النَّظرية النسبية ونكبةُ فلسطين سجال آينشتاين وفيليب حِـــتِّي عن الفكرة الصهيونية

هامش أول

الزمانُ بطيءٌ في الوديان وسريعٌ على الذُّرى والقمم، والساعة الرابضة على الحائط أسرع نبضاً من الساعة التي على متن السفن، والضوء ينعطف بالجاذبية وينشدّ صوب الأجرام وكأنه من صنف الحجارة والشهب. والوقت غائرٌ بالمكان والمكان غائرٌ بالوقت، وتضاعيف الأول معقودةٌ بأعطاف الثاني. وإذا كنتَ رهنَ قُمرةٍ بلا نوافذ، فليس بوسعك –ولا بوسع شياطين الأرض كلها التي معك- أن تعرفَ سرعة القُمرة ولا سرعتك، ولا أن تميّز سكونَها عن سريانِها، فكلاهما لحبيسِها سواء.

صاحبُ هذه الأفكار، التي غيّرت مسار الفيزياء وأقلقت راحةَ المنطق وغارَ فيها حدّ العلم بحدّ الشِّعر، هو صديق مخلص لحاييم وايزمان، وأبٌّ روحيّ للجامعة العبرية بالقدس، وواجهة دعائية للحركة الصهيونية، ومرشَّح سابق لرئاسة “إسرائيل”، الفيزيائي الألماني آلبرت هيرمان آينشتاين.

كان قَدَر المجتمع الفلسطيني، على بساطته وقلّة تعداده، أن يستيقظ في صبيحةٍ تاريخية غائمة ليجد نفسه –بالجبر لا بالاختيار- خصماً لأقوى دول العالَم ولبعضٍ من أعتى رموز الدنيا. وعلى مأساوية هذا القدَر فهو يأتي مع شفاعة يتيمة: أنه يشدّ المرء صوب حوافّ قدرته، ويستنهضُ فيه وثبةً غريزية –وبقائية- لردم الفارق، وأنه يجذب نوعاً خاصّاً من البشر لصفّك لأن فارق القوة مُغرٍ بالتحدي لمن لا يَعرفون لأنفسهم قيمةً إلا بالمعارك المستحيلة.

بمثل هذه الروح، وقف رجلٌ عام 1944 داخل مبنى الكونغرس بواشنطن ليقرأ نصّاً أعدّه بعناية، وأمامه –بحسب الوصف الذي وصلنا1– منضدة حُشدت عليها آلاف الرسائل والبرقيات من كل أطراف الولايات المتحدة، كلها (باستثناء عشرة فقط) تقول عكسَ ما يهمّ بقوله. [ يمكن قراءة نص شهادة فيليب حِتّي مترجمةً للعربية بالضغط  من خلال الرابط التاليhttps://metras.co/%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85%d8%a9-%d8%b4%d9%87%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%8a%d8%a8-%d8%ad%d8%aa%d9%80%d9%8a/]

كواليس الحدث

في الثامن من فبراير من ذلك العام، شرَع مجلس النواب الأمريكي بمناقشة قرار مقترَح يحمل الرقم 4182. كان القرار –بكل معنىً عمليّ- نسخة مُأَمْركة من وعد بلفور. نص القرار يقضي “بأن الولايات المتحدة ستُعمِل نفوذَها وستأخذُ من التدابير ما يلزم كي تُفتَح أبواب فلسطين بلا قيدٍ لدخول اليهود، وأن كل فرص الاستيطان3 ستؤمّن لهم بحيث يعيد الشعب اليهودي تأسيس فلسطين دولةً حرةً وديمقراطية.”4. بماذا يختلف هذا القرار عن النسخة البريطانية الشهيرة؟ الواقع أنه يختلف بأمرين تحديداً. والأمران يحكيان –على نحوٍ رمزي لافت- اللمسة الأمريكية في خيال كثيرين منا: الأول هو شطب أي إشارة لحماية حقوق غير اليهود كما وردت في وعد بلفور. والثاني هو تصعيد اللغة والانتقال من إرهاف الصيغة البريطانيّة المشؤومة “تنظر حكومة جلالة الملك بعين العطف..” إلى فجاجة الصيغة الأميركية المباشرة “فتح أبواب الهجرة بلا قيود”.

لفهم القرار ومخاضه، ينبغي التنبّه أنَّ الأمريكيين لم ينتظروا 27 عاماً بعد بلفور حتى يصدروا وثيقة مشابهة، فالرديف الأمريكي الأول لبيان بلفور صدر عام 1922 عبر قرار من الكونغرس يدعم “إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين” مع تأكيد على حماية حقوق “المسيحيين والمجتمعات غير اليهودية”5. ورغم ذلك، فالحركة الصهيونية كانت تريد إعادة إصدار القرار بلغةٍ أعتى عام 1944. لكن ما السبب؟

قبل ذلك التاريخ بخمس سنوات، أي عام 1939، أصدرت المملكة المتحدة “الكتاب الأبيض” الذي حدَّد الخطوط العريضة لسياستها الانتدابية في فلسطين. وكان من بنوده أن تُشرَطَ الهجرة اليهودية لتلك البلاد بموافقة عربية بدءاً من أيار لعام 1944؛6 بعبارة أخرى، لن يدخل مهاجرٌ واحد جديد بعد ذلك التاريخ إلا إذا وافق العرب. ومع دنوّ هذا الاستحقاق، كانت الحركة الصهيونية بحاجةٍ لقرار أمريكي يعطّله (أو يشوّش عليه) ويحافظ على تدفق مفتوح لليهود. هذا هو “جوّ النص” بقدر من الاختصار وهذه هي القصة الكامنة للقرار 418.

كان الأمر أشبه بكرنفال سياسي. لجنة الشؤون الخارجية التأمت لمناقشة القرار برئاسة (سول بلوم)، وهو يهودي من نيويورك. افتتح رئيسُ اللجنة كلامَه بالإشارة إلى موافقة مسبقة على القرار من أركان المربع التشريعيّ: زعيمَيّ الأكثرية والأقلية في مجلس الشيوخ، وزعيمَيّ الأكثرية والأقلية في مجلس النواب، ليتوالى المتحدثون على المنصة لا طلباً لإقرار المقترح وإنما تأكيداً على ضرورة صدوره بالإجماع التام. استمرّ هذا العرس التشريعي –باستعارة المجاز العربيّ المعاصر- من الثامن وحتى السادس عشر من فبراير 1944، وامتدَّ على ثماني جلسات مطولة. لكن سلاسة الحفل تعكّرت في الخامس عشر من فبراير، عندما اعتلى المنصة مؤرخ من جامعة برينستون ليقول شيئاً مختلفاً عن كل من سبقوه. ابن قرية شِمْلان اللبنانية، وأستاذ الدراسات السامية بجامعة برينستون، المؤرخ فيليب حِـــتِّي.

مقدمات المواجهة

كان فيليب حاضراً في ذلك اليوم بوصفه “شاهداً مضاداً” كما يستلزم العُرف البرلماني ومقتضيات “الحوار المتوازن”. ورغم أن شهادته المكتوبة لم تكن الأطول، فإنه مكث على المنصة أكثر من كل سابقيه لا بسبب المقاطعات التي تعرّض لها من اللجنة البرلمانية وحسب، وإنما للتحقيق العدواني المطوّل الذي أخضِع له في أعقابها ووصل لحدود اتهامه بالترويج للنازية. ساعتان إلا ربعاً لم يبقَ بعدها في شهادة حِـــتّي موضعُ شبرٍ إلا وفيه ضربة سيف أو رمية سهم أو طعنة رمح بالتعبير الإسلامي الشهير.

كان المؤرخ، اللبناني الأصل والأمريكي بالتجنّس، استثناءً وسط الحاضرين بحكم جذوره واختصاصه ناهيك عن موقفه. لكنه لم يكتفِ بتموضع مضاد بل عَطَف عليه اختلافاً في معمارية المرافعة. لم يُقدّم حِـــتِّي مداخلة عاطفية كما فعل أكثر سابقيه، بل طرحاً سياسياً وقيمياً لرجل من أبناء المنطقة، وعارفٍ بالمكان وأهله، وملمٍّ بذات الوقت بالتركيبة السياسية الأمريكية. وهكذا، فلم يجد أنصار القرار 418 في النار التي فتحوها على المؤرخ المشرقي ما يكفيهم خلال الجلسات البرلمانية، فأشهَرَ هؤلاء –مجازياً- سلاحاً نووياً بوجهه، وأتَوا -حرفياً- بعرّاب السلاح النووي، آلبرت آينشتاين، ليردّ بنفسه ويفنّد الشهادة.7

على الصفحة الأولى من الجريدة الأسبوعية “برينستون هيرالد”، وبعد شهرين من وقوف حِــتّي أمام الكونغرس الأمريكي، دارت منازلةٌ فكرية بين المؤرخ والفيزيائي. كتب آينشتاين –بالتعاون مع صهيوني آخر- رداً مطولاً على شهادة حِـتّي، ليعود الأخير بعد أسبوع ويردّ على الردّ ، قبل أن يُطوى السجال برسالةٍ أخيرة من صاحب النظرية النسبية.

ما الذي يأتي بفيزيائي متخصص في جاذبية الأجرام وسرعة الضوء ليجادل خبيراً في التاريخ والساميّات عن صَهْينة فلسطين وإقامة دولة يهودية في بلاد الشام؟ ماذا يخبرنا هذا عن طوايا شخصيات كهذه ودوافعها الكامنة، وأي صورة يعطينا عنهما؟ الواقع أنَّ أسئلة كهذه لا تعنينا بشيء هنا. ليس همُّنا إصدارَ شهادة بطولة (ولا رذيلة) لأحد، فأي قيمة لشهادات كهذه؟ ولا همُّنا حفرٌ في الخبايا النفسية للموتى ورسمُ صورٍ شخصية لطواياهم، فتحليل كهذا ليس ممكناً بقناعتنا إلا بالتبصير النفسي وشطحات التخمين. ما يهمنا هو اصطدام الأفكار والمشهد السياسي بوقتها والنمط الكامن وسط السجال، والأهم من ذلك كله: الخيطُ الذي يلتمع أوله عند الرَّجُلين، عام 1944، ونلمح آخرَهُ عندنا اليوم. فراهنية تلك المنازلة تقول كثيراً عن جوهر هذه القضية. وإذا حدَث واقتربنا من الشخصي، فنحن لا نَقربُهُ بُغية إطلاق الأحكام، وإنما لالتقاط السجية الإنسانية في سياقها بوصفها قيمةً يترصدها الدارس، لا بوصفها قرينةَ حُكمٍ بحقّ من ندرس. هذا هامشٌ لازم في زمن كزماننا حيث الولع بالفرديّ المشخصَن كثيراً ما يحجب غابة القضية، والعراك في نقاش الأعلام الراحلين وتقييمهم أخلاقياً أصبح مَعيناً آسِناً لتتفيه نقاشات الفضاء العام وتقزيم المسائل الكبرى.

شهادة فيليب حِـــتِّي

رغم قدومه من مضمار التاريخ، لا يعتمد فيليب حِــتّي على الحجّة التاريخية كثيراً. ويكتفي في مطلع شهادته بإشارة للحضور الكنعاني المبكر وأسبقيته على العبرانيين. ما يحرص على تأكيده هو أن فلسطين أكبر من اعتبارات الخارطة،  وأن خيط الأرض المقدسةِ فيها يتضافر مع نسيج عربي-إسلامي حِيكَ على امتداد قرون. هذا النسيج  الثاوي في المسألة الفلسطينية ركيزةٌ لمجمل مرافعة حِـــتِّي. وقد حاول إفهام اللجنة أنها لا تصوّت على قرار يخص شريط الجغرافيا الضيق بين شرق المتوسط ونهر الأردن، وإنما على قرار يمسّ رقعةً شاسعة أبعدَ من تلك الحدود.

يفتح حِــتّي النار على الصهيونية السياسية منذ جملته الأولى وينعتها “حركة طارئة ممولة دوليّاً“. ويحرص دوماً على تسميتها بذاك التعبير، أي “الصهيونيّة السياسيّة”، فالتمييز بين صهيونيّة ثقافيّة (تريد فلسطين ملجأً لليهود لا دولةً لهم) وأخرى سياسية، كان مسألةً وازنة بوقتها. ورغم ذلك فإن حِتِّي يهاجم الأمرين: الهجرة والدولة، ويصف الهجرة الحاصلة إلى فلسطين بالغزو المكتوم. كل هذا يفعله وسط قاعة تعجّ بأعتى صهاينة الولايات المتحدة، وفي خضم حرب عالمية ومواجهة أمريكية طاحنة مع النازية. هذا -بأقصى اقتصادٍ ممكن بالألفاظ- لم يكن سهلاً، خصوصاً لأكاديمي ترك صومعته العلميّة ليواجه لجنةً سياسيّةً لا يكاد يختلف بعض أعضائها عن الملاكمين ومصارعي الحلبات إلا بربطات العنق.

أكثر ما يعتمده حِــتّي في هجومه هو “تكلّف” الفكرة الصهيونية واصطناعها: أنها مشروع بعكس الطبيعة وبالضد على وقائع الأرض. وبفراسة سابقة على ميلاد “إسرائيل”، يخبر اللجنةَ أن الإرادة الأمريكية-البريطانية قد تَقضي بإنجاح برنامج الصهاينة، لكنه يحذر من التشوه المزمن الذي سينشأ في المنطقة، ومن الحاجة الدائمة حينها للولايات المتحدة للدفاع العسكري عن هذا الكيان المختلَق.

لكن ذروة الشهادة التي يقدّمها مؤرخ برينستون هي في السؤال الذي يطرحه على المشرِّعِين الحاضرين: لماذا يُمنع المهاجرون اليهود من القدوم للولايات المتحدة “دون قيد” ما دام التفجّع لمصابهم عارماً لهذا الحدّ؟ ولماذا لا تمنحهم الولايات المتحدة دولةً في تكساس (أو حتى أريزونا) لتنطبق المقولة الشهيرة حينها بحقّ: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ولعل هذه الفقرة بالتحديد لعبت دوراً أكثر من سواها في الهجوم العارم الذي تعرّض له بُعيد شهادته.

بقية شهادة حِتّي تتعلق بتشريحٍ جراحيّ للألفاظ، فهو يستقصي اللعبة التي تمارسها الحركة الصهيونيّة في القفز بين المفردات واللعب على تخوم مصطلحات “الدولة” و”الوطن” و”الملجأ”، ويسوق جملةَ استشهادات من سلطات الانتداب البريطانية ومن لجان أمريكية وشخصيات صهيونيّة ترى أنَّ فكرةَ “دولة يهودية” ليست ممكنةً في فلسطين دون اعتداءٍ فادحٍ على المجتمع القائم هناك.

آينشتاين وكاهلر

نشرت جريدة (بيرنستون هيرالد) نصّ شهادة فيليب حِـــتِّي أمام لجنة الشؤون الخارجيّة في السابع من نيسان 1944. في الأسبوع التالي، نُشر ردٌّ مشترك لآلبرت آينشتاين وإريك كاهلر. ورغم أن الاسم الثاني تكسفه نجومية الأول ويغيب عن رادار القارئ العربي، فهو ليس شخصية هامشية. أنجَزَ كاهلر، ابن مدينة براغ والصهيوني حتى العظم، أعمالاً عديدة في التاريخ والفلسفة، وكتب نصوصاً مرجعية في الأدبيات الصهيونية منها “اليهود بين الأمم” و”يهود أوروبا” و”ما اليهود؟”. ولعب كاهلر دوراً في التنظير الصهيوني لفكرة “شعب الله المختار” وإعادة إنتاجها سياسياً. وكان حائكاً بارعاً للنقائض، وجُلّ ما كتبه عن الهوية اليهودية يستند لفكرة المفارقات فهو يرى اليهود قبيلةً مفرَدَة تحمل مهمة للبشرية جمعاء، وأن هذه المفارقة هي في جوهر معنى “الاختيار الإلهي” للشعب اليهودي8. ويكاد كاهلر يحوّل “المفارقة” وسيلة إنتاجٍ معرفي في دراسة اليهود. فهو يتناول، مثلا، مفارقة التهمة المزدوجة لليهود، بين كونهم شديدي الانغلاق على أنفسهم وبين تصدّر كثيرٍ منهم لعقائد وأفكار عالمية متجاوزة للحدود (في الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها) ويحيل ذلك للاضطهاد الذي عانى منه اليهودي في تاريخه والذي، بمنعه من الاندماج بمحيطه، لم يترك له مهرباً سوى بهذين الضدين9. ولعل هذا الشغف بالمفارقات هو جانبٌ يتقاطع فيه كاهلر مع صديقه الفيزيائي بالرغم من التفاوت الهائل في مجاليهما.

 يحتاج آينشتاين بالمقابل تعريفاً لكن شيئاً حول نشاطه السياسي المتعلق بفلسطين جدير بالذكر. اقتحم المذكور مسرح العمل الصهيوني عام 1921 بزيارة للولايات المتحدة مع حاييم وايزمان. كانت الزيارة للدعاية السياسية وتشجيع الاستيطان وجمع التبرعات للجامعة العبرية بالقدس. منذ تلك اللحظة، كان آينشتاين بيدقاً في صراع داخل البيت اليهوديّ نفسه؛ بين الصهيونية السياسية المسكونة بفكرة “الدولة” (والمُمثلة بوايزمان) والتيارات الاندماجية الأخرى التي تفضل انخراطاً يهودياً ضمن السياقات الوطنية القائمة ولا تروق لها فكرة كيان سياسيّ بفلسطين (أو سواها)10.

هذا الوزن الدعائي لآينشتاين تشكّل أساساً -إن لم يكن حصراً- بفضل نظريته النسبيّة عام 1915. لا يشهد لهذا الوزن تقرّبُ وايزمان منه وحسب، وإنما الدعوةُ التي وجهها البيتُ الأبيض لآينشتاين كي يزور الرئيسَ الأمريكي بوقتها. ولفهم وطأة النظرية النسبية وجبروتها “السياسي”، فجدير بالذكر أنها (أي النظرية) طُرحت للنقاش في مجلس الشيوخ الأمريكي حيث اقترح أحد الأعضاء إدراج شرحٍ لها في أرشيف المجلس “نظراً للدور التشريعي الذي قد تلعبه في علاقتنا مع الكون”11.

هذه الذخيرة الاعتباريّة لنظرية من علم الطبيعة جُيّرت بالنهاية في سياق مشروعٍ سياسيٍّ بلغ ذروته في الخامس عشر من أيار عام 1948. كان آينشتاين –عبر صفة ثقافية خاصة به- جسرَ الانتقال العجائبي بين هاتين الضفتين؛ بين نظرية مُعقّدة في الفيزياء وكارثة –لا تقل تعقيداً- حلّت بشعبٍ شرقيَّ المتوسط.

زار آينشتاين فلسطين مرة واحدة عام 1923 في رحلةٍ دامت أسبوعاً ونَظّم لها قياديٌّ صهيونيّ يُدعى آرثر روبين12. من هناك، ومن داخل إحدى أحياء القدس، بعث آينشتاين بطاقة تذكارية لا تزال محفوظة لليوم، خَربش بإحدى زواياها رسماً فكاهياً لنفسه ثم  كَتب عليها: “أيام لا تنسى في فلسطين“.

كثيراً ما يستشهد كُتّاب سِيرة الفيزيائي الشهير بتصريحات له تُظهر أن صهيونيته لم تسْعَ لدولة بالمعنى الإسرائيلي الذي تَكَشّف بالنهاية13. وقد أدان مجازر ارتكبها يهود خلال النكبة ووصف بن-غوريون بالفاشي بعد مجزرة دير ياسين. لكن الواقع أن كل ما يُنسب له بهذا السياق يبهت أمام اللحظات الفارقة، فعندما طُرح قرار التقسيم في الأمم المتحدة، تَصدّر آينشتاين بنفسه لمراسلة رئيس الوزراء الهنديّ، جواهر لال نهرو، حتى يُقنِعَه بالتصويت لمصلحة القرار. والراجح أن هذه المراسلة تمّت بإيعازٍ سياسيّ ولم تكن مجرد مبادرة فرديّة. هذا يشهد للنحو الذي تمّت به “عسكرة” الهالة العلميّة للرجل، فوزنه المعنويّ كان كافياً حتى يُجيبه نهرو بنفسه في رسالةٍ من 3 صفحات يشرح فيها مبرراته لرفض التقسيم. ومرة أخرى فلا نسوق أياًّ من هذا في محاولة لكشف “خبايا الشخص” وتوجهاته، وإنما لرصد النحو الذي يمكن فيه أن يُستثمر الرصيد المعنويّ لشخصية اعتبارية في اللحظات الفارقة، وباتجاهات تعاكس ما بُني الرصيدُ عليه أصلاً.

قراءة في نصوص السجال

أكثر ما يلفت انتباه القارئ في الرسالة الأولى لآينشتاين-كاهلر هو هوية كاتبها؛ تلك الومضة التي تصاحب اسم (آينشتاين) أينما حلّت. المحتوى المكتوب، بالمقابل، لا يجاري تلك الشرارة فالرسالة خلاصة أبجديّة للخطاب الصهيوني بوقتها وكثير منها مستلٌّ من منشورات الدعاية والترويج للحركة. وبغير معرفةٍ مُسبقة، يصعب على القارئ التخمين بأن النصّ خَطَّه شخص غيَّر فهمَ العالَم للعالَم وبات رمزاً للقادرين على تصيّد أصعب زوايا النظر والتقاط أعقد المفارقات.

جزءٌ وفير مما يقوله آينشتاين-كاهلر لا يتعلق بالحاضر ولا وقائع الأرض، وإنما بالماضي. نحن هنا على موعد مع سريالية خفيّة فالنصّ يهاجِم بدايةً لقب (القِبلة الأولى) لبيت المقدس قائلاً إنّها “لم تكن كذلك تحت حكم محمد إلا رهاناً منه أن يغدو اليهود أكبرَ أنصارَ ملّته الجديدة. فلمّا خاب أمله، غيّر وجهة القِبلة“. من الضروري أن يُذكّر القارئ نفسَه بهوية الكاتب هنا، فهذه العبارة الأخيرة لم يقلها حاخامٌ غاضب في كنيس ولا قسٌّ متعصّبٌ في قُدّاس، وإنما آلبرت آينشتاين، شخصياً. مُطوّر النظرية النسبية مشغولٌ بالسبب الذي جعل النبي محمد يغيّر وِجهة الصلاة في الإسلام ولديه نظرية في الموضوع يودّ أن يشارك العالَم بها. ورغم أن النصّ المذكور لا يذكر أي مراجع، إلا أن النظرية المطروحة كانت رائجة في كتابات المستشرقين بتلك الحقبة.14

ثم يقابل آينشتاين بين “غزو العرب لفلسطين” و”استعادة اليهود لها سلماً”. ويُحدّث قُرّاءَهُ عن ثانوية المكانة الإسلاميّة للصخرة المشرفة مقارنةً بوزنها الروحي عند اليهود، ويخبرنا الفيزيائي الملحد عن الإيمان اليهوديّ الذي يرى في الصخرة المذكورة حجر الأساس لمعبد سليمان وكيف أنها “تضرب في أسفلها حتى تبلغ عمق البحر الكونيّ، حيث سُرّةُ بطنِ العالَم“. ثم يضيف بعدها عبارةً تلمع اليوم مرارةُ السخرية التاريخيّة من كل أركانها، فيستهزئ بالمخاوف العربيّة “مِن أنّ مجتمعاً يهودياً صغيراً في فلسطين، يجمع مليونين أو ثلاثة بالحد الأقصى، سيصبح خطراً لأربع دول عربيّة عاتية، وخمسين مليون عربي“. هذا هو ذات المجتمع الصغير الذي احتل خمس دول (لا أربع)، ودمّر المشروع النوويّ لدولة سادسة، وبات يتربع اليوم فوق تلة من السلاح غير التقليدي القادر على تسوية عشرات المدن وإفناء الملايين.

ويُظهر آينشتاين وصاحبُه انزعاجاً خاصاً من عبارة فيليب حِـــتِّي عن رفض العرب تَحمّلَ وزرِ غيرِهم بحَلِّ المشكلة اليهودية. ويصرّ الكاتبان أن العرب “عبْر حربهم المقدسة وغزوهم لفلسطين ساهموا بنصيبهم في حرمان الشعب اليهودي من وطنه“.

هذا فيما تعلّق بالماضي. لكن آينشتاين وصاحبه يتحولّان ختاماً للحاضر، ويكتبان عن “الصحاري والصخور والتربة الجرداء” التي كانتها فلسطين في ظلّ العرب قبل أن يأتي الشباب اليهودي “ويحوّلها إلى مزارع غنّاء ومشاتل، وإلى غاباتٍ ومدائنَ حديثة“. ويقدّم النصّ بعدها كلاماً -بِرَاهنيةٍ لا تخطئها العين- عن “تقديم اليهود معونتهم وخبرتهم للعرب كي يطوروا بلادهم بالاقتصاد والعلوم ويحسّنوا عيش سكانهم“.  راهنية هذا الخطاب لا تنتهي هنا، فآينشتاين وكاهلر يشنان هجوماً واسعاً على خصوم الصهيونية من العرب واصفين إياهم “بالأفندية الكبار الخائفين من الأمثولة التي يضربها الاستيطان اليهودي لفلسطين” وأنهم “ككل الفاشيين، يوارون خشيتهم من الإصلاح الاجتماعي خلف الشعارات القومية واستمالة الغوغاء“.

رداً على كل ما تقدّم، نشر فيليب حِـــتِّي تعليقه على رسالة آينشتاين-كاهلر في الحادي والعشرين من نيسان 1944. وبضراوة عَذْبة، يتجاوز المؤرخ هالةَ خصمه العلميّة ويرفع إيقاع الردّ كاتباً: “مِن الواضح أن فَهْمَ الدكتور آينشتاين لجذور الصراع العربي-الصهيوني لا تتجاوز كثيراً فَهْمي لنظريته النسبية“. وبلهجة تحمل نبرة التقريع المدرسيّ من أستاذِ تاريخٍ لطالبٍ كسول، يُذكِّر حِـــتِّي آينشتاين ومعه كاهلر أن “المسلمين أخذوا فلسطين في القرن السابع (وكانت مسيحية وقتها لا يهودية) من البيزنطيين، الذين ورثوها من الروم، الذين انتزعوها من السلوقيين، الذين ورثوها من الإسكندر الأعظم، الذي أخذها من الفرس، الذين دمروا الأمبراطورية الكلدانية عام 538 قبل الميلاد، والتي حكمت فلسطين منذ غزو نبوخذ نصر“. هذه السلسلة الطويلة هي ردّ فيليب حِـــتّي (المُوشَّى بالسخرية) على دور العرب “في حرمان الشعب اليهوديّ من وطنه”.

وينتقل فيليب بعدها للهجوم، فيردّ على ادعاء تحويل صحاري فلسطين إلى جناتٍ غناء على يد الشباب اليهودي قائلاً: “إن معرفة مباشرة بالوضع الاقتصادي الفعلي سيفقأُ هذه الفقاعة الدعائية … فالمستوطنات الصهيونية لا تزال تعتاش على الإحسان، والفارق بين الازدهار الحقّ وازدهارها الظاهر هو كالفارق بين الخدّ المكتنز المرويِّ بالدم، والخدّ المتورِّم المورَّد بالأصباغ“. ويسهب حِـــتِّي في بيان اصطناعية الرفاه في المستعمرات اليهودية واعتمادها على الدفق المالي الآتي من الخارج. ويختم قائلاً إنّ العرب الواقعيين يدركون “أن كثيراً من اليهود في فلسطين باقون هنا، وأن مصلحة العرب ومستقبل رفاههم يستوجب تعاوناً مع هؤلاء الوافدين على قدم المساواة بحيث تبزغ فلسطين جديدة، حَرِيَّةٌ باسمها المشرّف وإرثها النبيل“.

ومرةً أخرى، يعود آينشتاين-كاهلر للرد على حِـــتِّـي برسالة ثانية بتاريخ 28 نيسان 1944، ويمارسان في ثناياها مقاربة مزدوجة، فبينما يتضاعف فيها شغفهم بمسألة التاريخ وإثبات الوجود المبكر لليهود، يُتبعان ذلك بتعفّفٍ عن الموضوع وازدراءٍ مُدَّعى لجدواه، قائلين: “وعلى كلٍّ، وكما سبق وقلنا، فكل مسألة الأسبقية هذه لا تساوي شيئاً في قسمة عالَمنا وفي حضور مشاكلنا المعاصرة الملحّة“.

بعد مرافعة طويلة عن سبق اليهود، ينتقل آينشتاين وكاهلر إلى تفوّق اليهود، ويصبّان جامّ ردّهما على تشكيك حِـــتّـي في أصالة الازدهار الاستيطاني ومدى اعتماده على الدعم الخارجي. ويتوسَّع البركار التحليلي ليبلغ دجلة والفرات، فيقارِن الرجلان بين الغِنى الذي ترفل به التجمعات اليهودية في أرض الميعاد و”البؤس” الذي يرزح فيه العراقيون، ويشيران لتفوّق مداخيل الفلاحين في فلسطين على نظرائهم بسورية، ويقدّمان في خضم ذلك وصفاً لعبقرية المهاجر اليهودي الذي اجترح معجزةً وسط محيط مُعدَم من الفقراء والفشلة.

ويتوّج آينشتاين-كاهلر مقالهما الأخير بما يعتبرانه بيّنة أخيرة لمصلحة المشروع الصهيوني، وهو اقتباس من إعلان الملك فيصل الأول بن الحسين بعد اجتماعه مع حاييم وايزمان وتوماس لرونس عام 1919 جاء فيه على لسان فيصل: “إن العرب، خصوصاً المثقفين بيننا، ينظرون بتعاطفٍ أقصى تجاه الحركة الصهيونية.. إن أطرافاً منتفعة تمكنت من استغلال ما يسمونه اختلافاتنا .. أود أن أعلمكم بقناعتي الراسخة أن هذه الاختلافات يسهل تبديدها بحسن النوايا المتبادل”. ويطوي آينشتاين كلامه متمنياً “أن تسود روحية هذا القائد العربي العظيم في ترتيبات ما بعد الحرب“. وبالتأويل الآينشتايني الخاص للمفردات وبالمعنى الذي قصده هو، فلعلَّ هذا تماماً ما حصل.

هامش أخير

سبعةٌ وسبعون عاماً مضت على هذا السجال، ورغم أن بعض عباراته غريبةٌ عن عالَم اليوم إلا أن أغلبها الباقي ما زال حبره رطباً وكأنه كُتب للتوّ. تبقى بضع أفكارٍ على حاشية ما مضى، نوردها في هذا الهامش الأخير.

  1. بينما كانت المحرقة النازية مشتعلة، ومسألة العلاقة بين الحاج أمين الحسيني والنظام النازي توظَّفُ وقوداً للدعاية، لم يرتدّ فيليب حِــتِّي لزاوية دفاعية، بل قَلَب سهم التهمة إلى المشرِّع الأمريكي نفسه، الذي يقفل باليمنى باب اللجوء للولايات المتحدة ثم يريد باليسرى أن يفضّ باب سواها. هذه المقاربة التي انتهجها مؤرخنا تحمل رمزية خاصة. لم يستطع فيليب حِـتِّــي، الواقف بمفرده وسط الكونغرس، أن يكبح المدّ العارم للمزاج السياسي في الولايات المتحدة، لكنه خلّف لنا لحظةً تمنحنا نحن شيئاً أهم. إن الدور الذي يضطلع به المغترب العربي اليوم -كما بالأمس- لا يقاس بأثره على من يخاطبهم وحسب وإنما بصداه في مجتمعه الأول ووقعه على أولئك الذين يناضل -في اغترابه- من أجل قضاياهم.
  2. إن افتراق رَدّ آينشتاين السياسي عن مكانة نتاجه العلمي –في عيننا على الأقل- يُذكّرنا بحقيقة باردة، وثقيلةٍ ربما على وجدان المرء قبل عقله: أن الألمعية الرياضية ليست ضمانة خارج حقل الرياضيات، ومثلها حتماً كل الألمعيات، وأن هناك حقولاً معرفية تُشِعَّ عبر إنسان بعينه وتجعل من فرد دون سواه رمزاً متوهجاً لفكرةٍ بزمانه. لكن الأمر قد ينتهي هناك، والأقدار لا تحنو على تطلّعنا الدائم لوحدة العالَم وتجانس الإنسان. ولعله حجر سنمّار كامن في فكرة المثقف بذاتها؛ أن العبور من دائرة الاختصاص لقول شيءٍ في المجال العام (بوصفها إحدى سمات المثقف) مسألةٌ محفوفة بالمزالق، وأن اقتحام فضاء عمومي انطلاقاً من سمعة عطرة في الفضاء الخاص لا يأتي مع ضمانات، فهو رهنٌ بألطاف الله وكيمياء الإنسان.
  3. هناك طائفة من قضايا التحرر، ومنها القضية الفلسطينية، تأسست منذ بواكيرها على اختلال فاحش في قسمة القوة وتستلزم قتالاً دائماً أمام أفق مسدود. ومن يقلّب أرشيف الكونغرس الأمريكي من الثامن وحتى السادس عشر من شباط 1944 يدرك -فوق إدراكه- أيَّ مواجهة عسيرة انتهى لها الشعب الفلسطيني حتى قبل ميلاد “إسرائيل”. هذه قضايا يحتاج أنصارها كآبةً في العقل وجموحاً في الإرادة وكل نضالٍ فيها هو دوماً بعكس الريح.
  4. تعرَّضت مؤلفات فيليب حِـــتِّي لمراجعات نقدية شديدة في الساحة العربية، وبعضُها عَبَر الجسر الشعبي المعهود بين النقد الفكري واستباحة النوايا، ووصل الأمر للحديث عن “نفسيّته الصليبية الحاقدة”15وعن طويّته بوصفه رجلاً “ماكراً وسيء النية وحقوداً”.16 وقد لا تفوق عبثية إطلاق هذه التهم إلا محاولة التصدي لها. إن المهم في شهادة الخامس عشر من نيسان 1944 وفي السجال الذي تلاها أنها تمنح نافذة “تطبيقية” لأفكار فيليب حِتِّي، على لسان الرجل نفسه وفي خضم حوار سياسي حيّ. فالتمييزات التي كتب عنها في أعماله التأريخية بين العروبة الثقافية والعروبة العرقية ومصطلحات “السوري” و”العربي” تعود لتظهر في السجال، وتمنحنا فرصة لسماعها بصوت كاتبها وتأويله. إن الجدران المفاهيمية التي قدّم لها حِـتِّي في كتاباته عن هويّات المنطقة العربية تتبدد أكثر ما تتبدد كلما قارب مسألة فلسطين، وفي ذلك دلالة لا تتعلق بتناقضٍ في الرجل نفسه وإنما بتلك السمة الراسخة في المسألة الفلسطينية والدور الصمغي الذي لعبته في إدراك الهوية العربية المعاصرة لنفسها.17
  5. لم تتوقف الخصومة بين فيليب حتٍّـي وآينشتاين عند هذه المناظرة الصحافية، فبعدها بعامين عاد الرجلان ليظهرا أمام اللجنة الأنكلو-أمريكية ويقدّما شهادتين متعاكستين في المسألة الفلسطينية. ثم تكرر الأمر بحدّة أكبر عندما اتّهَم آينشتاين غريمَه بأن المصلحة المالية تحركه في مسألة فلسطين، وكان رد حِـتِّي برسالة موجهة للفيزيائي في آذار 1946، وهي موجودة لليوم في أرشيف وثائق المؤرخ في جامعة مينيسوتا، كتب في خاتمتها: “هذا النوع من التفكير لا يَقدر عليه إلا صهيوني معميّ بتعصّبه”.18
  6. في شهادة فيليب حِتِّي ما يشحن مفردة “التطبيع” بكثافة مضافة ويمنحها قتامة تاريخية، فأكثر ما يشغل الرجل حيال الفكرة الصهيونية هو اصطناعها ومعاكستها للسياق الذي يراد زرعها فيه بالعسف العسكري. وفي قلب حجّته أمام الكونغرس حديثُه عن استحالة تطبيع هذا المشروع مع محيطه، وعن الاغتراب المزمن الذي سيعاني منه. بعد 77 عاماً على ما كتبه حِـتِّــي، وبعد سبعة عقود على قيام “إسرائيل”، كم تبدو اتفاقات التطبيع الحديثة محاولةً مصطنعة لقهر ذاك الاصطناع وكأنّ جوهر العلة الوجودية لـ”إسرائيل” لم يتزحزح شبراً منذ أن كتب حِتِّـي عنه، فهو يرافق هذا الكيان منذ نعومة فكرته وقبل أن يتمخض حتى عن دولةٍ وحدود.·
  7. لم يلتقط فيليب حِــتِّـي لحظة رمزية عارضة عندما ظهر آينشتاين أمامه في نيسان 1944، فهو بنفسه من قدح زناد المنازلة بالشهادة التي قدّمها والنبرة التي اختارها وجرّ بها طرفَ السجال الآخَر لإخراج أقوى أسلحته الدعائية. ولعل هذا ما يستحق الوقوف والتأمل؛ ليس فيليب حِـتِّــي الرجل والنوايا، وإنما فيليب حِــتِّـي الفكرة والمواجهة المستحيلة.

الإشارات

1- Hearings before the Committee on Foreign Affairs, 78th Congress, H. Res. 418 & H. Res. 419, Government Printing Office, Washington: 1944, p. 274.

2- القرار المقترح كان في واقعه مزدوجاً، فقد كان مطروحاً بنسختين متطابقتين تحت رقمين مختلفين (418 و 419)، لكن النقاش حوله كان نقاشاً واحداً، فإما أن يقر المقترحان سويا أو يُرفضا سوياً. وقد سمّي المقترح بوقتها “قرار رايت-كومبتون” بوصفهما، أي جيمز رايت ورانولف كومبتون، على التوالي، من تقدّما بالمقترحين، 418 و 419.

3- المفردة الإنكليزية المستخدمة في نص القرار هيcolonization.

4- Hearings before Committee on Foreign Affairs, p. 1.

5- القرار صدر تحديداً في الاجتماع السابع والستين للكونغرس والذي انعقد في الثلاثين من يونيو 1922، وكان محاكاةً مباشرة لإعلان بلفور.

6- من نافل القول أن هذا البند لم يكن نابعاً من قلقٍ بريطاني على عروبة فلسطين وإنما اضطراراً في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى.

7- بدأ مشروع السلاح النووي الأمريكي بعد رسالة وجهها آينشتاين مع فيزيائي آخر عام 1939 للرئيس روزافلت والتي أقنعت الأخير بإطلاق العمل صوب مشروع منهاتن وتطوير القنبلة الذرية.

8- Erich Kahler, “The Jews Among the Nations”, Routledge, 1988, p. 26-27.

9- المرجع السابق، ص112-113.

10- هذا الانقسام انعكس خلال الزيارة عبر مقاطعة أفراد نافذين في المشهد الصهيوني الأمريكي لزيارة وايزمان وآينشتاين، وكان من أقطاب المعسكر المضاد في هذا التوترفيليكس فرانكفورتر ولويس برانديس.

11- Walter Isaacson, “Einstein: His Life & Universe”, Simon & Schuster, New York, 2008, p.295.

12- يلقّب روبين بالأب الروحي للاستيطان اليهودي، ويُعدّ أحد مؤسسي مدينة تل أبيب بوجهها الصهيوني المعاصر.

13- Ze’ev Rosenkranz, “Einstein Before Israel: Zionist Icon or Iconoclast?”, Princeton University Press, 2011, p.215-217.

14- مثالان على هذا الطرح يمكن العثور عليهما ويغلب أن يكون آينشتاين-كاهلر اعتمدا أحدهما: D. S. Margoliouth, “Mohammed and the Rise of Islam”, G. P. Putnam’s Sons, New York, 1905, p. 249. S. M. Zwemer, “Return to the Old Qibla”, The Muslim World, Vol. 27, Issue 1, 1937, 15-17.

15- شوقي أبوضيف، “موضوعية فيليب حِتِّي في كتابه تاريخ العرب المطوّل”، دار الفكر، 1985، ط 1، ص 199.

16 – عبدالكريم باز، “افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي”، تهامة للنشر، جدة: 1983، ط1، ص53، 136.

17- مراجعة تفصيلية لجدلية “السوري” و”العربي” في فكر فيليب حِتّـي سبق وقدّمها غ. شِبلي في: Gregory Shibley, “Revisiting Hitti’s Thoughts on Palestine and Arab Identity”, Arab Studies Quarterly, Vol. 41, No. 2, 2019, p.150-171.

18- المرجع السابق، ص162.

إعداد عوني بلال لمنصة متراس

https://metras.co/%D8%B3%D8%AC%D8%A7%D9%84-%D8%A2%D9%8A%D9%86%D8%B4%D8%AA%D8%A7%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A8-%D8%AD%D9%80%D9%80%D9%80%D8%AA%D9%8A-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9/

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

دور حدّادي أفريقيا و”صنع” الثورة الصناعية في أوروبا

جيني بولسترود ترجمة محمود الصباغ استهلال قرأت هذا النص حين نشرته مجلة History and Technology …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *