيل بنفس الطريقة التي تعاقِب بها المقاومة المسلحة، فقد تم إحراق وهدم المسرح الحجري وإعادة بنائه، وهدمه مرة أخرى.

هناك الآن صورة لزكريا يتم تداولها وهو طفل يرتدي الكوفية ويقف بفخر أمام منزله المهدم. يمكنك أن ترى التصميم والإرادة التي لا هوادة فيها في تلك العيون بالفعل.

كان نشاطي مع زكريا من خلال الرؤساء الفكريين والثقافيين، كما قدمني إلى جامعة بيرزيت وأدار الندوات من قبل مشرفه. كان يؤمن بشدة بأهمية التعليم ومعرفة تاريخ الفرد وفهم القوى البنيوية التي تلعب دوراً في تكريس احتلال فلسطين.  كما كان يدرك، تماماً، مدى أهمية المعرفة وإنتاجها، وكيف يمكن استغلالها بهدف إضفاء الشرعية على الاحتلال غير القانوني والمشاريع الاستعمارية الاستيطانية، مثلما هو حال الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وكذلك استخدام هذه المعرفة من أجل زيادة الوعي الجماعي وتوفير ما يلزم من أدوات لمحاربتها.  ولعل من أبرز الأشياء التي تعلمتها من  زكريا كان التمييز بين “المقاومة الثقافية” و “ثقافة المقاومة”.

وما زلت أذكر ما قاله لي في مقابلة: “ثقافة المقاومة هي ثقافة مضادة متأصلة، تعارض ثقافة الهيمنة والاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان وحرية الناس؛ فثقافة المقاومة، بالتالي، ثقافة حرية وعدالة وكرامة إنسانية. كما يشير إلى احتوائها عمليات وآليات نفسية وتعليمية، لأن الكفاح المباشر، ويقصد الجسدي، التضحية الجسدية، لا يكفي وحده لردع العدو ودحره، بل ينبغي أن يحكم مسيرة النضال أيضاً عوامل أخرى تشتمل على منظومة قيم وطنية وإنسانية، ولا أعني بهذا بعض القيم الوهمية التي بناها خيال المقاومة. إنما أخص بالذكر المعايير الأساسية الناظمة للسلوك الاجتماعي، والإدارة السياسية، والشرعية . لقد فهمت من حواري معه مدى أهمية التربية والتعليم بوصفهما من العلوم الإنسانية. وغالباً ما كنا نتحاور في مضامين  مؤلفات باولو فريري.

لقد أدهشني حقاً كيف يستطيع الظهور، دائماً، بمظهر طيف ودائم الابتسام، أو حتى يبدو مضحكاً؛ بل ربما متهكماً، بمعنى طريقته في السخرية والتهكم على الواقع، وربما كانت هذه طريقته لتمثيل عبثية عقود الاحتلال الطويلة لفلسطين.

لا شك أنه يتمتع بقلب نقي.. لعل هذا هو انطباع من يلتقيه أول مرة، بيد أنه، لمن يعرفه، كان شخصاً لمّاحاً وحاد الذكاء، ويقدر جيداً الظروف، ويفكر، على الدوام، في الأدوات السياقية التي يمكن للناس استخدامها لمحاربة الاحتلال. علاوة على أنه كان، على الأقل بالنسبة لي، واقعياً لا يهاب من إضفاء الطابع الإنساني على الإسرائيليين، وبالتأكيد لم يقم بزخرفة سمة العداء النمطي الجوهري لهم وعليهم.  وكان هذا ، بصراحة، مفاجئاً لي في البداية، لأني بعد أن شهدت العديد من أحداث الجرائم الفظيعة المرتكبة، وبعد أن علمت بحقائق غير قابلة للتفسير، مثل تعذيب أطفال في سن السابعة من خلال صعق أعضائهم الحساسة بالكهرباء، بعد أن يتم القبض عليهم في الشوارع أثناء المظاهرات أو أثناء المداهمات بسبب إلقائهم بعض الحجارة على جنود الاحتلال أو بسبب منشور على فيسبوك، لقد كان ولا يزال من الصعب جداً بالنسبة لي ألا أُشيطنهم. أعني، كيف تفهم هذا؟ ما الذي يحتاجه الناس للوصول إلى هذه النقطة المتمثلة في تجريد الآخر تماماً من إنسانيته، ما المعيار أو التبرير المتاح لذلك؟  يمكنني أن أكمل، لكني أعتقد أننا جميعاً  نعلم الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل حتى قبل النكبة. لكن زكريا كثيراً ما كان يعارضني غي هذه النقطة بالذات، ويحاول شرح ما يمكن أن يقودهم، أي الإسرائيليين، إلى هذه النقطة. وحتى في سياق انتقاده كان يبدو ذلك الشخص الداعم المساند المليء بالطاقة الإيجابية (أتذكر كيف كانت هناك أوقات ربما شعر فيه أن عمل المسرح لم يكن كما كان يريد له أن يكون، وكان يؤكد على الإشارة إلى ذلك).

لا أحاول، هنا، إضفاء الطابع الرومانسي أو الملحمي على شخصية ” زكريا الزبيدي” أو تصويره كشخص مثالي خالٍ من العيوب (سيبقى بالنسبة لي على كل حال، الشخص الذي التقيت به وتبادلت عناوين الكتب معه، وتحدثت عن أهمية التعليم ودور الفن كمنصة للمقاومة.) غير أني في المقابل، لا أبرر الجرائم بأي حال من الأحوال، أنا لا أقصد ذلك. ولكن بالنظر إلى الموقف بعقل واضح للغاية وفهم البنى المؤسسة للمجتمع الإسرائيلي. زكريا ليس ذاك الإرهابي الذي تحاول وسائل الإعلام الإسرائيلية وأنصارها تصويره على الإطلاق. من السخف قراءة المقالات التي كُتبت عنه على مر السنين. لطالما تساءلت بيني وبين نفسي كيف لمكن لأي واحد منا أن يتصرف لو قام أحدهم باحتلال أرضه وبيته وحقله، وطرده، وقتل من يحب من أهله أو خطفهم وتعذيبهم. كيف ستكون ردة فعله؟ وما هو حجمها ونوعها؟ هل سيقف طابوراً يشكرهم ويرميهم بالورود والزهور؟ أم ستكون المقاومة هي العنوان الأول، سواء عفواً أو قصداً!

أنا لا أبيع وهماً هنا، لكني، في المقابل لا أشتري خطاب “السلام” بأكمله، فلا سلام دون عدالة ومساءلة. أي سلام يمكن لزكريا أن يقبل به وقد قتلوا سميرة والدته وشقيقه “طه” في العام 2002 ” لعلهم اعتقدوا أن طه هو زكريا”.

على صعيد آخر، ومن جهة ارتباط زكريا بالمسرح وتأثيره في المخيم، فقد أضفى زكريا الشرعية على المسرح، لأن الناس يثقون به كونه أحد قادة الانتفاضة الثانية وزعيم كتائب الأقصى، مما دفع الناس بالتأكيد إلى قبول مساحة المسرح داخل المخيم واعتباره أداة محتملة للمقاومة. في مقابلة أخرى قال لي زكريا: لم يكن هناك انتقال من المقاومة المسلحة إلى المقاومة الثقافية. لقد نشأت كشخص لديه خلفية معينة، وفي أسرة تؤمن بدور الثقافة، وآمنت بذلك بنفسي أيضاً. علينا فهم أن ما يحدث في الوقت الحاضر هو، في الواقع، وفقاً لاحتياجات النضال. هذا يعني إمكانية تكييف المقاومة وفقاً للوضع الذي نعيشه. لكن هذا لا يعني استبعاد المقاومة المسلحة. لقد آمننا، دائماً، بالمقاومة المسلحة وجدواها، لكننا قلنا أيضاً تحتاج المقاومة المسلحة إلى ثقافة لشرحها وتبريرها، وكم نحن، في الوقت الحاضر، بحاجة كبيرة لإعادة الاعتبار للثقافة ولـ “السلاح المثقف”، وإذا ما كانت الحاجة ملحة لحمل السلاح من جديد، يوماً ما، فلن نتخلف عن ذلك، تلك رسالة للأجيال القادمة. لا ينتهي الاحتلال ولا يرحل المحتل دون مقاومة حقيقية بسلاح أم بسواه.

أعتقد أن تجربة زكريا، كممثل، لعبت دوراً تكوينياً بالنسبة له. حيث كان التمثيل طريقة أخرى لمقاومة الاحتلال. علينا معرفة أن هذا كان يحدث خلال الانتفاضة الأولى. عندما أغلقت المدارس، وحتى لو كانت مفتوحة، لم يكن هناك الكثير مما يمكن للأطفال الفلسطينيين الحصول عليه. لقد فتح المسرح، على ما أعتقد، أبواباً جديدة له لفهم ما كان يجري والتعبير عن إحباط شعبه وصدمتهم من الاحتلال بطريقة إبداعية، وهذا من شأنه أيضاً مساعدة الآخرين، نوعاً ما، على فهم عبثية الموقف.  فمن غير المفهوم حقاً ومن غير المنطقي، أقله بالنسبة لي، استمرار المنظمات الدولية في مواقفها المنافقة والمتواطئة تماماً مع  سياسات التطهير العرقي المستمر. ومن العبث، بالأحرى من الجنون، مواصلة الاعتقاد  بإمكانية القيام بفعل شيء ما في هذه المرحلة!

ها قد مرت على النكبة زهاء 75 عاماً ولم يعد سراً بعد الآن، ما قامت به العصابات الصهيونية ضد المدنيين الفلسطينيين، حين سطت على بلادهم في وضح النهار، نعم إنها سرقة موصوفة، سرقة للبيوت والحقول والمدن والمكتبات والتراث.. سرقة كل شيء.. بات الآن كل شيء مكشوف، فلدينا العديد من السجلات والوثائق والأرشيف والشهادات، بل يمكننا أن نرى بأعيننا، طبعا لمن يريد أن يرى، آثار النكبة سواء في مخيمات اللجوء أو داخل ما يسمونه الخط الأخضر أو في غزة والضفة. (لم أذكر أنني الآن أعمل على أطروحة الدكتوراه عن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين السوريين، واللاجئين المزدوجين من اليرموك الذين يعيشون الآن في سوريا. كيف يمكن أن لا يتم الاعتراف بهؤلاء الأشخاص حتى كلاجئين، وإطلاق  لقب “عديمي الجنسية”  عليهم)

أنا بصراحة أشعر بغضب من الفظائع التي ترتكبها إسرائيل  دون محاسبة من أحد، لقد سمح النظام العالمي القائم حالياً لإسرائيل ومن يشبهها أن يفلتوا من العقاب على جرائمهم التي يراكبونها يومياً، بينما العالم يراقب، أعتقد لو حصل هذا في الغرب “الحضاري” لما قبله أحد، ولكن نظراً لأن فلسطين تقع “في الجانب الآخر من العالم”، حيث جماعات بشرية نعتقد أن ليس لدينا أي مشترك معهم، فلا بأس بذلك. أعتقد أننا جميعاً مسؤولون ومذنبون عن الجرائم المرتكبة هناك وفي أماكن أخرى. نحتاج حقاً إلى إدراك مدى قوتنا، وإلى إدراك أن إسرائيل ليست حقاً مطلقاً، أو قوة مطلقة غير قابلة للتدمير!  والخطوة الأولى في تفكيك المشروع الصهيوني تبدأ في وقف التطبيع  مع الاحتلال ( ليس من قبل العرب أقصد، بل من جميع دول العالم، مثلما تعاون العالم في القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا)، ومقاطعة إسرائيل والاعتراف بما هي عليه بالفعل، وعدم الخوف من الحديث علانية، فليس ضرورياً أن تكون فلسطينياً حتى تؤمن بعدالة قضية فلسطين وتدعمها، يكفي للمرء أن يكون إنساناً بكل معنى الكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو الجندر أو حتى الانتماء، إذ أن الإنسانية تشمل كل ما سبق.

هل يبدو هذا مبتذلاً ومكرراً؟ ربما، وربما لا، ولكني لا أراه كذلك، ودائماً ما أقول  لمن حولي” قد تجدون مبالغة في قصصي، فإن كنتم في شك مما أقول ومما رأيت، أطلب منكم  الذهاب إلى هناك، إلى أي مخيم للاجئين وشاهدوا ما يفعله الإسرائيليون.. تحدثوا إلى الناس، واستمعوا إلى قصصهم”.. القصص والذكريات مهمة جداً، لاسيما، بعد أن عمدت إسرائيل  إلى تدمير محتوى الأرشيف الفلسطينيـ بما في ذلك أرشيف الفيلم الفلسطيني، كما نهبت آلاف الكتب والمكتبات العامة والشخصية. لكن الآن، على ما أعتقد لا أحد يستطيع القول إننا لا نعرف ما الذي يحدث، فما يحدث الآن ها نحن نعيشه ونوثقه ولن نسمج لهم بالسطو عليه من جديد أو تدميره، ليس هذا فحسب، فهناك الكثير من التقارير التي كشف عنها مؤخراً والتي توثق لما حصل عامي 1948 و1967، مثل محاضر الاجتماعات الرسمية الإسرائيلية، كل هذا، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت الآن أداة رائعة تسمح للعمل والتطوير.

أعتقد حقاً أن أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الكثير من الناس حول العالم إلى حشد ودعم الناس في “الشيخ جراح” والقرى الأخرى المعرضة لخطر الإخلاء أنهم يستطيعون رؤية ما كان يحدث مباشرة. أما بالنسبة إلى غزة فأنا حتى لا أستطيع، من شدة ما يحدث، التطرق للوضع هناك، فمن غير المعقول استمرار الحصار حتى هذه اللحظة. وتشويه الأطفال والشباب، خاصة وأن إسرائيل الآن لا تطلق النار من أجل القتل فقط، بل بهدف عطب الشباب والتأثير على عائلات ومجتمعاتهم بأكملها. إسرائيل ذكية، لكنها ليست ذكية بما فيه الكفاية. أساساً وعلى المستوى الإنساني، إن مجرد الحديث عما يحدث يسبب وجعاً وفجيعة في قلوبنا، لكننا بحاجة إلى مواصلة القتال. أقول “قتال”، رغم  شعوري بالعجز كم عدم القيام بأي فعل مؤثر، ولكن هناك العديد من الأمور التي يمكننا فيها دعم وإظهار التضامن. وعلينا أن نتوقف عن الخوف. علينا إدراك أن إسرائيل قابلة للكسر، ومهما حاولت الظهور بصورة  القوي، لكنها سوف تنهار ذات يوم، أنا أؤمن بهذا حقاً، لا ثقة لي في الأمم المتحدة والمنظمات والمؤسسات الدولية الأخرى، لكني، كما ذكرت وأحب أن أكرر ذلك،  أرى إسرائيل “دولة فصل عنصري”، ورغم كل هذا الصمت لما يتعرض له الفلسطينيون فمازالوا لا يتوقفون عن مفاجأتنا بصخبهم وإرادتهم وتصميمهم. وهذا ما يدفعنا إلى التأمل والعمل على أنسنتهم وأنسنة نضالهم ونضال غيرهم من الشعوب الأصيلة المضطهدة التي تتعرض لعمليات إبادة حقيقية، نحن بحاجة لرؤية الأشياء كما هي على حقيقتها، وبذل جهود مضاعفة. فما يحدث ليس حرباً بين ” الأخيار والأشرار” .. لا .. أبداً ليس الأمر كذلك، ما يحدث ليس حرباً بين توراة وقرآن وكتب مقدسة أخرى وأنبياء وأديان وسرديات إيمانية، وهو في الحقيقة ليس معركة، لجهة أن الإسرائيليين والفلسطينيين ليسوا بنفس القوة. تمتلك إسرائيل أسلحة عالية التقنية، وأنظمة مراقبة، وشبكة عملاء وجواسيس، وطائرات بدون طيار،  وغيرها من التقنيات عالية الدقة التي لا يمتلك الفلسطينيون مثلها.. ونعلم جميعاً أن كل إسرائيلي هو جندي. لن أنسى أبداً، عندما كنت في الخليل ذات يوم، ورأيت العديد من القناصين والجنود يلقون الغاز المسيل للدموع والمزيد من الجنود  يأتون في مجموعات وينظمون إطلاق النار على هدف غير مرئي. عندما صعدت التل لأرى أين كانوا يطلقون النار وعلى من، صعقت حين لمحت مجموعة من الأطفال والمراهقين يرشقون الجنود بالحجارة. أعلم أننا نسمع هذا كثيراً، لكنه من الشائع جداً أن يقتل الفتية والشبان وزرع السكاكين بجانب أجسادهم والقول إنهم كانوا يريدون طعن الجنود عند نقطة التفتيش. لكن لم يعد أحد يقتنع  بهذا بعد الآن.

لم يفاجئني خبر “هروب” زكريا ورفاقه من سجن جلبوع، لعلي أكون صادقة لو قلت ما فاجأني هو تأخر هروبه.. فزكريا والحرية توأمان.

إن الطريقة التي تم التحضير لهذا الهروب غير المتوقع، بالحفر بملعقة طعام كما يقال، كانت مدهشة. يصف البعض ما حدث على أنه إخفاق لإسرائيل، لكنه أكثر من ذاك، هو، في الحقيقة، صفعة قوية.

لا يمكن تصديق ما فعله هؤلاء الرجال، ثمة حبكة تشبه دراما أفلام الخيال، وكيف لا يكون ذلك والثورة، أي ثورة، هي بحد ذاتها فعل رومنسي حالم. إن ما حدث يثبت من جديد عدم قدرة إسرائيل، بجبروتها وحصارها، وتقييدها للحريات ومحاولة السيطرة وتدمير الهوية الوطنية للشعب، والاستيلاء -من خلال أدوات استعمارية مختلفة- على مكوناتهم الثقافية والمعرفية، على كل حال هذا لن يمنع الناس هناك من التفكير بحريتهم، بل ومن ممارستها على طريقتهم الخاصة. وأقول بصراحة، كم شعرت بالسعادة حين سمعت الخبر. ومن المهم، مرة أخرى، النظر إلى هذا الأمر ضمن تصورنا للإطار الكبير للأمور كيف تجري في فلسطين، إذ ما زال هناك ثمة أشخاص يرفضون الاستسلام، ومازال بإمكانهم القول “لا”.. ولن يتوقفوا عن النضال من أجل الكرامة والحرية ما بقوا يتنفسون، وسأسمح لنفسي في التمادي قليلاً، رغم صعوبة الموقف، وأنظر لهم بشاعرية وحميمية وأراهم زنابق حرية، ينغرسون بقوة، رغم رقتهم، في تربة حريتهم..

لكن خبر “إعادة” اعتقالهم كان صدمة كبيرة لنا، لقد آمنت حقاً، أو تمنيت وأردت أن أصدق، أنهم سينجحون في الذهاب إلى البلدان المجاورة، أو على الأقل إلى الضفة الغربية، حيث حاضنتهم الشعبية.. لا أعرف حتى كيف أصف ما شعرت به عندما سمعت الخبر، والتعذيب الذي أعقب ذلك، والذي ما زال مستمراً.. إنه لأمر يشعرك بالشلل حيث لا أحد يستطيع فعل أي شيء، والمنظمات الدولية ليس لها حول ولا قوة ولا سلطة، رغم وضوح الحقائق التي تثبت عدم شرعية الاحتلال ولا أخلاقيته؛ ومع هذا تبقى وقائع غير معترف بها دولياً، على الأقل في هذا المكان من العالم.

مازلت أستيقظ كل يوم يلبسني خوفاً، لا أطيقه، من سماع أخبار سيئة عن زكريا ورفاقه… ولايغيب عن بالنا أنهم حفنة رجال، فريق صغير من مجموع كبير يضم آلافاً داخل سجون الاحتلال، يعانون شروطاً صعبة ومعاملة قاسية لا لشيء إلا لأنهم يحاولون البقاء أحياء ويناضلون من أجل حياتهم وكرامتهم. ثلث من هم داخل السجون الإسرائيلية من الفلسطينيين من القاصرين.

كيف لهذا الأمر أن يحدث؟

ماذا بوسعي القول الآن؟ ما هي الرسالة التي يمكن توجيهها إلى عائلة زكريا؟ أرى من المناسب الاستماع لهم، لابد من إيصال أصواتهم ليسمعها العالم.  فما هو مهم، باعتقادي، أن يعرف الفلسطينيون في كل مكان بأنهم ليسوا وحدهم، وأننا نتضامن معهم ونحاول رفع مستوى الوعي حول ما يحدث. عادة ما ستشعر بالعجز كونك تعيش في الغرب أو خارج فلسطين، وترى الناس، ليس الجميع قطعاً، يواصلون حياتهم ولا يبذلون أدنى جهد للتواصل مع هؤلاء المظلومين، وإدراك أنه نفس النظام الذي يؤثر على الجميع حتى لو كان ذلك بالطبع بدرجات مختلفة. ليس من الملل بشيء التأكيد على أن الاحتلال الأولي (الانتداب البريطاني) لفلسطين والمشروع الصهيوني وكل ما تلاه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية. لننظر فقط إلى المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وإلى الشركات التي تمارس الأعمال التجارية هناك، فالأمر يتعلق بدرجة كبيرة بالربح. لهذا السبب تحظى إسرائيل بدعم كبير من الولايات المتحدة ودول أخرى. فبالإضافة إلى كون فلسطين موقع استراتيجي، للغاية، في الشرق الأوسط، لكن الأمر يتعلق، أيضاً بالأموال التي يتم جنيها منها، ومن هذا المنطلق أرى في حملات مقاطعة إسرائيل BDS  أداة مهمة، حقاً لزيادة الوعي ولفت انتباه الناس لما يدور هناك وجعلهم يفهمون أن هناك العديد من الطرق التي يمكنهم من خلالها معارضة أشكال الظلم والاحتلال كافة. لست بحاجة لحمل سلاح لتدعم فلسطين، بل يمكنك التوقف، بساطة، عن شراء المنتجات الإسرائيلية التي تمول الاحتلال بشكل أساسي. نحتاج جميعاً إلى اتخاذ خيارات أخلاقية في الحياة، وأنا أعلم  أن القول غالباً من يكون أسهل من الفعل، ولكن لم يفت الأوان بعد، إذا ليس من الصعب التفكير في الأموال التي ستدفعها مقابل المنتجات من المستوطنات غير القانونية في أريحا، على سبيل المثال، والتي غالباً ما سوف توجه نحو شراء أسلحة من شأنها أن تقتل الأطفال وتدعم الاحتلال بشكل عام.

لن أتوقف عن الحديث عن فلسطين قط، وعن رفع الوعي وإظهار عيوب إسرائيل، سواء داخل الأوساط الأكاديمية، أو في الشارع، أو مع وبين الأصدقاء والعائلة، أو من خلال الأوراق، أو على الجدران. بل، وأكثر من ذلك، أعتقد أن هذا هو وقت الغضب الذي لا هوادة فيه. يكفي أن نختبر حساسيتنا إزاء المعايير الغربية الهشة. نحن، في الحقيقة، نحتاج إلى إجراء أبحاثنا الخاصة والتحدث ضد إسرائيل، وبمجرد أن نفهم ما يحدث ولماذا، ما هي المصالح المعرضة للخطر، ومن يدعمها وكيف وصلت إسرائيل إلى هذه النقطة حيث قاموا بتجريد أنفسهم من إنسانيتهم بارتكاب كل هذه الفظائع، عندما نصل إلى كل هذا تصبح رؤيتنا، بحق، مرآة لبقية العالمية. لقد حان الوقت الآن لإظهار أننا لسنا إلى جانب الظالم، وأتمنى لو كان لدي على الأقل ذرة من الشجاعة والعزم والمعايير الأخلاقية التي يتمتع بها زكريا ورفاقه****..

…..

* يقول الباحث الفلسطيني فيصل زكارنة عن “جلبوع”: تحدثنا الرواية الصهيونية، والمبنية على أساطير وخرافات المرويات التوراتية والعهد القديم، أن داوود لعن جبال جلبوع بعد هزيمة جيش العبرانيين على يد جيش الفلسطينيين، ومقتل ملك العبرانيين شاؤول وقطع رأسه، وذلك في معركة كبرى حدثت في جبال جلبوع، وبعد سماع داوود لما حلّ بالملك شاؤول، حزنَ حزناً كبيراً ودعا دعواته تلك على جبال جلبوع، بأن لا ينبت الزرع فيها ولا ينزل المطر عليها وتصبح قاحلة جرداء (سفر صموئيل2 الثاني، الإصحاح الأول)”21 يَا جِبَالَ جِلْبُوعَ لاَ يَكُنْ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ عَلَيْكُنَّ، وَلاَ حُقُولُ تَقْدِمَاتٍ، لأَنَّهُ هُنَاكَ طُرِحَ مِجَنُّ الْجَبَابِرَةِ، مِجَنُّ شَاوُلَ بِلاَ مَسْحٍ بِالدُّهْنِ”. وبذلك أصبحت جبال جلبوع ملعونة ومحرمة في العرف والعقيدة اليهودية. لا يوجد دليل أركيولوجي أو تاريخي يثبت تلك الواقعة، بكامل عناصرها ومرفقاتها بما فيها الملك شاؤول، ولا داوود (الملك)، ولا تلك المملكة الإسرائيلية المزعومة، وذلك حسب معظم علماء التاريخ والآثار، وخاصة الإسرائيليين منهم. وأما جلبوع، ذلك الاسم الفلسطيني ذو الجذور الكنعانية فهو يطلق على سلسلة الجبال الواقعة على مسافة 10 كلم شمال شرق مدينة جنين، وقد تكونت تلك السلسلة على شكل هلال تبدأ في الجنوب الشرقي من قرية جلبون والتي أخذت اسمها من الجبال وتنتهي في الشمال الغربي تقريباً بقرية زرعين المهجرة أو يزراعيل الكنعانية، والذي يعتبر الاسم الفلسطيني الأصلي لمرج بن عامر .وتمتد هذه الجبال لأكثر من 20 كلم، وتطل على سهل يزرعيل” مرج ابن عامر” وتعتبر تلك المنطقة الجبلية من أجمل وأخصب المناطق الطبيعية في فلسطين، فهي عامرة بالأشجار المثمرة، وأكثرها شجر الزيتون والأشجار الحرجية وتتميز بوفرة المياه وتنبت بها زهرة نادرة لا توجد إلا في هذه المنطقة من العالم، واسمها الأصلي “سوسن جلبوع” ويطلق عليها حالياً “سوسن فقّوعة” وقد اعتمدت كرمز وطني لدولة فلسطين، وتنتشر على هذه الجبال عدة قرى واقعة ضمن حدود أراضي 67 من أبرزها جلبون، فقوعة، دير غزالة، عربونة وقرى أخرى داخل الخط الأخضر، وهي قرى مدمرة ومهجرة من أبرزها نورس، المزار، زرعين.

**هذه المادة جزء من حوار مع الصديقة الرومانية أندريا ميدفيغي أثناء زيارتها للسويد. تعمل أندريا على رسالة الدكتوراة في الدراسات الحضرية في جامعة بازل\ سويسرا وموضوعها عن اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك في دمشق\ سوريا، كما تعمل على جمع معلومات عن القرى الفلسطينية المدمرة إثر نكبة العام 1948، وعدد الأشخاص الذين عاشوا في تلك القرى، ومساحات أراضيهم الزراعية وحيواناتهم وأنواع محاصيلهم الزراعية وطرق معيشتهم.. إلخ، كعنصر تكميلي في مشروعها عن الدراسة الحضرية لسكان مخيم اليرموك. وتعود مادة هذه المقالة، في معظمها للنقاشات معها أثناء الأيام الأولى لهروب زكريا الزبيدي ورفاقه من سجن جلبوع.

لا بد لي من شكر الصديقة سوسن أحمد، التي وقع عليها عبء جمع هذه المادة أثناء استضافتها للصديقة أندريا في منزلها في مدينة بوروس وسط السويد.

***”هذا الوحش وهمٌ من غبار”: عبارة قالها الأسير محمود العارضة خلال جلسة محاكمته

**** تمكنت محامية هيئة الأسرى والمحررين، حنان الخطيب، من زيارة الأسير زكر يا الزبيدي، في معزل “ريمونيم”، واستطاعت أن تحصل منه على رواية هروبه هو ورفاقه من سجن جلبوع. يقول زكريا: ” كنت أقبع بقسم 4 بسجن جلبوع عندما توجه لي قبل حوالي أسبوعين من العملية الأسير أيهم كممجي قائلاً “في طلعة”، وسألني عن استعدادي لذلك فقلت له “أنا اللي بطلع”. قبل أسبوع من العملية طلبت الانتقال لغرفتهم لأطلع على الموضوع، وعندما دخلت ورأيت الحمام، عرفت أننا سننجح بالخروج، سألتهم عن التكتيكات والخطة المرسومة وكيف سنسير بالنفق، لأنني لم أجرب الدخول للنفق من قبل، فأخبروني بأن السير سيكون يداً للأمام ويد للخلف، والمشي بطريقة الحلزون ولكن يوجد مقطعان يجب النوم على الظهر والسير [فيهم] زحفاً. يوم العملية جاء أحد السجانين ومعه شخص وبدأ بفحص فتحة المجاري، فرأى تراباً مبلولاً فثارت الشكوك بداخلنا، ومباشرة تدخلت ووقفت بينهم، وبدأت بمناداة الأسرى لجلسة لخلق حالة إرباك وعندها أطبقوا الفوهة وذهبوا للتفتيش والفحص بالغرفة المجاورة، عندها أخبرت الشباب أن الوضع لا يحتمل ويجب أن نخرج الليلة من النفق. في البداية دخل النفق الأسير مناضل انفيعات، وتلاه محمد العارضة، وبعدها يعقوب قادري وأنا وبعدي أيهم كممجي، وآخرنا كان محمود العارضة، وداخل النفق علقت وشعرت أن جسمي لا يتحرك حوالي ربع ساعة وكانت المنطقة مظلمة، وعندها طلب مني أيهم ومحمود مواصلة المسير، وأخبرت يعقوب الذي كان أمامي بأنني عالق فظن أن الحقيبة تعرقل مسيري فقام بسحبها مني، فقلت له أن جسمي عالق بالنفق وأنا لا أستطيع التحرك، وبعد محاولات عديدة تركت نفسي وواصلت المسير.

وصل يعقوب فوهة النفق منهك القوى ومتعب، أما أنا فرفعت يدي وقام مناضل انفيعات بانتشالي وإخراجي من فوهة النفق وخرجنا جميعا، وعندما قطعنا الشارع كادت سيارة أن تدهس أيهم، حينها أيقنا بأنه سيتم الإبلاغ عنا، فقلت لهم سنقطع أرض القطن بسرعة لأنهم سيبلغون عنا ويجب أن نجري، وأثناء ذلك رأينا طيارة هيلوكوبتر وسيارات شرطة، فتأكدنا أنه تم الإبلاغ عنا. بعد حوالي كيلو متر من المسير تعب يعقوب ولم يعد يقوى على الجري فتوقف وقال لنا اتركوني واذهبوا، المهم أن تنجوا أنتم فرفضنا جميعا، وقلت له اتكئ عليّ وأنا سأسندك، فاستند علي وواصلنا المسير حيث كنا نمشي بأرض زراعية محفورة، إلى أن وصلنا إلى قرية الناعورة، وهناك اغتسلنا بالجامع واستبدلنا ملابسنا، وبعدها عندما لم تأت السيارة لنقلنا، خاب أملنا وقررنا الانفصال لأزواج وكان نصيبي مع محمد العارضة. واصلنا أنا ومحمد المسير بطريق لا نعرفها، وكان همنا الخروج من البلدة، مشينا حوالي 7 ساعات وعندما جاء النهار أحسست بجسم يرتطم بالأرض فقال لي محمد إنها أبقار. وأنا جالس ومحمد العارضة بأحد الأحراش، رأيت شجر الصنوبر الذي زرعه الاحتلال الإسرائيلي مكان شجر الزيتون، وكان بجانب إحدى الشجرات فروع وعروق زيتون قد نبتت بجانبها فقلت لمحمد: “تفرج وشوف كيف زرعوا صنوبر محل الزيتون بس الأساس طالع من جذره، قطعوا الزيتون لكنهم نسوا أن له مد، هم يقطعون الشجرة لكن ما بقدروا يقطعوا مد الزيتون”.

قبل اعتقالنا بيوم اختبأنا بمبنى قيد الإنشاء، وقد دخلت الشرطة الإسرائيلية لتفتش عنا ولم تجدنا، وقد كنا مختبئين بالطابق الثاني، وكنت كل يوم أتسلق على شجرة للاستطلاع، وتفاجأت من حجم التحركات والتفتيش عنا، وإغلاق الأماكن لم يكن طبيعياً وبحجم التحركات والوسائل التي استعملتها الشرطة الإسرائيلية لم أتوقع أن نصمد بالخارج 6 أيام دون اعتقالنا، علما أنهم وصلوا بمقربتنا عدة مرات ولم يعثروا علينا.

كان معنا أجهزة راديو وقد علمنا من الأخبار أنه تم اعتقال محمود ويعقوب، ولكننا لم نخف، حتى وأننا بينهم ويحاصروننا لم نخف، فنحن طلاب حرية ليس إلا. ذهبنا لاستكشاف ما حولنا فرأينا أرضاً بها خروب فأكلنا منه، وبالصدفة مر شخصان بـ “تراكتورون” نزل أحدهم وأعطانا زجاجة ماء وبعد أن ذهبوا حاولنا الركض لأننا شعرنا بأنهم سيبلغون عنا، اختبأنا حوالي ساعتين تحت شجرة وكانت سيارات الشرطة تمر من جانبنا وتذهب، بعدها رآنا شخصاً كان برفقة طفلة صغيرة فتحدث معه محمد وأنا جلست وسلمت على الطفلة، ولكن للأسف بعد دقائق رأينا طائرات الهيلوكوبتر وقوات كبيرة من الشرطة فدخلنا تحت سيارة كبيرة. كان محمد يضع على رأسه حجراً كحماية وبعد مرور حوالي 3-4 ساعات تعب محمد من الحجر، ما اضطره للتخلص منه وعندما رماه رآه أحد الجنود وتم اعتقالنا، بالقرب من قرية أم الغنم في منطقة الجليل الأسفل بتاريخ 11 أيلول من العام الماضي.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

الاستعمار البديل لفلسطين: 1917-1939

استهلال يعني مفهوم “الاستعمار البديل” أو “الاستعمار بالوكالة” استخدام القوى الاستعمارية لأطراف أو جماعات محلية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *