نقش زكور

رؤية نقدية لمنهج علم الآثار-القسم الثالث

تناول قُرّاء النّصوص الأثريّة القديمة على أنها نصوصاً نثريّة، وما سأعرض في هذه الدراسة من نصوصٍ قديمةٍ، هو فقط لأجل إظهار العلاقة العدديّة العروضيّة، التي يتميّز بها الشّعر العربيُ، و يطابق عدد حروف الأبيات في القصيدة في حال كتابتها عروضياً، و هذه الخاصيّة ما تميّز النٌصوص الأثريّة القديمة، وبدايةً أعرض أبياتاً من معلقة عمرو بن كلثوم، أضعها في هذا الجدول  :

أبيات من قصيدة عمرو بن كلثوم

وهكذا نجد أنّ عدد حروف الأبيات الشّعرية متساوية، وكل بحر له عدد حروف محدد، فالمديد والوافر والسريع والخفيف عدد حروف كل بيت منها تسعة عشر حرفا، والكامل و الرجز عدد حروف البيت فيها إحدى و عشرين حرفا، و هكذا بقيّة بحور الشّعر، لكل منها عدد حروف محدد حتى في حالات المجزوء و المشطور – في حال كتابتها العروضية فقط.

 وهذه حالة تنطبق على النّصوص القديمة في مناطق مختلفة، أُقدّم أدناه أمثلة عنها من ايطاليا و الجزائر و تركيا وسوريا ولبنان ((للاطلاع  فقط، ولا يحتاج القارئ إلا لمعرفتها حسابيا ))’ :

1- نقش “بيرجي” من غرب إيطاليا 700 ق.م :

ملاحظة : إشارات الاستفهام الموجودة في نهاية السطر7 وبداية السطر 8، وضعتها كناية عن إشارة مدوّنه في نصّ السبيكة الذهبيّة الأثريّة تشبه الرقم 3 بالأرقام اللاتينيّة، “ثلاثة خطوط متعامدة، كما أنه كتب على ثلاث أوراق ذهبيّة”، وهذا النّص يحقّق خاصيّة العلاقة العدديّة – العروضيّة في الشّعر العربي، كما الأمثلة الأخرى المذكورة أدناه :

نقش “بيرجي” من غرب إيطاليا 700 ق.م

“لاحظ حروف القافية : تبْرِيَا، مقْبرا، يسْريا على وزن فاعلن”، كما نجد هذه الحالة تنطبق على النّص اللّاحق و باقي النّصوص، أي أنّ الأحرف السّاكنة متعامدة، وهذا يرجع بنا إلى الجزء الأوّل من هذه الدٌراسة، وذلك عند الحديث عن ” أن النّصوص الأثرية أهملت نهائيا تدوين حركات المدٌ القصيرة -الفتحة و الضمة و السكون”، وهذه ظاهرة صحيحة تماما، و لكنها لا تعطي للقارئ حقا بأن يرى ويضع ما يشاء من حركات، لأن اختلاف الحركة يؤدي إلى اختلافٍ في المعنى، وكتبنا العربية اليوم تهمل هذه الحركات ونقرأها بسهولة، وهنا تكمن أهمية الشعر الذي يحدد الحرف الساكن من المتحرك، ويحدّد لنا مثلا معنى (ا ن ك م ش ع ب)، وذلك من خلال تحديد الساكن ، ومن المعروف أن نهاية الكلمات ساكنة، فإن كان حرف الميم متحركا، عندها تصحّ قراءة إسرائيل ولفنسون حين قرأها: “انك مشع” ، و إن كانت الميم ساكنة فإن القراءة الصحيحة هي : انكم شعب، و هناك ما لا يحصى من كلمات ، تم قراءتها على غير مقاصد النص لهذا السّبب، و سأذكر أمثلة عنها، عندما أتحدث عن خاصيّة الجناس، كميزة وهي خاصيّة يتمتع بها النّص الأثري، كظاهرة أخرى تطابق مميزات القصيدة الجاهلية كما يتميز بها النّص الأثري.

2- شاهدة قبر بونيقي من الجزائر:

شاهدة قبر بونيقي من الجزائر

3- نقش زنجرلي جنوب تركيا :

نقش زنجرلي جنوب تركيا

هذا التساوي في عدد حروف الأبيات، يدل ببساطة على أنه منظومة عدديّة، و النظم ضد النّثر، إلّا أن تجربتي مع من ينكرون بلا أدنى منطق على طريقة الحزب الإسرائيلي “كاخ”، والتي تعني بالمحكيّة “هيكا”، أي أنه لا يحتاج الى سبب، سأحاول أن أبيّن بطريقة مبسّطة قانون علم الاحتمال، لأُجيب عن سؤال :

ما هو عدد الاحتمالات لأن تتكرر حروف “ه‍ ا ب ي ت” لمرة واحده و احتمال تكرارها مرتين على هذا التّرتيب في جدول النقش السًابق ؟

لنبدّل دواليب اليانصيب، ونضع حروف الأبجدية القديمة “22 حرف” بدل الأرقام من “0 – 9 “، يكون احتمال أن يكون الحرف ه‍ (هو الحرف التاسع في النّص)، في حالة تدوير الدولاب هو : 22/1، و هكذا احتمال أن يقف الدولاب على حرف ا/ب/ي/ت، أما احتمال أن يعطينا كافة هذه الحروف مجتمعة معا فهو : 22 مرفوعة للقوة 5، أي : 22×22×22×22×22= الاحتمال هو 1 من 5 ملايين أن تتكرر هذه الحروف لمرة واحدة في بيت واحد، فما هو احتمال تكرارها خمس مرات؟

الإجابة الرياضيّة : إنه الاحتمال القريب من المستحيل، و من يريد أن يحاجج، عليه الإجابة بالأرقام في هذه الحالة، وهناك من سينكرون، وفي هذه الحالة، أقدم اعتذاري لهؤلاء ولا احترم الرأي الآخر في حالة كهذه، و لست مستعداً “لأخض الماء وهو ماء”، – هذا المثل الشعبي يعني أن الماء ليس كاللبن عند خضّة يعطينا الزبدة، و زبدة الكلام ، فأني حاولت مع بعض هؤلاء “الأكاديميين”، الذين اتهموني بأني أبني فكرتي هذه على الأيديولوجيا !!! ، وسأكتفي بتطبيق هذا الاحتمال على هذا النص فقط، علما بأن هناك عشرات النّصوص التي تتميّز بهذه الخصوصيِّة، وهذا النّظم العدديّ ما كان ليحدث إلّا في حالة التُدوين العروضي، و ذلك يعني : أن اللّغات القديمة لا تسمح بإضافة أو حذف حرفا واحدا منها وإليها، وتنفي صحة كافة قواعد ذلك المنهج الذي ذكرته في الجزيرة الأول والثاني من هذه الدّراسة.

الملاحظة الهامة جدا في هذا النّص هي الكلمة الأخيرة الواردة في نهاية البيت الرابع : بَ نَ يْ تُ، و يمكن مراجعة الجزء الثاني حول كلمة ب ن ت ي التي طبًق عليها قاعدة القلب المكاني و التي تكررت ثمان مرات في نقش مشع، و قلت أنها ابنتي و لا يجوز قلبها، وها هي تظهر هنا في النص على حالها و كما نردّدها اليوم .

4- نقش أفس زكور، سوريا ،حماة، 775 ق.م :

نقش أفس زكور، سوريا ،حماة، 775 ق.م

(البحر المتقارب : فعولن فعولن فعولن فعولن)، هناك ملاحظات كثيرة جدا ناتجة عن قراءة النص شعريا، تختلف تماما عن قراءته النّثرية – ليست الآن موضوع الدراسة- وأشير إليها لأهميتها الكبيرة، وهي أنّه تم تقسيم الحروف إلى الكلمتين : ” م ل ك . أَرم”، و لكن القراءة الشعرية، تُظهر أنّ حرف الميم هو حرف روي في البيت السّادس، و بداية البيت السّابع هو “ل ك”، كما أن كلمة أرم، حسب التفعيلة فعولن، فيها حرف الألف ساكن، وحرف الألف ساكنا، و تصبح “لِ كَ اْ رِمْ” لِ كارم”، لأنها على  وزن فعولن، وهذه الحالة تكرٌرت كثيرا في معظم النّصوص، فإنّ وجود حروف م ل ك ليست دائما الملك، كما هي في مطلع كلامو برحيا أو كما في النص الأثري “يحيملك” حيث ترد هذه الحروف “ي ح م ل ك م ل ك ج ب ل”، فتم اعتبارها ثلاث كلمات “يحيملك، ملك جبيل ” تم إضافة حرف الياء واعتبرت اسم الملك ، بينما هي : “يَحْمٍ لَكْ مُلك الجبل”، ورغم أنها وردت مرّتين متتاليتين، فإن كلاهما لا تعني الملك، مرة جاءت منقسمة بين كلمتين : يحم لك، والثانية ميمها مضمومة ولامها ساكنة، مُلْك من المُلكية.

5- نقش شفاط بعل الأول، لبنان :

نقش شفاط بعل الأول

6- نقش “كيلاموبرحيا”، زنجرلي – تركيا، 825 ق.م :

نقش “كيلاموبرحيا”، زنجرلي – تركيا، 825 ق.م

إن هذا النّص الأخير هو نموذج عن نصوص أثريّة كثيرة جدا، تتميّز بظاهرة تكرار عدة حروف وتشكل حروف القافية، وما هذا التطابق بينها إلا أحد خصائص الشعر المعروفة والتي يطلق عليها : الجناس، ويكون عادة تاما أو ناقصا، و ليس هناك في تراثنا مثالا أجمل من اغنية الفنان وديع الصّافي :

جبلنا بدمنا ترابو جبلنا / مهما الدهر غضبا توجب لنا/ رح نبقى هون ما منترك جبلنا/ تراب الأرز اغلى من الدهب .

ولأن اللّغات المحكيّة أواخرها ساكنة، فإن كلمة “جبل” أو “حرم”، هي  بذات الوقت اسما وفعلا، ونقول : حرم ابنه من الميراث، وأيضا : حرم الجامعة، وهذه السٌمة تُغني الشّعر المحكي جمالا، وهو نمط شائع جدا، وفي هذه الاغنية، كان الجناس تاما بين جبلنا بدمنا (وهنا فعل)، و ما منترك جبلنا (اسم)، و هو ناقص في كلمة (جَبِ لْنا – جاب و احضر لنا)، ونقوش لبنان الأثرية غزيرة جدا بهذا النمط، مثل نقش شفاط بعل (وهو اسم خاطئ للنص)، ونقش ايلي بعل واشمن عزر وأحيرام ونقش تبنت*.

وأطلق عليه اسم شافاط بعل، وفق قاعدة التّصويت، فقد ورد في النص : س ف ط/ ب ع ل، و تمّ اضافة حرفي الف، و هذه الكلمة (سفط)، تتكرر في نصوص كثيرة، حتى أنها تتكرّر في نص من ليبيا – المسمى خطأ ايضا – ” ماسينيسا”، سأتناول هذا النّص في الدراسة الأخيرة في الجزء الرابع، وسفط هي كلمة معروفة ومستخدمة و نقول :”فلان سفط حقو” : أي أنه اسقط و سامح، و كما يقول الباحث فرج الله صالح ديب، أنها تعني الهدية : سفط شوكولاته أو سفط راحه، و هنا معنى ذلك بعل : سامح و غفر.

و نلاحظ هنا في النص الأخير أن مطلع النّص : ا ن ك “ك ل م و ب ر ح ي” م ل ك، فقد تمُ تصويت الحروف واصبح ك ي ل ا م و ب ر ح ي ا، و هو اسم الملك، ألا أنٌ النّص ينتهي عند حرف الميم، والميم ليس متصلا مع حروف “ل، ك” وليس هناك كلمة ملك أيضا ولا اسم علم، و المطلع هو : ا ن ك، ك، لُم، و، بْ، رحيم ، و لأن المحكية تهمل لفظ الهمزة، فإنني أدونها فقط لبيان المعنى، إنك ، كَ، ل ء م، و، ء ب، رحيم، ولا تحتاج إلى أي تفسير، و هي انك (التّوجُّه إلى الإله بالدعاء)، الكاف : للتشبيه، ل ء م : الأم و لأنها كتبت عروضيا فلا تُكتب الف  أل التعريف، والواو حرف عطف، ء ب :أب، رحيم !!!!- و اسف للشرح – . و هذه العبارة قريبة من دعاء شعبي نعرفه جميعا أكتبه كما يُلفظ : (ي ر ب ن ت ح ن م ل م و ل ب)، و بنفس الطريقة السابقة : يا رب انت احن من الأم و الأب.. أما عن العبارات المكرًرة التي عمل الباحثون على تفسيرها و-ترجمتها- بشكل آلي و كانت تحمل جميعها معنى واحد، وأحيانا (يخترعون معان ليس لها دليل)، فهنا عبارة  (و ب ل ف ع ل)، و. بلفعل “بالفعل”، وتكتب كما تلفظ بدون الف أل التعريف، و تكون أحيانا : بلف عل، بألفِ علةٍ، كما في البيت الثاني :

ف ع ل ك ن، ب، م، ه، ب ل ف ، عل : (( اعمالكم ب الأم هي بألف علة))، و عند الإله بعل، تحسب أعمالكم مع الأم بألف، مقارنة بالفعل ذاته مع الأخرين، وتكون أحيانا بمعنى : وبَل فَعَل، وبالاً فعل ، الفعل متأخر و هي: فعل وبالاً.

…..

* يمكننا التوسع أكثر، والقول بأن منهج النقد النصي يلقي المزيد من الضوء على الجوانب المختلفة للتقاليد الكتابية وأصل النصوص اليهوذية وطبيعة العلاقات بين سكان “الهضاب” و”المنخفضات” الفلسطينية في فترة تدوين النص الكتابي، فيرى كمل الصليبي -على سبيل المثال- أن كلمة “يهود” متأخرة نسبياً في ظهورها وتداولها -ربما يتفق هنا مع تومسون الذي أرجعها لفترة الاحتلال الفارسي لفلسطين دون أن يشير إلى ذلك-، كما اعتقد د. أحمد داود وغيره أن الإسرائيليين هم جماعة مختلفة عن اليهود (راجع بهذا الشأن كتابه العرب والساميون واليهود). ويرى الصليبي أن الكلمة بدأت كصفة تشير إلى سكان المنخفضات ثم صارت تستخدم كاسم ( انظر سفر الملوك الأول 28/20 فيما يتعلق بقصص إيليا و آخاب “28 فَتَقَدَّمَ رَجُلُ اللهِ وَكَلَّمَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ الأَرَامِيِّينَ قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ إِنَّمَا هُوَ إِلهُ جِبَال وَلَيْسَ هُوَ إِلهَ أَوْدِيَةٍ، أَدْفَعُ كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ الْعَظِيمِ لِيَدِكَ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ».. وفي أماكن أخرى من سفر الملوك الأول حيث يدور الحديث عن آخاب الآثم بسبب زواجه من إيزابيل، بنت ملك الصيدونيين، كما “عمل آخاب الشر في عين الرب” حين بنى معبداً لبعل إله إيزابيل، وهو ما يزيد من غضب النبي إيليا فيخوض صراعاً مع آخاب وأنبياء بعل وعددهم نحو 450 نبياً، فضلاً عن 400 نبياً من أتباع عشتاروت، وانتهت المعركة بأن قتلهم إيليا جميعاً، ويظهر بعل بشكل واضح وكثيف في القسم الذي يتحدث فيه السفر عن إيليا.. إن ذكر المناطق المنخفضة والأودية كمكان سكن لإله إيليا، مقابل رؤوس الجبال التي هي مقر بعل تؤكدها بعض النصوص الأثرية المكتشفة في لبنان حيث تنتهي جميعها بعبارة مشتركة هي (س ن ت و . ب ع ل . ع ل ج ب ل) أي أن شريعة بعل أن يسكن الجبال.، كيف لا وهو إله الرعد والمطر ، والجبال هي أكثر الاماكن هطولاً.. (و من الجدير ذكرة هنا أن نتذكر أن السوريون القدماء وضعوا مقام آلهتهم على قمة الجبل الأقرع “جبل كاسيوس”.. وقلّدهم الإغريق لاحقاً بجعل قمة جبل أولمبوس في أثينا مقراً للبانثيون الإلهي). من ناحية أخرى هناك أدلّة أثرية من العهد القديم تُجمع على أن معنى يهود هم سكان المناطق المنخفضة، أما إيل الذي يرتبط ببني إسرائيل.. ويعقوب كما تدعي التوراة فإنه سكن (قمة جبال بيتين.. التي دعيت بيت إيل).. وإذن لا توجد علاقة جغرافية بين آخاب ساكن المناطق المنخفضة بني اسرائيل … و هنا لن أذهب بربط أحداث سفر الملوك حول إيليا ، وسورة الصافات التي تذكر في الآية 125 : { أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين اللّه ربكم ورب آبائكم الأولين}، ويأتي الذكر على “الياس” ثم بعد عدة آيات ( الآية 130) نجد: ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) فقرأته عامة قرّاء مكة والبصرة والكوفة: ( سَلامُ عَلى إلْياسِينَ ) بكسر الألف من إلياسين ، فكان بعضهم يقول: هو اسم إلياس، ويقول: إنه كان يُسمى باسمين: إلياس، وإليا سين مثل إبراهيم، وإبراهام; ولعل هذه الآيات صدىً للقصة التوراتية التي تتحدث عن صراع إيل وبعل ( وهي على ما يبدو القصة ذاتها التي عثر عليها في أوغاريت والمعروفة باسم ملحمة بعل)….

عن خالد أيوب

كاتب ومؤرخ فلسطيني

شاهد أيضاً

شذرات من الذاكرة (1): صبرا وشاتيلا

رائحة الموت ما زالت ترافقني ما بين نهاية آب\ أغسطس ومنتصف أيلول\ سبتمبر (من العام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *