عد أن اختلط الحابل بالنابل بسبب ‘‘السوشيال ميديا‘‘ التي أتاحت لكل من يرتاد هذه المواقع، الإدلاء بدلوه في معظم حقول المعرفة من الفلسفة إلى الأدب مروراً باستخدام المصطلحات التي مازالت في طور النقاش حتى بالنسبة للمختصين في هذه الحقول، ولأن أحد هؤلاء أدلى بدلوه وقال رأيه بالشعر الجاهلي بادئا بمعلقة ‘‘امرؤ القيس‘‘ ، وكان ذلك أقرب إلى التهريج والسخرية منه إلى قول رأي رصين، وأظن أنه كان يرغب في معرفة ردود أفعال متابعي صفحته على آرائه التي يعتبرها ‘‘جديدة ومختلفة‘‘ عن السائد والمتعارف عليه، دون أن يتعب نفسه بالاطلاع على بعض المعلومات الأولية والأساسية فيما يتعلق بالعصر والبيئة الجغرافية والاجتماعية وكيف نشأ هذا الشعر وتطور حتى وصل إلينا بكمال صورته التي نعرفها. هذا هو الدافع الأول لكتابة هذه الدراسة، أما الدافع الثاني فهو حماسي للعودة إلى الشعر الجاهلي وتناول موضوع ‘‘الغزل‘‘ الذي أراه يحتاز مساحة كبيرة منه، وكيف تطور شكلا ومضمونا في العصر الأموي بشقه ‘‘العذري‘‘ ، ولسوف أعرّج على كيفية تناول أحد أهم الشعراء المعاصرين هذا الموضوع محمود درويش من خلال ديوانه المكرس لموضوع الحب ‘‘سرير الغريبة‘‘ وليس الغزل باعتبار الأخير يأتي في بنية الحب والقصيدة المكرسة له، وهو موضوع قائم بذاته وليس مدخلا إلى مواضيع أخرى ولا ذريعة له سوى البوح به كمسألة وجودية حاسمة. ولا تدّعي هذه الدراسة الإلمام بشمولية الموضوع، فهو بحث متشعب وطويل وغزير الإنتاج، ولكنها دراسة انتقائية لإضاءة بعض ما استغلق على الشخص الذي أراد – بنية حسنة ربما – أن ينظّر في حقل من المعرفة لا يملك أدواتها ولا وجهة نظر محددة قارّة في ذهنه اتجاهها . أما لماذا اخترت كتابة ‘‘ما قبل الإسلام‘‘ بدلا من ‘‘العصر الجاهلي‘‘، ذلك لأنني أردت تنسيب الشعر إلى تموضعه التاريخي، وليس إلى دينه الوثني، الأمر الذي ينسحب على جزئية واحدة في حياة وثقافة تلك الجماعة، ولست أدري لماذا أراد المؤرخون انتزاع كل قيم وصفات ومقومات تلك الحقبة، ولصق صفة ‘‘الجاهلية‘‘ وحدها بها، الأمر الذي أرى فيه حيفاً كبيراً، فضلاً عن النقصان.
كثرة الغزل في الشعر ما قبل الإسلام لتكاد تكون الأغراض الأخرى تنطوي عليه أو تتخفى طيه أو تتصل به، أو تكون ذريعة له، وهذا دليل أول على أصالته ورسوخه في المجتمع كقيمة عليا وفي المعلقات السبع – التي هي عيون القصائد في ذلك العصر- دليل أكيد وهو نشيد إنشادهم بدليل وصوله إلينا وإنشادنا عبر نماذجه العليا بعد كل تلك القرون، إذ أننا نجد فيه العواطف المشبوبة بكافة حالاتها وأحوالها: السعادة والشقاء، الهجر والوصال، الغربة والاغتراب، الواشين والحاسدين والعذال، إلى كل ما يمكن أن تحس أو تشعر به نفس الشاعر، وأما الأغراض الأخرى فقد كانت تتصل به بسبب أو آخر، ولنا في المقدمات الطللية، والفخر الذي جادت به قريحة الشاعر الفارس ‘‘عنترة‘‘ مثال واضح على أنه لم يكن سوى ذريعة لمخاطبة حبيبته ‘‘عبلة التي فرقت بينهما الفوارق العرقية والطبقية، ولم تشفع له خصاله الأهم: الفروسية وكرم اليد والنفس وغيرها من الصفات التي كان الناس يتغنون بها ، في القبول به زوجا لعبلة، وها هو يطنب في وصف نفسه وليس له سوى هذه الذريعة لكي يظهر من خصاله ما قد يكون خفي منها على حبيبته خذوا هذه الأبيات من معلقته الميمية
1- الميمية :
يا دارَ عبلةَ بالجواء تكلمي / وعمي صباحا دارَ عبلةَ واسلمي
أثني عليَ بما علمت فإنني / سمح مخالطتي إذا لم أظلم
وإذا ظلمت فإن ظلميَ باسلٌ / مرٌ مذاقته كطعم العلقم
هلاَ سألتِ الخيل يا ابنة مالك / إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني / أغشى الوغى وأعف عند المغنم
2- الفردية (الذاتية)
والصفة الثانية الطاغية هي ‘‘ الفردية‘‘ التي حفظت لنا وجيب قلوب الشعراء ، وذوب أرواحهم في حبيباتهم المقيمات، والراحلات، وعنترة إذ يفتتح معلقته الميمية سابقة الذكر بحرف النداء اللين ‘‘ياء‘‘ ويركبه ليعلن أمنيته بسلامة دار عبلة والسلام عليها، وليس كمثل النداء بحرف ‘‘الياء‘‘ ما يختزن الشوق ولوعة العاطفة المفتقدة للحبيب، وما نقرأه من افتخار بالنفس ومديح لها، ليس إلا من أجل أن يذكّر عبلة حبيبته بصفاته ومناقبه، أو يعرّفها على ما خفي منها عليها، تذكرة لها بحبهما غير المقبول من أبيها ومن القبيلة .
3- وإذا كان النقاد القدماء ‘‘ابن قتيبة، ابن رشيق ‘‘ على سبيل المثال، قد جعلا من الشاعر ‘‘بوقا‘‘ للقبيلة، في حفظ غزواتها وحروبها، وائتلافها واختلافها، وهجائها ومدحها فهي حفظت أيضا طريقة حياتها في حلّها وترحالها، وحفظت أسماء حبيبات الشعراء، والعواطف، الحسية منها والجوانية، ومآلاتها ودقة وصف المعاناة التي كابدها الشاعر في سيرورة العلاقة بينهما، وإلى هذا حفظوا لنا الأماكن بأسمائها، وكتبوا أجمل الشعر في مقدماتهم الطللية التي تفضي إلى الغزل بصاحبة الدار وما كان لهما من ذكريات، وهاكم نموذجا من شعر الملك الضليل ‘‘امرؤ القيس:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي / وهل يِنعمَن من كان في العُصُر الخالي
وهل ينعمن إلا سعيد مخّلدٌ / قليلُ الهموم ما يبيت بأوجالِ
ديارٌ لسلمى عافيات بذي الخال / ألحّ عليها كلُ أسحمَ هطّال
وتحسب سلمى لاتزال كعهدنا / بوادي الخزامى أو على رأس أو عال
ويمضي الشاعر في وصف ليلة من ليالي لهوه – بعد أن رحلت سلمى عن الدار- بتفاصيل حسية لجسدها ولما كان منهما في تلك الليلة العامرة :
ويا ربّ يوم قد لهوت وليلة / بآنسة كأنها خطُ تمثال
يضيئ الفَراش وجهُها لضجيعها / كمصابيح زيت في قناديل ذُباّل
كأنّ على لبّاتها جمرَ مصطل / أصاب غضىً جَزلا وكفّ بأجزال
إذا ما الضيع ابتزّها من ثيابها / تميل عليه هونة غير مجبال
ومثلك بيضاء َ العوارض طَفلةٍ / لعوب ٍتنسّيني إذا قمت سِربالي
نظرت إليها والنجوم كأنها / مصابيح رهبان تُشَبُ لقفّال
سموت إليها بعدما نام أهلها / سموّ حَباب الماء حالا على حال
والقصيدة حكاية طويلة بينه وبين آنسته اللاهية فمن شاء أن يعرف تفاصيلها ونهايتها فليرجع إلى ديوانه، ولسوف يفاجأ بقصيدة اتصفت بـ ‘‘الوحدة العضوية‘‘ بين جميع أقسامها، وهي من أجمل ما مادّون في الشعر الجاهلي، بكثافة التصوير الحسي، والمجاز المرسل، وغنى الموسيقى. وإذا كان الشعر هذا قد عاش لقرون، ولسوف يعيش قرونا أخرى لأنه يحمل شروطه القوية كونه خزين لذاكرة ذلك العصر، وكما نجد فيه تصويرا للحياة وأنماطها، وسجّل القبيلة في مآثرها ووقائعها وعواطفها، فهو أيضا كان شعر الحب والعاطفة الفردية الذاتية ومعبّراً فذاً عن وجوده النفسي وتحولاتها وصراعاتها، وإليك مثالاً آخراً لامرؤ القيس، لكنه عاطفياً هذه المرة، يكتب عن حبه، وليس عن مغامرة وعلاقة لهو هذه المرة من معلقته اللامية :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل / بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ترى بعر الآرام في عرصاتها / وقيعانها كأنه حبّ فلفل
كأني غداة البين لما تحمّلوا / لدى سمرات الحيّ ناقفُ حنظل
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم / يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
وليس في هذه العجالة متسع للاستفاضة في الحديث عن جماليات القصيدة ما قبل الإسلام كبنية ومجاز وموسيقى وإزاحة، فهذا يتطلب دراسة طويلة مفردة، وصدق التعبير ودقة الوصف، والإتيان بالملائم من الاستعارة والمجاز، وحتى بالفكرة الجديدة والنظرة الفلسفية في وصف حالة اليأس كسلوى، بدلاً عن أمل سراب يورث الإحباط والاكتئاب :
ويئست مما قد شغفت به / منها .. ولا يسليك كاليأس
ولكن الانطباع الذي نخرج به بعد أن نتعرف ألفاظهم ومعانيهم، هو تجلّي شعرهم عن عاطفة فياضة جليلة قوية وبخاصة في مقدماتهم الطللية – التي سأعتبرها بمثابة الحركة الأولى في السمفونية – ومعان رقيقة شفيفة، وطبع شعري سلس لا صنعة فيه ولا تكلّف، بدليل تأثيره فينا بعد هذه القرون المديدة، والأبعاد الحضارية التي تفصل بيننا وبينه، وهو على الرغم من إغراقه في ‘‘محلّيته‘‘ عبر ذكره لأسماء الأمكنة والطقوس الاجتماعية، والحديث عن المناخ والجغرافيا في إهابه الخارجي، لكنه إنساني في دواخله يتجاوز المحلية الضيقة، ويتسع ليخاطب الإنسان الغريب، والمنفي، وآلام الفراق عن الأحبة والحبيبة، والشعرية التي تتجلى في تلك المقدمات ‘‘شعرية المكان‘‘ / الفضاء المتعالق بالحنين، ويناعة الشباب، بالمنازل والديار، ذاك المكان بوصفه مكاناً ‘‘شعرياً‘‘ نفسياً وتخييلياً، يختزن البعد الشعري في دلالات المكان عبر أسمائه المنطوقة، وبوصفه خزاناً شعرياً ثرياً يرفده الخيال والرمز والإيحاء، وحين يكتب الشاعر شعراً في المكان، فهو يحيله إلى من عمّره، وسكنه، وهو بهذا يكون أيضاً مصدراً للمعرفة من حيث تكاملها في اكتشاف المكان والإنسان نفسه عبر تساؤلاته الوجودية عن الحياة والأوطان، عن الرحيل والترحال، عن الموت المعنوي والمادي في الغربة، ولنا في معلقة طرفة بن العبد الدالية هذه الأبيات الخالدة:
لبرقة أطلال ٌببرقة ثهمد / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفا بها صحبي علّي مطيّهم / يقولون لا تهلك أسى وتجلد
أرى جثوتين من تراب عليهما / صفائح صمٌ من صفيح منضّد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي / عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة / وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى/ لكالطول المرخى وثنياه باليد
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة / على المرء من وقع الحسام المهند
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى / بعيدا غدا، ما أقرب اليوم من غد
نقرأ في الأبيات أعلاه فلسفة بالحياة والشاعر يتحدث عن الموت وهو مازال في ميعة الشباب وذروته لأنه قتل وهو في العشرين من عمره، ولنتذكر أن للشاعر الكبير محمود درويش قصيدة عنوانها ‘‘كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهلي‘‘ .
الغزل في العصر الأموي:
يقسم الدكتور شكري فيصل في كتابه ‘‘ تطور الغزل‘‘ الشعر الغزلي في العصر الأموي إلى ثلاثة أقسام: الشعر العمري، والشعر العذري، والشعر التقليدي، ويقدم لنا نماذج من كل قسم بعد أن يفند خصائصه ويبين أهم ما يتميز به غزل كل منها، ويعنيني هنا أن أسجل اختلاف ذائقتي وفكري عن أستاذي الدكتور شكري الفيصل فيما ذهب إليه في تفسير الانعطافة التاريخية بموت الصحابي الجليل عمر بن الخطاب ومصادفة ولادة عمر بن أبي ربيعة في اليوم ذاته كما جاء في الرواية التاريخية، وابتداء حقبة تاريخية جديدة انقلبت فيها الحياة من بعد فقر وتقشف إلى غنى وترف ولهو في ذروة الفتوحات الإسلامية، واختلاط الشعوب والحضارات، وتأثير ذلك كله على النخبة من القوم، ونخبة النخبة وهم ‘‘الشعراء‘‘، وهذا بدهي في سلّم تطور الحضارات ولا يسلم منه إلا المتحجر الذي يؤثر الخروج من الزمان ، ويضفي القداسة على الماضي ورجاله ورموزه ويبقى سجين كل ذاك. ولأن الشعر ‘‘مرآة عصره‘‘، وكما شعراء ما قبل الإسلام حفظوا لنا تاريخ الحياة بمن وما فيها، كذلك شعر ‘‘عمر بن أبي ربيعة‘‘ يصلح أن يكون نموذجا لتلك الحياة الغنية المرفهة اللاهية بعد أن استتب لها الأمر على أيدي الأمويين. والدكتور شكري فيصل يلبس الشاعر لبوساً عابثاً لاهياً فاسقاً – إن جاز التعبير- ويرد ذلك إلى حياة الترف التي شبّ عليها، وأنسته ‘‘دينه وإيمانه‘‘، وجعلته يهوي مهاوي الفساد، ويستشهد بشعره الذي يزعم أنه ‘‘يهتك الأعراض‘‘، ولست أدري كيف لم يلتفت إلى الشعر كغاية عليا يتوق الشاعر إلى امتلاكه، أي الشعر، بصرف النظر عما هو خارج عنه كما فعل عمر بن أبي ربيعة، ويقيم المقارنة بين الغزل العذري ونموذجه ‘‘جميل بثينة‘‘، والغزل العمري نسبة إلى شاعره، ويطلق أحكام قيمة على كل منهما، مسقطا من حسابه شروط الشعر كجنس أدبي يعبر الأزمان إن تحققت شروطه الفنية، إليكم مثالاً: (من الواضح أننا أمام نموذجين مختلفين متباينين أقوى التباين .. كلاهما من الحجاز وكلاهما من قريش، غير أن أحدهما كان هناك يملأ الجانب الجاد من الحياة والحيّز القاسي الذي لا يعرف غير الواجب.. ولا يدرك غير المصلحة العامة، ولا يأبه لغير الصوت النقيّ الطاهر الذي ينبعث من ضميره النقي الطاهر.. والآخر كان هنا، يملأ الجانب المرح من الحياة والحيّز الهين منها، يعرف الواجب ولكنه يكله إلى غيره، ويتمثل المصلحة العامة، ولكنه يُشغل عنها بالاستماع إلى نبضات فؤاده وأهواء قلبه بكل ما يتعاقب على الفؤاد من تقوى وتحرر) . ولست أدري حقا ما الذي دعاه ليصرف صفحات للمقارنة بين عمر بن الخطاب وبين الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي ولد يوم وفاة الأول !
عمر بن أبي ربيعة:
وإذن ولد هذا الفتى المترف الجميل في العصر الذهبي للفتوحات الإسلامية، وعاش حياته منصرفا إلى حياة اللهو، وبحسب الدكتور شكري الفيصل (ليس لها عاصم من عمل يفتأ حدّتها أو علم يغيّر وجهتها ـو تجارة تصرفه عنها) ، ويكفي أن نعود إلى كتاب الأغاني لنقرأ صفحات عن قصصه وأخباره الشهيرة، ومنها على سبيل المثال قصصه الشهيرة أيام الحج وقصائده الغزلية بالنساء المعتمرات حتى لتمنى أن تكون شهور السنة كلها حج واعتمار:
أيها الراكب المجدّ ابتكارا / قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحا سليما / ففؤادي بالحيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا / كل يومين حجة واعتمارا
مما سبق يدفعني إلى الاعتقاد بأنه كان منقطعا إلى الشعر ليس كمصدر رزق، ولكن كهواية واحتراف وكعمل وحيد يعيشه ويتنفسه ويكاد يكون سيرة ذاتية لحياته، لقصص حبه وأهوائه وشغفه بالنساء، حبيبات وعشيقات وصديقات، ولاشك أن الدكتور شكري حاول جهده في إنصافه فنيا وجماليا حين دراسته للقصيدة الرائية الشهيرة التي بلغت ذرى في تمام وكمال القصيدة الكلاسيكية ، وتأهلت لعبور القرون لتصل إلينا في كامل حيويتها طازجة رخية طلية حارة تلامسنا وجدانا وحسا، وهي القصيدة القصصية التشخيصية، ذات الوحدة العضوية التي لا يخفى على دارس تأثره فيها بـ ‘‘لامية امرؤ القيس‘‘ الغنية عن التعريف ومنها الأبيات :
ويوما على ظهر الكثيب تعذّرت /عليّ وآلت حلفة لم تَحلّلِ
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل / وإن كنتِ قد أزمعت صرمي فأجمل
أغرّك مني أنّ حبك قاتلي / وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وإن تك قد ساءتك مني خليقٌة / فسُلّي ثيابي من ثيابك تنسُل
فإلى ‘‘رائية عمر بن أبي ربيعة التي يستهلها :
أمن آل نعمٍ لأنت غاد فمبكر / غداة غد أم رائحٍ فمهجّرُ
القصيدة طويلة وفيها قيل الكثير وسفحت أحبار، وقصص وروايات، وهي الأهم والأجمل ، يتنقل فيها – على طريقة الشعر الجاهلي – إلى وصف الناقة ، وإلى وصف الماء في ثلاثة عشر بيتاً تماماً مثلما فعل الجاهليون، فإذا ما انتهى من ذينك الوصفين كتب عبر مقدمة تصف حالته النفسية ومعاناته في حبه، ثم ينتقل إلى حياته الواقعية ليحكي حكايته كلها مروراً بالحديث عن نفسه، وعنها، وعن قرابتها ومرسال الغرام بينهما، وذلك توطئة لما سوف يحكي ما حدث بينهما في ليلة ‘‘ ذي دوران‘‘ بأسلوب قصصي جميل الإهاب والمضمون، طويل وثري عميق في سبر النفس وما تتحمله، واستبصار أحوال الهوى في قلوب الفتيات المحيطات بعمر، وهذه بعض من الأبيات الانتقائية تثبت ما ورد أعلاه :
وليلة ذي دوران جشّمني السُرى / وقد يجشم الهولَ المحبُ المغَررُ
فبت رقيبا للرفاق على شفًا / أحاذر منهم من يطوف وأنظر
إليهم متى يستمكن النوم منهمُ / ولي مجلس ، لولا اللبانةُ ُ لأوعر
وبتُ أناجي النفسَ أين خباؤها/ وكيف لما آتي من الأمر مصدر
فدّ عليها القلبَ ريّا عرفتها / لها ، وهوى النفس الذي كاد يظهر
فلما فقدتُ الصوت منهم وأطفئت / مصابيح شُبّت بالعشاء وأنوُر
وغاب قمير كنت أهوى غروبه / روّح رعيانٌ ونوّم سمّر
ويمضي في حكاية الحدث بتفاصيله الخارجية والنفسية :
فبتّ قرير العين أُعطيت حاجتي / أقبّل فاها في الخلاء فأكثر
فيالك من ليل تقاصر طوله / وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويمضي في وصف تفاصيل ذلك اللقاء إلى أن ينهي لقاءه ذاك بالرضوخ للحبيبة لفعل التنكر بثياب فتيات يتسلل من بيتها دون فضيحة لها وله، تلك هي الأبيات الآسرة التالية التي غناها بعد قرون وديع الصافي بصوته العذب القوي :
فلما أجزنا ساحة الحيّ قلن لي: / أما تتقي الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا ؟ / أما تستحي ؟ أو ترعوي ؟ أو تفكر
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا / لكي يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر
فّإذا انتقلنا إلى الشق الثاني من الشعر الأموي، الشعر العذري فمثالاه الشاعران: قيس بن الملوح وجميل بن معمر، الأول لقب كما هو معروف بقيس ليلى والثاني بجميل بثينة، ولا أجد أفصح ولا آنق من هذين اللقبين دليلا على الحب ودالاً عليه، فقد كان من أمرهما وأخبارهما ما شاع عبر العصور وما حفظه الخاصة والعامة من أشعارهما ما يغنينا عن الشرح المطول، وإذا كان بعضهم ومنهم الدكتور شكري فيصل أرجعوا الحب العذري – وشعراؤهم من قبيلة بني عذرة – فإن في ذيوع شعرهما ما أضاف إلى النسب ‘‘عذرة‘‘ الكثير من الدلالات، فهو بالكاد تفهمه الأجيال اللاحقة بأنه نسب قَبَلي، لأن المفردة اختزنت في سيرورتها التاريخية معان إضافية أخذت من خصائص الشعر ذاته، إذ حين تقول الشعر العذري تتبدى أمامنا الدلالات التالية: الحب / العاطفة / الحب / العفة / الحب المشبوب الذي لا يصل إلى المحبوبة/ الحب المترحّل دائما / الحب الذي لا يموت ولا تنطفئ جذوته، والدكتور شكري الفيصل يعزو كل هذا إلى الدين الإسلامي الذي استقر في النفوس ووجد في الإجتماع البشري استقرارا بعد طول الفتوحات والغزو وانشغال الناس بتمكين الدين الإسلامي في الداخل والخارج، ومن ثم وجدت العاطفة متسعاً لها أخيراً في التعبير عن وجودها، ولكن بأسلوب مختلف عما كان عليه شعر الحب والغزل في شقه العمري وأيام ما قبل الإسلام، فقد كانت ‘‘الحسيّة‘‘ تطبعهم، أما الشعر العذري فلا نجد سوى العاطفة المكبوتة التي لا تجد متنفسا لها سوى في ‘‘الكتابة‘‘ عنها، أما أن تعيشها، فهذا أمل مرجو تحققه ومؤجل إلى ارتباط الشاعر بالحبيبة برباط الزواج، الرباط الشرعي، وإلى أن يتحقق ذلك، فليس لنا إلا الشعر العاطفي بأجمل صوره، وتلك الجوانية القصية التي تتقراه، وذلك العقل الغائب أو الذائب في تلك العاطفة التي لا سبيل إلى ارتوائها. من جميل بثينة أنتقي :
يقولون مهلا يا جميل، وإنني / لأقسم مالي عن بثينة من مهل
أحِلما ؟ فقبل اليوم كان أوانه / أم اخشى ؟ فقبل اليوم أوعدت بالقتل
ولو تركت عقلي معي ما وعدتها/ ولكن طلابيها لما فات من عقلي
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا / جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما / قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
فإذا عرّجنا على من لقبه ‘‘المجنون‘‘ – مجنون ليلى سنجد تغييبا للعقل أكثر، وعاطفة أكثر ضراوة وفتكا بالجسد والنفس، ومكابدة أشواق، ولوعة فراق، لا شفاء لكل هذا إلا بطلب الموت المريح من تلك العذابات، ولقد رأينا في مسرحية ‘‘مجنون ليلى‘‘ لأمير الشعراء أحمد شوقي، كيف تحرّقت يدا قيس حين ظهرت له ليلى ‘‘ وما شعر ‘‘ من شعره أنتقي :
أَحِنُّ إلَى نَجْدٍ وَإنِّي لآيسٌ طوالَ الليالي مِنْ قُفُولٍ إلى نَجْدِ
وإنْ يكُ لا ليلى ولا نجدَ فاعترفْ بهَجْرٍ إلى يومِ القيامةِ والوعدِ
شعر قيس في ليلى لم ينته إلا بانتهاء حياته، غزير، ثري، فيه من المواجد والعواطف كلها ما يجد ر به بموسوعة تفرد له، لكنني أذكر بالبيتين اللذين يعرفهما القاصي والداني ولا يخلقان على مرّ العصور :
أمرّ على الديار ديار ليلى / أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي / ولكن حب من سكن الديارا
وأختم الشعر العذري بالقصيدة الجميلة الطلية للشاعر العذري الجميل ‘‘«عبدالله بن عبيد الله الخثعمي» الشهير بـ «عبدالله ابن الدمينة» وليس لقيس بن الملوح كما يظن، وقد غنت فيروز وغيرها من المطربين أبيات منها، الدليل القاطع على حداثتها عبورها كل تلك القرون، وهي قصيدة ‘‘ألا يا صبا نجد‘‘ ولن أدخل في تعريف ‘‘ ريح الصبا‘‘ بفتح الصاد فهو بحد ذاته بحث مطول، ولكن القصيدة المعنية لها به وصلا جميلا، وهذه بعض من أبياتها:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدِ لقد زادني مسراك وجدا على وجدِ
رعى الله من نجدٍ أُناسا أحبهم فلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودّي
سقى الله نجدا والمقيم بأرضها سحاب غوادٍ خاليات من الرعد
إذا هتفت ورقاء في رونق الضحى على غصن بانٍ أو غصون من الرند
بكيتُ كما يبكي الوليد ولم اكن جليدا وابديت الذي لم اكن أبدي
إذا وعدتْ زاد الهوى بانتظارها وإن بخلت بالوعد مُتّ على الوعدِ
وقد زعموا ان المحب إذا دنا يُملُ وأن البعد يشفي من الوجد
بكلٍ تداوينا فلم يشف ما بنا على ان قرب الدار خيرٌ من البعد
على ان قرب الدار ليس بنافعٍ إذا كان من تهواهُ ليس بذي ودِ
آمل أن نكون فكرتي قد وصلت للقراء الكرام ألخصها بهذه الكلمات: من الشعر القديم ما يكون في صفاته الفنية وخصائصه الجمالية والفلسفة التي ينطوي عليها والحياة التي ينطوي عليها والفكر الأصيل الذي يحمله، وقوة الصياغة ، ومعمار القصيدة البهي الجليل، ما يؤهله لعبور الزمن، وليست الحداثة سوى سيرورة وصيرورة ذاك القديم بحمل تلك الصفات مع حمولة الحياة التي تطورت وأنتجت قيما جديدة تجلت في اللغة والأساليب والاجتماع الإنساني والثقافة المستجدة والرؤية، وهذا متأصل في كل الأمم، وفي كل الفنون، لكل أمة شعراؤها وموسيقيها ورسّاميها من الماضي البعيد الذين لم تتوقف الدراسات لحياتهم وشعرهم، لنبش مكونات الأصالة التي جعلتهم خالدين .