أو كرانيا و “إسرائيل العظمى”

د. سعيد سلام*

أثيرت خلال الفترة الماضية، وأثناء الحرب الروسية ضد أوكرانيا، من قبل العرب والفلسطينيين خصوصاً، الكثير من النقاط والتساؤلات حول تصريحات الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي حول سعي أوكرانيا أن تكون “إسرائيل العظمى”.

الكثير من النقاط التي أثيرت محقة في انتقادها لموقف القيادة الأوكرانية، منطلقة من موقفها الأصيل من القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، في العودة إلى أرضه التاريخية، وتقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة. وأيضاً من الموقف الدولي المنحاز لأوكرانيا في مقاومتها الغزو الروسي، واعتبار الشعب الاوكراني ضحية، ووصفه بالمقاوم واستقبال اللاجئين الاوكرانيين، بحفاوة، في الدول الأوروبية، وتقديم جميع التسهيلات لهم، في مقابل اعتبار المقاومة الفلسطينية “إرهاباً” وفي ذات الوقت رفض استقبال اللاجئين من الدول العربية، والتمييز بينهم وبين اللاجئين الاوكرانيين.

من الصعب، في بعض الأحيان، الكتابة في هكذا مواضيع ومحاولة كشف الحقيقة، ليس لشيء ،إلا لأنه من الصعب للغاية فصل القمح عن القش -الحقيقة عن الدعاية.

أود أن أبدأ في التعبير عن أفكاري الخاصة بهذا الموضوع باقتباس عبارة امرأة أوكرانية شجاعة عاشت في ظل ظروف قاسية من حصار قاسٍ لمدة شهر ونصف في مدينة ماريوبول، التي مازالت محاصرة وتتعرض للقصف العنيف، في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، صرحت بوضوح: “نحن (بمعنى الأوكرانيين) لسنا ضحايا، نحن مقاتلون”.

نعم، الأوكرانيون مقاتلون، ويواصلون القتال بشجاعة ضد ثاني أقوى جيش في العالم، ولا يقاومون بنجاح فحسب، بل يحققون انتصارات أيضًا بثقة.

إن تدمير السفينة الرئيسية لأسطول البحر الأسود، الطرّاد “موسكو”، وهزيمة القوات الروسية بالقرب من كييف، والدفاع الناجح في شرق أوكرانيا دليل واضح على ذلك. وإذا لزم الأمر، سيقاتل الشعب الاوكراني لمدة 10 سنوات، لكنهم سيدمرون الجيش الروسي ويحررون بلدهم بالكامل، حسب تصريح الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي.

هذا أمر مهم، لأن ثمة عديد من المزاعم، برزت مؤخراً، تقول إن الأوكرانيين في الاتحاد الأوروبي يعامَلون بشكلٍ أفضل من غيرهم، وترجع هذه المزاعم تلك المعاملة لأسباب عنصرية وأشياء أخرى. والرسوم الكاريكاتورية حول هذا الموضوع معروفة جيدًا، وأنا أفهم تماما أنها تحتوي على ألم ومعاناة ويأس العديد من الأشخاص الذين فقدوا منازلهم ووطنهم وأصبحوا لاجئين في الدول الأوروبية.

إن الشعب الأوكراني، من أكثر الشعوب التي تفهم وتقدر آلام ومعاناة الشعوب الأخرى، حيث أنه في القرن العشرين نجا من الإبادة الجماعية في شكل مجاعة عامي 1932-1933 على يد القيادة السوفييتية في أوكرانيا ومنطقة كوبان حيث قدرت بعض الاحصائيات عدد القتلى نتيجة المجاعة المصطنعة ب 4 مليون اوكراني، ناهيك عن الضحايا خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والحرب الأهلية (1918 – 1921) والحرب العالمية الثانية ((1941 – 1945).

لقد تم تدمير الهوية الأوكرانية بسبب عملية “الترويس” – فرض الثقافة واللغة الروسية بعد ضم أوكرانيا بالقوة الى الاتحاد السوفييتي، والآن يأتي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجيشه إلى أوكرانيا من أجل الحل النهائي للقضية الأوكرانية، حيث يجب تدمير كل من يعتبر نفسه أوكرانيًا، وكل من يؤمن بالمستقبل الأوروبي لأوكرانيا، وكل من يعتبر العناصر الأساسية للهوية الأوكرانية مهمة بالنسبة له – اللغة الأوكرانية والجيش الأوكراني والكنيسة الأوكرانية – وفقاً لبوتين.

ماذا بقي للشعب الاوكراني أن يفعل؟ في الواقع، لم يتبق له سوى مجال ضئيل للتسوية والوصول الى حلول وسطية مقبولة لدى الطرفين.

إن الأوروبيين يساعدون الشعب الاوكراني ويدعمونه لأنه يقاتل ويحقق انتصارات على الأرض، وأيضا لأن أوروبا تعتبر أوكرانيا خط الدفاع الأول والأهم امام الأطماع الروسية في المنطقة.

الآن فيما يتعلق بالرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي، أصله اليهودي وأفكاره حول “إسرائيل العظمى”.

بالنسبة للشعب الاوكراني فان حقيقة أصله اليهودي لا تشكل أي مشكلة، لكنها للأسف تشكل حقيقة مشاكل للعرب. هنا، من المهم التأكيد على مدى توافقه مع منصبه كرئيس لأوكرانيا في هذه الظروف الصعبة للغاية.

أما بالنسبة لموضوع “إسرائيل العظمى” الذي تحدث عنه الرئيس الاوكراني، فمن الضروري فهم النظرة الأوكرانية والسياق الذي يتم الحديث فيه عن “إسرائيل”.

بعد حصول اوكرانيا على الاستقلال في عام 1991 إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، رفض الأوكرانيون العديد من الأيديولوجيات السوفييتية، ومن بينها، للأسف، دعم الاتحاد السوفيتي لحركة المقاومة الفلسطينية. ليس جوهر حركة المقاومة الفلسطينية، بل إطار المعلومات والدعاية السوفيتية.

وقد بدأ هذا التحول يظهر بعد الثورة البرتقالية عام 2004 وبدء التحول الفعلي نحو أوروبا والانضمام الى الاتحاد الأوروبي، حيث بدأنا نلحظ تغير في السياسة الأوكرانية نحو ملاءمتها لمواقف الاتحاد الأوروبي من القضية الفلسطينية، وقد ازداد وضوحا بعد ثورة الكرامة عام 2014 دون التخلي عن مبدأ إقامة دولتين ومبادئ القانون الدولي.

في الواقع، اعترفت أوكرانيا بدولة فلسطين ولها علاقات دبلوماسية مع فلسطين، و أيدت أوكرانيا وما زالت تؤيد مبدأ إقامة دولتين على أرض فلسطين التاريخية وفقًا لمبادئ القانون الدولي وصوتت في المحافل الدولية دائمًا على أساس هذا المبدأ. على سبيل المثال لا الحصر، صوت الوفد الأوكراني في مجلس الأمن الدولي في عام 2016 لصالح قرار يدعو “إسرائيل” إلى إنهاء أنشطتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية. وفيما يخص الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أوضح سفير أوكرانيا في “إسرائيل” أن مثل هذه القرارات لم تكن ولن تكون كذلك، وأن أوكرانيا تنطلق من قواعد القانون الدولي ولا تعتبر القدس عاصمة لإسرائيل. حاولت الصحافة الإسرائيلية والروسية تشويه سمعة موقف أوكرانيا من خلال الترويج لاتفاقيات سرية مزعومة بين الطرفين، لكن لم يتم تقديم أي دليل واضح حول هذه المزاعم. السفارة الأوكرانية في تل أبيب ولم يتم اتخاذ قرار بنقلها إلى القدس. حيث لم تكن هناك قرارات على مستوى الدولة. وأيضا يوجد مكتب تمثيلي لأوكرانيا (مستوى سفارة) في رام الله وسفارة لفلسطين في العاصمة الأوكرانية كييف.

وعلى الرغم من المعلومات حول انسحاب أوكرانيا من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الشعب الفلسطيني الغير قابلة للتصرف عام 2020، التي كانت أحد الدول المؤسسة لها عام 1975، الا أني لم اعثر على ما يثبت أو ينفي هذه المعلومة على موقع وزارة الخارجية الأوكرانية او الرئاسة الأوكرانية، مع تأكيد أن أوكرانيا فعلا ليست موجودة ضمن الدول في لجنة الأمم المتحدة في تشكيلها الرسمي الموجود على موقع اللجنة في الانترنيت، ولا يوجد ايضا ذكر إلى تاريخ خروج أوكرانيا من اللجنة او أسباب الخروج منها.

النقطة الثانية تتعلق بالصورة الإيجابية لإسرائيل، التي تطورت في وعي الشعب الأوكراني، كدولة تحارب بشجاعة الجيوش المعادية المحيطة بها.

نعم، هذه هي نتائج الدعاية الإسرائيلية، المبنية على علاقات عامة قوية، مجموعات ضغط، سياسة فعاله، جاليات قوية مدعومة، علاقات تعاون مع مراكز بحث سياسية ومجتمعية، وأيضا العلاقات مع المهاجرين الأوكرانيين في دولة إسرائيل، وكل هذا بعيد عن نشاط السفارة الإسرائيلية في أوكرانيا.

كل هذا تفتقده نشاطات الجالية العربية، والفلسطينية خصوصا، في العلاقات العربية – الأوكرانية ، على الرغم من التجربة الرائدة في هذا الخصوص للمنظمات الاجتماعية العربية، خصوصا تجربة البيت العربي في أوكرانيا، في نشاطاته المكثفة خلال السنوات الأولى من الالفية الثالثة و محاولاته نسج علاقات تعاون مع اطراف متعددة من النسيج الشعبي و السياسي الاوكراني، ونجح بشكل كبير في استقطاب فسيفساء واسعة من هذا النسيج في النشاطات المناهضة للعدوان الأمريكي على العراق، و لكن تراجع هذا النشاط بشكل كبير لأسباب كثيره و أهمها الخلافات بين المكونات العربية حول مكانة البيت العربي في المجتمع العربي – الأوكراني. طبعا، كان ومازالت هناك الكثير من التجارب الإيجابية على مستوى الجاليات العربية والمنظمات الغير حكومية العربية في أوكرانيا، لكنها تبقى تجارب فردية وغير خاضعة لسياسات مشتركة وتعاني من نقص كبير في التمويل، مما يجعل نشاطاتها محدودة التأثير على المجتمع الاوكراني.

 لكن هذه الصورة الايجابية لإسرائيل في أوكرانيا، وفي وعي الشعب الاوكراني، لا علاقة لها باحتلال الأراضي الفلسطينية، بل لها علاقة بالأمثلة عن كيفية النضال من أجل استقلالهم. طبعا ليس مثالاً مناسباً جداً من وجهة نظرنا نحن العرب، وبعض الباحثين السياسيين الذين قاموا بانتقاد الرئيس زيلينسكي لاستخدامه هذا التشبيه في سعي أوكرانيا للحفاظ على كيانها واستقلالها، لان إسرائيل دولة احتلال أولاً وأخيراً، حسب قرارات الأمم المتحدة (القرار 242)، لكنه، من وجهة النظر الأوكرانية الشعبية، صحيح. لذلك عندما يقول شخص ما في أوكرانيا أن الأوكرانيين يريدون أن يصبحوا مثل “إسرائيل”، فهذا يعني أنهم يريدون النضال من أجل حريتهم بنفس القدر من الإيثار والتضحية.

كيف يمكن ذلك؟ أنت تقول، ألا توقفهم مشاهد القصف والقتل في غزة والضفة الغربية والاعتداءات اليومية ضد الشعب الفلسطيني على كل أراضيه التاريخية؟ وهذا تساؤل محق تماماً!

لكن، كم شخص في فلسطين، أو في أي دولة عربية أخرى، غالبًا ما يفكر في الاسباب الحقيقية للمواجهة بين روسيا وأوكرانيا؟ أنا متأكد من أنهم أقلية. معظمهم، على العكس من ذلك، ينظرون الى أوكرانيا انطلاقا من الهوية الدينية للرئيس الاوكراني والدعاية الروسية، ومتأكدون من أن هذه كلها مكائد للولايات المتحدة، وان المواجهة هي بين الولايات المتحدة والناتو ضد روسيا، وان روسيا تدافع عن نفسها وتحاول تغيير النظام العالمي أحادي القطب نحو عالم متعدد الأقطاب، وبالتالي يدعمون أو يقفون الى الجانب الروسي في حربه ضد أوكرانيا، وفي أفضل الأحول يتخذون موقف الحياد!

لذلك يقع على عاتق الجاليات المؤسسات العربية، الرسمية والأهلية، العمل بشكل مكثف وموحد من أجل توضيح جذور القضية الفلسطينية، وحقيقة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في فلسطين من أجل تغيير النظرة الاجمالية لإسرائيل والحصول على دعم شعبي ورسمي أكبر في النضال من اجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

وعلى الرغم العلاقات الجيدة بين إسرائيل وأوكرانيا، إلا أن هذه العلاقات تشهد توترات بين الفينة والأخرى. حيث على سبيل المثال وليس الحصر، رفضت اسرائيل تزويد أوكرانيا بالأسلحة وخصوصا منظومة القبة الحديدية للدفاع الجوي ضد الصواريخ، قبل بدء العدوان الروسي على أوكرانيا وأيضا أثناء العدوان. وأيضاً شهدنا اختلاف في تقييم رئيس الوزراء الإسرائيلي بني غانتس لمجريات الحرب في أيامها الأولى و تقدم باقتراح للرئيس الأوكراني بالرضوخ لمطالب الرئيس الروسي، و اعتبر الرئيس الأوكراني هذا المقترح إعلان لاستسلام أوكرانيا. و كذلك شهد الجميع ردود الفعل الإسرائيلية على خطاب الرئيس الأوكراني في الكنيسيت الإسرائيلي حيث هاجم خلال خطابه الموقف الإسرائيلي تجاه الحرب في أوكرانيا، قائلاً: “لماذا لا نحصل على أسلحة منكم؟ لماذا لم تفرض إسرائيل عقوبات جدية على روسيا؟ ولماذا لا تضغط إسرائيل على الشركات الروسية؟”.

وقال زيلنسكي إن “على إسرائيل تقديم إجابات لهذه الأسئلة ثم التعايش مع هذه الإجابات”. وقال في تصريح أثار استنكار مسؤولين إسرائيليين: “لقد قام الأوكرانيون قبل 80 عامًا باتخاذ الخيار، وأنقذنا اليهود. شعب إسرائيل – الآن لديكم أيضًا خيار”.

وانتقد زيلنسكي أيضًا جهود الوساطة التي تقوم بها إسرائيل بين روسيا وأوكرانيا، قائلاً إنه “من الممكن التوسط بين الدول، لكن ليس بين الخير والشر”.

وقال: “استمعوا إلى كلمات الكرملين، إنهم يستخدمون مصطلحات الحزب النازي. لقد كانت مأساة عندما أرادوا تدمير وإخضاع أوروبا بأكملها، ولم يرغبوا في ترك أي أحد منكم. الآن لا يريدون ترك أحد منا. لقد أطلقوا على هذا الأمر الحل النهائي. أنتم تتذكرون هذا جيدًا. أنا متأكد. ولكن استمعوا إلى ما يقال الآن في موسكو – الآن يتم استخدام هذه الكلمات مرة أخرى، الحل النهائي، لكنها الآن موجهة إلينا، لقضية أوكرانيا”.

وبعد هذا الخطاب كتب وزير الاعلام يوعاز هيندل على صفحته في تويتر :”لا يمكن إعادة كتابة التاريخ الرهيب للمحرقة. الإبادة الجماعية التي ارتكبت أيضًا على الأراضي الأوكرانية. الحرب مروعة ولكن المقارنة مع أهوال المحرقة والحل النهائي أمر مشين”.

وقال بعض كبار الوزراء إنهم فوجئوا بالخطاب: “كان فجًا والهجوم على إسرائيل مبالغ فيه. المقارنة بالمحرقة مشينة ومشوهة. نحن نعرف دور أوكرانيا في المحرقة”.

كما انتقد رئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش، تصريحات زيلنسكي، وكتب: “انتقاده لإسرائيل مشروع، لكن المقارنة المشينة التي لا أساس لها من مع المحرقة ليست مشروعة، ومحاولة إعادة كتابة التاريخ ومحو تورط الشعب الأوكراني في إبادة اليهود فيها لا يمكن تقبله”.

كما انتقد عضو الكنيست من الليكود يوفال شتاينتس تصريحات زيلنسكي، قائلاً: “إذا تم إلقاء خطاب زيلنسكي، الرئيس اليهودي لأوكرانيا، في أيام عادية، فسيُقال إنه يقترب من إنكار المحرقة”. وأضاف: “الحقيقة التاريخية المحزنة هي أن الكثير من الأوكرانيين ساعدوا بحماس النازيين في مشروع تركيز وإبادة اليهود وسرقة ممتلكاتهم”.

أما وزير الخارجية يائير لبيد فلم يعلق على الانتقادات التي وجهها الرئيس زيلنسكي وقال إنه “يدين الهجوم على أوكرانيا ويشكر الرئيس زيلنسكي على مشاركة مشاعره ومحنة الشعب الأوكراني مع أعضاء الكنيست والحكومة. وسنواصل مساعدة الحكومة الأوكرانية”.

و بعد الكشف عن مجزرة بوتشا في ضواحي العاصمة الأوكرانية كييف، كتب السفير الاسرائيلي في كييف ميخائيل برودسكي صباحا على صفحته في تويتر بتاريخ 3/4/2022: مصدوم بشدة من صور بوشا. قتل المدنيين جريمة حرب ولا يمكن تبريره”. لتعلق وزارة الخارجية الإسرائيلية في نفس اليوم على ما كتبه السفير قائلة: تعليقه في التغريدة يتعلق بالصور عن مقتل مدنيين في كييف ليس موقفا رسميا. انه لا يلوم روسيا “.

ليقوم وزير الخارجية الإسرائيلي مساء نفس اليوم، بعد هذا التعليق من وزارة الخارجية، بإدانة المجزرة الروسية في حق المدنيين في بوتشا.

وبهذا نلاحظ ان العلاقات وتقييم أسباب ونتائج الحرب متباينة بين أوكرانيا وإسرائيل.

تتعلق النقطة الثالثة بمحاولات روسيا تصوير الأوكرانيين على أنهم نازيون، ولفترة طويلة استخدموا المسألة اليهودية لخلق صورة الأوكراني على أنه معاد للسامية بالفطرة. حتى في هذه الحرب، يحاولون وأنصارهم استغلال هذه الصورة لخدمة اهدافهم الدعائية، حيث يعتبر الروس محاولات استعادة الهوية الوطنية الأوكرانية، كأمة منفصلة لها ثقافتها الخاصة ولغتها وتقاليدها وتاريخها المنفصل عن الروس، نهوضاً و انتشاراً “للنازية في أوكرانيا”.

في ظروف الحرب، وأيضا، في ظروف السلام، من المهم لأوكرانيا أن تعيش جميع الشعوب والأقليات القومية والدينية في سلام ووئام – يهود ومسيحيون ومسلمون، حيث يقدر عدد القوميات التي تعيش في أوكرانيا بـ 138 قومية، ولكل مجتمع، بما في ذلك المجتمع الفلسطيني، الذي هو جزء من الشعب الأوكراني، كل الحق في تلبية احتياجاته، بما في ذلك التعبير عن تفضيلاته واختياراته السياسية.

وحول الدعاية الروسية باضطهاد “الاوكرانيين من أصول روسية” او الناطقين باللغة الروسية، خصوصا في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا، وبعيداً عن البروباغاندا الروسية التي تقول أوكرانيا قتلت 14 ألف شخص في الدونباس، في الواقع فان سقوط الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لروسيا، كان في فبراير 2014، وإن احتلال شبه جزيرة القرم كان في مارس / اذار 2014، و ودخول قوات روسية إلى مدينة سلوفيانسك و إشعال الحرب الانفصالية في دونتسك و لوغانسك كان في ابريل 2014، أي قبل اجراء أي انتخابات و قبل تشكيل أي حكومة جديدة في أوكرانيا، و بالتالي الحديث عن اضطهاد او غير ذلك هو حديث لا يستند الى واقع يسنده، و يعني أيضاً ان الحرب اشعلت بواسطة اتباع روسيا الذين استولوا بدعم عسكري مباشر على مناطق في دونيتسك و لوغانسك، كذلك حاولوا أن يقوموا بذلك في مدينتي خاركوف و أوديسا و لم ينجحوا.

أما فيما يتعلق بالقتلى في الصراع في الدونباس، وفقاً للتقرير رقم 29 للجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة حول حقوق الانسان في أوكرانيا من فترة 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 حتى 24 فبراير / شباط 2020 (يمكن الاطلاع عليه كاملا https://t.co/74sCmPhlk1) المعتمد على تقارير لجنة منظمة الامن والتعاون الأوروبي، التي كان مفتشيها يراقبون خط وقف اطلاق النار، و يرفعون التقارير التي استند اليها التقرير أعلاه، و لم تعترض عليه روسيا لدى صدوره لأنها عضو في اللجنة.

بحسب التقرير (صفحة 14) من 14 ابريل / نيسان 2014 حتى 15 فبراير/ شباط 2020، قتل 13200 شخص في الصراع، 3350 مدنيا (على طرفي خط الجبهة)، 5650 متمرد انفصالي، 4100 جندي من الجيش الأوكراني. و جرح 29 -31 الف (7-9 آلاف مدني 9500-10500 جندي أوكراني ، 12500 – 13500 من المتمردين الانفصاليين).

وبناء على هذه المعطيات الدولية الواضحة يتضح تضليل الدعاية الروسية حول إبادة “النازيين والقوميين الاوكرانيين” لسكان الدونباس بسبب انتمائهم العرقي، بينما الضحايا من الطرفين هم ضحايا حركة انفصالية يدعمها ويقودها النظام الروسي.

أخيراً، وليس أقل أهمية مما سبق، أوكرانيا تتغير. إن وضعها يتغير، فهي لم تعد القريب أو الجار الفقير لروسيا، بل دولة أعلنت نفسها واكتسبت هويتها الذاتية.

يؤمن الشعب الاوكراني وقيادته السياسية أنهم سيهزمون روسيا، الدولة التي تتخيل نفسها لتكون المتحكم على مصير القارة الاوروبية، وسيغيرون المشهد السياسي ليس فقط في أوروبا، ولكن أيضًا في الشرق الأوسط. الشعب الاوكراني لا يجد لدي أي شك أن أوكرانيا ستصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وكعضو في هذا الاتحاد، سيكون لديها صوت مهم في حل العديد من قضايا السياسة العالمية.

أقترح أن نفكر في ذلك. أوكرانيا ليست بحاجة إلى التعاطف والشفقة، لكن إظهار التضامن مهم بالنسبة للشعب الاوكراني. الشعب الاوكراني ممتن ويتذكر كل من كان معه في أوقات صعبة من التجارب – خصوصا العرب الذين وقفوا إلى جانب الأوكرانيين في ساحات المعارك، وليس أقلها الإعلامية، وفي المستشفيات الميدانية والجبهة الاقتصادية. هذا تعبير حقيقي عن التضامن مع نضال ومقاومة الشعب الاوكراني، وهو على استعداد لإعادة هذا التضامن بمائة ضعف.

…..

*كاتب وباحث سياسي

عن د.سعيد سلّام

شاهد أيضاً

تأملات في الوضع السوري

التسوية السياسية الأمريكية الجزئية في سوريا. في صيرورة الخَيار الامني العسكري الميليشياوي بين ربيع 2011 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *