خريطة توراتية لوزارة الخارجية الإسرائيلية (6 كانون الثاني 2025)

الجوانب الاجتماعية والسياسية لعلم الآثار الكتابي المعاصر في إسرائيل

شيمون آميت

ترجمة محمود الصباغ

استهلال

ثمة رحلة طويلة ومعقدة لعلم الآثار “الكتابي” (Biblical Archaeology) من التوثيق المنهجي الأكاديمي إلى التوظيف الإيديولوجي؛ وتبدأ الحكاية في القرن التاسع عشر في سياقات تقاطع و\أو افتراق إثر البحث العلمي مع الدراسات اللاهوتية وتصادمهما (الأكاديمي والتجريبي الميداني). فقد أدت الاكتشافات الأثرية والمقاربات التاريخية إلى طرح تساؤلات حول مدى موثوقية النصوص الدينية كمصادر تاريخية، مما دفع اللاهوتيون إلى الدفاع عن النصوص المقدسة في مواجهة النقد الأكاديمي ومقاربات النقد التاريخي. ولعل أبرز هذه التحديات النقدية تمثل في التحول الجوهر لمفهوم النقد النصي مع ظهور فرضية الألماني يوليوس فلهاوزن التي عرفت باسم “الفرضية الوثائقية Documentary Hypothesis ” سنة 1878، افترض فيها ن “موسى” لم يكتب أسفار “التناخ”. بل تشكلت تدريجياً من مصادر متعددة على مدار قرون عدة، وأن النصوص تعكس مراحل مختلفة من التطور الديني والسياسي للمجتمع الذي نشأت فيه. وقد واجهت هذه الفرضية معارضة شديدة من قبل اللاهوتيين التقليديين، لكنها أصبحت حجر الزاوية في الدراسات الكتابية الحديثة.

ومع اشتداد الصراع بين هذه الاتجاهات ظهرت الحركة الصهيونية في ظل تصاعد النزعات القومية في أوروبا، ورأى الصهاينة الأوائل “العلمانيين” في الكتاب المقدس بمنزلة “سند ملكية” لأرض إسرائيل وأساس مشروع لقيام دولة يهودية حديثة في فلسطين. مستندين إلى نشاط مؤسسي “علم الآثار الكتابي أو التوراتي”. فظهر علم الآثار الكتابي كأداة دفاعية سعت إلى إثبات تاريخية الروايات الكتابية من خلال الحفريات الأثرية التي قادها المبشرون والمستشرقون الأوروبيون في القرن التاسع عشر بحثًا عن مواقع مذكورة في العهد القديم، مثل أريحا، وحبرون، وأورشليم، حيث سعوا إلى إيجاد أدلة مادية تدعم الروايات الدينية. وركزت البعثات الأثرية الأولى، مثل بعثة السير فليندرز بيتري في أواخر القرن التاسع عشر، على البحث عن أدلة تثبت وجود ممالك داود وسليمان.

تحول علم الآثار بعد قيام إسرائيل إلى أداة لتعزيز الرواية الصهيونية، وأصبح جزء من أجندة قومية تهدف إلى ربط الدولة الحديثة بمملكتي داود وسليمان الأسطوريتان. فقاد يغال يادين، رئيس الأركان السابق وعالم الآثار الشهير، حفريات في مواقع مثل مجدو وحاصور، زاعماً عثوره على بقايا تعود إلى “العصر الذهبي” للمملكة الإسرائيلية الموحدة. (سوف يقوم علماء آثار فيما بعد بالتشكيك بصحة مزاعم يادين هذه معتبرين أن الأدلة الأثرية التي عثر عليها لا تدعم فكرة وجود مملكة موحدة قوية في القرن العاشر ق.م؛ فضلاً عن “تأويلاتها المتحيزة ذات الطابع السياسي القومي”).

غير أن هذا لم يمنع من ظهور أصوات معارضة لمنهجية علم الآثار الكتابي؛ لا سيما في الثلث الأخير من القرن العشرين، مثل التيار “التنقيحي Minimalist” ويمثله باحثون من مدرستي كوبنهاغن وشيفيلد، مثل نيلز بيتر ليمكه وتوماس طومسون وغيرهما. يرى هؤلاء الباحثون أن معظم قصص العهد القديم لا تمثل تاريخاً دقيقاً، أو بالأحرى سجل تاريخي، بل نصوص دينية وسرديات وضعت لخدمة أعراض سياسية داخل المجتمع اليهودي آنذاك وكتبت في زمن السبي البابلي (القرن السادس ق.م) أو حتى في العصر الهلنستي (القرن الرابع ق.م)، لتعكس تطورات سياسية ودينية لاحقة. يُضاف إلى ذلك أن العديد من الاكتشافات الأثرية لم تؤيد الروايات التوراتية، بل على العكس، أظهرت تناقضات كبيرة بين ما ورد في النصوص وما كشفت عنه الحفريات. على سبيل المثال، لم يُعثر حتى اليوم على أي أدلة مادية قاطعة تؤكد وجود مملكة موحدة لداود وسليمان، رغم الحملات الأثرية المكثفة ويعتقد أصحاب هذا التيار أن مملكة داود وسليمان لم تكن بالضرورة كياناً سياسياً موحداً، بل ربما كانت مجموعة قبائل صغيرة دون وجود مملكة مركزية قوية. هذه الفرضية تتناقض مع الرؤية التقليدية التي قدمتها الأبحاث الإسرائيلية المدعومة من الدولة.

أما في إسرائيل فقد انقسم علماء الآثار هناك إلى تيارين أيضاً: مدرسة الجامعة العبرية في القدس والتي يمثلها يوسف غارفينكل وتتبنى نهجا محافظاً تقليدياً Maximalist يتمسك بالنص التوراتي وسرديته كأساس مرجعي لتحليل المكتشفات الأثرية وتأويلها وتؤمن بأنه يمكن لكل من علم الآثار واللقى الاثرية دعم صحة النصوص الكتابية (التناخ على وجه التحديد). ومدرسة جامعة تل أبيب، التي تقع في منزلة وسط بين التنقيحيين والتقليديين على حد قول اشهر ممثليها إسرائيل فنكلشتين، وتتبنى منهجاً نقدياً يعتمد على تحليل الأدلة الأثرية بمعزل عن النصوص الدينية، وبالتالي فهو يمتلك نظرة نقدية مشككة في الكثير من تفاصيل نصوص العهد القديم، فعلى سبيل المثال، يعتقد فنكلشتين أن الممالك الكتابية المزعومة لم تكن يوماً ذات نفوذ كما تصفها النصوص ولذلك يطالب بإعادة د تفسير المعطيات الأثرية من منظور أكاديمي أكثر استقلالية ، ويقترح التعامل مع “مملكة داود” بصفتها مشيخة قبيلة صغيرة وليس دولة مركزية موحدة واسعة النفوذ،  كما أن المبالغة في دورها التاريخي أتت في وقت لاحق ضمن عملية بناء الهوية القومية اليهودية.

وتناقش هذه المقالة التيارين الأخيرين على ضوء السجال الواسع بينهما حول موقع “خربة قيافة”، حيث يرى غارفينكل أن الاكتشافات هناك تدل على وجود إدارة مركزية مبكرة مرتبطة بمملكة داود، بينما يرفض فنكلشتين هذا التفسير، معتبراً أن الموقع قد يكون تابعاً لمجتمعات محلية مستقلة.

في النهاية يبقى علم الآثار الكتابي ميداناً مشحوناً بالصراعات الفكرية والسياسية. فمن ناحية، يسعى العلماء إلى استخدام الأدلة الأثرية لإعادة بناء تاريخ المنطقة بطريقة علمية، بينما من ناحية أخرى، تستغل الحركات السياسية هذه الاكتشافات لدعم رواياتها القومية.  وهو ما ينعكس بوضوح على النشاط الآثاري في الضفة الغربية والقدس حيث تستغل السلطات الإسرائيلية الحفريات الأثرية لدعم المطالبات السياسية ومحاولة التأكيد على وجود جذور “يهودية” عميقة. كما هو الحال في موقع “مدينة داود” في القدس القديمة ناهيك عن الحفريات في مواقع أخرى مثل سبسطية ونابلس والخليل (لا يخفى أن هذه الحفريات تحولت إلى أداة وجزء من مشروع توسيع المستوطنات الإسرائيلية).

للمزيد عن هذا الموضوع يمكن الاطلاع على المصادر التالية

*Dever, W. G. (2001). What Did the Biblical Writers Know and When Did They Know it? Eerdmans.

*Finkelstein, I., & Silberman, N. A. (2001). The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts. Free Press.

*Lemche, N. P. (2008). The Old Testament between Theology and History: A Critical Survey. Westminster John Knox Press.

*Thompson, T. L. (1992). Early History of the Israelite People: From the Written & Archaeological Sources. Brill.

*Yadin, Y. (1975). Hazor: The Rediscovery of a Great Citadel of the Bible. Random House.

*Yadin, Y. (1972). Hazor: The Head of All Those Kingdoms. Oxford University Press.

………..

الجوانب الاجتماعية والسياسية لعلم الآثار الكتابي المعاصر في إسرائيل

تمهيد

يتناول هذا المقال الأبعاد الاجتماعية والسياسية والخطابية التي يتسم بها الحطاب السائد في علم الآثار الكتابي في إسرائيل المعاصرة، ويظهر مدى صعوبة فصل الأبحاث والتفسيرات النظرية عن الهُويات والانحيازات السياسية والاجتماعية.

يبدي  علماء الآثار الصهاينة، بوجه عام، درجات أقل من التشكيك في سرديات الكتاب المقدس مقارنةً بنظرائهم الفلسطينيين، أو الباحثين المؤيدين للرؤية الفلسطينية من تيار “التقليليين”minimalists أو حتى بالمؤرخين والآثاريين الإسرائيليين من التيار “ما بعد الصهيوني”.

منذ تسعينيات القرن الماضي، برزت مدرسة جديدة في جامعة تل أبيب تبنت  نموذجاً زمنياً مختلفاً يُعرف بـ “التحقيب المنخفض” (Low Chronology)  ينكر وجود “المملكة الموحدة” التي يُفترض أنها قامت في زمن ملوك يهوذا داود وسليمان. ورغم ما حظيت به هذه المقاربة من قبول واسع، فلا تزال مدرسة محافظة، يقودها باحثون بارزون من الجامعة العبرية في القدس، تعارضها وتشكك بها وتسعى، إما إلى الدفاع عن النموذج التقليدي المعروف بـ “التحقيب العالي”  (High Chronology) أو إلى أعادة تحديثه بشكل جزئي على الأقل.

وتُعدّ منطقة “مدينة داود”،  والموقع القديم في “خربة قيافة” من أكثر مواقع الحفريات الأثرية إثارةً للجدل اليوم، إذ تحوّلا إلى ميادين مواجهة بين المدارس الأثرية المختلفة حول طبيعة مملكتي إسرءيل ويهوذا.

يحلل المقال هذا الصراع كما تظهر في المقالات والكتب والمحاضرات والعروض التقديمية والمقابلات، إلى جانب النقاشات الحادة في الإعلام الإسرائيلي.

1.الحركة الصهيونية وعلم الآثار الكتابي

قبل الدخول مباشرة في صلب الموضوع، سأبدأ باستعراض موجز لتطور علم الآثار الكتابي في سياق العقيدة اليهودية المسيحية وتشكّل الهُوية الصهيونية. ومن البديهي الإشارة إلى حجم التحديات المباشرة التي واجهت التقاليد اليهودية المسيحية، ولا سيما الاعتقاد بأن موسى هو من كتب الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم. تمثّلت أبرزها في جهود يوليوس فلهاوزن، الذي صاغ في مؤلفه “مقدمة نقدية إلى تاريخ إسرائيل القديمة” Prolegomena to the History of Ancient Israel،  (2013)  [1878] ما عُرف لاحقاً بـ”الفرضية الوثائقية”.
انطلقت هذه الفرضية من فكرة وجود أربعة مصادر مستقلة، كُتبت في عصور مختلفة، وشكّلت مجتمعة البنيان الأدبي للأسفار الموسوية. وفي مواجهة هذا الطرح، برز عمل الحاخام دافيد زفي هوفمان كأحد أبرز الردود المدافعة عن التقليد، والمعارضة لأطروحة فلهاوزن، حيث سعى إلى حماية الإيمان بالأصل الإلهي للأسفار الموسوية والحفاظ على تماسك المعمار الأدبي لنصوص الكتاب المقدس (Hoffmann, 1902).

لم تكن الأبحاث الأكاديمية الحديثة، منذ نشأتها، نقداً لجذور الهُوية اليهودية-المسيحية فحسب، بل أيضاً تعبيراً عن قيم شخصية واجتماعية وثقافية تجاه هذه الهُوية.

تأثر عمل فلهاوزن بخلفيته البروتستانتية (كان أستاذاً لاهوتياً، لكنه استقال في العام 1882، لأنه شعر بعدم قدرته على الاستمرار في تعليم القساوسة المستقبليين)، كما أنه يمثّل أصدق تعبير عن الروح الرومانسية والمثالية التي سادت الفكر الألماني في القرن التاسع عشر، إذ رأى في اليهودية، كما صاغتها المؤسسة الكهنوتية في زمن الهيكل الثاني، منظومة عقائدية قائمة على الوصايا والطقوس، أو انحطاطاً للدين والملكية “الطبيعية” لإسرءيل ويهوذا القديمتين. وحاول إظهار أن اليهودية -كما تجسدت في “النص” الكهنوتي- “تنفصل أولاً عن الحياة اليومية، ثم تستوعبها بجعلها، حرفياً، شغلها الشاغل”  (Wellhausen, 2013 [1878]: 81). ولا يزال الجدل قائماً حتى اليوم حول ما إذا كانت مقاربة فلهاوزن معادية للدين أم منحازة للمسيحية، معادية لليهودية، أو حتى معادية للسامية؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار أعماله امتداداً للنزعات الرومانسية والمثالية في ألمانيا القرن التاسع عشر (Kratz, 2009).

انطلق علماء الآثار المسيحيون، منذ أواخر القرن التاسع عشر، في حملاتهم التنقيبية، يحملون “الكتاب المقدس بيد والمعول باليد الأخرى”، مفترضين أن النصوص المقدسة غير قابلة للشك. وكان هدفهم تأكيد الرواية الكتابية عبر الاكتشافات الأثرية، بينما فسروا هذه اللقى والاكتشافات وفقاً للنص الكتابي. [فعلى سبيل المثال]، تعرّض يوليوس فلهاوزن لاتهامات بتبنيه الفكر الهيغلي، كما عبّر عالم الآثار البارز ويليام فوكسويل أولبرايت، (الذي نشأ ابناً لمبشّريْن إنجيليين).

رأى أولبرايت في علم الآثار أداة علمية تثبت دقة وموثوقية النصوص الكتابية من الناحية التاريخية، وأكد قناعته بأن الاكتشافات الأثرية جعلت نظرية مدرسة فلهاوزن مجرد “تناقض تاريخي” تفتقر للدقة (Albright, 1968: 1-2).

ولم يقتصر التعبير عن هذه الأجندة على أولبرايت وحده؛ فقد ظهر هذا التوجه بوضوح أيضاً لدى عالم الآثار والكاهن الدومينيكي الفرنسي رولان دوفو، الذي صرّح قائلاً: “إن لم يتأسس الإيمان التاريخي لإسرائيل بطريقة ما في التاريخ، فهو دون شك إيمان غير قويم، ولا يمكن أن يتوافق مع إيماني ما لم يدلّ على وجود هذه [الإسرءيل] بطريقة ما” (Vaux, 1965: 16).

أما من جهة المواقف اليهودية، فقد عمل المؤرخ هاينريش غريتز، منذ منتصف القرن التاسع عشر، على وضع الإطار القومي لكتابة التاريخ اليهودي من خلال تأليفه “تاريخ اليهود من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر” (History of the Jews from the Oldest Times to the Present). ومثلت هذه المحاولة أول سردية تاريخية كبرى لليهود تسعى إلى تصويرهم ليس بوصفهم جماعة دينية فحسب، بل -جزئياً على الأقل-أمّة حديثة. وقد اعتمد غريتز تأويلاً حديثاً للكتاب المقدس بصفته مصدراً تاريخياً موثوقاً، مع استبعاد الجوانب الغرائبية والإعجازية منه. وعندما نشر فلهاوزن عمله، هاجمه غريتز مدعياً أنه “صبّ كراهيته للأنف اليهودي على إبراهيم وموسى وعزرا”، مركزاً نقده على “الفرضية” بأن قسماً كبيراً من الأسفار الموسوية لم يُكتب إلا بعد العودة من السبي البابلي.

بمعنى آخر، قوّضت أطروحة فلهاوزن مصداقية الوثيقة المركزية التي تصف أصل الأمة اليهودية وماضيها البطولي. وتحوّل عمل غريتز إلى مرجع مدرسي قومي لمنظمة “أحباء صهيون”Hovevei Zion، التي شكل أعضاؤها طليعة الحركة الصهيونية.

أثر عمل غريتز في شخصيات يهودية بارزة مثل موسى هيس؛ أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، إلى جانب مثقفين يهود آخرين وقادة استيطان صهاينة في فلسطين. وكان سيمون دوبناو أحد هؤلاء الذين ساروا على خطى غريتز. إذ انسجم عمله مع الرؤية الصهيونية التي جمعت بين الميل إلى العلمانية ورفض الإيمان الأرثوذكسي المحافظ، وبين توظيف الدين، كرافعة لثقافة قومية توحّد يهود العالم. وتطور، ضمن هذا الإطار، تفسير القصص الكتابية، لتعرض بصفتها تصويراً لوقائع تاريخية، رغم أن العديد منها يتسم بطابع مجازي ورمزي (Sand, 2009: 78-109). (1)

ورأى دافيد بن غوريون، زعيم الحركة الصهيونية وأول رئيس وزراء لإسرائيل، في الكتاب المقدس الوثيقة التأسيسية للأمة اليهودية في [أرض إسرائيل].
فبالنسبة له وللمؤسسة الإسرائيلية العلمانية، كان الكتاب المقدس، بدرجات متفاوتة، عنصراً أساسياً في تشكيل الروح القومية. كما أسهم، وفق بن غوريون، في خلق صلة مباشرة بين إسرءيل القديمة ودولة إسرائيل الحديثة، متجاوزاً بذلك الشتات والإرث الديني الأرثوذكسي. وكما قال: “ما قمنا به على هذه الأرض هو قفزة فوق التاريخ اليهودي. فهناك قفزة في الزمان، وأخرى في المكان. أما نحن، فقد حققنا كليهما معاً”.

وأوضح أن الحياة في الدولة اليهودية الجديدة ليست امتداداً لحياة كراكوف أو وارسو، بل بداية جديدة متصلة مباشرةً بالماضي البعيد ليشوع وداود والحشمونيين(Ben-Gurion, 1957). [الترجمات من العبرية للمؤلف، رغم أنه في العديد من الاستشهادات أدناه استخدم – كما يقول- الترجمات الإنجليزية التي تظهر في المواقع الإخبارية، كلياً أو جزئياً – المترجم]

استمر البناء الإيديولوجي لفكرة الأمة اليهودية في التطور على يد المؤرخين الصهاينة وعلماء الآثار، قبل وبعد إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948.
وكان المؤرخ بن تسيون دينور (من الجامعة العبرية في القدس) من أبرز المفكرين الذين أسهموا في هذه العملية. إذ فصل الكتاب المقدس عن اللاهوت بالكامل تقريباً، واستخدمه لصياغة ما يشبه بيان تاريخي قومي المدعوم بالقليل من الوثائق المكتشفة من الحفريات الأثرية في مواقع مختلفة من الشرق الأدنى.

كان دينور عضواً في الكنيست الأولى، وفي العام 1951 أصبح وزيراً للتربية والتعليم. كما شارك، خلال خمسينيات القرن الماضي، إلى جانب مثقفين آخرين مثل عالم الآثار الكتابي البارز بنيامين مزار والباحث الكتابي يحزقيل كوفمان، بالإضافة إلى كبار السياسيين، في تنشيط ما اصطلح على تسميته “الحلقة الكتابية” التي كانت تُعقد في منزل بن غوريون.

كان الكتاب [المقدس]، بالنسبة لبن غوريون ودينور والمؤسسة بأكملها، جزءً عضوياً من الخطاب السياسي، وأداة مهمة في تشكيل مجتمع المهاجرين ضمن شعب موحد وربط جيل الشباب بالأرض. ومن الجدير بالذكر هنا خطاب بن غوريون الذي وجهه إلى عناصر الجيش الذين استولوا على شبه جزيرة سيناء خلال حرب العام 1956، حيث قال: “يمكننا أن نرتل، مجدداً، أنشودة موسى ومن كان معه من بني إسرءيل… لقد مددتم، بعملكم الجبار ومهمتكم وجهودكم المتضافرة عبر الأذرع المختلفة لوحدات الجيش الإسرائيلي، يد العون للملك سليمان”.

كما شجعت هذه المؤسسة على إجراء الحفريات الأثرية، وأوضح بن غوريون رغبته في تفضيل السردية الكتابية في حال كان ثمة تناقض بينها وبين أي مصدر غير كتابي، حيث قال: “لدي الحرية المطلقة، من منظور علمي بحت، في قبول الشهادة الكتابية عن حدث ما حتى لو طعن فيها من مصدر خارجي غير كتابي، بشرط ألا تحتوي هذه الشهادة على تناقضات داخلية أو عيوب واضحة (Sand, 2009: 105-115; see also: Silberman and Small (eds), 1997; Abu El-Haj, 2002).

لقد كان علم الآثار جزءً من السياسة، وكانت السياسة جزءً من علم الآثار. وانعكست سردية غزو يشوع لأرض كنعان والمملكة العظيمة لداود وسليمان في الروح القومية الحديثة. وقد اعتمد علماء الآثار الصهاينة، الذين ساروا على نهج أولبرايت وعلماء الآثار المسيحيين، على تبني ممارسة “الكتاب بيد والمعول بيد” لتنفيذ أجنداتهم الخاصة. وكانت وجهة نظرهم تلك تستند إلى تأريخ قومي وضعه المفكرون اليهود المذكورون سابقاً، بهدف تعزيز هذا الرأي.

لقد كانوا، في الواقع، جزءً من النخبة الحاكمة. فلم يكن يغائيل يادين، تلميذ أولبرايت، مجرد عالم آثار، وابناً للباحث إليعيزر ليبا سوكنيك – مؤسس قسم الآثار في الجامعة العبرية في القدس، بل كان أيضاً رئيساً للعمليات العسكرية خلال حرب 1948، وثاني رئيس أركان للجيش الإسرائيلي، وعمل وزيراً أيضاً. وأسهم في تقديم تأويل للاكتشافات التي عثر عليها أثناء تنقيبه في حَاصُور ومَجِدّو في الستينيات، إلى جانب مكتشفات جَزَرْ، باعتبارها تؤكد النشاط العمراني الكبير للملك سليمان كما وصفته النصوص الكتابية. وذكرت حَاصُور ومَجِدّو وجَزَرْ في النصوص الكتابية كجزء من المدن التي أسسها سليمان:15وَهذَا هُوَ سَبَبُ التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِهِ وَالْقَلْعَةِ وَسُورِ أُورُشَلِيمَ وَحَاصُورَ وَمَجِدُّو وَجَازَرَ.” (سفر الملوك الأول 9 :15). وهكذا بدت البوابات والقصور والمدن وكأنها تنتمي إلى مملكة سليمان العظيمة في القرن العاشر ق.م. (Yadin, 1975).

كان بنيامين مزار، الذي شكل مع يغائيل يادين النموذج الصهيوني لعلم الآثار، رئيساً للجامعة العبرية وصهراً ليتسحاق بن تسفي، ثاني رؤساء إسرائيل، وتربطه علاقات وثيقة مع بن غوريون. وبصفته أحد ممثلي النخبة الصهيونية، لم يكن التزامه بالسرد الكتابي موضع شك. وحاول، في عمله، مواءمة علم الآثار مع التوصيفات غير المتسقة لصورة الآباء البطاركة الكتابية. على سبيل المثال، تذكر نصوص العهد القديم الفلستيين والآراميين في سياق قصص البطاركة، رغم أنهم ظهروا بعد مئات السنين من العصر الذي يُزعم أن هؤلاء البطاركة عاشوا فيه. وقدم مزار اقتراحاً مفاده أن هذه القصص تصف بشكل موثوق حقبة ما قبل الملوك  (Mazar, 1974).

أما موشيه ديان، أحد أكثر القادة الإسرائيليين الكاريزميين، فقد شغل منصب رئيس الأركان الرابع للجيش الإسرائيلي ووزيراً للدفاع والخارجية. وبصفته عالم آثار هاوٍ (كان ديان، في الواقع، لص آثار)، نشر كتابه “العيش مع الكتاب” (Living with the Bible)، الذي دمج فيه بين إسرءيل القديمة وإسرائيل الحديثة (Dayan, 1978)مجسداً التداخل العميق بين السرد الديني والمشروع السياسي.

أما يوحنان أهاروني، أحد مساعدي يادين، فقد أسس معهد الآثار في جامعة تل أبيب. وقد سلك كل منهما طريقاً مختلفاً وأصبحا نديين متنافسين. فقد دعم يادين الرأي بأن الإسرءيليين استولوا على كنعان بغزو عسكري كما ورد في سفر يشوع، في حين وقف أهاروني (1957) إلى جانب مقولة توطنهم التدريجي، كما هو موضح في سفر القضاة.

وبدأ التنافس بين قسمي الآثار في الجامعة العبرية في القدس وجامعة تل أبيب، وهو ما سأصفه تالياً.

وعكست هذه الخلافات بين وجهتي النظر، وفقاً لنيل سيلبرمان، رؤيتهما لإسرائيل الحديثة. فقد كان للنموذج العسكري (قصة الغزو) ليادين -الجنرال السابق- صدىً تزامن مع حرب 1948 [حرب الاستقلال] وتأسيس الدولة. بينما انتمى أهاروني، إلى حركة الكيبوتس (الجناح اليساري للصهيونية العمالية) ويفضل تأويل الأمر استناداً لروح الاستيطان الصهيوني الحديث  (Silberman, 1993; Abu El-Haj, 2002: 99-105)

ورغم هذا التنافس، كان يادين وأهاروني مصممين على حماية الرواية الكتابية، التي تمثل أساس الروح القومية. وبهذا المعنى، مثّلا جيلًا كاملًا من علماء الآثار الذين وظفوا البحث الأكاديمي لترسيخ السردية الصهيونية، حيث اجتمع الإيمان بالكتاب المقدس مع التطلعات السياسية لبناء دولة حديثة متجذرة في الماضي الكتابي.

2.الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومخاطر التيار التنقيحي الكتابي

اتسم علم الآثار المسيحي وعلم الآثار الصهيوني بتبني النزعة الأصولية المحافظة (Maximalism)، التي تقبل السرد الكتابي كمصدر تاريخي موثوق وأساسي، ما يتطلب تعديل جميع الأدلة الأثرية الأخرى لتتوافق معه. وقد تعرض هذا النهج للعديد من التحديات منذ ظهور المقاربة الجديدة في أوروبا التي تبناها عدد من الباحثين الكتابيين الذين عرفوا باسم “المدرسة التنقيحية” (Minimalists) واتجه رد فعل هؤلاء ضد فرضيات ومقاربات الباحثين الكتابيين مثل ألبرخت ألت (1966) ومارتن نوث (1960)

ظهرت النزعة التنقيحية في إطار خلفية فكرية وسياسية شملت لاهوت التحرير، (الذي رفض النص الكتابي كسردية مقدسة تبرر الاستعمار والإمبريالية)، والتيارات الفكرية والسياسية الراديكالية في الأوساط الأكاديمية في أواخر الستينيات.
من أبرز ممثلي هذا التيار نيلز بيتر لمكة (1988؛ 2008: 316-317) وتوماس طومسون (1992؛ 1999) من جامعة كوبنهاغن، بالإضافة إلى فيليب ديفيز (1992) وكيث وايتلام (1996) من جامعة شيفيلد. وقد أبدى هؤلاء شكوكاً جدية بشأن السردية الكتابية ووجهوا نقداً لاذعاً لالتزام الباحثين الكتابيين وعلماء الآثار بالإيمان اليهودي المسيحي والهوية الصهيونية.

تفصل المدرسة التنقيحية بين إسرءيل الأسطورية المذكورة في النصوص الكتابية وإسرءيل التاريخية. ويجادلون بعدم وجود أي سند تاريخي للسردية الكتابية قبل زمن تدمير الهيكل الأول والسبي البابلي في القرن السادس ق.م، أي قبل العصر الفارسي (حوالي القرنين الخامس والرابع ق.م)، بل وحتى خلال العصر الهلنستي (حوالي القرنين الثالث والثاني ق.م).

أثار هجومهم على التحيزات اليهودية -المسيحية والصهيونية في الدراسات الكتابية والآثارية ضجة أكاديمية، حيث اتهموا بمعاداة السامية وبتبني أجندة معادية لإسرائيل. وزعم توماس طومسون أنه تعرض للاضطهاد وفصل من عمله بعد نشر أطروحته في العام 1976.

ويصف، في مقالين منفصلين، مسار الأحداث التي تعرض لها حتى وقت التحاقه بجامعة كوبنهاغن في العام 1993 بمساعدة [نيلز بيتر] لمكة. فيذكر، على سبيل المثال، أنه حصل على منصب أستاذ زائر في المدرسة الكتابية في القدس École Biblique، في العام 1985، غير أن هذا القرار لم يرضِ العديد من الوسط الأكاديمي الكتابي، بل إن الباحثة الكتابية سارة يافت من الجامعة العبرية اتهمته بمعاداة السامية، أثناء نشرها مراجعة لكتاب طومسون في مقال لها في [الصحيفة الإسرائيلية] جيروزاليم بوست (24 كانون الأول 1999). كما كتب عنه عالم الآثار الإسرائيلي البارز ماغن بروشي: “أخبرن صديق مشترك أن طومسون أكد له إيمانه الشديد ببروتوكولات الحكماء صهيون”. وفي مؤتمر عقد في تشرين الأول 1999، عرّف عالم الآثار الأمريكي ويليام ديفر عمل طومسون بأنه معادٍ لإسرائيل، ومعاد للكتاب [المقدس]، وعدمي “نهلستي” (Thompson 2011; 2001).

ووفقاً لديفر، تلامس أعمال كيث وايتلام “حدود معاداة السامية”، بسبب تعميماته في اتهامات لباحثين إسرائيليين ويهود ومسيحيين. فقد أشار، على سبيل المثال، إلى انخراط الدراسات الكتابية في عملية “استيلاء” لها نظيرها السياسي الحديث المتمثل في الاستيلاء الصهيوني على الأرض وطرد سكانها الفلسطينيين. ويرى ديفر أن عبارات كهذه تتيح لويتلام تصور وجود مؤامرة يهودية غير شرعية (Dever, 2003; Whitelam, 1996: 46).

وقد لخص غاري ريندسبيرغ (من جامعة كورنيل) الاتهامات السياسية ضد التنقيحيين على النحو التالي: للإجابة على سؤالي الثاني، من هم هؤلاء الناس، هؤلاء التنقيحيون، العدميون؟ وما دوافعهم؟ يمكن تقديم أسماء الأفراد الأربعة الأكثر شهرة بينهم: توماس طومسون، وفيليب ديفيز، ونيلز لمكة، وكيث وايتلام. بعضهم يسير، كما أشرت سابقاً، مدفوعاً بالأفكار الماركسية والسياسات اليسارية. وبعضهم من المسيحيين الإنجيليين السابقين الذين يرون الآن في مذهبهم السابق جميع شرور الكون، وبعضهم من تيار الثقافة المضادة (counterculture)  من بقايا حركة الستينيات والسبعينيات، الذين يمتازون بالنقد والرفض الشخصي للسلطة (Rendsburg, 1999)

لا يعتبر هؤلاء الباحثون التنقيحيون -كما يُزعم- معادين للسامية. لكن نقدهم للنزعة الأصولية الكتابية الشمولية وعلم الآثار الصهيوني يتشابك مع نقدهم للروح الصهيونية وآرائهم المؤيدة للفلسطينيين. ومن هنا، لا يمكن لأي من الأطراف ادعاء الحياد الكامل. إذ إن الافتراضات البحثية والنظرية لا تنفصل عن الآراء الاجتماعية والسياسية والهُوية الثقافية.

ومن الواضح أن وجهة نظر طومسون وعمله يدعمان القضية الفلسطينية. فيقول: “في نهاية مدة عملي في المدرسة الكتابية في القدس [École Biblique]، عينت مديراً لأحد مشاريعها الذي ترعاه اليونسكو، والذي يتناول تسمية وأصالة الطوبوغرافيا (الجغرافية) الفلسطينية (Toponomie Palestinienne) وهو مشروع يهتم بتكامل واندماج أسماء الأماكن القديمة في الطوبوغرافيا الفلسطينية الحديثة والخريطة المعاصرة. وقد وجه المشروع، الذي كان في أساسه جغرافياً وتاريخياً، انتقاداً لإسرائيل لقيامها بإزالة الأسماء المحلية ونزع الطابع العربي عنها في الطوبوغرافيا الفلسطينية، مما ألحق ضرراً بالتراث الثقافي للمنطقة. سحبت اليونسكو دعمها للمشروع بعد توقف التمويل السعودي، وتعرض المشروع لاتهامات بمعاداة السامية (Thompson, 2011)

كما أظهر فيليب ديفيز، بدوره، أجندة علنية واضحة مؤيدة للفلسطينيين في رده على ديفر وآخرين، إذ قال: “تكمن خطورة البحوث الكتابية في كونها  تحولت إلى أداة “صهيونية” تسهم في المحو والقضاء على الهُوية الفلسطينية، وكأن أكثر من ألف عام من وجود المسلمين على هذه الأرض بلا قيمة ولا يعني شيئاً. فالتركيز على سنوات محدودة من تاريخ طويل يسهم في إنشاء نوع من استعمار الماضي بأثر رجعي. وسيؤدي هذا إلى اعتبار الفلسطينيين المعاصرين مجرد متسللين  أو “أجانب مقيمين” في أراضي الغير. ولا أعني بهذا القول كاتهام ضد أحد، بل هو، باعتقادي، ليس سوى نتيجة حتمية لهوسنا بالكتاب. ويصبح من الخطأ الصريح عندما نتجاهل هذا أو ننكره”  (Davies, 2002)

وتتجلى هذه النزعة المؤيدة للفلسطينيين في عمل كيث وايتلام، خاصة من خلال عنوان كتابه اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني (The Invention of Ancient Israel: The Silencing of Palestinian History) (1996). حيث يجادل، مستنداً إلى إدوارد سعيد، بأن الخطاب الكتابي “جزء من شبكة معقدة من العمل الأكاديمي الذي عرّفه سعيد على أنه “خطاب استشراقي” أكاديمي، عمل على تجاهل تاريخ فلسطين القديمة وإسكاته، لأن موضوع اهتمامه كان ينصب على إسرءيل القديمة التي تم تصورها وتقديمها باعتبارها المصدر والجذر الرئيس للحضارة الغربية”.

ويُعرّف وايتلام عمله كمحاولة لإظهار أن “التاريخ الفلسطيني القديم هو موضوع منفصل في حد ذاته، ويجب تحريره من قبضة الدراسات الكتابية”، أي من قبضة دراسة الكتاب المقدس العبري ومن المنظورين اليهودي والمسيحي. كما يعبر عن استيائه من ازدواجية المعايير عندما يُقدّم الخطاب السائد على أنه خطاب موضوعي وغير متحيز، في حين يُعتبر الخطاب التنقيحي خطاباً سياسياً وإيديولوجياً.

علاوة على ذلك، يتهم وايتلام، إلى جانب آخرين، علماء الآثار الكتابيين، مثل إسرائيل فنكلشتين، بأنهم منحازون نحو “البحث عن كيان قومي [إسرءيل] في المرحلة الانتقالية من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي”، مما يؤدي إلى تهميش وعزل المناطق الكنعانية التي لا يرونها مهمة وذات صلة في عملية معرفة وفهم التوطن الإسرءيلي (Whitelam, 1996: 1-18).

تشكل دراسات علم الآثار الكتابي جزءً من حرب السرديات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث تلعب الهُويتان الصهيونية الإسرائيلية، والعربية الفلسطينية دوراً رئيساً في بناء التوقعات والافتراضات والتحيزات النظرية وتأويل البيانات. ومن الطبيعي انحياز الجانب الفلسطيني للنزعة التنقيحية في الدراسات الكتابية، وهو ما يظهر بوضوح في كتاب نور مصالحة “الكتاب المقدس والصهيونية: التقاليد المخترعة وعلم الآثار وما بعد الكولونيالية في فلسطين وإسرائيل” The Bible and Zionism: Invented Traditions, Archaeology and Post-Colonialism in Palestine-Israel (2007) ومصالحة مؤرخاً عربياً فلسطينياً وأستاذاً في الدين والسياسة، وُلد في إسرائيل حيث يشكل العرب حوالي 20% من سكانها.

يظهر محتوى الكتاب باعتباره مغايراً تماماً للوجهة النظر الصهيونية، حيث يُعتبر بياناً فلسطينياً متأثراً بإنتاج مفكرين مثل إدوارد سعيد وإيلان بابيه، وهذا الأخير مفكر يساري وناشط ما بعد صهيوني وأحد المؤرخين الجدد في إسرائيل الذين يتحدون الرواية الصهيونية. ويُستخدم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كإطار عمل لتطوير مصالحة مقاربته للكتاب [المقدس].

فإذا كانت النكبة الفلسطينية تُعد “محرقة صغيرة”، وإذا كان “نفي مئات الآلاف من السكان الأصليين الذي ترافق مع إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 -الذي تم تبريره باسم الكتاب المقدس- فهذا بحد ذاته يعد إحدى أعظم جرائم الحرب في القرن العشرين  (Masalha, 2007: 1)، وإذن من المغري جداً الوصول إلى الاستنتاج التنقيحي التالي: “يمكن القول بانهيار تاريخية نصوص العهد القديم بناءً على الأدلة الأثرية والعلمية الحديثة (Masalha, 2007: 10).

وهكذا، يظهر الترابط الواضح في اشتباك الدراسات الآثارية بين الصهيونية ونظيرتها الفلسطينية، بالإضافة إلى الصراع بين السرديتين القوميتين.

وفي هذا السياق، يُعتبر الآثاري الفلسطيني هاني نور الدين، من جامعة القدس، وزملاؤه من أبرز المدافعين عن هذا التوجه. كما قال في حديثه لصحيفة “نيويورك تايمز”: “علم الآثار الكتابي هو محض جهد إسرائيلي يهدف إلى موائمة الأدلة التاريخية مع السياقات الكتابية. فالصلة بين الأدلة التاريخية والمرويات الكتابية المدونة لاحقاً شبه مفقودة، وهناك نوع من الخيال حول القرن العاشر ق.م. لذا، فإنهم يحاولون ربط أي شيء يجدونه بالسردية الكتابية، وهم في ذلك يشبهون من يمتلك زراً ثم يصنع بدلة تناسبه”(Erlanger, 2005).

في شرح نور الدين لمجلة “ناشيونال جيوغرافيك”، يوضح مفهومه للمنظور الفلسطيني قائلاً: “عندما أرى النساء الفلسطينيات يصنعن الفخار التقليدي بتقنيات تعود للعصر البرونزي، أو أشم رائحة خبز الطابون المخبوز بتقاليد الألفية الرابعة أو الخامسة ق.م. عندما أرى كل هذا، فكأنني أرى الحمض النووي الثقافي ينتقل عبر هذه السنين. ففي فلسطين لا توجد وثيقة مكتوبة ولا تاريخية، ومع ذلك، [ما أراه وأشمه] هو التاريخ”(Draper, 2010)

يشير إنكار الفلسطينيون للسرديات التاريخية الكتابية والصهيونية، إلى محاولتهم  إثبات أنهم في الواقع من نسل الكنعانيين أو سكان هذه الأرض القدماء. وفي تصريح له عام 1988، كشف جلال قزوح، رئيس قسم الآثار في جامعة القدس، عن أطلال منازل تعود للمدينة الكنعانية القديمة في تل صوفر غرب نابلس، مشيراً إلى الأدلة التي يزعم أنها تثبت الاستمرارية بين التاريخين الكنعاني والفلسطيني.

لكن لم يتفق جميع علماء الآثار الفلسطينيين مع نظرية قزوح. فقد علّق حامد سالم، أستاذ علم الآثار في جامعة بيرزيت، قائلاً: “ليس من المنهجية العلمية الجادة بشيء تتبع استمرارية شعب إلى زمن يعود لنحو 5000 عام مضت”. كما أشار حمدان طه، المدير العام لدائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطيني في رام الله، إلى الدوافع الاجتماعية والسياسية وراء التأويل الأثري لقزوح، قائلاً: “إذا كان بعض الفلسطينيين يحاولون ربط أنفسهم بالكنعانيين القدماء، فهذا باعتقادي جزء من رد فعل آثاري لاواعي، يقوم على دراسات أثرية ذات طابع انعكاسي، ورد مباشر على الممارسات الإسرائيلية في مجال علم الآثار” (Eltahawy and Klein, 1998; Wallace, 2013). وكان الآثاري خالد ناشف، من جامعة بيرزيت، قد أسس في العام 2000 مجلة “الآثار الفلسطينية”، التي تسعى لنقد علم الآثار الكتابي باسم الرواية الفلسطينية الصامتة والمحرومة.

3.علم الآثار الكتابي في طور جديد

أسهمت حالة التفكك التي أصابت المجتمع الإسرائيلي، أو ما يعرف بالمجتمعالمشتبك” أو “المنضوي“، كما يُطلق عليه في إسرائيل، وتراجع النزعة الجماعية والإيديولوجية الصهيونية-الاشتراكية في أواخر السبعينيات، في ظهور روايات وخطابات ومناقشات مختلفة. فعلى سبيل المثال، طعن المؤرخون الجدد، وبعضهم ممن يوصفون بأنهم ينتمون لأفكار ما بعد صهيونية، بالرواية الصهيونية عن جذور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وحرب العام 1948، ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

وبدأت أعمال هؤلاء، مثل “بيني موريس” (Morris, 1987)، خارج إطار الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية، وأحدثت ضجة واسعة حولهم. كما يصف موريس حاله قائلاً: “عوملت كعدو للدولة، وبقيت هذه الصورة عالقة لدى الجميع. لقد نُبذت، فلم أكن أدعى إلى حضور المؤتمرات، وبطبيعة الحال، لم يُعرض علي أي منصب جامعي”(Morris in Ben-Simhon, 2012)

وفي تسعينيات القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي، هيمن اتجاه جديد في علم الآثار الكتابي. فظهرت مدرسة جديدة في جامعة تل أبيب، بقيادة إسرائيل فنكلشتين، وزئيف هرتسوغ، ونداف نعمان، رفضت منطق الاستدلال الدائري الذي كان ساداً في أبحاث علم الآثار التقليدي وطرحوا مقاربة أكثر نضجاً ونقداً.

وبدأ سجال حاد في العام 1999 إثر نشر هرتسوغ مقالة في صحيفة النخبة الفكرية في إسرائيل “هآرتس” (Herzog, 1999) وتشبه المناقشات حول هذا الاتجاه الجديد في علم الآثار الكتابي إلى حد كبير جزئياً الجدل القائم حول أعمال المؤرخين الجدد، لتشكيكهما في الإيديولوجية القومية والروح والأساطير الوطنية، وتعريضهم، بالتالي، الهُوية الصهيونية واليهودية للخطر. وكان هرتسوغ قد لخص في مقالته نتائج أعمال مدرسة تل أبيب، وهاجم بشدة منهجية الجيل السابق من الآثاريين.

وبحسب هرتسوغ، لا تثبت الأدلة الأثرية والكتابية قصص البطاركة والخروج، وغزو كنعان، ووجود المملكة المتحدة في عصر داود وسليمان. فضلاً عن أن التوحيد لم يظهر إلا في أواخر عصر الملكية.

كان التأريخ الكتابي أحد أركان بناء الهُوية القومية للمجتمع اليهودي-الإسرائيلي، ولذلك اعترف هرتسوغ، بصفته ابن الشعب اليهودي وتلميذاً للمدرسة الكتابية، بشعوره “في صميم ذاته” بالإحباط والأسى. وفي هذا السياق، كان لاعترافه هذا علاقة غير مباشرة مع عمل المؤرخين الجدد، إذ يقدر أن المجتمع الإسرائيلي مستعد للاعتراف بالظلم الذي وقع على الفلسطينيين، لكنه لا يمتلك القوة الكافية لقبول الحقائق الأثرية التي تحطم أساطير النص الكتابي. واستعرض هرتسوغ، وفقاً لنظرية توماس كون، الأحداث على أنها نقلة نوعية وتغيير في التصور المعرفي  Paradigm Shift، فقد انهار النموذج القديم لعلم الآثار الكتابي نتيجة تراكم الظواهر غير المتوافقة  anomalies(الحالات الشاذة).

في ظل هذه الأزمة، نهض النموذج الجديد لمدرسة تل أبيب. وعند هذه المرحلة، يجب الإشارة إلى أن التغيير الذي طرأ على علم الآثار، في نهاية القرن العشرين لم يقتصر فقط على منهجيته في التعامل مع النص الكتابي، بل شمل أيضاً ممارساته العملية. فقد تأثر علم الآثار بالعلوم الطبيعية، وأصبح ما يعرف بـ “علم الآثار الكتابي” علماً كبيراً كثيف الموارد، كما لاحظ إسرائيل فنكلشتين (Finkelstein, 2006–2007: Lecture 1) .

ولم يكن علم الآثار عندما بدأ [فنكلشتين] دراسته قبل نحو خمسين عاماً، أي في بداية سبعينيات القرن الماضي، مرتبطاً [إلى هذا الحد] بالعلوم الطبيعية. ولكن منذ ذلك الحين، تطورت هذه العلاقة بشكل كبير. فإذا كانت تقارير الحفريات في بداية القرن العشرين تحتاج إلى توقيع باحث آثار واحد فقط، مثل روبرت ماكاليستر، فإن التقارير الأثرية اليوم في بعثات التنقيب -مثل بعثات فنكلشتين- تحتاج إلى توقيع عشرات الخبراء المتخصصين في ميادين متعددة، مثل الفيزياء، والجيولوجيا، وعلم المعادن، وعلم النبات الأحفوري، وعلم الحيوان الأحفوري.

دحض فنكلشتين، ومعه مدرسة تل أبيب، التحقيب التقليدي لعلم الآثار الكتابي، وقدم بديلًا له على شكل نظرية تعنى بـ “التحقيب المنخفض”، فجرى تخفيض تأريخ مجاميع اللقى المنسوبة إلى القرن الحادي عشر ق.م إلى بدايات القرن العاشر ق.م، وتأريخ مجاميع القرن العاشر ق.م إلى بدايات القرن التاسع ق.م. ووفق هذا التصور، انتقل العالم القديم من أواخر العصر الحديدي الأول إلى بدايات العصر الحديدي الثاني (IIA) مع نهاية القرن العاشر ق.م، أي بعد الحقبة المنسوبة إلى داود وسليمان. ما يعني أن المملكة المتحدة العظيمة، التي يتحدث عنها الكتاب المقدس، لم تكن موجودة في زمن داود. وأن مملكة يهوذا لم تتعد كونها كياناً قبلياً صغيراً، يفتقر إلى التحصينات، وكانت أورشليم آنذاك مجرد “قرية صغيرة”.

واستناداً إلى تقديرات فنكلشتين، لم يكن عدد الذكور البالغين في يهوذا خلال القرن العاشر ق.م يتجاوز نحو 500 شخص، بينما لم يتجاوز إجمالي سكانها بضع آلاف على أقصى تقدير (Finkelstein, 1996; Finkelstein, 2005; Finkelstein, 2006–2007; Finkelstein and Silberman, 2001: 142).

في المقابل، توجد مجموعة من علماء الآثار المحافظين، يرتبط أغلبهم بالجامعة العبرية في القدس، تدافع عن القراءة التقليدية للكتاب المقدس ولا تزال تعتبره مصدراً تاريخياً موثوقاً لأحداث العصر الملكي، وتتبنى نظرية “التحقيب العالي”، أي التأريخ الزمني المرتفع للأحداث. وتُعد مدرسة القدس هذه أكثر قرباً من الجيل السابق من علماء الآثار ذوي النزعة الصهيونية مقارنة بمدرسة تل أبيب. وظهرت مجموعة مقالات تبرز وجهات نظر مختلفة في هذا السجال في العام 2001 (Levine and Mazar (eds), 2001)

وسيركز هذا القسم، وما يليه، على تحليل الجوانب الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالصراع الدائر بين أنصار التحقيب المنخفض وأنصار التحقيب العالي.

يحاول عميحاي مزار، عالم الآثار البارز في الجامعة العبرية (والأستاذ الفخري فيها)، وابن شقيق بنيامين مزار، التقليل من وقع تأثير الجوانب الاجتماعية والسياسية على عمل زملائه في المدرستين المتنافستين. ويصف مزار نفسه بأنه “محافظ معتدل“، ويوضح أن معظم علماء الآثار هؤلاء “علمانيون بالدرجة الأولى، وينحدرون من بيئات تعليمية متشابهة، ويحملون آراء سياسية متقاربة غير متطرفة. فلا تجد بينهم من ينتمي إلى أقصى اليمين أو اليسار المتطرف، بل يقفون في مكان ما وسط الطيف السياسي. ولا أعتقد أن للاعتبارات السياسية دوراً حاسماً في تشكيل آرائهم الأكاديمية”.

من ناحية أخرى، يزعم أهارون مئير من جامعة بار إيلان بأن “إحدى المشكلات الأساسية تتعلق بالدوافع السياسية”، مشيراً إلى الباحثة الآثارية إيلات مزار -التي تنتمي إلى المدرسة المحافظة في القدس وحفيدة بنيامين مزار- بقوله: “ستدّعي أن عملها لا تحركه دوافع سياسية، لكنك ترى من أين تحصل على تمويلها [ويقصد هنا جزءً من تمويلها الذي يأتي من جمعية “إلعاد” القومية المتطرفة] وتعرف ما هو توجهها الفكري”. غير أن مئير عاد وتراجع لاحقاً عن هذه التصريحات، مؤكداً أن إيلات مزار “لا تحمل أجندة سياسية واضحة” في جميع الأحوال (Shtull-Trauring, 2011)

في الواقع، ينتمي معظم علماء الآثار الإسرائيليين إلى التيار الصهيوني السائد، ولا يعني ذلك أن أعمالهم لا تتأثر بعوامل اجتماعية وسياسية وثقافية. إذ يظهر الباحثون الصهاينة المعاصرون شكوكاً أقل تجاه الكتاب [المقدس] مقارنة بنظرائهم الأوروبيين التنقيحيين، غير اليهود، المؤيدين للقضية الفلسطينية، وكذلك مقارنة بالآثاريين الفلسطينيين أنفسهم، بل وحتى بالإسرائيليين الذين ينتمون إلى تيار ما بعد الصهيونية.

رغم ذلك، تبقى هناك اختلافات حتى داخل معسكري تل أبيب والقدس. فمئير نفسه يعترف بمرارة بوجود تباينات بين المدرستين في بعض القضايا الاجتماعية والسياسية. فعلى سبيل المثال، يقف زئيف هيرتسوغ -الذي يُصنَّف ضمن المؤرخين الجدد- موقفاً أكثر تشككاً حيال النص الكتابي مقارنة بجيل الآثاريين الصهاينة السابقين. بينما تمثل إيلات مزار تياراً قومياً محافظاً بشدة، وتحمل إرث النظرة التقليدية للجيل السابق، وهو ما سأوضحه لاحقاً.

يمكن تتبع الارتباط بين الآراء الاجتماعية والسياسية وبين المنطلقات النظرية وتفسير الأدلة الأثرية من خلال مقارنة المدارس الصهيونية ومدارس ما بعد الصهيونية. يتجلى هذا الترابط بوضوح في أعمال شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، الذي يوصف بأنه علماني ويساري ومفكر ما بعد صهيوني. فقد أثار كتابه “اختراع الشعب اليهودي” (2009) The Invention of the Jewish People  جدلاً واسعاً، وأصبح من أكثر الكتب مبيعاً في إسرائيل. ثم أصدر ساند كتابين مكمّلين هما: “اختراع أرض إسرائيل” (2012) The Invention of the Land of Israel، و”كيف لم أعد يهودياً” (2013) How and When I Stopped Being Jewish.

تعرض ساند لانتقادات لاذعة من قبل شخصيات بارزة في النخبة الصهيونية مثل أنيتا شابيرا، إسرائيل كالبير، ويوآف غيلبر (Shapira, 2009; Karpel, 2012; Haaretz, 2012; Gelber, 2012).. دارت في جزء منها حول طبيعة حدود التخصصات الأكاديمية، والتوتر القائم بينها. وزعم خصومه افتقاره إلى الأهلية العلمية التي تخوله إصدار أحكام في هذه القضايا، نظراً لطبيعة  تخصصه (التاريخ الثقافي لفرنسا وعلاقة السينما بالتاريخ). ولافت هنا غياب التمييز الواضح بين عدد من الجوانب في هذا الجدل:

(أ) الموقف الصهيوني أو ما بعد الصهيوني لكل طرف مشارك في السجال.

(ب) منهجية كل طرف في مقاربة التاريخ ونشأة وتطور الهُوية  القومية، وأهمية الكتاب، وعلم الآثار المرتبط بالنصوص الدينية، ومسألة الأصول العرقية لليهود الحاليين وعلاقتهم بيهود الهيكل الثاني، مقابل الادعاءات التي ترى أن الفلسطينيين المعاصرين يشاركونهم هذه الأنساب جزئياً.

شكلت هذه العناصر مجتمعة مكونات أساسية في قلب السجال. فهدف ساند، على سبيل المثال، يكمن في كشف كيفية انتقال “أتباع القومية اليهودية” بالكتاب من سياقه اللاهوتي، ووضعوه في سياق التاريخ، لقراءته وكأنه شهادة أمينة لصيرورات وأحداث حقيقية (Sand, 2009: 127).

إذن، هل من المستغرب، أن ينحاز ساند إلى صف التنقيحيين الكتابيين، وأن يتبنى موقفاً أكثر تشكيكاً بالروايات الكتابية من نظرائه الصهاينة، بما فيهم رواد مدرسة تل أبيب؟

يعتقد ساند أن أعمال “رواد مدرسة تل أبيب”، مثل إسرائيل فنكلشتين، نداف نعمان، وزئيف هيرتسوغ، تقدم استنتاجات “لافتة للانتباه”، ويرى أن حججهم على درجة من الإقناع، لا سيما تلك التي تفسر لماذا لم يظهر تدوين النصوص الكتابية قبل نهاية القرن الثامن ق.م. ولكنه يرفض الفرضية الرئيسة في أعمالهم، والتي ترى أن صياغة النصوص الكتابية وتحريرها خضعا بدرجة كبيرة لمصالح وإيديولوجيا مملكة يهوذا، لا سيما في عهد الملك يوشيا خلال القرن السابع ق.م. كما يعتبر هذا التفسير مختلط وغير دقيق تاريخياً anachronistic. ورغم وصفه كتاب فنكلشتين وسيلبرمان “التوراة مكشوفة على حقيقتها” (The Bible Unearthed, 2001)  بأنه “غني ومحفز”، إلا أنه يلاحظ كيف صور  المؤلفان يهوذا كمجتمع قومي حديث نسبياً، يسعى حاكمه عبر “اختراع التوراة” إلى توحيد شعبه مع لاجئي مملكة إسرءيل المنهارة.

فينتقد هذا التصور معتبراً أن فنكلشتين وسيلبرمان، وغيرهما من الباحثين، يُسقطون ملامح المجتمع الحديث وثقافته التكنولوجية على واقع مجتمع فلاحي أمّي عاش في القرن السابع ق.م، يفتقر إلى نظام تعليمي، ولغة معيارية موحدة، ووسائل اتصال متطورة. ويرى أن التوراة، بالنسبة لهذا المجتمع، كانت تمثل وثناً أو “رمزاً مقدساً”  Fetishأكثر مما كانت تُعد “راية إيديولوجية” قابلة لاستخدامها في مشاريع سياسية. وأن الملك في تلك الحقبة لم يعتمد، في سلطته، على رضا العامة أو على الآراء السياسية للجماهير، بل على تحقيق إجماع إيديولوجي ضمني داخل الطبقة الإدارية، وبين شريحة ضيقة من النخبة الأرستقراطية (Sand, 2009: 123–124).

يخلص ساند إلى أن ما يشكل حجة تاريخية واهية وغير مقنعة، يكمن في تفسير نشوء التوحيد الأول بوصفه نتيجة بروباغاندا سياسية واسعة أطلقتها مملكة هامشية صغيرة، تسعى إلى ضم الأراضي الشمالية. وقد يعكس هذا التأويل، كما يشير، مزاجاً معارضاً لسياسات الضم والإلحاق التي تمارسها إسرائيل في القرن الحادي والعشرين.

ويُعدّ من النظريات الغريبة، بحسب ساند، الزعم بأن الاحتياجات البيروقراطية والمركزية لحكومة أورشليم الصغيرة قد أنشأت عبادة توحيدية متمثلة بشعار “يهوه فقط”، وذلك قبيل انهيار المملكة، بالتوازي مع تدوين عمل لاهوتي بأثر رجعي في صورة الأجزاء التاريخية من الكتاب. ويلاحظ أنه لو كان معاصرو يوشيا قرأوا الروايات التي تصف قصور سليمان العظيمة، لكان من الطبيعي أن يتوقعوا رؤية أطلال تلك العظمة في شوارع مدينتهم. غير أن التنقيبات الأثرية أثبتت أن هذه القصور لم تكن موجودة أصلاً، مما يثير تساؤلاً: من أين جاءت تلك الأوصاف قبل أن تخيل أحد تدميرها؟ (Sand, 2009: 124).

انطلاقاً من ذلك، يرجّح ساند أن الوثائق التي احتُفظ بها في أرشيفي مملكتي يهوذا وإسرءيل اقتصرت على سجلات إدارية ونقوش انتصارات كتبها مدونو البلاط، مثل شافان كاتب يوشيا، بدافع التفاخر والغرور. ويقر ساند بأنه “لا نعرف، ولن نعرف أبداً، مضمون تلك السجلات”.

ويفضل ساند، ضمن الإطار النظري الأوسع، الانحياز إلى جانب التنقيحيين الكتابيين أو ما يُعرف بـمدرسة كوبنهاغن\شيفيلد“، التي تملك “رؤية أكثر منطقية”، مع تأكيده ضرورة التعامل بحذر مع بعض افتراضاتهم واستنتاجاتهم.

ويجادل بأن السجلات والنقوش القديمة لم تستخدم في تدوين النصوص الكتابية إلا بعد سقوط مملكة يهوذا، عندما خضع النص الديني لتأثيرات ثقافية من أمثال الأمثال والأساطير والخرافات السائدة في الشرق الأدنى القديم، إلى جانب تجربة السبي والنفي ثم العودة إلى يهوذا خلال القرن السادس ق.م. ويرى أن التوحيد والنص الكتابي وُلدا نتيجة التقاء، بالأحرى اختلاط النخب الفكرية اليهوذية بالدين الفارسي الغامض والمجرّد، بعد انهيار النظام الملكي. سمح هذا الفراغ السياسي للكتبة والكهنة ليس فقط بتعظيم ومدح الرموز السياسية والدينية مثل داود، بل حتى انتقادهم الجريء، وحتى انتقاد مؤسس السلالة الملكية نفسه (Sand, 2009: 124-128)

4.دفوعات فنكلشتين وكبش فداء من شارع شينكين   

في إحدى محاضراته في جامعة تل أبيب، اقتبس فنكلشتين الهواجس التي أعرب عنها عالم الآثار المسيحي “رولان دوفو” بشأن إيمانه بالعقيدة اليهودية-المسيحية. وتسائل، بأسلوب استنكاري، عمّا إذا كان يتبنى رأي دوفو، لكنه سارع بالنفي، سواء من حيث الهوية الدينية أو من حيث المنهج البحثي (Finkelstein, 2006–2007: Lecture 1).

أبدى فنكلشتين تعاطفاً واضحاً مع الجيل السابق من علماء الآثار الصهاينة، لكنه حرص على رسم خط فاصل بين دوافعهم ودوافع الجيل الجديد. وأوضح أن الحاجة آنذاك كانت ماسة لخلق ثقافة موحدة وتقديم جذور مشتركة للناس الذين جاءوا من شتى أصقاع الأرض. وكان علم الآثار بمنزلة الأداة القوية لتحقيق هذا الغرض. شارك الجميع في هذا المشروع بدافع قناعة داخلية عميقة، ولم يكن في ذلك ما يعيبهم. واستشهد برؤية ييغال يادين الذي كان يرى أن التاريخ يعيد نفسه: غزو الأرض في العصور القديمة يعاد تمثيله الآن، ومملكة داود وسليمان المجيدة تتجسد مجدداً، ولكن هذه المرة في صورة دولة ديمقراطية ناشئة في الشرق الأوسط. وأشار إلى أن علماء الآثار اعتادوا أن يمارسوا لعبتهم المفضلة بين الماضي والحاضر، ولا يجوز لومهم أو محاكمتهم على ذلك (Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011)

وعندما سأله أحد الصحفيين عمّا إذا كان يشعر بالقلق من استغلال بعض معارضي الحجة الصهيونية نتائجه وأفكاره، أجاب برؤية أكثر نضجاً ونقداً للصهيونية مقارنة بسابقيه: “النقاش حول حقنا في الأرض يثير في نفسي مزيجاً من الأسى والسخرية. كأن هناك لجنة دولية في جنيف تراجع تواريخ الشعوب. يأتي شعبان أمام اللجنة، فيقول الأول: “نحن هنا منذ القرن العاشر ق.م”، فيرد الثاني: “لا، إنهم يكذبون، إنهم هنا منذ القرن التاسع فقط”. ماذا ستفعل اللجنة حينها؟ هل ستطلب من أحد الشعبين حزم أمتعته والرحيل؟ الحقيقة أن تراثنا الثقافي مرتبط بتلك الحقب القديمة، ولذلك فإن هذه القصة برمتها لا معنى لها. لقد كانت أورشليم موجودة، وكان فيها ولها معبد يرمز إلى أشواق وتطلعات اليهوذيين الذين عاشوا هنا. ثم، لاحقاً في زمن عزرا ونحميا، أصبح هذا المعبد يرمز إلى أشواق وتطلعات اليهود كذلك. أليس هذا كافياً؟ كم عدد الشعوب في العالم أصلاً التي تستطيع أن تعود بتاريخها إلى القرن التاسع أو العاشر ق.م؟  بل ولنقل إنه لم يكن هناك خروج من مصر، ولم توجد مملكة موحدة عظيمة، وأننا في الواقع كنعانيون، فهذا لا يمس حقوقنا ولا مكانتنا. أليس كذلك؟”  (Finkelstein in Lori, 2005)

يؤكد فنكلشتين، في جميع كتبه ومحاضراته ومقابلاته، إيمانه العميق بضرورة تحقيق “فصل تام” بين الإيمان الديني، والتقاليد الثقافية، والبحوث الأثرية. ومع ذلك، لا ينكر القيمة اللاهوتية للنصوص الدينية، بل يعتبر “لاهوت الكتاب المقدس” مدهشاً بطريقة مذهلة، وهو يحرص على أن يبدي لجمهوره الإسرائيلي مدى فخره العميق بالتقاليد اليهودية، ويشدد على أنه لا يسعى إلى تقويضها أو النيل منها.

يعترف بأن سكان مملكة يهوذا، في أواخر عهد الملكية، لم يتركوا وراءهم إنجازات مادية لافتة؛ فلم يبنوا جدراناً عظيمة ولا أنتجوا فخاراً جديراً بالعرض في المتاحف. ولكنهم، مع ذلك، أنجزوا عملاً فريداً لا يقل عن موجات الإبداع الكبرى التي شهدتها أثينا وفلورنسا: فقد صاغوا الوثيقة التأسيسية التي قامت عليها الديانتان اليهودية والمسيحية.

ولأن الهُوية تشكل تهديداً للموضوعية، ولأن البحث العلمي قد يهدد استقرار الهُوية، فقد وجد فنكلشتين الحل في الإصرار على الفصل الصارم [بين الإيمان والبحث الأثري]. وهو فصل كفيل بـ”تحرير”، أو على الأقل “تخفيف” حدة التصعيد والتوتر  (Finkelstein, 2006–2007: Lecture 13)ويقدم، وأقرانه المحافظون أعمالهم بوصفها دراسات موضوعية” و”غير متحيزة، رغم أن النقاشات بينهم تكشف بوضوح عن تغلغل الآراء الاجتماعية والسياسية والقيم الثقافية في هذا التخصص. ولهذا السبب، لم يختفِ البعد الاجتماعي والسياسي من علم الآثار الكتابي، رغم كل الادعاءات التي يسوقها فنكلشتين حول حياد البحث.

تظهر استحالة فصل هوية الباحث عن مجال دراسته بجلاء في المناوشات المستمرة بين فنكلشتين ومنافسيه. فكلا الطرفين لا يتوقف عن اتهام الآخر بالتحيز الاجتماعي والسياسي: فمن ناحية، يتهم ويتلام ومؤيدوه فنكلشتين بالمبالغة في إبراز ظاهرة “التوطن الإسرءيلي”، كمحاولة للعثور على كيان قومي يُسمى “إسرءيل”، مع إهماله المتعمد للوجود الكنعاني في المنطقة. ومن ناحية أخرى، يهمش الصهاينة المحافظون عمل فنكلشتين ومدرسة تل أبيب، ويتهمونه بالتواطئ مع تيار “التنقيحيين”، الذين يشككون في الروايات التوراتية التقليدية. رغم ذلك، لا ينفك فنكلشتين يؤكد، أمام جمهوره الإسرائيلي، أن أبحاثه لا تمثل أي تهديد للصهيونية أو لليهودية. ويقدّم نفسه بلغة بلاغية كفرد يشاركهم القيم والهواجس ذاتها التي يحملونها.

يوضح فنكلشتين وسيلبرمان، في المقدمة العبرية لكتابهما “التوراة المكشوفة (Finkelstein and Silberman, 2001)، أهمية الفصل التام بين هُوية القارئ اليهودي وتطابقه العاطفي مع النص الكتابي، وبين الدراسة العلمية لذلك النص. فالإيمان والتقليد والبحث… مفاهيم تنتمي، رغم ارتباطها بتاريخ واحد، إلى أبعاد متوازية لها مجالاتها الخاصة. وقد بلغ المجتمع الإسرائيلي درجة من النضج تجعله قادراً على تقبل الحقائق العلمية دون الخوف على شرعية وجوده. ففكرة أن شرعية إسرائيل تعتمد على صحة التصورات الواردة في النصوص الكتابية، فكرة “طفولية”. إذ ليس من الأهمية بمكان إن كان سليمان حكم إمبراطورية واسعة أم كان زعيم قرية صغيرة ويسيطر على مساحة محدودة من الأراضي في القرن العاشر ق.م، وإنما المهم، أن مملكتي يهوذا وإسرائيل قد وُجدتا فعلياً في القرن التاسع ق.م، وهو ما تؤكده الشواهد الأثرية.

 ويحذر الباحثان من أن الاستخدام السياسي للتاريخ القديم قد يتحول إلى سيف ذي حدين. فالإصرار، مثلاً، على أن الإسرائيليين ينحدرون من أصول كنعانية قد يبدو للكثير خيانةً للتقاليد، إلا أنهما يريان في ذلك خطوة استراتيجية تضعف بعض المزاعم السياسية الأخرى، التي تسعى إلى إثبات جذور مجموعات منافسة في العالم الكنعاني ذاته.

وتستهدف معالجة فنكلشتين وسيلبرمان الخطابية، لجهة السياسة، حجج التنقيحيين، خاصة السردية الفلسطينية، وحجج الإسكاتالتي طرحها ويتلام. ويضيفان، بأن على إسرائيل، كمجتمع ديمقراطي ليبرالي منفتح اجتماعياً، مواجهة الماضي والتعامل معه بشجاعة، وضمان حرية البحث، باعتبارها قيمة أعلى من التفاخر بإنجازات مشيدة مثل قصور القرن العاشر ق.م. كما يؤكدان أنهما اشتغلا كتابهما بدافع الاحترام العميق لما أطلقا عليه “الحقيقة الكتابية”، أي ذلك البعد الواقعي الذي يعكس حاجات وصعوبات وتطلعات شعب يهوذا، خصوصاً في نهاية العهد الملكي وخلال الحقبة الفارسية.

إحدى الأفكار الرئيسة في نظرية فنكلشتين تتمثل في أن السرد الكتابي تشكّل إلى حد كبير نتيجة دوافع تبريرية apologies، أي تبرير سلوكيات الملك داود، أو التبرير “التثنوي الثاني” لإيجاد تفسير أو مبرر لأسباب دمار الهيكل الأول، وانهيار مملكة يهوذا، والسبي البابلي (Finkelstein, 2006–2007؛ Finkelstein and Silberman, 2001). ويجد فنكلشتين، في بعض الأحيان، رابطاً بين الماضي والحاضر، فيقول: “قال شعب يهوذا أن ملوك إسرءيل كانوا أوغاداً فاسدين، ولكن بالنسبة للشعب هناك، ليس لدينا أي مشكلة معهم، هم جميعاً على حق” هم قالوا عن إسرءيل ما يقوله شخص أرثوذكسي متطرف أصولي عنك أو عني: “فلا تزال إسرءيل هي إسرءيل، رغم خطأها” (Finkelstein in Lori, 2005).

ومن المفارقات أن فنكلشتين، حين يتحدث عن دفوعات كتّاب التوراة، لا يتردد في بناء وخلق دفوعاته لنفسه ضمن منهج تبريري خاص به. فقد جاءت عائلة والدته إلى فلسطين في العام 1860، بينما وصلت عائلة والده قبل نحو تسعين عاماً.

وفي مقابلة مع صحيفة «هآرتس»، يوضح أنه ليس من جماعة النخبة العلمانية العدمية المترفة التي يعيش أفرادها في تل أبيب، ولا من جماعة اليسار ما بعد الصهيوني، مستخدماً -بالضبط- ذات الاتهامات التي يكيلها رجال الدين الحريديون، أو السياسيون من الأحزاب الدينية، أو من اليمين المتطرف، أو الصهاينة المحافظون التقليديون، ضد “شارع شينكين” وثقافته وسكانه (الشينكينايم)- وهو الشارع الذي صار رمزاً لعلمانية تل أبيب-: ما الذي لم يقولوه عنا؟ قالوا إننا نهلستيين، وإننا نفسد الثقافة الغربية، ونهدد حق إسرائيل في الوجود. بل إن أحدهم وصفنا بأننا “منكرو الكتاب”. أما أنا، فلست شينكانياً عدمياً مشركاً [أي لا يهودياً]، فماذا عليّ أن أفعله إذن؟ هل أغادر البلاد؟ وأين أذهب؟ إلى غرودنو؟ لا أرغب في الذهاب إلى هناك. ربما تكون بوسطن أو باريس أكثر هدوءً ومتعة، ولكن إن كنت تعيش هنا، فعليك -أقله- أن تكون جزءً من التجربة التاريخية الجارية، وأن تفهم قوة هذه التجربة.

أما إذا كان هدفك من العيش هنا قضاء وقتك في حفلات ليلة الخميس على الشاطئ، فمن الأفضل لك ألا تبقى أصلًا. لأن هذا مكان خطير. ومن يعتقد أن تل أبيب مجرد نسخة من غوا [بلدة ساحلية في الهند معروفة بالترفيه والسياحة- المترجم]، فقد غابت عنه الفكرة الأساسية تماماً” (Finkelstein in Lori, 2005). حتى بن غوريون، ذلك الصهيوني البيوريتاني المحافظ، سبق له أن وصف تل أبيب وحيفا بـ”سدوم وعمورة المعاصرتين” في رسالة تعود للعام 1955 (Sima, 2012) [في النسخة العبرية من حديثه، يستخدم فنكلشتين تعبير “شنكاني وثني عدمي” (gentile nihilist Sheinkinai)، في حين تخفف الترجمة الإنجليزية العبارة إلى “عدمي مترف” (yuppie nihilist) لتكون أكثر وضوحاً للقارئ غير الإسرائيلي. يذكر أن غرودنو، التي أشار إليها، تقع اليوم ضمن أراضي جمهورية بيلاروسيا قرب الحدود الليتوانية والبولندية. وقد تنازعت عليها القوى المختلفة على مر التاريخ، ويعيش فيها خليط من البيلاروس والبولونيين والليتوانيين-المترجم.]

من السهل لأي شخص ملم بالخطاب الإسرائيلي أن يلاحظ كيف ينسى  فنكلشتين، حين يتحدث عن تضحيته (كبش فداء) من شارع شينكين، الإشارة إلى أنهم في هذا الشارع يأكلون السوشي. [يسخر شيمون آميت -كاتب المقالة- من فنكلشتين الذي يتظاهر بأنه “ضحية منبوذة” بينما هو في الحقيقة جزء من نخبة تل أبيب المرفهة. فمجاز السوشي يكشف تناقض ادعاؤه أنه كبش فداء في صراعه مع المؤسسة الدينية لكنه في الواقع ينتمي لطبقة ليبرالية غنية (تمثلها ثقافة السوشي في شارع شينكين) ويكشف ها بدروه زيف خطابه عن “الفصل بين البحث والهُوية”، لأنه هو نفسه عالق في تناقضات هًوية النخبة الإسرائيلية التي تنتقي ما يناسبها من الحداثة والتقليد، فتتمسك بالخطاب التوراتي أحياناً (حين يخدم السياسة)، وتتبني علامات الحداثة الغربية (حين تخدم المكانة الاجتماعية). فشارع شينكين (في تل أبيب) يمثل قلب الهوية العلمانية الحديثة لإسرائيل، حيث الطبقة الوسطى الميسورة، والثقافة الغربية، والليبرالية المظهرية. و “أكل السوشي” -كطعام علمي وغريب- فيه رمز إلى الامتياز الطبقي والانفصال عن واقع معظم الإسرائيليين. وبإغفال هذه التفاصيل، يظهر فنكلشتين كمنتمٍ لهذه النخبة، رغم ادعائه التضحية من أجل الحقيقة. السوشي هنا يصبح علامة على الانفصال عن الشارع الإسرائيلي العادي، مما يناقض صورة “المنبوذ الأكاديمي”-المترجم]

وعندما يستخدم اليهود المتطرفون مصطلح “الأممي” أو “غير اليهودي” gentileفي هذا السياق، يكون الهدف عادةً هو اتهام خصمهم بالتحول إلى المسيحية. ورغم أن فنكلشتين يبدو بعيداً تماماً عن الأرثوذكسية، إلا أنه، باعتباره شخصاً قومياً ملتزماً بالتقاليد اليهودية، يشدد على أن عمله لا يقوض اليهودية أو الصهيونية. ومن هنا، يصبح عليه أن يقدم رواية أو تفسيراً أمام الآخرين الحقيقيين أو المتخيلين.

ومن بين هؤلاء، آدم زرطال، الأستاذ الفخري في جامعة حيفا، الذي يمثل الجيل الأول من الآثاريين الصهاينة. كان زرطال أول من صنف فنكلشتين، وهرتسوغ، ومدرستهما، ضمن فئة “منكري الكتاب”، وهو مصطلح له دلالات مشابهة لتلك التي تشير إلى “إنكار المحرقة” (Zertal, 1999; Zertal 2000).

وفي سياق متصل، يمكن العثور على رد غير مباشر من الشينكينايم في الكوميديا الشهيرة “هذه هي سدوم” This is Sodom، التي أخرجها مولي سيغيف وآدم ساندرسون (2010). وهي عمل روائي تم تحضيره من قبل فريق “إريتس نهيدريت” (ארץ נהדרת) [البلد الرائع]، أحد أكثر البرامج التلفزيونية شهرة ونجاحاً في إسرائيل خلال العقد الماضي، ويصنف كعرض ساخر بصيغة قريبة من برنامج “ساترداي نايت لايف” (Saturday Night Live)، وله هُوية اجتماعية سياسية واضحة، ويعبر عن موقف رجال اليسار الوسط الليبرالي العلماني، كذكور أشكناز من تل أبيب، ويعارض في كثير من الأحيان مواقف السياسيين الدينيين واليمينيين.

ويعرّف سيغيف، المؤلف ورئيس تحرير البرنامج، نفسه كناخب نموذجي لحزب العمل، رغم أنه في انتخابات العام 2013 صوّت لصالح حزب ميريتس اليساري الذي يتبنى موقفاً أقوى بشأن حل الدولتين، وتفكيك المستوطنات، بالإضافة إلى الفصل بين الدين والدولة، ومناهضة التشريع الديني والمؤسسة الأرثوذكسية المتشددة. وفي مقابلاته مع وسائل الإعلام (Halutz, 2013)، أعرب عن قلقه من أن الرؤية الديمقراطية الليبرالية في إسرائيل الديمقراطية الليبرالية قد تتعرض للخطر على يد الرؤية القومية الثيوقراطية المناوئة.

يحمل عمل سيغيف وزملائه دلالات رمزية واستعارية للصراع بين تل أبيب والتيار العلماني الإسرائيلي من جهة، وبين التيار الصهيوني القومي واليهودية الدينية من جهة أخرى. ففي العرض، يظهر الرب كبائع بارع يخدع أبراهام، الزبون الانتهازي الساخر، ليوقع عقداً معه في النهاية.

يمثل أبراهام في العرض الأرثوذكسية اليهودية، بينما يجسد الطاغية الشرير بيرا،  ملك سدوم، شخصية عمدة تل أبيب والنظام الحكومي الإسرائيلي برمته. يرسل الرب إلى سدوم الملاكين رافائيل وميكائيل متنكرين في زي ضباط شرطة ويقودان دراجات نارية. من المهم أن نلاحظ، في هذا السياق، أن الإسرائيليين والفلسطينيين كثيراً ما يعقدون صلات ببعضهم البعض باعتبارهم من نفس السلالة، أي أحفاد الآباء البطاركة الكتابيين إسحاق وإسماعيل.

وفي العرض، عندما تلتقي هاجر وابنها إسماعيل بالملائكة في الطريق إلى سدوم، تقدم شكوى ضد أبراهام الذي طردها وابنها إلى الصحراء. وتروي هاجر أنها تُركت وحيدةً مع ابنها بلا شيء: “أي مستقبل ينتظر الطفل؟ وفي ظل هذه الحالة من اليأس، سيقوم بعمل متطرف، وسيأخذ جمله، ويدخل خيمة ويفجرها بمن فيها، يا رحمة الله!”. فيدهش إسماعيل ويسأل: “ماذا؟”، فتهمس هاجر “امضِ… فقط تابع”.

في المشهد الأخير من العرض، لا يتم تدمير سدوم كما هو متوقع، بل يصبح لوط ملك المدينة-الدولة وعمدتها. تنتقل الكاميرا من مشهد بانورامي لسدوم القديمة إلى صورة شاملة لمدينة تل أبيب الحديثة، ويقول التعليق: “ظلت سدوم مدينة مزدهرة. وانتقل سكانها لاحقاً إلى موقع أفضل”. ينضم بيرا إلى عائلة أبراهام بعد أن يهرب بالمال من سدوم متنكّراً في شكل لوط، ويوضح التعليق أن “أبراهام وبيرا أسسا سلالة رائعة وعاشا كجيران طيبين مع شعوب المنطقة”، بينما نرى في الخلفية أبراهام وبيرا يجلسان في الصحراء، وهاجر تكنس الغبار تحت أقدامهما. ويتم إعفاء سَدوم الجديدة من مسؤوليتها عن الصراع العربي-الإسرائيلي.

ثمة رد آخر غير مباشر من الشينكينايم يرتبط بالموضوع التالي: الحفريات بالقرب من جبل الهيكل واتهامات فنكلشتين بشأن هذه الأعمال التي تقوم بها مدرسة القدس.

فأعضاء الفرقة الغنائية الإسرائيلية  Cain and & 90210يعرّفون أنفسهم شينكينايم (2) . ولهذه الفرقة أغنية بعنوان “نفيله حوفشيت (حفيروت) ” נפילה חופשית (הפירות): وتعني السقوط الحر (الحفريات)، [بالإنكليزية This is a free fall [Nefila Hofshit]! Shit! Shit! Shit…] وكلمة حر “حوفشيت”  هنا قابلة للتلاعب اللغوي، حيث إن نطقها خطأ باللغة العبرية يحولها إلى كلمة “قذارة” الإنكليزية Hof  shit….

وتناقش الأغنية الحفريات وتأثيراتها، حيث تقول:

“فوق الجبل حفريات في جمجمتي
فوق الجبل حفريات في جمجمتي
الآلات جاهزة لتسحق وتدمر
ليس وقتاً سيئاً لتشعر به
يوم الدينونة…
واجه الكابوس
قاتل من أجل جبل الهيكل أو مت
لا تقلق بشأن زوجتك
فالموت واجب وشرف أيضاً …
ذكريات أثرية تمر عبر الزمن
صور تمر في ترتيب زمني تقودين… إلى أين؟

هذا سقوط حر [نيفيلا هوفشيت]!

خر خر خر …

تتلاعب كلمة “حر” في العبرية بشكل يقلب معناها إلى “خرا”، مما يعطي الأغنية بعداً ساخراً يربط بين الحفريات والجوانب المظلمة للصراع.

5.الحفريات في مدينة داود

تُعد إيلات مزار، عالمة الآثار في الجامعة العبرية بالقدس وعضوة مركز شاليم، من أبرز ممثلي التيار الصهيوني المتطرف، الذي أسسه جدها بنيامين مزار. وقد صرحت قائلة: “أحد الأشياء العديدة التي تعلمتها من جدي كان كيفية الارتباط بالنص الكتابي والتعامل معه: قم بتدويره، وانظر إليه مرات عدة، وكرّر الأمر، لأنه يحتوي في داخله على وصف للواقع التاريخي الحقيقي”(Mazar, 2006b: 20)

وتسترشد مزار بقراءة أصولية (Maximalist) للنصوص الكتابية، وأسهم انتماؤها اليهودي الصهيوني في تشكيل افتراضاتها النظرية وتوقعاتها، وفي تحديد الأهمية التي توليها لمسألة إثبات وجود المملكة العظيمة التي نسبت إلى اثنين من الأبطال القوميين والعالميين الأسطوريين: داود وسليمان. وأكدت في جلسة بعنوان “البعد الوطني والأمن القومي في إسرائيل”، التي عُقدت ضمن مؤتمر هرتسليا السادس، أن عملها يبرز “أهمية الكتاب [المقدس] كمصدر تاريخي رائع يجسد ثروة من الروايات التاريخية الأصيلة”.

ترى مزار أن الكتاب وبقايا الأبنية في القدس يشكلان جزءً أصيلاً من جذور وجودها القومي، وتصفهما بأنهما “مصدر غذائنا القومي”. وتعرّف عملها الأثري بأنه “حبل سري شخصي يربطني بالتاريخ القديم لشعب إسرائيل في أرض إسرائيل”، وتضيف: “يمكنك أن تسميها، إذا رغبت، القوة القومية من الناحية الشخصية”(Mazar, 2006a)

ترتبط الحفريات في المدينة القديمة بالقدس، وتحديداً في موقع مدينة داود جنوب جبل الهيكل، ارتباطاً وثيقاً بالسياسات الوطنية والإقليمية والدولية، وتتصدر باستمرار عناوين وسائل الإعلام. إذ قد يشعل اكتشاف بسيط آلة البروباغاندا القومية. على سبيل المثال، أعلنت مزار في أيلول2013 أن حملتها في منطقة أوفيل [وادي حلوة؟]، الواقعة بين جبل الهيكل ومدينة داود، أفضت إلى العثور على كنز ذهبي يعود إلى العصور البيزنطية المتأخرة (حوالي القرن السابع الميلادي). ضمّ الكنز ميدالية ذهبية تحمل صورة شمعدان (מנורה)، وهو رمز قومي لدولة إسرائيل، إلى جانب بوق الشوفار (שופר) ولفائف التوراة. وقد تحوّل هذا الإعلان فوراً إلى خبر رئيس في وسائل الإعلام (Reinstein, 2013; Hasson, 2013b)

أعقبت التقارير الإخبارية حول الاكتشاف موجة من الخطاب المعتاد عن “حق اليهود” في الأرض، مقابل وصف الوجود الفلسطيني بالـ “أسطورة”.

استدعى رئيس الوزراء اليميني، بنيامين نتنياهو، إيلات مزار وهنأها على هذا الاكتشاف. وبادرت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى الترويج للحدث، كما هو معتاد في سياق الاكتشافات الأثرية المتعلقة بالتاريخ اليهودي في إسرائيل. وبحسب ما أفادت به التقارير، قال نتنياهو لمزار: “هذا حدث هائل واكتشاف رائع على الصعيد القومي. إنه يشهد على الوجود اليهودي القديم وعلى قدسية هذا المكان، وهو أمر واضح كوضوح الشمس. إنها شهادة تاريخية من أعلى درجة على ارتباط الشعب اليهودي بأورشليم، وبأرضه وتراثه. إنه أمر مؤثر وعاطفي جداً. هذا الاكتشاف يجسّد جوهر تراثنا: الشمعدان، البوق، ولفائف التوراة. لا يمكن التعبير عن جوهر الشعب اليهودي بصورة أوضح أو أكثر إيجازاً من هذا” (Netanyahu; Israel Ministry of Foreign Affairs, 2013)..

وفي كانون الأول 2013، قال بنتنياهو أمام جمع من مؤيدي حزب الليكود في تجمع سياسي إنه أخبر وزير الخارجية الصيني خلال لقاء جمعه له قبل ساعات قليلة: “أخذته إلى مكتبي، وعرضت عليه ختماً قديماً يعود إلى زمن الهيكل الثاني [الصحيح أنه من زمن الهيكل الأول] من عصر الملك حزقيا، قبل نحو 2700 سنة، أي ما يقارب 3000 عام. أريته ختم أحد موظفي الملك حزقيا، الذي عُثر عليه بجوار الجدار الغربي، وقلت له: “انظر، هنا اسم مكتوب بالعبرية، إنه اسم تعرفه – نتنياهو!” ثم أضفت: “هذا الاسم عمره نحو 3000 سنة، ولكن هل تعلم أن اسمي الأول يعود إلى نحو 4000 سنة؟” (Netanyahu in Verter, 2013)

غير أن نتنياهو لم يذكر للوزير الصيني أن والده، المؤرخ الصهيوني اليميني بن صهيون نتنياهو، الذي وُلد في وارسو باسم “بن زيون ميليكوسكي”، هو من اختار لقب “نتنياهو” لاحقاً. في الواقع، كانت عملية “عبرنة” الألقاب والأسماء جزءً مركزياً في بناء الهوية القومية الصهيونية منذ نشأتها.

في السياق ذاته، أجرى نفتالي بينيت، وزير الاقتصاد وزعيم حزب “البيت اليهودي” الممثل للجناح اليميني الديني والمستوطنين، مقابلة مع شبكة CNN  بتاريخ 17 تشرين الثاني 2013. عندما سُئل عن الاستيطان في الأراضي المحتلة، لوّح بعملة قديمة أمام المذيعة كريستيان أمانبور، قائلاً: “هذه العملة، التي تحمل عبارة “الحرية لصهيون” باللغة العبرية، استخدمها اليهود قبل 2000 سنة في دولة إسرءيل التي تصفينها بالأرض المحتلة. لا يستطيع المرء أن يحتل وطنه”.(3) وبعد أقل من شهر، هاجم بينيت بنفسه توظيف علم الآثار عندما وجد نتائجه لا تخدم أجندته السياسية والدينية، معتبراً الأمر تهديداً مباشراً لهُويته. فقد كتب في منشور على فيسبوك بتاريخ 26 كانون الأول 2013: “في الأشهر الأخيرة، انطلقت حملة منظمة وممنهجة لطمس الهُوية اليهودية لدولة إسرائيل. تقوم بها عدة منظمات بالتعاون مع صحيفة “هآرتس”، تارة عبر مقالات تدعي غياب أي أساس واقعي تاريخي أو أثري للعلاقة بين الشعب اليهودي وأرضه، وتارة عبر مهاجمة الطلاب الذين يزورون مواقع التراث اليهودي، ومرة عبر حملة مركزة ضد الختان”(4)

لا يختلف المشهد كثيراً على الجانب الفلسطيني. ففي مؤتمر انعقد في كانون الثاني2014، صرّح صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، أمام جمهور ضم نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني، بأنه ينتمي إلى نسل الكنعانيين الذين سكنوا هذه الأرض منذ آلاف السنين، قبل أن يدمّر يشوع وبنو إسرءيل مدينة أريحا(Beck, 2014; Yaakov, 2014). وردّت وسائل الإعلام والمدونون المؤيدون لإسرائيل على هذا الادعاء بالتشكيك، وزعموا أن عريقات في الواقع ينتمي إلى قبيلة الحويطات البدوية، التي تعود أصولها إلى شبه الجزيرة العربية(5).

واجهت هذه الادعاءات ردوداً ساخرة، خاصة من بعض الأصوات اليسارية. فكتب سيد قشوع، الروائي الفلسطيني-الإسرائيلي المعروف، في أحد أعمدته الساخرة  (الذي تعكس كتاباته التوتر بين هُويته العربية الفلسطينية وجنسيته وهُويته الإسرائيلية)كيف ساعد ابنته الصغيرة في إعداد مشروع مدرسي عن الجذور العائلية. سألت ابنته عن معنى اسمها، فالتفت قشوع إلى زوجته قائلاً :”علينا أن نغوص أعمق بكثير في تاريخ جذورنا حتى 3000 سنة إلى الوراء. فأنت تعرفينهم، إنهم يعودون [يقصد اليهود-المترجم] إلى قصة المدفن الذي اشتراه أبونا إبراهيم في الخليل، أو أي مكان آخر”.

ولمزيد من الطرافة، أخبر ابنته أن اسمها يشير إلى “آلة موسيقية محببة لدى الكنعانيون بشكل خاص”، وعندما سألته الطفلة: “هل تُكتب بحرف الكاف أم القاف؟”، صرخ بها قائلاً: “بالقاف… واحترمي نفسك… نحن نتحدث عن أجدادك هنا” (Kashua, 2012).

لم تقتصر السخرية على قشوع. فقد كتب بيني زيفر، المحرر الأدبي لصحيفة “هآرتس”، منتقداً الطريقة التي استُغل فيها علم الآثار “الانضوائي” لأغراض سياسية مثل استغلال مزار ونتنياهو لاكتشاف الميدالية الذهبية.. رأى زيفر أن علم الآثار، الذي يفترض أن يكون بحثاً علمياً نزيهاً، تحوّل إلى “مهزلة مضحكة”، بعد أن لوثه غبار الإيديولوجيات القومية والدينية. وشبّه هذا التوظيف السياسي لعلم الآثار بصفته “شكلاً من أشكال التعويض العلاجي للأمم التي تعاني من مشكلة تدني تقدير الذات في الحاضر” كمحاولات الأنظمة التسلطية، مثل هوس الرومانيين في عهد تشاوشيسكو، لإثبات أنهم ينحدرون من الداسيين، أو هاجس الأتراك بربط أصولهم بالحثيين. وأشار في ختام نقده، بسخرية، إلى أن قادة العالم الآخرين يمكنهم، استناداً إلى منطق نتنياهو، الادعاء بأن لهم حقوقاً تاريخية في القدس كلما اكتُشف كنز عثماني أو بيزنطي أو عربي في المدينة (Ziffer, 2013).

أما فيما يخص حفريات مزار، فهي تواصل الإصرار على أن قصر الملك داود يقع في موقع مدينة داود الحالي، مستندة إلى نتائج حفريات سابقة، وإلى ما جاء في الإصحاح الخامس من سفر صموئيل الثاني: “7 وَأَخَذَ دَاوُدُ حِصْنَ صِهْيَوْنَ، هِيَ مَدِينَةُ دَاوُدَ.. () 9 وَأَقَامَ دَاوُدُ فِي الْحِصْنِ وَسَمَّاهُ «مَدِينَةَ دَاوُدَ». وَبَنَى دَاوُدُ مُسْتَدِيرًا مِنَ الْقَلْعَةِ فَدَاخِلًا”. وهي تعتقد أن قصر الملك داود بُني خارج أسوار أورشليم المحصنة بسبب ضيق المساحة داخل المدينة. وعندما كانت المدينة تتعرض للهجوم، كان بمقدور داود أن ينسحب إلى الحصن اليبوسي القريب، المعروف بقلعة صهيون، كما ورد في الكتاب المقدس.

رُفضت وجهات نظر مزار في الأوساط الأثرية، ولم تتمكن من تأمين التمويل اللازم لاستكمال الحفريات. وأصبحت فيما بعد شخصية بارزة في مركز شاليم، حيث ساعدها رئيس المركز، دانيال بوليسار، على جمع الأموال من رئيس مجلس الإدارة، روجر هيرتوغ. وهكذا، بدأت أعمال التنقيب بالتعاون مع جمعية “إلعاد” عام 2005، تحت إشراف أكاديمي من الجامعة العبرية في القدس (Mazar, 2007; Mazar, 2006b)

تملك “إلعاد” ومركز شاليم أجندة سياسية ودينية واضحة، وقد عملتا على تمويل أعمال مزار مالياً وإعلامياً. وتُعد “إلعاد” جمعية دينية متطرفة تدفع باتجاه الاستيطان اليهودي في المنطقة (Rapoport, 2006). وأوضح دورون سبيلمان، مدير الجمعية، صراحةً: “حين نجمع المال لدعم الحفريات، فإن الدافع الحقيقي لنا هو الكشف عن نصوص الكتاب المقدس، وهو أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة السيادة الإسرائيلية”(Draper, 2010).

أما مركز شاليم، فهو معهد بحثي يميني محافظ يحمل أجندة دينية قوية. وقد صرّح روجر هيرتوغ، رئيس مجلس إدارته، لصحيفة نيويورك تايمز، أن الهدف من التمويل “إظهار كيف يجسد الكتاب المقدس التاريخ اليهودي” (Erlanger, 2005).  أو كما شرح دانيال بوليسار تلك الأجندة لمجلة ناشيونال جيوغرافيك: “إذا أردنا إثبات أحقيتنا بأننا من الأمم العريقة، وأن نحظى بمكانة فكرية رفيعة في الحضارة الإنسانية، فعلينا البرهنة أن كتابنا هذا [أم الكتب] هو سجلٌ تاريخي. فإذا حذفنا داود ومملكته من النص، ماذا يتبقى لنا؟ لن يتبقى إلا نصٌ روائي،  كتاب آخر مغاير يغدو مجرد دعاية تسعى لتصوير شيء لم يوجد قط. وإذا فشلنا في العثور على الأدلة، فربما لم يكن هناك شيء أساساً. ولهذا السبب، الرهانات مرتفعة للغاية”(Draper, 2010).

تأثر دانيال بوليسار، ويورام حزوني، ويوشع فينشتين، المؤسسون والمديرون لمركز شاليم، بالحاخام مئير كاهانا عندما كانوا شباباً وطلاباً. وكاهانا هذا كان من قادة اليمين المتطرف في إسرائيل، وحُظرت حركته “كاخ” في العام 1988 بسبب خطابها العنصري، ومنعت من المشاركة في الانتخابات البرلمانية، ثم أُعلنت منظمة إرهابية في العام 1994.

ورغم تأثرهم بكاهانا، إلا أنهم يرفضون أجندته العنيفة. ويتبنون مواقف أقرب إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحزب الليكود. كما عمل يورام حزوني سابقاً لمصلحة نتنياهو، وتطابق المانحون الداعمون للمركز مع الداعمين لنتنياهو سياسياً ومالياً. كما عمل موشيه يعلون، رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع الإسرائيلي [حين نشر المقال عام 2014]، في مركز شاليم، وحظي المركز باعتراف أكاديمي رسمي بفضل دعم وزير التعليم الأسبق غدعون ساعر  (Lanski and Berman, 2007; Nesher, 2013)

كشفت بعثة التنقيب في موقع مدينة داود عن هيكل حجري ضخم، حددته إيلات مزار بقصر الملك داود. وعثرت البعثة تحت هذا البناء الكبير على هيكل آخر، عبارة عن بناء حجري يتجه صعوداً على منحدر التل، كانت الحفريات السابقة قد كشفت أجزاء منه. يُعرف هذا البناء المدرج بأنه أكبر بناء حجري ينتمي للعصر الحديدي في فلسطين. رأت مزار أن هذا البناء يشكل أساساً أو دعامة للقصر الذي شيّد لاحقاً. وقد وضعت حجارة القصر فوق مكب ترابي قديم، كان يشكل منطقة مفتوحة قبل بناء القصر.

اعتمدت مزار على تحليل الفخار المكتشف في هذا المكب، حيث وجدت أن معظمه يعود إلى العصر الحديدي الأول، أي إلى القرنين الثاني عشر والحادي عشر ق.م، وهما الحقبتان اللتان سبقتا استيلاء داود على القدس من اليبوسيين.

بُني الهيكل الحجري الكبير، بحسب مزار، في مرحلة لاحقة. وتم التعرف على مرحلة ثانية من البناء داخل غرفتين في القسم الشمالي من المبنى، وربما هناك أيضاً مرحلة بناء ثالثة في الحافة الشمالية الشرقية. وتشير اللقى الفخارية المرتبطة بهذه المراحل إلى العصر الحديدي الثاني AII، أي إلى القرنين العاشر والتاسع ق.م.

وبناءً على ذلك، ترجّح مزار أن المرحلة الأولى من البناء تعود إلى بداية العصر الحديدي الثاني AII، وربما إلى منتصف القرن العاشر ق.م، وهي الفترة التي يتحدث فيها الكتاب عن حكم الملك داود لمملكة إسرءيل الموحدة.

أما في الزوايا الشمالية الشرقية من المبنى، فقد عثر على فخار يعود إلى العصر الحديدي الثاني BII (القرون الثامن والسابع والسادس ق.م)، مما يدل على أن القصر ظل مستخدماً حتى نهاية الفترة التي يُطلق عليها زمن الهيكل الأول. بالإضافة إلى ذلك، عُثر على ختم يحمل اسم “يهوخل بن شلميا بن شوفي”،(Mazar, 2007; Mazar, 2006b) وهو شخص مذكور في سفر إرميا (37: 3) كأحد موظفي بلاط الملك صدقيا (597-586 ق.م): وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ صِدْقِيَّا يَهُوخَلَ بْنَ شَلَمْيَا، وَصَفَنْيَا بْنَ مَعْسِيَّا الْكَاهِنَ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ قَائِلًا: «صَلِّ لأَجْلِنَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِنَا»”.

تعرضت استنتاجات مزار لانتقادات مستمرة باعتبارها تحمل طابعاً سياسياً. ففي حادثة يذكرها روبرت درابر، مراسل مجلة ناشيونال جيوغرافيك (الذي أجرى مقابلة مع مزار وفنكلشتين وزملاؤه الآخرون من المدارس المتنافسة)، حين شاهدها وهي تواجه بغضب مرشداً سياحياً، كان طالباً سابقاً لها، كان يشرح للسياح أن القصر الملكي لم يكتشف فعلاً، وأن الحفريات الجارية في مدينة داود ما هي إلا جزء من جهود المؤسسات اليمينية لتعزيز الاستيطان وتهجير الفلسطينيين. لاحظ درابر كيف واجهته مزار وقد اعتراها الغضب والاضطراب، وعلق بعد هذه الحادثة قائلاً “لا يوجد مكان آخر في العالم يشبه فيه علم الآثار إلى هذا الحد لعبة الاتصال المباشر مثلما يحدث هنا”، مشيراً إلى شدة التوتر السياسي حول كل اكتشاف أثري في القدس (Draper, 2010).

وعندما أعلنت مزار أنها عثرت على قصر الملك داود، أعرب عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتين عن رأيه في ذلك باعتباره “انفجاراً مسيانياً” [يقصد لحظة من الحماس الديني الذي يغلب عليه الطابع النبوي أو الخلاصي-المترجم] وأضاف:”يحدث أن يكتشفوا كل بضع سنوات شيئاً في القدس يعتقدون أنه يؤكد وصف الكتاب [المقدس] لحجم المملكة في عهد داود، ثم يتضح لاحقاً أن النتائج تفتقر إلى مضمون حقيقي، فتخبو الإثارة، بانتظار الانفجار التالي” (Finkelstein in Shapira, 2005).

يرى فنكلشتين التحيز النظري لمدرسة القدس عموماً ومزار خصوصاً نحو الموقف الأصولي maximalistباعتباره انعكاساً لنوع من “الانفجار المسياني”، وهو إشارة غير مباشرة إلى الحالة النفسية المعروفة باسم متلازمة القدس Jerusalem syndrome ، والتي تظهر عند بعض الأفراد (لاسيما زوار مدينة القدس) حيث يسيطر عليهم نوع من الهوس الديني نحو المدينة فيعتقدون بأنهم يعيشون وقائع دينية وكتابية وأن لديهم رسالة دينية أو تاريخية خاصة.

ويشير هذا الاتهام إلى عمق تداخل السياسة والدين مع علم الآثار في هذه المنطقة المتنازع عليها من حيث الصلة المباشرة بين أعمال مزار والدعم الذي تلقته من منظمات يمينية دينية مثل “مركز شاليم” و”جمعية إلعاد”.

يبدو، في نهاية المطاف، أن النقد السياسي الذي يوجهه فنكلشتين للبحث الأثري في موقع مدينة داود يتسم بالاعتدال النسبي (Finkelstein, 2011) وينبع هذا النقد من موقع سياسي ينتمي إلى التيار الوسطي داخل المشهد السياسي الإسرائيلي اليوم.

بدايةً، يزعم فنكلشتين أن بعض وسائل الإعلام الدولية تتبنى، دون تمحيص، الاتهامات الفلسطينية بشأن موقع مدينة داود، مشيراً إلى أن الموقع لا يقع ضمن قرية سلوان الفلسطينية، وأن الأنفاق لا تُحفَر تحت المسجد الأقصى. بالإضافة إلى ذلك، تجري الأعمال الميدانية في الموقع بموجب القوانين الإسرائيلية وبالاعتماد على المعايير التقنية الأثرية الحديثة، وتخضع لإشراف هيئة الآثار الإسرائيلية.

يبدي فنكلشتين استياءه من أن المباني القائمة في الجهة الشرقية من قرية سلوان قد أُنشئت فوق مقابر يهودية صخرية ضخمة تعود إلى القرنين الثامن والسابع ق.م، وهي ذات قيمة أثرية عالية، وأن هذه القبور غارقة الآن، حسب زعمه، في مياه الصرف الصحي ومليئة بالنفايات القادمة من سلوان، رغم أنه يجتهد بعدم التطرق إلى الوضع المتردي الذي تعيشه القرى والأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية.

وبينما يدّعي أنه يتناول قضايا “تتجاوز السياسة”، كما جاء في عنوان مقالته الافتتاحية، تظل معالجته للقضية متأثرة بخياراته السياسية.

ويؤكد- مثلما تؤكد مزار وكثير غيرهما- على أن أكبر ضرر يلحق بالإرث الأثري في جبل الهيكل/الحرم الشريف سببه مشاريع البناء التي تقوم بها هيئة الأوقاف الإسلامية تحت الأرض. لكنه، في ذات الوقت، يعبّر عن عدم رضاه تجاه إدارة موقع مدينة داود ومركز الزوار التابع له، والتي تتولاها “منظمة غير حكومية ذات توجهات يمينية”، داعياً إلى أن تتولى جهات رسمية، مثل هيئة الآثار الإسرائيلية وسلطة الحدائق الوطنية، مسؤولية الإشراف المباشر على الموقع (Finkelstein, 2011)

يتضح، كما سأناقش لاحقاً، أن تموضع فنكلشتين من الناحية السياسية والمعرفية  في موقع “الوسط” ليس مجرد خيار شخصي بل جزء من استراتيجيته الأكاديمية ورؤيته السياسية. فهو يضع إيلات مزار ومنظمة “إلعاد” اليمينية على يمينه، بينما يضع شلومو ساند وجمعية “عمِق شَبيه Emek Shaveh” ذات التوجه اليساري على يساره. وفي حين يركز مقال فنكلشتين على القضايا “ما بعد السياسية” تخالفه تقارير جمعية “عمِق شَبيه”، إذ تصرح بأن هدف الحفريات في القدس الشرقية تعزيز السيطرة الإسرائيلية على قرية سلوان والبلدة القديمة. وتزعم أن بعض الأنشطة الأثرية، خاصة مشروع غربلة أنقاض جبل الهيكل، تجري تحت إشراف “إلعاد” ولا تلتزم بالمعايير العولمية (Emek Shaveh Association, 2013; 2012).

تستهدف جهود إيلات حماية السردية الكتابية التقليدية من محاولات التنقيح الكتابي، ومن النظرية الأكثر اعتدالاً والمعروفة باسم التحقيب المنخفض (Low Chronology).  ولا يعني ذلك بالضرورة انتقاصاً من مهنية عملها، تماماً كما احتفظ علماء آثار سابقون مثل وليام فوكسويل أولبرايت بدرجات متفاوتة من التزام بالسرديات الكتابية رغم دقة عملهم العلمي. وقد جاءت ردة فعل زملائها من جامعة تل أبيب، الذين بلوروا نظرية التحقيب المنخفض، متوقعة، حيث كتب فنكلشتين وهرتسوغ وآخرون تعليقاً سريعاً: “تتطلب الأهمية الظاهرة لهذا الاكتشاف، والضجة الإعلامية التي رافقت أعمال التنقيب، نقاشاً فورياً” (Finkelstein et al., 2007)

رفضت مدرسة تل أبيب، بقيادة فنكلشتين وزملائه، تفسير إيلات مزار للقى الأثرية التي عُثر عليها في موقع مدينة داود، كما رفضوا الاستنتاجات التي توصلت إليها. وقد بنوا تفسيرهم البديل على ثلاثة مرتكزات أساسية:

-الجدران التي كشفتها مزار لا تنتمي إلى مبنى واحد متكامل.

-الجدران الأكثر تعقيداً قد تكون مرتبطة بعناصر اكتشفت خلال حفريات عشرينيات القرن العشرين، ويرجَّح تأريخها بالحقبة الهلنستية.

-يتكون الهيكل الحجري الذي يدعم المنحدر من مرحلتين على الأقل: جزء سفلي أقدم، ربما يعود إلى العصر الحديدي الثاني (IIA) في القرن العاشر- التاسع ق.م، وجزء علوي متصل بأعلى نقطة من جدار المنحدر الأول الحشموني يرجَّح أن يؤرخ بالحقبة الهلنستية.

سعى تفسير فنكلشتين وزملائه للقى الأثرية في مدينة داود إلى الدفاع عن نظرية “التحقيب المنخفض”  (Low Chronology)، التي ترجّح أن أقدم اللقى الفخارية المكتشفة في مكب الحفريات تعود إلى القرنين العاشر أو التاسع ق.م.

ولم يُعتمد على الفخار المنتمي إلى العصر الحديدي الثاني (IIA)، الذي عُثر عليه ضمن الهيكل الحجري الكبير، لتأريخ الجدران المحيطة، بسبب غياب الأرضيات الأثرية الأصلية أو علامات التوطن الواضحة في الموقع. حتى مزار أبدت شكوكاً حول ما إذا كان الفخار قد وُجد في موضعه الأصلي (in situ)

أشار فنكلشتين وزملاؤه (2007) إلى غياب أي صلة فعلية بين الهيكل الحجري الكبير وهيكل الدعم الحجري، وأثاروا الشكوك حول وجود مثل هذه العلاقة، إذ بدا لهم أن الجزء العلوي من الهيكل الداعم الصخري ليس إلا ترميماً هلنستياً متأخراً.

وبشكل عام؛ حاول فنكلشتين وآخرون، إظهار أن بعضاً أو جميع أجزاء الهيكل الحجري الكبير بنيت بعد العصر الحديدي الثانيIIA، وحددوا أن الجدران بنيت قبل العصر الهيرودي الروماني، استناداً للقى الفخارية التي عثر عليها مؤخراً في المكب (العصرين الحديدي المتأخر الأول/ والحديدي المبكر IIA). ومع ذلك، فهم يؤكدون على عدم إمكانية تحديد زمن جدران الهيكل بدقة بسبب فقدان الأرضيات، والبناء خلال العصور الرومانية والبيزنطية، والنشاط في الموقع خلال الحفريات الأثرية السابقة.

6.مملكة إسرءيل الشمالية في مواجهة مملكة يهوذا

يثير التنافس بين “مدرسة تل أبيب” و”مدرسة القدس” مفارقة لافتة أكثر من كونه مجرد مصادفة. فتل أبيب، بوصفها مدينة إسرائيلية علمانية، تمثل اتجاهاً فكرياً يختلف جذرياً عن الاتجاه المحافظ الذي تمثّله القدس. ويتجدد بين المدرستين صراع يذكّر بذلك التوتر التاريخي بين مملكة إسرءيل ومملكة يهوذا.

تُبدي كلية العلوم الإنسانية في الجامعة العبرية بالقدس تحفظاً فكرياً أكبر بكثير مقارنة بنظيرتها في جامعة تل أبيب. فالاتجاهات الفكرية المرتبطة بـ”التاريخ الجديد” New History، وما بعد الحداثة Postmodernism، وما بعد الصهيونية Post-Zionism، تجد بيئة أكثر تقبلاً وانتشاراً في تل أبيب. ومن غير المستغرب، إذن، أن يتشكل التيار الجديد في علم الآثار الكتابي ضمن قسم الآثار بجامعة تل أبيب، بينما يهيمن تيار أكثر تحفظاً في القسم ذاته في الجامعة العبرية.

هذا ما يُلاحظ في المشهد المعاصر، أما في السياق التاريخي القديم، فقد حسمت مملكة يهوذا سردية التاريخ لصالحها بعد زوال مملكة إسرءيل الشمالية. غير أن هذا “التاريخ الرسمي” لم يَسْلَم من المراجعة، إذ يشهد اليوم صراعاً متجدداً حول إعادة كتابته، مدفوعاً بنتائج أبحاث حديثة تستند إلى تقنية الكربون المشعّ (C14).

يتحدث فنكلشتين باسم مملكة إسرءيل المنسية Forgotten Kingdom of Israel   الذي بتناول فيه إشكالية واضحة، فيطرح سؤالاً جوهرياً: “كيف يمكن التقليل مِن مكانة مَن يُفترض أنهم “الطيبون” والسماح بانتصار مَن يُفترض أنهم “الأشرار”؟ (Finkelstein, 2005: 39; Finkelstein, 2013)، من جهة أخرى، يسعى يوسف غارفينكل إلى الدفاع عن “إنجازات مملكة يهوذا”(Garfinkel, 2012–2013)

وانصب الجدل خلال السنوات الأخيرة حول موقع خربة قيافا، الذي يطل على وادي إيله، على بُعد نحو 30 كيلومتراً جنوب غرب القدس. وكشفت الحفريات الأثرية في هذا الموقع عن مدينة صغيرة محصنة تعود إلى العصر الحديدي المبكر.

أُجريت أعمال التنقيب في قيافا بين عامي 2007 و2013 بإشراف يوسف غارفينكل من الجامعة العبرية وساعر غانور من هيئة الآثار الإسرائيلية. ويعتقد غارفينكل أن قيافا كانت واحدة من ثلاثة مراكز أساسية للمملكة الموحدة في عهد داود وسليمان، إلى جانب أورشليم وحبرون.

فهل وُجدت حقاً تلك المملكة الموحدة؟

يرى غارفينكل أن الجواب الحاسم بشأن هُوية موقع خربة قيافا لن يأتي من الجنوب، بل من مواقع شمالية. وهو يرفض تحقيب فنكلشتين المنخفض لمملكة يهوذا، فيعرّف قيافا كمدينة يهوذية، ويتساءل عن مدى دقة تحليل فنكلشتين الذي خفّض تاريخ المكتشفات في المواقع الشمالية من زمن داود وسليمان إلى أواخر القرن العاشر ق.م، أي إلى بداية صعود مملكة إسرءيل الشمالية وبروز الأسرة العُمْرية (Garfinkel and Ganor, 2008a; Garfinkel, 2011; Garfinkel, 2012-2013  وطرح فرضيات بديلة حول هوية الموقع.

كان نداف نعمان قد اقترح في العام 2008 أن تكون قيافا موقعاً فلستياً، ثم أعاد تصنيفه لاحقاً بوصفه موقعاً كنعانياً (2012). أما فنكلشتين وفنتلكين (2012)، وكذلك ليفين (2012)، فقد اقترحوا أن يكون الموقع تابعاً لمملكة إسرءيل. ورغم التباينات المنهجية بين الباحثين الكتابيين في كوبنهاغن وشفيلد من جهة، وعلماء الآثار في تل أبيب من جهة أخرى، فإن غارفينكل يضع جميع خصومه في خانة واحدة، ويعتبرهم بأنهم يعتمدون استراتيجيات تنقيحية“. فقد بدأوا بنموذج “أسطوري” ينكر الوجود التاريخي لداود، لكن هذا النموذج –بحسب غارفينكل– انهار بعد اكتشاف نقش تل دان في الأعوام 1993–1994، الذي يذكر عبارة “بيت داود” بفارق زمني لا يتجاوز قرناً واحداً بعد عصره.

يرفض غارفينكل التفسيرات البديلة للنقش، ويصفها بأنها “نتيجة صدمة انهيار النموذج”، ويرفض أيضاً الادعاء القائل بأن مجرد وجود سلالة داودية لا يثبت وجود شخصية داود نفسه.

بعد انهيار النموذج الأول، يرى غارفينكل أن التنقيحيين تبنّوا استراتيجية جديدة، تمثلت في ما يُعرف بـ “التحقيب المنخفض”، والذي اعتُبر –وفق تقويمه– غير موثوق لتأريخ خربة قيافا. وحين واجه هذا النموذج صعوبات مماثلة، اتجهوا إلى استراتيجية بديلة أخرى: النموذج “الإثنوغرافي”. ووفقاً لهذا النموذج، لم يكن سكان قيافا من مملكة يهوذا، بل من الفلستيين، أو الكنعانيين، أو ربما من مملكة شاول الإسرءيلية. (Garfinkel, 2011; Garfinkel, 2012-2013). بهذا يتكشف الطابع السياسي والثقافي والديني الذي لا يزال يُوجّه النقاشات داخل علم الآثار الكتابي.

في إحدى محاضراته، أوضح غارفينكل موقفه من هُوية موقع خربة قيافا قائلاً: “ما الفرق إن موقع خربة قيافا فلستياً أم لا؟ ماذا لو كان كذلك؟ حسناً، لنفترض أنها كذلك، فهذا لن يغيّر ذلك شيئاً، فهذا لا يؤثر علينا، وإذا [كان] سكانها كنعانيين، فلن يؤثر الأمر علينا أيضاً. صح؟ فلماذا نهتم؟ وماذا يعني كل هذا؟  وحتى لو كان الموقع تابعاً لمملكة إسرءيل الشمالية، فهذه الأخيرة انقرضت منذ زمن بعيد ولا تؤثر علينا اليوم. أما يهوذا، ومعها الكتاب المقدس، ومعها التوحيد ومعها كل هذه القيم، فهي ما تزال حية إلى اليوم (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 48) ويتابع: فهذه القضية، وهي في الواقع أهم إسهام قدمتها أرض إسرءيل لتاريخ وثقافة العالم، تظل دائماً عرضةً للهجوم. فلماذا ينبغي لأحدهم الاهتمام بالفلستيين [أو] الكنعانيين؟ لقد ولى كل ذلك، وأصبحوا من الماضي. من المثير للاهتمام، إذن، أن يكون التركيز دائماً على مملكة يهوذا، لأنها ببساطة تمثل الحدث الأهم الذي وقع في هذه الأرض عبر التاريخ البشري” (Garfinkel, 2012–2013: Lecture 11)

أما في المستوى الخطابي، فيُظهر كل طرف من أطراف النقاش عمله على أنه محض بحث علمي، ويصوّر الطرف الآخر باعتباره منحازاً، خاضعاً لدوافع إيديولوجية أو سياسية تخرج عن نطاق وتقاليد العلم. فبينما يقدّم باحثو مدرسة تل أبيب خصومهم في مدرسة القدس على أنهم متطرفون- أصوليون، يردّ هؤلاء بوصف علماء تل أبيب بأنهم تنقيحيون وتفكيكيون يسعون إلى تقويض السرديات التوراتية التقليدية.

يحاول فنكلشتين، أحد أبرز علماء الآثار في مدرسة تل أبيب، تقديم نفسه كممثل لـ”الرؤية الوسطية” أو “النظرة المتوازنة” في هذا النزاع، ويقول: “كل شخص يريد أن يكون في الوسط. ولكن كيف تعرف أنك تقف في الوسط فعلاً؟ ستدرك ذلك عندما تتلقى الهجوم من كلا الطرفين… حينها عليك أن تشعر بالرضى، فهذا هو الموقع الأفضل” (Finkelstein, 2006–2007: Lectures 1 & 13). ينطوي خطاب فنكلشتين على افتراض ضمني بأن الوسط محايد بطبيعته، وأنه يقف على مسافة واحدة من الأطراف المتقابلة. غير أن هذا الزعم يغفل أن الخطاب “الوسطي” السائد غالباً ما يظهر نفسه خطاباً شفافاً من الناحية السياسية، لكنه يُخفي تحيّزاته بدلاً من الاعتراف بها. ومن أجل فضح هذه الانحيازات، لا بد من تقديم سرديات بديلة – محلية أو أجنبية – تكشف ما يتوارى خلف واجهة “الاعتدال”.

يضع فنكلشتين نفسه بين تيارين متقابلين: من جهة، النزعة التنقيحية التي وصلت ذروتها، ومن جهة أخرى، التيار الصهيوني المتشدد الذي يرفض أتباعه الاعتراف بعدم توافق الأدلة الأثرية مع الرواية الكتابية لزمن الهيكل الأول. ويعتبر كل من يوسف غارفينكل وإيلات مزار، وكلاهما من مدرسة القدس، من أبرز خصومه. وكتب منتقداً قراءة غارفينكل لمكتشفات خربة قيافا: “هذا التعامل غير النقدي مع النص، الذي يُراد له الحديث باسم القرن الحادي والعشرين، لا يعدو كونه بقايا نهج سبينوزا في مقاربة العهد القديم” (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 48).

ورأى أن استنتاجات مزار عن مدينة داود تقوم على “قراءات حرفية مبسطة للنص الكتابي، لا تدعمها الوقائع الأثرية” (Finkelstein, 2011).. وكما أوضحتُ، تواصل مزار نهج الجيل السابق من الآثاريين الصهاينة، ويَتهمها فنكلشتين وزملاؤه بتجاهل كمٍّ هائل من الأدلة، سواء من الحفريات أو من الدراسات الأثرية والكتابية. فالنص الكتابي، كما يقولون، هو ما يهيمن على عملها الميداني، وليس علم الآثار.

فعلى سبيل المثال، تعتمد في تفسيرها للقرن العاشر ق.م على سفر أخبار الأيام، مع أنه كُتب على الأرجح في القرن الرابع ق.م. وبالمثل، يتهمونها بتجاهل نتائج عقود من الأبحاث النقدية في سفر التكوين والروايات البطريركية، إذ تفترض أن هذه النصوص تعكس أوضاع العصر البرونزي الأوسط، وهو ما لا تدعمه نتائج الدراسات الحديثة. أما في منطقة أوفيل، الواقعة بين جبل الهيكل ومدينة داود، فقد نسبت مزار دون أدلة قاطعة الجدار المكتشف هناك إلى عهد سليمان، رغم اعترافها بأن هذا الجدار استُخدم في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد (Finkelstein et al., 2007: 160–162)

كما تلعب السلطة والنفوذ والسياسات الأكاديمية والميزانيات دوراً في الصراع بين مدرستي تل أبيب والقدس. وتتجسد هذه الجوانب في حادث يعود للعام2011 حين قدمت مجموعتان من علماء الآثار، واحدة بإدارة يوفال غورين وعوديد ليبشيتس من جامعة تل أبيب والأخرى بإدارة غارفينكل وزميله الأمريكي مايكل هاسل، طلبات إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، للقيام بحفريات في تل سوكوه، القريب من خربة قيافا في وادي إيله. وقام غورين وليبشيتس، مثلهما مثل غارفينكل، بحفريات في وادي إيله، لكنهما لم يقبلا مقولته حول يهوذية قيافا. ووفقاً لهما تنتمي قيافا إلى كيان كنعاني صغير.

وحصل الفريقان على تصاريح رسمية لإجراء مسوح أثرية. غير أن ليبشيتس بعث برسالة إلى سلطة الآثار يتهم فيها غارفينكل بالحفر دون ترخيص، وهو ما نفاه الأخير تماماً، متهماً ليبشيتس بعدم القدرة على التمييز بين “السرقات الأثرية” و”الحفريات التمهيدية”. وردّ غدعون أفني، من سلطة الآثار، برفض شكوى ليبشيتس. فردّ الأخير بالقول إن العلاقة بين “الجامعة العبرية” في القدس وسلطة الآثار يغلب عليها الغموض وعدم الشفافية، ملمّحاً إلى تضارب المصالح، فكل من أفني وغارفينكل يعملان في الجامعة نفسها، أما غانور، رئيس وحدة مكافحة سرقة الآثار في السلطة، والذي يعمل مع غارفينكل في قيافا، فهو أيضاً من طلابه السابقين.

ادّعى غارفينكل، في معرض ردّه، أن سبب الهجمات التي يتعرض لها من مدرسة تل أبيب يعود إلى كشفه مدينة محصّنة في قيافا، وهو ما ينسف، بحسب تعبيره، فرضيات المدرسة التنقيحية التي يقودها فنكلشتين. وقال إن أتباع تلك المدرسة بدلًا من خوض نقاش علمي نزيه، “يلجأون إلى حيَل غير نظيفة وأساليب قذرة” للنيل منه. ووصل به الأمر إلى وصف فنكلشتين بـ”الدكتاتور”، مدّعياً أنه المسؤول المباشر عن “الاستهداف” الذي يتعرض له، فيقول: تحاول مدرسة تل أبيب إعاقتنا. لا أظن أن لديهم حرية علمية هناك. فنكلشتين هو من يوجّههم. من أين حصل يوفال غورين على تمويل التنقيب، إن لم يكن من ميزانيات فنكلشتين؟”

وصدرت اتهامات مشابهة عن غابرييل باركاي، أحد أبرز ممثلي تيار الآثاريين المحافظين، والذي اتهم فنكلشتين بفرض ما سمّاه “جماعية مفاهيمية” على قسم الآثار في جامعة تل أبيب، الأمر الذي دفعه، كما قال، إلى مغادرة الجامعة عام 1997. نفى فنكلشتين، بدوره، أي علاقة له بالخلاف بين غارفينكل وفريق غورين-ليبشيتس، وأكّد أن ميزانيات أبحاثه مخصصة فقط لمشاريعه الخاصة (Hasson, 2011; Shtull-Trauring, 2011).. لكن غارفينكل استغل في سجاله العلني حجم منحة البحث التي حصل عليها فنكلشتين والتي بلغت أربعة ملايين دولار، ليشكك في موضوعيتها وجدواها، قائلاً بسخرية لاذعة: “إنه لا يستخدم العلم أصلاً. الأمر برمّته أشبه بمنح صدام حسين جائزة نوبل للسلام” (Garfinkel cited in Draper, 2010).

ومع تصاعد هذا الجدل، استمر غارفينكل في أعماله الميدانية في قيافا، بينما حصلت مجموعة غورين على تصريح رسمي للقيام بالحفريات في تل سوكوه  [شويكة].

7.الصبي الهولندي الذي وضع إصبعه في ثقب السد

يصف غارفينكل النزاع المحتدم حول موقع قيافا بأنه “حرب عالمية”، ويروي لطلابه مقارنته لنفسه بالصبي الهولندي الذي وضع إصبعه في ثقب السد المنفجر ليمنع الفيضان، كنوع من الاستعارة في التركيز على دوره الشخصي في مواجهة سيل من التفسيرات المنحرفة، حسب اعتقاده (Garfinkel, 2012–2013: Lecture 1) حيث يرى أن معركته لا تقتصر على تقديم التفسيرات الأثرية فقط، بل ضرورة تعيين جماعة التنقيحيين الكتابيين كمنتج ثانوي لنزعات ما بعد الحداثة والتفكيكية والصراع الثقافي والمعرفي ضد تيار ما بعد الحداثة، ويُحمّل مفكرين مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا مسؤولية تراجع الإيمان بالحقائق المطلقة، وأن من الممكن وجود عدة نظريات في آنٍ واحد.

ويضيف بأن “مشروع البحث” نفسه قد انقلب رأساً على عقب؛ إذ لم يعد يُطلب من الباحثين الكشف عن حقيقة موضوعية، بل أصبح هدفهم هو “تفكيك” النماذج القديمة وابتكار نماذج بديلة باستمرار. فالجميع يريد خلق نموذج جديد. ويحمّل توماس كون، صاحب نظرية “التحولات العلمية”، مسؤولية هذا التحول، كما يشير إلى سبب آخر للوضع الحالي يتمثل في الانفجار المعرفي ومتطلبات النشر الأكاديمي الضاغطة، حيث  يحتاج الجميع إلى الابتكار والنشر ما بين مقالين إلى أربعة مقالات سنوياً”.

من ناحية أخرى، يقارن ذلك بما يحدث في العلوم الطبيعية والرياضيات، حيث تبقى الحقائق مستقرة مثل: 1 + 1 = 2، لكنه يضيف ساخراً أنه سمع من فيلسوف رياضيات أن هذه القاعدة ليست صحيحة دائماً، وهو ما شجعه – بحسب تعبيره – على الاستمرار في أبحاثه، لأن حتى “أسطورة العلوم الطبيعية بدأت تتصدع” (Garfinkel, 2012–2013: Lecture 1)

وما دام يعتبر فنكلشتين ممثلًا لتيار التنقيحيين، فهو يشن عليه هجوماً من ذات الزاوية، متهِماً إياه بالنرجسية المعرفية والرغبة الدائمة في مخالفة الآخرين، مهما قالوا، ويقول متهكماً: “لو قلت إن معطفك رمادي، سيقول بل هو بني غامق. وبذات الطريقة، لو قلت إن هذه مدينة فلستية، سيجيبك: لا، بل هي يهوذية” (Garfinkel in Shtull-Trauring, 2011)

لكن واقع فنكلشتين أكثر تعقيداً من هذا التصوير. فهو ليس تنقيحياً صرفاً، ولا يُعد مفكراً ما بعد حداثي أو تفكيكياً. ورغم ذلك، يواصل غارفينكل تقديمه بوصفه خصماً راديكالياً عدمياً، ما يسمح له – أي غارفينكل – بأن يظهر بمظهر المتوازن المعتدل، غير متحيز.

ويرد فنكلشتين، بدوره، على هذا الاتهام بتوصيف حاد لغارفينكل، معتبراً أن موقفه يعكس “هوساً مَرَضياً”، ويقارن تطرفه المعرفي بما لدى شخصيات أصولية من القرن الماضي، بل يذهب إلى القول: “لا يوجد فرق حقيقي بين غارفينكل ويادين وأولبرايت. الفرق فقط أن الأمور معه ازدادت سوءً” (Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011).

يسارع غارفينكل إلى اتهام غيره بالسعي إلى التميز والظهور من خلال تقويض النظريات القديمة السائدة وطرح نماذج جديدة، لكنه يمارس الأمر ذاته تماماً(6). ففي عمله في خربة قيافا، يسعى إلى تفكيك ما يسميه نماذجالنزعة التنقيحية“، لا سيما النموذج الزمني الذي وضعه فنكلشتين وزملاؤه. وإن لم يكن هدفه إحياء النموذج الأصولي التقليدي الذي تجاوزته الأبحاث، فهو على الأقل يروج لرؤية معدلة وأكثر مرونة منه.

وأشار يوآف كارني، في مقابلة صحفية مع غارفينكل (2010)، إلى ميله لإثارة الجدل ورغبته في خوض المعارك الفكرية. ويشبّه غارفينكل النص التوراتي بكتاب “حقيبة الأكاذيب Bag of Lies”، وهو مجموعة قصصية شهيرة عن مقاتلي البالماح، لا ينبغي أن تُقرأ حرفياً، لكنها تتضمن عناصر واقعية حول المواقع والعلاقات بين اليهود والعرب والبريطانيين. ويرى غارفينكل أن التوراة تُستخدم على نحو مماثل كمصدر للقرائن والحقائق الممكنة.

في استعراضهما لخربة قيافا، استخدم غارفينكل وغانور صورة معدلة لمقبرة قديمة، وأرفقاها بتعليق ساخر: “لقد دُفن التحقيب المنخفض رسمياً الآن (Garfinkel and Ganor, 2008b)  وفي مقال لاحق بعنوان “ولادة وموت التنقيحية الكتابية”The Birth and Death of Biblical Minimalism، كتب غارفينكل أن “فنكلشتين ليس فقط الأب المؤسس للتحقيب المنخفض، بل هو أيضاً متعهده وحفّار قبره (Garfinkel, 2011: 50).

من جهتهما، ربط فنكلشتين وفانتالكين ما وصفاه بـ”اللغة المروعة” التي يستخدمها غارفينكل بدوافع أخروية، مشيرين إلى أن مقالهما لم يكن سوى محاولة لاحتواء وتفسير البيانات الشاذة من قيافا ضمن إطار “العلم الطبيعي” (بحسب توماس كون). يوضح فنكلشتين وفانتالكين-في الواقع- أن شذوذاً واحداً لا يكفي لهدم نموذج قائم. ولفتا إلى أن الطريقة المثيرة التي قُدمت بها نتائج قيافا إلى الأكاديميين والجمهور، أعادت إلى الواجهة فهماً قديماً يرى في كل اكتشاف أثري مدهش قادر على قلب مسار البحث الحديث وفرصة لإحياء، بالأحرى إنقاذ القراءة الحرفية للنص الكتابي عن تاريخ إسرءيل القديمة من النقد الأكاديمي، وهو اتجاه قديم تعود جذوره إلى نقد وليم فوكسويل أولبرايت لمدرسة فلهاوزن مطلع القرن العشرين؛ ذلك النقد الذي قاد الأبحاث التاريخية والأثرية والكتابية إلى مسارات منحرفة استمرت لعقود.

ظهر هذا التوجه في صور متعددة، وإن بشكل متقطع، خلال السنوات الأخيرة، حيث استُخدم علم الآثار كأداة لإعاقة التقدم الذي تحرزه البحوث النقدية. ولم تكن خربة قيافا سوى أحدث تجليات هذا الاتجاه، عبر محاولة توجيه ضربة قاضية للدراسات النقدية المعاصرة من خلال اكتشاف أثري مذهل (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 58)

في صيف العام 2013، أنهى غارفينكل وغانور موسم حفرياتهما الأخير في قيافا، وأعلنا في مؤتمر صحفي عثورهما على “قصر الملك داود”. وعلى نحو أكثر تحديداً، عثرا على صفّين أو ثلاثة من الحجارة الممتدة بطول ثلاثين متراً. وبناءً على تقديراتهما، بلغت مساحة القصر نحو ألف متر مربع، بارتفاع طابقين على الأقل. صرّح غارفينكل بثقة: “لا شك لدي في أن حاكم المدينة جلس هنا، وعندما زار الملك داود هذه التلال، نام في هذا المكان”. غير أن هذا القصر دُمّر لاحقاً بفعل بناء بيزنطي ضخم أُقيم فوقه بعد مرور نحو 1400 عام.

شكك خصوم غارفينكل في تأريخ القصر، وفي علاقته المفترضة بالملك داود، بل وفي تحديد قيافا كمدينة يهوذية. وأشار فنكلشتين ساخراً، بشكل غير مباشر، إلى واقعة سابقة حين ادّعت عالمة آثار أنها اكتشفت قصر داود في القدس: “هذا يذكّرني بحكاية الفتاة والذئب. بالأمس وجدوا قصر داود في القدس، واليوم في قيافا، وغداً… من يدري أين؟ المهم أن تجذب هذه الأخبار انتباه الجمهور”

وعلّق جاكوب إل. رايت من جامعة إيموري، بدوره قائلاً: “الطريقة الأضمن لإثارة الضجة هي الادعاء بأنك عثرت على شيء مرتبط بعصر الملك داود”. وأشار إلى أن المرتفعات، التي تحولت لاحقاً إلى جزء من مملكتي إسرءيل ويهوذا، والتي كانت تضم ملوكاً وأمراء حرب محليين في القرن العاشر ق.م، ما يجعل من الربط التلقائي لأي لقى أثرية بالملك داود تجسيداً لما سمّاه “فقر الخيال التاريخي” (Garfinkel, 2013a; Hasson, 2013a; Fridman, 2013)

لكن المسألة تتجاوز المكاسب المباشرة المتمثلة في العناوين العريضة، والشهرة، والتمويل الأكاديمي. فعلى الرغم من أن غارفينكل لا يُعد أصولياً تقليدياً بالمعنى الحرفي، إلا أنه ينحاز، في توجهه العام، إلى القراءة الأصولية للنص الكتابي. ورغم ضآلة معرفتنا بالملك داود من الناحيتين التاريخية والأثرية، يقفز غارفينكل إلى استنتاج مفاده أن قيافا لم تكن فقط مدينة يهوذية تعود إلى القرن العاشر ق.م، بل هي عينها مدينة شعاريم. والخطوة التالية، بطبيعة الحال، هي نسب القصر المكتشف إلى داود نفسه، ثم يذهب للقول ما دام هناك مدينة وقصر، فلا بد أن الملك داود نام هنا عندما زار هذه التلال”.

أسهمت مدرسة القدس، بما لديها من تقاليد بحثية، في تشكيل الإطار النظري الذي فسّر غارفينكل من خلاله بياناته واللقى الأثرية التي اكتشفها. ويستند تكوينه الأكاديمي ومسيرته المهنية إلى معهد الآثار في الجامعة العبرية. ورغم أن مشروعه البحثي الأول انصبّ على عصور ما قبل التاريخ، إلا أنه استُدعي إلى مجال الآثار الكتابية بعد تقاعد عميحاي مزار وعدد من كبار الباحثين في هذا الحقل، وتسلّم عام 2004 رئاسة قسم الآثار الكتابية.

وكما ورد سابقاً، يعترف غارفينكل بأن مملكة يهوذا تظل موضوعاً شديد الأهمية والجدل، لأنها – حسب تعبيره – ما زالت تؤثر علينا حتى اليوم. وإذا ما أخذنا على محمل الجد تعابير مثل: “مملكة يهوذا، والكتاب المقدس، والتوحيد… لا تزال مستمرة حتى اليوم”، فإننا نلحظ كيف تسهم الهوية الصهيونية اليهودية -القومية منها والدينية- في تشكيل طموحات غارفينكل البحثية، وفي الطريقة التي يفسّر بها الاكتشافات الأثرية.

ويبدو أنه ملتزم، بشكل حماسي، بما يسميه في محاضراته “الإنجازات المادية والفكرية لمملكة يهوذا” والدفاع عنها. ويهاجم بشدة الباحثين التنقيحيين الذين يسعون -كما يراهم- إلى “محو” هذه الإنجازات، ويضع إسرائيل فنكلشتين في مقدمتهم. كما يسخر من نموذج التحقيب الزمني المنخفض (Low Chronology)، بالقول إن داود وسليمان، وفقاً لهذا النموذج، لم يكونا سوى شيوخ بدو يحكمان قرية صغيرة.

يستعرض غارفينكل أمثلة على ما يعتبره محاولات منهجية من قبل التنقيحيين لتجريد مملكة يهوذا من أي إنجاز مادي أو رمزي:

(أ) لم تكن هناك “مملكة موحدة” تجمع يهوذا وإسرائيل في عصر داود وسليمان.

(ب) لم يبدأ تأسيس مملكة يهوذا إلا في أواخر القرن الثامن ق.م، أو -وفقاً لنموذج فنكلشتين الأحدث- في أواخر القرن التاسع ق.م.

(ج) الخطة العمرانية المميزة للمدن اليهوذية، مأخوذة أصلاً عن قيافا، وهي مدينة فلستية أو كنعانية أو إسرائيلية.

(د) لم تتحول أورشليم إلى مدينة مركزية إلا بعد أن نزح إليها عدد كبير من سكان مملكة إسرائيل عقب تدميرها.

(هـ) الأبجدية العبرية لم توضع إلا في القرن الثامن ق.م على الأرجح.

(و) لم يتبلور مفهوم التوحيد إلا في العصور الفارسية أو الهلنستية.

ويقرّ غارفينكل بأن كل واحدة من هذه المزاعم قد تكون معقولة إذا نُظر إليها بمعزل عن غيرها، لكنه يرى أن اجتماعها معاً -إلى جانب مزاعم أخرى مشابهة- يشكّل “اتجاهاً غريباً”(Garfinkel, 2012-2013: Lectures 11 & 12).

ويشبّه نفسه، في هذا السياق، بالصبي الهولندي الذي أنقذ بلده من الغرق حين وضع إصبعه في فتحة صغيرة في السد، مانعاً بذلك تسرب المياه.

8.حرب خربة قيافة والتفاعل المتبادل بين النظريات والبيانات

يرى برونو لاتور أن الأدبيات الأكاديمية تتحوّل إلى مسألة تقنية عندما تندلع الخلافات داخل المجتمع العلمي (Latour, 1987: 30–44) ويمكن رصد هذا التحول بوضوح في النقاش القائم بين مدرستي تل أبيب والقدس بشأن خربة قيافة (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 39-41)، كما تجسّده تعليقات فنكلشتين وفانتالكين حول “العيوب المنهجية” و”التسرّع” الذي طبع عمليات التنقيب في الموقع، وكذلك انتقاداتهما لتأريخ الكربون المشع وجوانب أخرى من المشروع.

1.8. التفاعل المتبادل بين النظريات والبيانات

1.1.8. التحقيب التاريخي باستخدام تقنية الكربون المشع 14C

يبدأ العصر الحديدي الثاني IIA حوالي سنة 1000 ق.م، وينتهي قرابة 925/900 ق.م، حسب التحقيب “العالي” (High Chronology)  الذي تتبناه المقاربة المحافظة، وهو ما يربط هذه المرحلة بزمن داود وسليمان، أو ما يُطلق عليه “المملكة المتحدة”.

كان فنكلشتين، الذي يشكك في وجود “المملكة المتحدة” ويدافع عن نموذج “التحقيب المنخفض” (Low Chronology)، قد اقترح في العام 1996 بداية العصر الحديدي الثاني IIA حوالي 900 ق.م (Finkelstein, 1996) وفي السنوات الأخيرة، سعى لإثبات بداية هذا العصر في حدود 930/920 ق.م، على أن نهايته تقع في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م  (Finkelstein and Piasetzky, 2011; Toffolo et al., 2014) كما قدّم شارون وآخرون (2007) دراسة موسعة استناداً لنموذج التحقيب المنخفض، تؤكد بداية العصر الحديدي الثاني IIA  فعلياً قرابة العام 900 ق.م.

أما عميحاي مزار، ممثل مدرسة القدس الأبرز، فقد تبنى موقفاً وسطاً يمكن وصفه بـ”المحافظ المعتدل”. فاقترح نسخة معدلة من التحقيب العالي، يبدأ فيها العصر الحديدي الثاني IIA حوالي 980 ق.م وينتهي نحو 840/830 ق.م. وقد خالف مزار اعتماد فنكلشتين على نماذج “بايز” الإحصائية (Bayesian Models)  في تأريخ الكربون المشع، مبيّناً أنه حتى “برونك رامزي”- مطوّر هذه النماذج- عبّر عن شكوكه حيال مدى حساسيتها عند الاعتماد عليها في تحليل عينات من مواقع متعددة، خاصةً عندما توجد فجوات مشكوك فيها في التسلسل الزمني المتاح  (Mazar, 2011)

ويحاول فنكلشتين، في السنوات الأخيرة، تقليص الفجوة بين النموذجين، ويشير إلى أن الخلاف اليوم لا يتجاوز خمسين عاماً، بل ربما أقل من ذلك: بين 985 و935 ق.م، أو في حدود 970–940 ق.م  (Finkelstein and Piasetzky, 2011; Toffolo et al., 2014)

لم يُذكر اسم غارفينكل في هذه المقالات، ولكن فنكلشتين يعالج تفسيره لبيانات الكربون المشع من خربة قيافة في مقالات أخرى.

غارفينكل نفسه يذهب إلى أن بيانات الكربون المشع الجديدة تقوّض نظرية التحقيب المنخفض تماماً. ويؤرخ مع زميله غانور العصر الحديدي في قيافة إلى الفترة الممتدة بين 1026 و975 ق.م. وهما يريان أن هذه التواريخ تتوافق مع المرحلة التي تُنسب تقليدياً إلى “مملكة داود” (1000–965 ق.م)، وهي أيضاً تواريخ مبكرة جداً إذا ما قورنت بالزمن المفترض لحكم سليمان (965–930 ق.م).

كما يرى غارفينكل وغانور أن الموقع لم يكن مأهولاً إلا لعدة عقود، ودُمّر على الأرجح قبل سنة 969 ق.م (احتمالية بنسبة 77.8٪). وتبدو احتمالية استمرار الموقع حتى العام 940 ق.م ضعيفة جداً (6.2٪ فقط). انطلاقاً من ذلك، يرى غارفينكل أن نظرية التحقيب العالي هي النموذج الصحيح، على الأقل فيما يخص مملكة يهوذا. فحسب رأيه، حدث الانتقال من أواخر العصر الحديدي الأول إلى أوائل العصر الحديدي الثاني IIA في يهوذا حوالي سنة 1000 ق.م (Garfinkel and Ganor, 2009: 4, 8; Garfinkel, 2011: 51; Garfinkel et al., 2012: 364). ويمكن تلخيص الفروق الأساسية بين النموذجين-العالي والمنخفض-في تحديد بداية العصر الحديدي الثاني IIA وفقاً للآراء المختلفة كما يلي:

-إسرائيل فنكلشتين (نموذج التحقيب المنخفض): يرجّح بداية العصر الحديدي الثاني IIA حوالي 900 ق.م، وجرى تحديث لهذا التاريخ لاحقاً إلى ما بين 920–940 ق.م.

-إيلان شارون (تحقيب منخفض): يُبقي على التاريخ ذاته، حوالي 900 ق.م.

عميحاي مزار (تحقيب عالٍ): يحدّد بداية العصر الحديدي الثاني IIA بحوالي 1000 ق.م، ثم عدّل هذا التاريخ لاحقاً إلى حوالي 980 ق.م.

-يوسف غارفينكل (تحقيب عالٍ): يذهب إلى أن بداية هذا العصر تعود إلى 1000 ق.م على الأقل في منطقة يهوذا، نظراً لبدايات ما يُعرف بـ”المملكة الموحدة”، ولظهور المملكة الشمالية لاحقاً.

لا تُعدّ تقنية التأريخ الكربوني في موقع قيافة مسألة تقنية مستقلة أو محايدة، بل هي جزء من نقاش نظري أوسع بين مدرستي التحقيب المنخفض والعالي. ويتمثل أحد الأهداف الأساسية لهذا البحث في تحقيق توافق بين التحقيب الزمني المطلق (أي نتائج التأريخ الكربوني) والتحقيب النسبي القائم على أنماط الثقافة المادية، مثل الفخار.

وفقاً لغارفينكل وغانور، يعود تأريخ طبقة العصر الحديدي في قيافة إلى الفترة بين 1026–975 ق.م، وذلك بنسبة احتمال تبلغ 58٪، بناءً على تحليل عينات كربونية لأربع أنوية زيتون عُثر عليها في مواقع مختلفة من الموقع، وحُسِب هذا التاريخ من خلال متوسط النتائج للعينات. ولم يكن مفاجئاً أن تُفسّر هذه النتائج بوصفها دعماً مباشراً لتحقيب عالٍ، يناقض، إلى جانب أدلة أخرى من قيافة، التسلسل الزمني الذي اقترحه فنكلشتين وفق نموذج التحقيب المنخفض.
وكما عبّر الباحثان:” وقع الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى العصر الحديدي الثاني في أواخر القرن الحادي عشر ق.م، مما يوفر دليلاً واضحاً ضد التأريخ المتأخر الذي يطرحه نموذج التحقيب المنخفض”. وأشار غارفينكل وغانور إلى مشكلتين منهجيتين رئيستين في الدراسات المؤيدة للتحقيب المنخفض:

-جاءت العينات التي استخدمت لتأريخ العصر الحديدي الثاني IIA من مواقع في المملكة الشمالية بالدرجة الأولى، وليس من منطقة يهوذا.

-غالباً ما أخذت العينات من طبقات متأخرة في هذا العصر، وليس من بداياته (Garfinkel and Ganor, 2009: 4, 8, 15, 35–38)

واتهم غارفينكل، في مقالته “ولادة وموت النزعة التنقيحية الكتابية”، فنكلشتين وزميله عالم الفيزياء إيلي بياسيتزكي بأنهما تعمّدا التردد في نشر عدد من نتائج التحليل الكربوني التي تؤرخ لمواقع من المملكة الشمالية، لأن هذه النتائج، التي تعود إلى حوالي 1000 ق.م، كانت تتفق مع نموذج التحقيب التقليدي العالي. وبناء على ذلك، لم يتردد غارفينكل في إعلان ما يلي: “فنكلشتين ليس فقط مؤسس نظرية التحقيب المنخفض، بل حفّار قبرها أيضاً” (Garfinkel, 2011: 50)

إلى جانب قضايا المعايرة والدقة والصلاحية الزمنية لطريقة التأريخ، ونوع المادة التي أُخذت منها العينة، وخيارات الحساب والنماذج الإحصائية المستخدمة (مثل متوسط النتائج أو نماذج بايز الاحتمالية)، هناك عوامل أخرى تؤثر في نتائج تأريخ الكربون المشع.

وقد سعى غارفينكل وغانور إلى تأكيد النصف الأول من القرن العاشر ق.م كنقطة مرجعية زمنية تدعم التحقيب العالي، فاعتمدا على مجموعتين من أربع نوى زيتون محترقة في كل مجموعة (استُخدمت نواة واحدة فقط من الأنوية السبع الأصلية في كلا المجموعتين). هذا الانتقاء الدقيق يُظهر حجم التأثير الذي تمارسه الافتراضات النظرية المسبقة على اختيار البيانات وطريقة تفسيرها.

لم تعطِ المجموعة الأولى من العينات المأخوذة من جدار الاستحكامات (casemate wall)، النتائج المرجوّة. فإحدى هذه العينات لم تنتج أي بيانات كربونية، ومع ذلك أعيد استخدامها ضمن المجموعة الثانية. وأُرّخت عيّنتان من أنوية الزيتون الأخرى إلى العصر البرونزي الوسيط، وهي نتيجة تنسجم مع اللقى الفخارية التي كُشف عنها في الموقع. أما العينة التالية فأُرّخت إلى العصر الحديدي الأول (1130–1046 ق.م)، بنسبة احتمال تبلغ 59.6٪، وهي نتيجة أعلى قليلاً من الحد المتوقع حتى وفقاً للتحقيب العالي. أما العينة الأخيرة فقد أُرّخت إلى الحقبة الهلنستية.

فسّر غارفينكل وغانور هذه التناقضات بالعودة إلى خصائص الجدار البنيوية، إذ توجد بين الحجارة الضخمة لحظائر المدينة فراغات كبيرة، مما يجعل انتقال المواد العضوية عبر الطبقات أمراً وارداً، سواء عبر نشاط الجذور النباتية أو عبر الحيوانات. ووفقاً لهما، فإن ما بين 10٪ إلى 30٪ من العينات قد تكون تعرضت لنوع من التلوث بسبب هذا الانتقال الرأسي غير المنتظم للمواد العضوية بين الطبقات الأثرية.

بعد ذلك، قدّما المجموعة الثانية من العينات للتحليل الكربوني. وكما أُشير سابقاً، احتُسبت النتيجة النهائية عن طريق حساب متوسط نتائج أربع عينات من أنوية الزيتون. ومكنت هذه الطريقة الباحثين من تقليص النطاق الزمني للفترة المحتملة لبداية عصر داود، أو قبله بقليل، إلى ما بين 1026 و975 ق.م (Garfinkel and Ganor, 2009: 35–38؛ Garfinkel, 2012–2013: Lecture 8)

ومع أن منهجية التأريخ تؤثر بوضوح في النظريات، فإنها لا تنفصل بدورها عن تلك النظريات، بل تتأثر بها أيضاً. في هذا السياق، لا يعمل تأريخ الكربون المشع كأداة محايدة تماماً، بل يصبح في بعض الأحيان حلبة للصراع النظري بين أنصار التحقيب العالي والمنخفض. وجاءت استجابة غارفينكل وغانور حاسمة وسريعة. لكن في المقابل، نشر فنكلشتين وبياسيتزكي في العام 2010 مقالاً هاجما فيه المقاربة التي اتبعها خصومهم (Finkelstein and Piasetzky, 2010)  وتركّز نقدهما على أن حساب متوسط النتائج الإشعاعية لا يُعد إجراءً منهجياً سليماً إلا في حال كون العينات تمثل لحظة زمنية واحدة. ويكون ذلك ممكناً فقط عندما يُمكن ربط العينات بحدث محدد وواضح، مثل تدمير الموقع بالحريق، أو عندما تُجمع العينات من أسفل طبقة تدمير موحدة سميكة.

وفي حالة قيافا، أُخذت العينات من أماكن متفرقة داخل الموقع ولا تمثل لحظة دمار واحدة، بل فترات متعاقبة من النشاط السكني. ولذلك، قد تعكس النتائج مراحل مختلفة في تاريخ التوطن، يصعب تحديد مدّتها الزمنية بدقة. واعتمد فنكلشتين وبياسيتزكي في تقديراتهما على ثلاث ركائز:

-البيانات المنشورة من قبل غارفينكل وغانور أنفسهما.

-تحليل مجاميع الفخار في قيافا، والتي أظهرت أنها تنتمي إلى مرحلة متأخرة من العصر الحديدي الأول.

-بيانات إضافية من نتائج الكربون المشع والمجاميع الفخارية التي تعود إلى مراحل مبكرة ومتوسطة من العصر الحديدي الأول.

واستناداً إلى ذلك، خلص فينكلشتين وبياسيتزكي إلى أن نشاط التوطن في الموقع بدأ حوالي 1050 ق.م، واستمر حتى فترة ما في القرن العاشر ق.م، دون أن يتجاوز العام 915 ق.م. أي أن تأريخ الموقع يدعم في تقديرهم التسلسل الزمني للتحقيب المنخفض، وليس العالي.

وكما يلخّص فنكلشتين وبياسيتزكي موقفهما واعتباراتهما، فإن نتائج التأريخ الكربوني في خربة قيافا تدعم، من وجهة نظرهما، التحقيب المنخفض للعصر الحديدي، إذ تنسجم مع عشرات القياسات من مواقع شمالية وجنوبية أخرى تعود إلى أواخر العصر الحديدي الأول. ويؤكدان أن هذا الانسجام الإقليمي الواسع لا يمكن تجاهله، كما يرفضان محاولات تقديم قيافا كدليل حاسم على وجود مملكة داود الموحدة في وقت مبكر.

وأخيراً، يتهم فينكلشتين وبياسيتزكي غارفينكل وغانور بـ “الخطأ والتضليل” من خلال الادعاء بأن:

-النتائج السابقة كانت تستند إلى عينات مأخوذة من الشمال فقط

-تأريخ الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى العصر الحديدي الثاني كان يستند إلى عينات من سويات العصر الحديدي الثاني المتأخرIIA وليس على عينات من بداية العصر.

 هناك 107 قياسات من ثماني سويات من العصر الحديدي الأول المتأخر و32 قياس من خمس سويات أخرى من العصر الحديدي الثاني المبكر الحديد IIA ويعتقد فينكلشتين وبياسيتزكي أن القياسات تمثل على نحو كاف كل من الشمال والجنوب. ويشددان على أن فهم نتائج قيافا لا يمكن عزله عن السياق الأوسع للتسلسل الزمني والنقاش النظري. فالنتائج لا تقف وحدها، بل ترتبط بسلسلة من المعايير التفسيرية، مثل:

-تحديد نوع الحدث الذي تمثله العينات (تأسيس، تدمير، أو نشاط مستمر)، وهو أمر جوهري لتبرير حساب المتوسط.

-التمييز بين سويات الفخار، إذ يرون أن مجاميع قيافا تنتمي، في معظمها، إلى أواخر العصر الحديدي الأول، وهو ما لا يتوافق مع التحقيب العالي.

-التنوع الجغرافي للعينات، ما يعني أن النتائج لا تقتصر على عينات من الشمال، كما ادعى غارفينكل وغانور، بل تشمل طيفاً واسعاً من مواقع الجنوب أيضاً، مما يعزز موثوقية النتائج العامة.

ويرى فنكلشتين وبياسيتزكي أن الجدل حول قيافا لا يتعلق فقط بتقنية التأريخ أو صدقية الفخار أو حتى موثوقية العيّنات، بل يرتبط بشكل أعمق بافتراضات الباحثين المسبقة عن وجود كيان سياسي موحد في زمن داود، ومدى تأثر هذه الافتراضات بالأدلة المتاحة.

فالخلاف ليس حول رقم أو تاريخ فحسب، بل حول إعادة رسم سردية تاريخية بأكملها، وهي سردية لا يمكن أن تفصل، في نظرهما، بين البيانات الخام والتأويلات النظرية. وهذا، بدوره، يعكس ما سمّاه فنكلشتين “المسافة” بين الاكتشاف والتفسير في علم الآثار، أي تلك الفجوة التي تملؤها تصورات الباحث وتوقعاته ومناهجه.

فهل ينبغي قراءة موقع قيافا كمدينة يهوذية محصنة في زمن داود؟ أم مجرد موقع توطن حدودي محصن لا يتبع مملكة موحدة بعد؟

هنا يتحدد، في نهاية المطاف، جوهر النزاع.

“لقد تقلصت حدة نقاش الاختلافات بين الأطراف إلى عدة عقود فيما يتعلق ببداية العصر الحديدي الثاني IIA (المرحلة الانتقالية بين العصرين الحديدي الأول والثاني)، وهي فجوة تتجاوز دقة نتائج الكربون المشع، حتى عند نشر عدد كبير من التحديدات. وبإدخال الاعتبارات التاريخية، فضلاً عن الملاحظات المتعلقة بسرعة وتيرة تغيير التقاليد الفخارية، قد يستغرق الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى الثاني عقداً أو عقدين، وينبغي أن يوضع بعد وقت قصير من منتصف القرن العاشر ق.م (Finkelstein and Piasetzky, 2011: 52).

ودعونا نستمر في دراسة الطريقة التي تفسر بها الاكتشافات في قيافا وفقاً للأطر النظرية المختلفة للتحقيبين المنخفض والعالي:

لا تنته القصة هنا بالطبع. فأولاً، أجاب غارفينكل أن عملية حساب المتوسط كانت مشروعة، لأن المدينة كانت موجودة لمدة قصيرة قبل تدميرها بالكامل. ثانياً، وجد فريق غارفينكل في العام 2012 كسر فخارية تحتوي على عشرين حبة زيتون. وبما أن جميع أنوية الزيتون وجدت في ذات المكان، وفي ذات السياق، فهي تستوفي معايير المتوسط، على الرغم من أن العينات يمكنها تعيين التاريخ المقدر لتدمير المدينة وليس تاريخ إنشائها (Garfinkel, 2012-2013a: Lecture 8)

من المهم، على أي حال، التأكيد مرة أخرى على أن مسألة التأريخ عن طريق الكربون المشع لا يمكن فصلها عن الجوانب الأخرى من النقاش بين التحقيبين المنخفض والعالي، وعن مسألة ما إذا كانت المدينة القديمة في قيافا يهوذية على الإطلاق. وبعبارة أخرى، سوف يؤثر السؤال عما إذا كان الباحث يتوقع أن يجد مدينة يهوذية محصنة تعود لعصر الملك داود، والطريقة التي يحدد لها ما إذا كانت البيانات واختيارها وتأويلها، والطريقة التي يتحدد بموجبها ما إذا كانت هذه البيانات والنتائج ذات صلة وما إذا كان احتساب المتوسط والحسابات الأخرى مشروعة في ظل ظروف معينة.

لا يعتمد تأريخ الكربون المشع في قيافا على قياسات الكربون المشع من مواقع أخرى فحسب؛ ولكن على بقية الأدلة، منها، المجاميع الفخارية، كما أنه يعتمد كذلك على النظرية التي يلتزم فيها الباحث. وعندما يعترف فنكلشتين أن “هناك ثمة فجوة في علم الآثار بين الاكتشافات والتفسير” (Finkelstein in Fridman, 2013; Finkelstein, 2006-2007: Lectures 1)، فإنه يصور، في الواقع، مأزق العلوم برمتها، كما يعلمنا تاريخ وفلسفة العلم. وتتميز المؤسسة العلمية بقفزات نظرية حتمية. وفي هذه الحالة، ينظر إلى جميع الأدلة وتفسر لقى قيافا وفقاً للأطر النظرية لمختلف الفرقاء، كما يلخص فينكلشتين وبياسيتزكي موقفهما واعتباراتهما:

“لقد تقلصت حدة نقاش الاختلافات بين الأطراف إلى عدة عقود فيما يتعلق ببداية العصر الحديدي الثاني IIA (المرحلة الانتقالية بين العصرين الحديدي الأول والثاني)، وهي فجوة تتجاوز دقة نتائج الكربون المشع، حتى عند نشر عدد كبير من التحديدات. وبإدخال الاعتبارات التاريخية، فضلاً عن الملاحظات المتعلقة بسرعة وتيرة تغيير التقاليد الفخارية، قد يستغرق الانتقال من العصر الحديدي الأول إلى الثاني عقداً أو عقدين، وينبغي أن يوضع بعد وقت قصير من منتصف القرن العاشر ق.م (Finkelstein and Piasetzky, 2011: 52).  لنستعرض كيف يجري تفسير لقى قيافا وفق الأطر النظرية المختلفة للتحقيبين المنخفض والعالي:

2.1.8. التخطيط العمراني.

يؤكد غارفينكل وغانور أن التخطيط الحضري لقيافا سمة يهوذية فريدة تتمثل في وجود سور للمدينة على هيئة حظائر استحكامات مزدوجة casemate وحزام من المنازل تستخدم فيها هذه الحظائر كغرف خلفية.

يدعي غارفينكل وغانور وجود بوابتين في المدينة يعرّفانها باسم شعاريم (كلمة عبرية تعني بوابتان) وقد ذكرت في سفر يشوع (36: 15) في قائمة مدن يهوذا في وادي إيله ” وَشَعَرَايِمُ وَعَدِيتَايِمُ وَالْجُدَيْرَةُ وَجُدَيْرُوتَايِمُ. أَرْبَعَ عَشَرَةَ مَدِينَةً مَعَ ضِيَاعِهَا”. حيث وقعت أحداث قصة داود وجالوت المذكورة في سفر صمويل الأول (52: 17) ” فَقَامَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا وَهَتَفُوا وَلَحِقُوا الْفِلِسْطِينِيِّينَ حَتَّى مَجِيئِكَ إِلَى الْوَادِي، وَحَتَّى أَبْوَابِ عَقْرُونَ. فَسَقَطَتْ قَتْلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي طَرِيقِ شَعَرَايِمَ إِلَى جَتَّ وَإِلَى عَقْرُونَ”.

وبحسب غارفينكل وغانور، فإن قيافا هي الموقع الوحيد في يهوذا وإسرءيل الذي يوجد فيه بوابتان ومدخلها الرئيس يواجه القدس. في حين أن المدن الكبيرة مثل لَخِيِشْ ومَجِدّو، لا يوجد بها سوى بوابة واحدة. لقد كانت قيافا حصن يهوذا على حدودها مع فيليستيا (Garfinkel and Ganor, 2008a; Garfinkel et al., 2012).

ينكر فنكلشتين وجود بوابتين في قيافا كما سنوضح أدناه، ويرفض هو وآخرون، على أية حال، مطابقة قيافا مع شعاريم. فوفقاً لتفسيره، لا يمثل تصوير شعاريم في النص الكتابي واقع يهوذا في القرن العاشر ق.م، بل واقع يهوذا في العصر الحديدي الثاني، وخاصة يشوع 15 الذي يصور التنظيم الإداري ليهوذا في أواخر القرن السابع ق.م، وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن تقع شعاريم، وفقاً للوصف الكتابي في قيافا.

هنا، أيضا، لا يفوت فنكلشتين الفرصة لاتهام غارفينكل في القراءة الحرفية، غير النقدية للكتاب (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 46-48; Dagan, 2009). ويجادل بوجود مواقع مشابهة لقيافا تتمتع بحظائر مسورة مزدوجة casemate من العصر الحديدي الأول حتى العصر الحديدي الثاني المبكر IIA، وليس فقط في يهوذا، بل في المرتفعات في المناطق الداخلية من بلاد الشام وعمّون وموآب ومرتفعات النقب ومرتفعات القدس الشمالية. ويفضل فنكلشتين عزو الموقع إلى بدايات ما يدعوه كيان جبعون\جبعا الإسرءيلي الشمالي للأسباب التالية:

أ) تقع قيافا قرب القدس، ولكن لم يكتشف نشاط بناء هام في هذا العصر في القدس وغيرها من مواقع يهوذا الأخرى، فضلاً عن أنشطة توطن قليلة في المرتفعات اليهوذية واستنزافها الديمغرافي. ولذلك، ليس من الواضح [لنا] كيف بنى داود وشعبه قيافا وحكمها. ومن ناحية أخرى، كان كيان جبعون\جبعة مأهولاً بكثافة ولا يعاني من مشكلة في القوى البشرية العاملة

ب) عثر على نظام عمراني كثيف لجدران معاصرة في هضبة جبعون -بيتئيل

ج) يتحدث الكتاب عن تواجد شاؤول، ملك إسرءيل، في وادي إيله حيث وقعت المعركة بين الإسرءيليين والفلستيين

د) إذا كانت قيافا مدينة إسرءيلية، فيمكن تفسير تدميرها خلال حملة شيشنق الأول بسهولة (Finkelstein, 2013: 56-59; Finkelstein and Fantalkin, 2012).

في الختام، إن ما يعتبره غارفينكل وغانور دليلاً قوياً على وجود مدن محصنة في مملكة داود وعلى حجم المملكة، وصحة التحقيب العالي، يفسره فنكلشتين كدليل على حجم مملكة إسرءيل، نظراً لأنه يتوافق مع نظرية التحقيب المنخفض.

3.1.8. عظام الخنزير ومجاميع الفخار.

يفسر غارفينكل وغانور غياب عظام الخنازير في قيافا كدليل على أن المدينة كانت يهوذية وليست فلستية. كما أن مجاميع الفخار التي عثر عليها تختلف عن الفخار الفلستي الذي عثر عليه في غَتْ. ويظهر التحليل البتروغرافي للصخور أن الفخار من إنتاج محلي، أي من وادي إيله. كما عثر في قيافا على حوالي 600 قطعة من مقابض الجرار التخزينية تحمل بصمات أصابع، مماثلة لتلك الموجودة في القدس، مما يشير إلى تقليد إداري في يهوذا في تصنيع الجرار يتمثل بوجود مقابض جرار مختومة لأغراض الضريبة (Garfinkel et al., 2012; Garfinkel, 2013b)

يقر فنكلشتين بأنه حتى السنوات الأخيرة، كان يُفسر غياب عظام الخنزير -في مواقع مختلفة- كإشارة إلى أن السكان كانوا إسرءيليين/يهوذيين، ولكن في السنوات الأخيرة تم اكتشاف ندرة عظام الخنزير نادرة في مواقع غير إسرءيلية وتعود للعصر الحديدي الأول في المناطق الداخلية والسهول، وحتى في المواقع الريفية في قلب فيليستيا. كما تعد مجاميع الفخار نموذجية للمنطقة، وبالتالي لا يمكن تحديد الهوية الخاصة لسكان قيافا وفقاً لهذه الاكتشافات. وعلاوة على ذلك، يؤكد فنكلشتين عدم إمكانية تعيين سكان الموقع حتى على أساس البيانات المعروفة منه ومن مواقع أخرى (Finkelstein, 2013: 55)

4.1.8. النقوش

عثرت بعثة قيافا على عدة كسر ostraconsتحتوي نقوشاً، حظيت بدراسة العديد من الخبراء. أثار أحدها جدلاً حاداً، فهو مكتوب بخط ما قبل كنعاني تطورت منه الأبجدية الفينيقية، التي اشتق منها الخط العبري القديم وغيره من الخطوط المحلية. وقد اختفى العديد من أحرف النقش، لكن الباحثين حاولوا فك رموزه باستخدام تقنيات التصوير المتقدمة(7).

 وتشير عدة مقالات يظهر أن النقش ربما يكون من أقدم النقوش العبرية، ويمثل المرحلة التي سبقت تحول الخط ما قبل الكنعاني إلى خط فينيقي معياري. وكان حجاي مسغاف وغارفينكل وغانور هم من اقترحوا هذه الفكرة عن النقش. ويزعم مسغاف، على سبيل المثال، أن عبارة “لا تفعل” باللغة العبرية تظهر في النقش (in Garfinkel and Ganor, 2009: 243-257; Garfinkel, 2012-2013: Lectures 11 & 12).

وحاول غرشون غليل، أحد مؤيدي هذا الرأي، إعادة تركيب النص، واقترح أنه مشابه للنصوص التوراتية. وهذا التشابه -وفقاً لغليل- إشارة قوية لبداية تأليف نصوص عبرية أدبية معقدة في مطلع القرن العاشر ق.م. ويطابق موقع قيافا مع نتعايم التي كانت، وفقاً للكتاب، مركزاً إدارياً محصناً بناه الملك داود على الحدود بين مملكته وفيلستيا (Galil, 2009). ولكن لا تتوفر، وفقاً لمقالات أخرى، دلائل على أن الكتابة مدونة باللغة العبرية القديمة (Rollston, 2011; Millard, 2011).

وتستمد المواقف في هذا السجال من النقاش الأكبر بين تصورات paradigms التحقيب المنخفض والتحقيب العالي. وعندما يسعى غارفينكل وغانور ومسغاف إلى تحديد لغة سكان قيافا بالعبرية القديمة، فإنهم يقومون بذلك كجزء من نمط شامل من التحقيب العالي. وبالنسبة لغارفينكل، يعد التأكيد بأن الخط العبري تطور فقط خلال القرن الثامن ق.م، جزء من الاتجاه التنقيحي لمحو “الإنجازات المادية والفكرية لمملكة يهوذا” (Garfinkel, 2012-2013: Lectures 11 & 12).

تؤثر هوية الباحث على تحليل وتفسير النص، ويميل الباحثون الصهاينة والدينيون، مثل مسغاف، إلى أن يكونوا أكثر تحفظاً برفضهم لموقف التنقيحيين، على الرغم من أن وجهة نظر الأصوليين maximalist اليوم تبتعد عن العقائد الأرثوذكسية.

ويواجه الباحث الديني نزاعات عميقة، كما يصف ميسغاف نفسه في محاضرة له عن التناقضات بين علم الآثار والكتاب، ألقاها في المؤسسة الأكاديمية الدينية – كلية هرتسوغ (Misgav, 2010) أشار خلالها إلى مراسلاته مع غليل حول مسالة النقش [المذكور أعلاه].

لا يبدي مسغاف موافقة على التأكيدات الأصولية القوية لغليل حول هذه القضية. وفي هذا السياق كتب إلى غليل “لو اقترحت تفسيرك، وأنا أرتدي الكيباه، لاتهمت بالأصولية والتعصب”.

وفي هذا الصدد؛ يدعم فينكلشتين وفنتلكين وجهة النظر القائلة بأن النقش لم يكتب باللغة العبرية. ويؤكدان أن جميع النقوش ما قبل الكنعانية المتأخرة تقريباً عثر عليها في شيفلة والسهول الساحلية الجنوبية، لا سيما قرب مدينة غَتْ الفلستية. كما عثر على نقوش هيراطيقية مصرية تعود لحقبة العصر البرونزي المتأخرIII  في المنطقة عينها، وبشكل خاص حول لَخِيِش التي كانت مركز الإدارة المصرية في كنعان، في العصر البرونزي المتأخر. وبالتالي قد تعكس النقوش ما قبل الكنعانية المتأخرة تأثير التقاليد الإدارية والثقافية القديمة. وعندما يتبنى فينكلشتين وفنتلكين الموقف القائل بأن نقش قيافا لم يكتب باللغة العبرية، فإنهما يقومان بذلك كجزء من النمط الشامل للتحقيب المنخفض. ويتهمان، بالتالي، غليل، على سبيل المثال، باتخاذ موقف أصولي (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 50-51; Finkelstein, 2013: 55).

لا ينكر فينكلشتين وزملاؤه تأريخ النص القصير للنقش لبدايات مملكة يهوذا. كما أنهم لا ينكرون أن الكتاب يحفظ ذكريات قديمة. لكنه يعتقد -رفقة آخرين- بأن العنصر الأساسي لنظرية التحقيب المنخفض يتمثل في عدم وجود نصوص أدبية معقدة في يهوذا قبل نهاية القرن الثامن ق.م: إذ أسهم نمو المملكة، والبيروقراطية، والكتابة، والازدهار الاقتصادي، والعلاقات الدولية -كل ذلك معاً، من الناحية الإيديولوجية واللاهوتية والتاريخية، في تأليف الكتاب المقدس، وتحريره بصورة رئيسة منذ القرن السابع ق.م كجزء من الإصلاح التثنوي للملك يوشيا (Finkelstein and Silberman, 2001; Finkelstein, 2006-2007)

5.1.8. العبادة.

لم يجد غارفينكل وغانور تماثيل أو علامات عبادة في قيافا مما يؤكد على أنه موقع يهوذي. وقد عثرا على صندوقين، أو “نماذج أضرحة”، أحدهما مصنوع من حجر والآخر من فخار. وصناديق مماثلة من حفريات أخرى تحتوي على رموز أو أيقونات آلهة، ولكن في هذه الحالة كانت الصناديق مكسورة، ولم يعثر على أي رموز، سواء تصويرية أو مجردة. ويمكن تفسير أشكال الطيور على الجزء العلوي من الصندوق الفخاري وأشكال الأسود في الأسفل كعلامات على آلهة الخصوبة.

ويحتوي الصندوق الحجري على درج مزين بثلاثة إطارات مرصّعة كما يحتوي على ثلاثة شقوق عمودية غائرة وعوارض مسطحه مزخرفة بأشكال ثلاثية الأبعاد، ووفقاً لغارفينكل وغانور، يتشابه النموذج المعماري للصندوق الحجري مع عمارة هيكل وقصر سليمان كما تصفه النصوص الكتابية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن نسب الباب في النموذج مشابهة لنسب الأبواب في الهيكل الثاني كما هو موضح في المشنا ويرى غارفينكل ذلك على أنه استمرارية العبادة في يهوذا. وأخيراً، كانت طقوس العبادة لسكان قيافا تتم في غرف العبادة داخل المنازل الخاصة.

لا تظهر هذه الممارسة غير الاعتيادية في الثقافات الكنعانية أو الفلستية، ولكنها تتفق مع الوصف الكتابي لما قبل إنشاء هيكل سليمان (Garfinkel et al., 2012; Garfinkel, 2012-2013: Lectures 10 & 11; Garfinkel, 2013b).

لا يبدو فنكلشتين مرتاحاً، بالأحرى مقتنعاً، بغياب التماثيل في الموقع كدليل على التوحيد، ويتساءل: “هل يقول غارفينكل أن غلاة الموحدين المتعصبين عاشوا في خربة قيافا في القرن العاشر ق.م؟ هل هذا ما حدث؟ لقد قمت شخصياً في التنقيب في مواقع معينة ولم أجد مواضيع وأدوات طقسية، ولكن لم يحدث أن خطر لي القول بأن سكانه موحدون غلاة”(Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011).

ومن جديد، ترتبط هذه الحوارات بالسجال الأوسع حيث يعترض غارفينكل على فكرة أن التوحيد لم يتطور إلا بعد زمن الهيكل الأول، وهو ادعاء يعده مثالاً على طمس الإنجازات الفكرية لمملكة يهوذا، بيد أنه يتفق مع فكرة القبول التدريجي للتوحيد، كما تصف ذلك النصوص الكتابية.

من جهة أخرى يؤكد فنكلشتين على هيمنة نوع من التوفيق بين المعتقدات في يهوذا في زمن الهيكل الأول. ووفقاً للعهد القديم، كانت الوثنية شائعة في يهوذا حتى في عصر الملك سليمان. وتبين الأدلة الأثرية أن الإصلاح التثنوي Deuteronomic reform، الذي حصر العبادة بإله واحد فقط ومعبد تركزي واحد هو معبد سليمان، حصل في أيام يوشيا (القرن السابع ق.م)، رغم أن الشعب كان لا يزال يستخدم التماثيل في المنازل (حتى في المنازل القريبة من الهيكل).

ووفقاً للنصوص الكتابية ظهر التوافق بين المعتقدات مرة ثانية بعد عصر يوشيا الذي قتل على يد نخو الثاني (Finkelstein, 2006-2007: Lectures 11 & 12).

لنلاحظ هنا أن التوحيد، أو الاعتقاد بوجود إله واحد، لا يعادل بالضرورة لاهوتاً تثنوياً يعود لزمن الهيكل الأول. كما رتّل موسى وبني إسرءيل: ” مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟” (خروج 15).

وعموماً يتعارض المنظور القومي المحافظ الذي يتبناه غارفينكل حول هذا الموضوع حتى مع وصف الكتاب لزمن الهيكل الأول. ويعتمد غارفينكل على نصوص الكتاب والأنبياء الذين أدانوا أولئك الذين يعبدون الآلهة الأخرى ووصفوهم بالخطاة، لكنه يتجاهل حقيقة أن الكتاب يصور هيمنة الوثنية/التوافق الديني في ذلك الوقت. ويقول إن الأدلة الأثرية تعاملت حتى الآن مع الأيام الأخيرة لمملكة يهوذا، ولكن قيافا تقدم -الآن- أدلة جديدة عن الأيام الأولى للمملكة (Garfinkel, 2012-2013: Lectures 10 & 11).

والمشكلة أنه عثر، في العام 2012، على معبد وثني قديم يعود تاريخه إلى القرن التاسع ق.م في تل موتسا [خربة بيت مزة، موقع قرب قرية قالونيا على بعد 5 كيلومترات من جبل الهيكل (الحرم الشريف) – المترجم]. وتشمل النتائج تماثيل للرجال والحيوانات. كان من السهل على فنكلشتين تفسير ذلك:

أولاً، هناك مواقع أخرى مماثلة في يهوذا حتى نهاية القرن الثامن ق.م؟

ثانياً، نظراً لأن هناك العديد من مواقع الطقوس في إسرءيل ويهوذا كان الكتاب نفسه طالب مراراً أن على يهوذا وإسرءيل التخلص من جميع مواقع العبادة المعاصرة لهيكل سليمان في أورشليم.

ولكن بالنسبة إلى غارفينكل كان الأمر أكثر صعوبةً: “أفترض احتياج سكان النقب موقع لأداء طقوسهم، ولكن موتسا على بعد خمسة كيلومترات من القدس. فلماذا كانوا بحاجة إلى معبد آخر؟ “ويعترف بأن معبد تل موتسا لا يمكن تجاهله، لكنه يعد بأن الخطاب حول هذا الموضوع سوف يتغير بعد نشر مقالات جديدة مع الأدلة الكافية من خربة قيافا (Hasson, 2012; Garfinkel, 2012-2013: Lecture 11)

9.الحمولات النظرية للملاحظة وتأويلاتها

يشرح غارفينكل وغانور ومايكل هاسل أن البيانات تشبه أحجار الفسيفساء: يمكن تجميع الحجارة/البيانات بأشكال مختلفة لخلق صور/نماذج مختلفة، وتبقى الحجارة/البيانات كما هي (Garfinkel et al., 2012: 45). ولكن؛ كما أوضح توماس كون (1970) وآخرون، يختلف الباحثون في تفسير الأدلة الأثرية ذاتها حسب الأطر النظرية التي يعملون ضمنها، ولا تعد البيانات/الملاحظات/الأدلة مستقلة عن التصور أو النموذج  paradigms، بل تعتمد عليه.

ومن الواضح أن الحمولات النظري للملاحظة أو تأثرها بها تتجلى بوضوح في السجال بين فنكلشتين وغارفينكل، حيث ينظران ويفسران البيانات واللقى من خلال منظورات نظرية مختلفة. وفي حين يحدد غارفينكل وغانور أن هناك ثمة بوابة ذات غرف أربع في استحكامات السور الجنوبي لمدينة (قيافا)، لا يرى فنكلشتين وفنتلكين الأمر على هذا النحو، حيث تم تبني وجود بوابة بناء على: أ) صخرتين ضخمتين، تزن الواحدة نحو عشرة أطنان، على جانبي البوابة -في المقدمة.

ب) اتجاه الاستحكامات على جانبي البوابة، حيث تتغير مداخلها هنا.

ووفقاً لغارفينكل وغانور، تعود البوابة إلى القرن العاشر ق.م، مما يتوافق مع نظرتهم حول قيام مملكة يهوذا الموحدة في ذلك العصر، وقد سدت في الحقبة الهلنستية، وتعرضت للتلف بسبب النشاط العمراني (Garfinkel and Ganor, 2009: 108-111; Garfinkel et al., 2009: 218; Finkelstein and Fantalkin, 2012: 45-47).

وفي العام 2011 قال فنكلشتين: “ليس هناك بوابتان [في قيافا]، بل هناك بوابة واحدة فقط، وهي البوابة الغربية. 90% مما تراه في البوابة الجنوبية تم ترميمه. أعتزم نشر صورة من نهاية أعمال الحفر وصورة أخرى التقطت بعد الترميم، وسوف يرى كل شخص عاقل أنه لم يكن هناك بوابة”(Finkelstein in Shtull-Trauring, 2011).

الشكل (1): البوابة الجنوبية في قيافا قبل الترميم (Garfinkel et al., 2009: 219)

وقارن فنكلشتين وفنتلكين في مقالهما المشترك صورتين: واحدة التقطت للبوابة الجنوبية قبل الترميم (الشكل 1) وأخرى لها بعد الترميم (الشكل 2). ويزعمان أن الترميم يظهر تدخلاً حديثاً واسعاً، وأن أجزاء البوابة المزعومة بُنيت فوق منشآت أقدم مثل أحواض النقر الصخرية التي تعود للعصر البرونزي الوسيط، مما يجعل وجود بوابة في هذا الموقع غير منطقي حسب منظورهم. واعتمد بشكل فضفاض على الاكتشافات:

أولاً، في الجناح الشرقي للبوابة، تم ترميم الدعامة المركزي من جدار يسد مدخل البوابة، وفي الجناح الغربي لا يوجد دعامة داخلية (شمالية) وتم ترميم الدعامة المركزية من البقايا الصغيرة.

ثانياً، وفقاً لتفسيرهما للقى، يتطلب وجود بوابة ذات أربع غرف في هذا الموقع افتراض أنها بنيت على منشآت صخرية ويجب أن يؤرخ البناء إلى العصر البرونزي الأوسط، أو إلى مرحلة مبكرة من توطن متأخر يعود لأواخر العصر الحديدي الأول.

ثالثاً، في الحجرة الجنوبية الشرقية، بالقرب من ممر البوابة المرممة، هناك ثمة علامات قطع للصخور وعلامات تشبه الكأس.

الشكل (2): البوابة الجنوبية في قيافا بعد الترميم (Garfinkel et al., 2009: 219)

ويشير فنكلشتين وفنتلكين إلى أنه من خلال المقارنة بين الصور يمكن أن نرى أن القطاع الشمالي الغربي من البوابة المرممة مبني فوق المنشآت وعلامات الكأس، ومعظمها لا يظهر في البوابة المرممة. ويبدو أيضاً أن الدعامة المركزية للجناح الشرقي قد شيدت فوق مبنى أيضاً (Finkelstein and Fantalkin, 2012: 45-47).

تتشابك الملاحظة والتفسير على الدوام. أما مسألة ما إذا كان هناك بوابتان في قيافا أم لا، فهي لا تعد مسألة قائمة بذاتها. ويأتي كل جانب من جوانب هذا السجال بمجموعة مختلفة من الافتراضات والتوقعات والالتزامات النظرية.

إن تحديد البوابتين في قيافا مهم للصورة العامة التي يحاول رسمها غارفينكل. وإذا أمكن تعريف المدينة التي تم التنقيب عنها في قيافا بأنها مدينة يهوذية كما مدينة شعاريم “بوابتين”، فإن وجود مدن محصنة في القرن العاشر ق.م في يهوذا هو أمر مؤكد.

وبعبارة أخرى، مطابقة شعاريم هو تأكيد على أطروحة غارفينكل عن قِدَم ومكانة وأهمية وحجم مملكة يهوذا، والتي تحفزها الرغبة في حماية “إنجازات مملكة يهوذا”.

ومن ناحية أخرى يريد فينكلشتين حماية نموذجه الذي وضعه، أي التحقيب المنخفض، من عمل غارفينكل الذي ينحاز نحو التحقيب العالي المحافظ. وبالتالي فإن تحديد المدينة التي تم التنقيب عنها في قيافا بوصفها شعاريم الكتابية قد لا يؤكد جزءً كبيراً من أطروحته.

هذا الجدل يعكس كيف أن التفسيرات الأثرية لا تنفصل عن الأطر النظرية المسبقة للباحثين، حيث تُستخدم الاكتشافات الميدانية لتأكيد أو دحض النماذج التاريخية الكبرى التي يتبناها كل عالم.

  1. الخلاصة: الفصل بين البحث والهُوية

لنتفحص مرة أخرى حجة فنكلشتين حول الفصل بين البحث والتقاليد والمعتقدات: “أنا مؤمن بدرجة كبيرة في الفصل التام بين التقاليد والبحوث، وأحتفظ -شخصياً- بمكانة خاصة في قلبي للكتاب [المقدس] وقصصه الرائعة. ولا تستمع فتاتي اللتان تبلغان الحادية عشرة والسابعة من عمرهما، خلال عيد الفصح Pesach seder أي كلمة عن عدم وجود خروج من مصر، وعندما يصلان إلى سن الخامسة والعشرين سنقول لهما قصة مختلفة. الاعتقاد والتقاليد والبحوث هي ثلاثة خطوط متوازية يمكنها أن تتواجد في وقت واحد. ولا أرى في ذلك تناقض فادح” (Finkelstein in Lori, 2005).

يبالغ، بالطبع، فنكلشتين هنا بعض الشيء. فإذا كان هناك فصل كامل بين البحث والتقاليد والمعتقد، فلماذا لا يخبر ابنتيه أنه لم يكن هناك خروج من مصر؟

لأنه، في هذه الحالة سوف يشكل البحث تهديداً للهُوية.

إن نظرية فنكلشتين تمثل تهديداً مباشراً للهُويات الصهيونية المحافظة واليهودية. والواقع أن التهديد متبادل: فالأبحاث تشكل خطراً على الهُوية، والهُوية تشكل خطراً على الموضوعية. ولذلك فإن حل فنكلشتين هو الإصرار على الفصل الذي “يحرر التوتر” (Finkelstein, 2006-2007: Lecture 13).

وكما حاولت توضيحه، إن إصرار فنكلشتين على الفصل هو أداة خطابية شديدة البلاغة يستخدمها في دفوعاته لتهدئة مخاوف الجمهور الإسرائيلي اليهودي عن تصوراته، فضلاً عن أنها أداة خطابية أيضاً يستخدمها ضد خصومه في السجالات المحتدمة حول التحقيب المنخفض والتحقيب العالي.

ما يريد فينكلشتين قوله هنا هو قدرته على التوفيق بين أبحاثه ونظرياته وآرائه في المسائل الاجتماعية والسياسية والثقافية بصفته صهيونياً يهودياً / علمانياً تقليدياً. فهو يقول، على سبيل المثال، “لدي آراء قوية جداً بشأن الهُوية والخلفية التاريخية. لا أشعر بالذعر.. حقاً لست مذعوراً ولا أشعر بالارتباك (Finkelstein in Feldman, 2006). وبعبارة أخرى، لا يعتريه الذعر لأن وجهات نظره ونظرياته التي يسترشد بها إبستيمولوجياً واجتماعياً من خلال “الرؤية من الوسط” (Finkelstein, 2006-2007: Lectures 1& 13; Finkelstein, 2011) تتناغم مع بعضها البعض. وهذا لا يعني أن نظرياته لا تعرض هُوية الآخرين للمخاطر، مثل وجهات نظر الصهاينة المحافظين، والتيارات المحافظة المهيمنة بين اليهود الأرثوذكس، وبطبيعة الحال، اليهود المتزمتين.

لماذا يحرص  فينكلشتين  على سد “الفجوة المتزايدة غير المحتملة بين ما يجري في علم الآثار اليوم وما يعرفه الجمهور”؟ (Finkelstein in Feldman, 2006)

لأن علم الآثار لا يتشكل بالهُويات فقط، وإنما يمثل أيضاً قوة تكوينية تصوغ الهُويات.

لقد كتب فينكلشتين كتباً لعامة الناس، وكانت محاضراته ومقابلاته جزء من الصراع حول هُوية إسرائيل.

ومن وجهة نظره يجب أن يستمر تطور الهُوية الصهيونية اليهودية في مسار ديمقراطي ليبرالي: “إن قوة إسرائيل تتحدد، أولاً وقبل كل شيء، من كونها مجتمعاً منفتحاً وديمقراطياً وليبرالياً، يمكنه التعامل مع ماضيه القريب والبعيد. وفي هذا الصدد، فإن البحوث الحرة والحيوية والنابضة بالحياة هي اليوم أكثر أهمية بكثير من القصور الرائعة التي تعود للقرن العاشر ق.م” (2002 Finkelstein and Silberman, 2001 من المقدمة العبرية).

هكذا، يصوغ فنكلشتين علم الآثار ليس كأداة بحث عن الماضي، بل ساحة صراع وأداة تحديث للهوية اليهودية-الإسرائيلية، مع الحفاظ على شرعيته الأكاديميَّة (حيث تُستخدم النظريات الأكاديمية كأسلحة في معارك تتجاوز الأكاديميا نفسها) عبر ادعاء الفصل بين البحث والمعتقد، فصل يعكس، في الواقع، تناقضات الهوية نفسها التي يحاول تفسيرها.

وبطريقة مماثلة، تنعكس أعمال فنكلشتين وسلطته العلمية في البرامج التلفزيونية التي يستخدمها ناشطون ملحدون في الصراع حول وعلى هُوية إسرائيل(8).

في الختام، لا يمل فنكلشتين من تكرار القول بضرورة الانفصال، فقط لأنه في الواقع لا وجود له. لا يمكن لأحد أن يفصل هُويته عن الأسئلة المتعلقة بتعيينها. ولكي نكون نقديين حقاً علينا الاعتراف بأن هُويتنا ونظرياتنا مترابطة؛ بدلاً من الادعاء بموضوعيتنا وعدم تحيّزنا. وينبغي استبدال التظاهر بالموضوعية أو “التفاعلية الذاتية” Intersubjectivity

أي الاعتراف بأن المعرفة تُبنى من خلال الحوار بين الذوات المتحيزة، وليس عبر ادعاء الحياد المطلق.

…….

العنوان الأصلي: Israel vs. Judah: The Socio-Political Aspects of Biblical Archaeology in Contemporary Israel

الناشر: http://www.HPS-Science.com /   2014

هوامش 

  1. على سبيل المثال، جسدت قصة إبراهيم فصل العبرانيين عن الساميين الرحل، بينما مثّلت قصص إسحاق ويعقوب انفصال “شعب إسرءيل” عن الشعوب العبرانية الأخرى. وحاول دوبناو، والمؤرخون الصهاينة من بعده، التوفيق بين النص الكتابي والأدلة الأثرية والدراسات الحديثة، مثل مرويات الخروج من مصر وغزو كنعان، في ضوء الأدلة غير الكتابية المتعلقة بسيطرة مصر على كنعان خلال الحقبة التي يُعتقد أن هذه الأحداث وقعت فيها.
  2. مقابلة في 12 كانون الثاني 2015 مع فرقة Cain and & 90210 على إذاعة KZRadio http://pod.icast.co.il/bfcc402e-cdc4-4fc1-b964-94d2bcbacc67.icast.mp3 وأيضاً Penn, Lea (2011) ‘Cain & Abel 90210 Present: Laughter and Rage’, Haaretz.co.il (28 March). Available at http://www.haaretz.co.il/gallery/music/discovery/1.1168932.

3.انظر نهاية المقابلة مع بينيت هنا http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/523/195.html

  1. للمزيد انظر هنا، https://www.facebook.com/NaftaliBennett/posts/671099339578404.
  2. أنظر مثلا http://elderofziyon.blogspot.co.il/2014/02/erekats-latest-lie-my-family-was-in.html#.VSz9V_mUftt-

http://elderofziyon.blogspot.co.il/2014/02/saeb-erekat-admits-he-is-jordanian.html#.UxY2LWDNvyc

http://www.assawsana.com/portal/pages.php?newsid=167478

  1. يستمتع غارفينكل، في الواقع، بما يعتبره هزيمة للتفكيكيين وفق أسلوبهم. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في مراسلاته المستمرة مع فيليب ديفيز، كما ورد في موقع Biblical Archaeology. للمزيد انظر، http://www.biblicalarchaeology.org/scholars-study/the-great-minimalist-debate/
  2. بخصوص قيافا: انظر: http://qeiyafa.huji.ac.il/ostracon.asp
  3. منها على سبيل المثال:

(أ)أشرطة فيديو ScienceReasonIsrael، كالذي يتحدث عن الخروج من مصر http://www.youtube.com/watch?v=NTxBNVVxXd0 (تاريخ 3 أيلول 2013)

(ب):http://www.daatemet.org.il/articles/article.cfm?article_id=10  شريط لمنظمة Daatemet، وهي منظمة ملحدة تهدف إلى تقويض التفسير الأرثوذكسي للكتاب المقدس، والتي “أصبحت أداة سياسية في يد الأصوليين الذين يدّعون ملكية حصرية لهذا الإرث: http://www.daatemet.org/aboutus.cfm

المصادر

Abu El-Haj, Nadia (2002) Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society (Chicago, Ill.: University of Chicago Press).

Aharoni, Yohanan (1957) The Settlement of the Israelite Tribes in the Upper Galilee [in Hebrew] (Jerusalem: Magnes Press, Hebrew University).

Albright, William Foxwell (1968) Yahweh and the Gods of Canaan: A Historical Analysis of Two Contrasting Faiths (London: University of London, Athlone Press).

Alt, Albrecht (1966) Essays on Old Testament History and Religion. Translated by R.A. Wilson (Oxford: B. Blackwell).

Beck, Eldad (2014) ‘Kerry: Israel’s security – an Illusion, Boycott is in the Doorway’, Ynet.co.il (1 February). Available at http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4483419,00.html.

Ben-Simhon, Coby (2012) ‘Benny Morris on Why He’s Written his Last Word on the Israel-Arab Conflict’, Haaretz.com (20 September). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/magazine/benny-morris-on-why-he-s-written-his-last-word-on-the-israel-arab-conflict-1.465869.

Dagan, Yehudah (2009) ‘Khirbet Qeiyafa in the Judean Shephelah: Some Considerations’, Tel Aviv 36: 68–81.

Davies, Philip (1992) In Search of ‘Ancient Israel’ (Sheffield: JSOT).

Davies, Philip (2002) ‘Minimalism, “Ancient Israel,” and Anti-Semitism’, Bibleinterp.com. Available at http://www.bibleinterp.com/articles/Minimalism.shtml.

Dayan, Moshe (1978) Living with the Bible (London: Weidenfeld and Nicolson).

Dever, William (2003) Contra Davies’, Bibleinterp.com. Available at http://www.bibleinterp.com/articles/Contra_Davies.shtml.

Draper, Robert (2010) Kings of Controversy: Was the Kingdom of David and Solomon a Glorious Empire—or Just a Little Cow Town? It Depends on which Archaeologist You Ask’, National Geographic (December). Available at http://ngm.nationalgeographic.com/2010/12/david-and-solomon/draper-text

Emek Shaveh Association (2013) ‘From Silwan to the Temple Mount: Archaeological Excavations as a Means of Control in the Village of Silwan and in Jerusalem’s Old City – Developments in 2012’, Alt-arch.org. Available at http://alt-arch.org/en/wp-content/uploads/2013/04/Frm-Sil-to-Tmpl-Mnt-English-Web-.pdf.

Emek Shaveh Association (2012) ‘Archaeology on a Slippery Slope: Elad’s Sifting Project in Emek Tzurim National Park’, Alt-arch.org. Available at http://alt-arch.org/en/archaeology-on-a-slippery-slope/.

Erlanger, Steven (2005) King David’s Palace Is Found, Archaeologist Says’, The New York Times (5 August). Available at http://www.nytimes.com/2005/08/05/international/middleeast/05jerusalem.html?pagewanted=print.

Feldman, Maya (2006) Breaking with Tradition’, Ynet.co.il (16 October). Available at http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-3314122,00.html.

Finkelstein, Israel (1996) ‘The Archaeology of the United Monarchy: An Alternative View’, Levant 28 (1): 177-187.

Finkelstein, Israel (2005) “A Low Chronology Update: Archaeology, History and Bible”, in Thomas Levy & Thomas Higham (eds), The Bible and Radiocarbon Dating: Archaeology, Text and Science (London: Equinox): 31-42.

Finkelstein, Israel (2006-2007) Ancient Israel: Archaeology, the Bible and What Happened (A course at Tel Aviv University). Available at http://www.youtube.com/watch?v=BQGul9OYI7s&list=PLL6llhM6ViT1x4kNxJpFy3DMjPgmw1bRu.

Finkelstein, Israel (2011) ‘In the Eye of Jerusalem’s Archaeological Storm: The City of David, Beyond the Politics and Propaganda’, The Jewish Daily Forward (26 April; issue of May 06, 2011). Available at http://forward.com/articles/137273/in-the-eye-of-jerusalem-s-archaeological-storm/.

Finkelstein, Israel (2013) The Forgotten Kingdom: The Archaeology and History of Northern Israel (Atlanta: Society of Biblical Literature).

Finkelstein, Israel & Alexander Fantalkin (2012) ‘Khirbet Qeiyafa: An Unsensational Archaeological and Historical Interpretation’, Tel Aviv 39: 38-63.

Finkelstein, Israel & Eli Piasetzky (2010) ‘Khirbet Qeiyafa: Absolute Chronology’, Tel Aviv 37: 84–88.

Finkelstein, Israel & Eli Piasetzky (2011) ‘The Iron Age Chronology Debate: Is the Gap Narrowing?’, Near Eastern Archaeology 74 (1): 50–54.

Finkelstein, Israel & Neil Silberman (2001) The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts (New York: Free Press).

Finkelstein, Israel, Lily Singer-Avitz, Ze’ev Herzog & David Ussishkin (2007) ‘Has King David’s Palace in Jerusalem Been Found?’, Tel Aviv 34 (2): 142-164.

Friedman, Julia (2013) ‘Crying King David: Are the Ruins Found in Israel Really his Palace?’, Haaretz.com (26 August). Available at http://www.haaretz.com/archaeology/.premium-1.543216.

Galil, Gershon (2009) ‘The Hebrew Inscription from Khirbet Qeiyafa/Neta’im: Script, Language, Literature and History’. Ugarit Forschungen 41: 193-242.

Garfinkel, Yosef (2011) ‘The Birth and Death of Biblical Minimalism’, Biblical Archaeology Review 37: 46–53, 78.

Garfinkel, Yosef (2012-2013) The Beginning of the Kingdom of Judah (A course at the Hebrew University of Jerusalem). Available at http://www.youtube.com/watch?v=V4F51-_98Gc&list=PLcysIED5sYMl_oEKBtB8_jfn2afyftm73.

Garfinkel, Yosef (2013a) Khirbet Qeiyafa Project 2007-2013: Final Summary of Field Results by Excavation Area and Season. Available at http://qeiyafa.huji.ac.il/Reports/Seven_Seasons_of_Excavations.pdf.

Garfinkel, Yosef (2013b) Why Khirbet Qeiyafa is a Judean city. Available at http://qeiyafa.huji.ac.il/Reports/Is_Khirbet_Qeiyafa_a_Judean_site.pdf.

Garfinkel, Yosef & Saar Ganor (2008a) ‘Khirbet Qeiyafa: Sha’arayimn’, Journal of Hebrew Scriptures 8: Article 22.

Garfinkel, Yosef & Saar Ganor (2008b) Khirbet Qeiyafa: An Early Iron IIA Fortified City in Judah; presentation at the 2008 ASOR meeting. Available at http://www.judaea.ru/upload/files/ASOR_2parts.pdf.

Garfinkel, Yosef & Saar Ganor (2009) Khirbet Qeiyafa: Excavation Report 7002 – 7002 (Jerusalem: Israel Exploration Society).

Garfinkel, Yosef, Saar Ganor, Michael Hasel & Guy Stiebel (2009) ‘Notes and News: Khirbet Qeiyafa, 2009’, Israel Exploration Journal 59: 214–220.

Garfinkel, Yosef, Saar Ganor & Michael Hasel (2012) Footsteps of King David in the Valley of Elah (Tel Aviv: Yedioth Ahronoth Books and Chemed Books).

Gelber, Yoav (2012) ‘How and When the Land of Israel was Invented? They Say, there is a Land’, Haaretz.co.il. (27 September). Available at http://www.haaretz.co.il/literature/study/1.1829868.

Haaretz (2012) Comments Following the Interview with Shlomo Sand’, Haaretz.co.il (8 June). Available at http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1724795.

Halutz, Doron (2013) The Election Season of Muli Segev and Eretz Nehederet’, Haaretz.co.il (2 February). Available at http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1918617.

Hasson, Nir (2011) ‘The University of Tel Aviv and The Hebrew University in Excavations War’, Haaretz.co.il (11 March). Available at http://www.haaretz.co.il/news/science/1.1166225.

Hasson, Nir (2012) Were There Two Holy Temples? Israeli Archaeologists Uncover Ancient Temple Just Outside Jerusalem’, Haaretz.co.il (26 December). English version available at http://www.haaretz.com/news/national/israeli-archaeologists-uncover-ancient-temple-just-outside-jerusalem.premium-1.

Hasson, Nir (2013a) ‘Archaeologists are Divided: Has King David’s Palace been Found?’, Haaretz.co.il (18 July). English version available at http://www.haaretz.com/news/features/.premium-1.536594.

Hasson, Nir (2013b) ‘Ancient Golden Treasure Trove Found at Foot of Jerusalem’s Temple Mount’, Haaretz.co.il (9 September). English version available at http://www.haaretz.com/archaeology/.premium-1.545965.

Herzog, Ze’ev (1999) ‘The Bible. There are no Finds in the Field’, Haaretz (29 October). Available at http://www.hayadan.org.il/bible-no-evidence-291099/.

Hoffmann, David Zvi (1902) Die Wichtigsten Instanzen gegen die Graf-Wellhausensche Hypothese (Berlin: Itzkowski).

Israel Ministry of Foreign Affairs (2013) ‘PM Netanyahu on the Gold Treasure Uncovered in Jerusalem’, mfa.gov.il (9 September). Available at http://mfa.gov.il/MFA/PressRoom/2013/Pages/PM-Netanyahu-on-the-gold-treasure-uncovered-in-Jerusalem-9-Sept-2013.aspx.

Eltahawy, Mona and Amy Klein (1998) ‘Palestinian Dig Unearths Canaanite Homes’, Reuters /Jerusalem Post (4 August). Available at http://www.highbeam.com/doc/1P1-16487322.html.

Karny, Yoav (2010) Yossi Garfinkel, Detective of History’, Yoavkarny.com. (9 January). Available at http://yoavkarny.com/2010/01/09/%D7%99%D7%95%D7%A1%D7%99-%D7%92%D7%A8%D7%A4%D7%99%D7%A0%D7%A7%D7%9C-%D7%91%D7%9C%D7%A9-%D7%94%D7%99%D7%A1%D7%98%D7%95%D7%A8%D7%99/

Karpel, Dalia (2012) ‘Author of ‘The Invention of the Jewish People’ Vents Again’, Haaretz.co.il (26 May). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/magazine/author-of-the-invention-of-the-jewish-people-vents-again.premium-1.432371.

Kashua, Sayed (2012) Sayed Kashua’s Daughter’s School Project isn’t Homework, it’s War’, Haaretz.com (25 October). Available at http://www.haaretz.com/weekend/weekend/sayed-kashua-s-daughter-s-school-project-isn-t-homework-it-s-war.premium-1.472257.

Kratz, Reinhard (2009) ‘Eyes and Spectacles: Wellhausen’s Method of Higher Criticism’, The Journal of Theological Studies 60 (2): 381-402.

Kuhn, Thomas (1970) The Structure of Scientific Revolutions (Chicago: University of Chicago Press).

Lanski, Na’ama and Daphna Berman (2007) Storm in a Neo-Con teapot’, Haaretz.co.il (29 November). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/week-s-end/storm-in-a-neo-con-teapot-1.234226.

Latour, Bruno (1987) Science in Action: How to Follow Scientists and Engineers through Society (Cambridge, Mass.: Harvard University Press).

Lemche, Niels (1988) Ancient Israel: A New History of Israelite Society (Sheffield: Jsot Press).

Lemche, Niels (2008) The Old Testament between Theology and History (Louisville, Ky.: Westminster John Knox Press).

Levin, Yigal (2012) ‘The Identification of Khirbet Qeiyafa: A New Suggestion’, Bulletin of the American Schools of Oriental Research 367: 73-86.

Levine, Lee & Amihai Mazar (eds) (2001) The Controversy over the Historicity of the Bible (Jerusalem: Yad ben Zvi – Dinur Center).

Lori, Aviva (2005) The Greatest Spin in History’, Haaretz.co.il (26 February). English version [‘Grounds for Disbelief’] available at http://www.haaretz.com/grounds-for-disbelief-1.10757.

Masalha, Nur (2007) The Bible and Zionism: Invented Traditions, Archaeology and Post-Colonialism in Palestine-Israel (London: Zed Books).

Mazar, Amihai (2011) The Iron Age Chronology Debate: Is the Gap Narrowing? Another Viewpoint’, Near Eastern Archaeology 74 (2): 105-111.

Mazar, Benjamin (1974) Canaan and Israel: Historical Essays (Jerusalem: Bialik).

Mazar, Eilat (2006a) ‘Patriotism and National Security in Israel’, The Sixth Herzliya Conference (24 January). Available at http://www.herzliyaconference.org/?ArticleID=2097&CategoryID=258.

Mazar, Eilat (2006b) ‘Did I Find King David’s Palace?’, Biblical Archaeology Review 32 (1): 16-27.

Mazar, Eilat (2007) Preliminary Report on the City of David Excavations 2005 at the Visitors Center Area. Translated by Ben Gordon. (Jerusalem: Shalem Press).

Millard, Alan (2011) The Ostracon from the Days of David Found at Khirbet Qeiyafa’, Tyndale Bulletin 61: 1-13.

Misgav, Haggai (2010) Contradictions between Archeology and the Bible (A lecture delivered at Herzog College). Available at http://www.youtube.com/watch?v=7hB3_bvdhxI.

Morris, Benny (1987) The Birth of the Palestinian Refugee Problem (Cambridge: Cambridge University Press).

Na’aman, Nadav (2008) ‘In Search of the Ancient Name of Khirbet Qeiyafa’, Journal of Hebrew Scriptures 8: Article 21.

Na’aman, Nadav (2012) ‘Khirbet Qeiyafa and the Philistine-Canaanite Struggle in South Canaan in the Early Iron Age’, Cathedra 143: 65–92.

Nesher, Talila (2013) With the Support of Sa’ar, Shalem Center was Recognized as Academic Institution’, Haaretz.co.il (3 January). Available at http://www.haaretz.co.il/news/education/1.1899517.

Noth, Martin (1960) The History of Israel (New York: Harper and Row).

Penn, Lea (2011) Cain & Abel 90210 Present: Laughter and Rage’, Haaretz.co.il (28 March). Available at http://www.haaretz.co.il/gallery/music/discovery/1.1168932.

Rapoport, Meron (2006) The republic of Elad’, Haaretz.com (23 April). Available at http://www.haaretz.com/print-edition/features/the-republic-of-elad-1.185892.

Reinstein, Ziv (2013) Gold Treasure Including a Model of Menorah was Discovered Near Temple Mount’, Ynet.co.il (9 September). Available at http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4427447,00.html.

Rendsburg, Gary (1999) ‘Down with History, Up with Reading: The Current State of Biblical Studies’, McGill University Department of Jewish Studies Thirtieth Anniversary Conference (expanded version). Available at http://jewish30yrs.mcgill.ca/rendsburg/.

Rollston, Christopher (2011) ‘The Khirbet Qeiyafa Ostracon: Methodological Musings and Caveats’, Tel Aviv 38: 67–82.

Sand, Shlomo (2009) The Invention of the Jewish People. Translated by Yael Lotan. (London: Verso).

Sand, Shlomo (2012) The Invention of the Land of Israel. Translated by Geremy Forman. (London: Verso).

Sand, Shlomo (2013) How and When I Stopped Being Jewish (Or Yehuda: Kinneret, Zmora-Bitan).

Segev, Muli & Adam Sanderson (2010) This is Sodom; feature film (Israel: United King Films).

Shapira, Anita (2009) ‘The Jewish-People Deniers’, The Journal of Israeli History 28 (1): 63-72.

Shapira, Ran (2005) ‘A Debate of Biblical Proportions’, Haaretz.co.il (8 September). English version available at http://www.haaretz.com/print-edition/features/a-debate-of-biblical-proportions-1.169365.

Sharon, Ilan, Ayelet Gilboa, AJ Timothy Jull & Elisabetta Boaretto (2007) ‘Report on the First Stage of the Iron Age Dating Project in Israel: Supporting a Low Chronology’, Radiocarbon 49:1–46.

Shtull-Trauring, Asaf (2011) The Keys to the Kingdom’, Haaretz.co.il (21 April). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/magazine/the-keys-to-the-kingdom-1.360222.

Silberman, Neil (1993) A Prophet from amongst You: The Life of Yigael Yadin: Soldier, Scholar, and Mythmaker of Modern Israel (Reading, MA: Addison-Wesley).

Silberman, Neil & David Small (eds) (1997) The Archaeology of Israel: Constructing the Past, Interpreting the Present (Sheffield, England: Sheffield Academic Press).

Sima, Gil (2012) ‘Ben-Gurion Stated: Rechovot is Part of Tel Aviv’, Mynet.co.il (16 December). Available at http://www.mynet.co.il/articles/0,7340,L-4318985,00.html.

Thompson, Thomas (1992) Early History of the Israelite People: From the Written and Archaeological Sources (Leiden, the Netherlands: Brill).

Thompson, Thomas (1999) The Mythic Past: Biblical Archaeology and the Myth of Israel (New York: Basic books).

Thompson, Thomas (2001) ‘A view from Copenhagen: Israel and the History of Palestine’, Bibleinterp.com.

Available at http://www.bibleinterp.com/articles/copenhagen.shtml.

Thompson, Thomas (2011) ‘On the Problem of Critical Scholarship: A Memoire’, Bibleinterp.com.  Available at http://www.bibleinterp.com/opeds/critscho358014.shtml.

Toffolo, Michael, Eran Arie, Mario Martin, Elisabetta Boaretto & Israel Finkelstein (2014) ‘Absolute Chronology of Megiddo, Israel, in the Late Bronze and Iron Ages: High-resolution Radiocarbon Dating.’ Radiocarbon 56 (1): 221-244.

Vaux, Roland (1965) ‘Method in the Study of Early Hebrew History’, in J. Hyatt (ed), The Bible and Modern Scholarship (Nashville, TN: Abingdon): 15-29.

Verter, Yossi (2013) ‘From the Palestinians to His Own Coalition, Netanyahu Faces a Year of Decisions’, Haaretz.co.il (27 December). English version available at http://www.haaretz.com/weekend/1.565698.

Wallace, Jennifer (2013) ‘Archaeology and the Israel-Palestine Conflict’, ISN (January). Available at http://www.isn.ethz.ch/Digital-Library/Articles/Special-Feature/Detail/?id=143890&contextid774=143890&contextid775=143886&tabid=1452426438.

Wellhausen, Julius (2013 [1878]) Prolegomena to the History of Ancient Israel (New York: Cambridge University Press).

Whitelam, Keith (1996) The Invention of Ancient Israel: The Silencing of Palestinian History (New York: Routledge)

Yadin, Yigael (1975) Hazor: The Rediscovery of a Great Citadel of the Bible (London: Weidenfeld and Nicolson).

Yifa, Yaakov (2014) ‘Israel Said Set to Accept Kerry’s Framework Proposals’, The Times of Israel (2 February). Available at http://www.timesofisrael.com/israel-said-set-to-accept-kerrys-framework-proposals/?utm_source=dlvr.it&utm_medium=twitter.

Zertal, Adam (1999) ‘Go to Mount Ebal – says Herzog’s rival, Adam Zertal’, Haaretz (11 November). Available at http://www.hayadan.org.il/go-to-eival-mt-sais-zertal-111199

Zertal, Adam (2000) A Nation is Born: The Altar on Mount Ebal and the Emergence of Israel (Tel Aviv: Yedioth).

Ziffer, Benny (2013) ‘A Breathtaking Jewish Archaeological Discovery? Give Me a Break’, Haaretz.com (18 September). Available at http://www.haaretz.com/jewish-world/high-holy-days-2013/high-holy-day-news-and-features/.premium-1.547727. 87

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

مرحلة ما بعد طوفان الأقصى

مرحلة ما بعد طوفان الأقصى إعداد أ.د.  وليد عبد الحي مقدمة: تُميِّز أبحاث مراكز الدراسات …