في زمن الإبادة، حين تصبح غزة لوحةَ أهداف دائمة في مرمى القنّاص الاستعماري، وحين تُقتلع فلسطين من الجغرافيا والوعي معًا، لا يكون المثقف مجرد شاهدٍ على الألم، أو راويًا لسردية المأساة فحسب، بل يصير هو ذاته اختبارًا حاسمًا للمعنى والقيمة، مكانه: في الصف الأول على جبهة تشتبك في معركة وجودية ضد آلة المحو الشمولية. فالاستعمار، كما يعرّيه فرانز فانون، منظومةٌ متكاملة من الاستلاب والطمس، لا تقتصر على غزو الأرض وقتل أصحابها أو طردهم، بل تمتد كأخطبوط إبادي يستلب القيَم والعمق والمعنى ــ الذاكرةَ والهوية واللغة والثقافة، بل ويسلب المستعمَرَ الصورةَ التي يرى بها ذاته، بعد تجريده من وسائل الدفاع وحصاره ماديًا ومعنويًا.
اليوم، وحين تقف الذات الجماعية الفلسطينية ــ وجودًا وقضية ووعيًا وذاكرة ــ على مفترق طرق تاريخي، تلوح في أفقه مقصلة إعدامٍ كبرى، يصبح الصمت خيانةً مضاعفة، والحياد سقوطًا أخلاقيًا مدويًّا يعيد إنتاج الهيمنة والمذبحة؛ فالمثقف الذي يتوارى خلف المصطلحات الباردة، أو يتذرّع بالموضوعية الزائفة، لا يقف خارج المجزرة، بل هو يشارك في تمكينها. فهو العنصر الأكثر وعيًا بخطورة الإبادة الرمزية؛ وبكونها الطريق التي تمهّد بالأصل لقبول مختلف أشكال التطهير العرقيّ والعنف الاستعماري، عبر استلاب الوعي وتزييفه على مدار عقود.
الإبادة الرمزية، هي التدمير البطيء للقيمة والمعنى، وللهوية بمستوياتها الجماعية والفردية، وبمختلف تجلّياتها: الوطنية والاجتماعية والثقافية. وهي تتمثل أيضًا في استلاب الرواية، والحقّ في أن تُروى الحكاية بلغة أصحاب الأرض، لتهيمن سردية المستعمِر كرواية وحيدة للتاريخ والواقع. ومعركة الفلسطيني اليوم، تبدأ من انتزاع القيمة والمعنى من يد المستعمِر، واسترجاع الحق في الرواية، وإعادة كتابة الذات ضمن اشتباك وجودي حقيقي مع سردية المحو.
الاشتباك بالوعي والرواية
ليس دور المثقف في زمن الإبادة توثيق المذبحة، ولا تدوين الهزيمة، ولا حتى رثاء الضحايا؛ هو لا يملك أصلًا رفاهية الرثاء والبكاء، بل عليه أن يلزم ثغره على جبهة المواجهة، بالاشتباك الحقيقي مع مشروع الإلغاء ذاته: أن يحرس الرواية والذاكرة من التحريف، أن يحمي اللغة من التواطؤ على ذاتها وعلى الضحية، أن يعيد إنتاج الوعي لا أن يشارك في تزييفه، أن يكون ضميرًا يقاتل بوعي ولا يقبل الترويض.
وفي خضم المعركة المفتوحة على الوجود الفلسطيني، يسود تصوّر سائد بأن النخب الثقافية، الفلسطينية والعربية، تمر منذ عقود بمرحلة ركودٍ وانكفاءٍ على الذات، بل وصلت إلى حالة من الخراب. ولكن هذا المشهد القاتم لا يبرر الاستسلام لليأس أو الاستمرار في الصمت تجاه هذا الانهيار، الذي ينخر في ركائز الهوية الثقافية العربية. وأعمق هذه الركائز: المثقفون، حرّاس الذاكرة واللغة والوعي.
بدلًا من الصمت واليأس، تفرض المأساة الفلسطينية اليوم، وخطابُ الهيمنة الاستعماري المدمّر للهوية العربية، ضرورةَ الحفرِ في هذا الخراب الثقافي العربي، واستثارة أسئلة المواجهة مع الذات والآخر، والاشتباك الدائم بالكلمة والمعنى. فلسطين اليوم ليست مأساة عابرة؛ هي معركةٌ وجودية تُسائل كلّ كلمة وكلّ صمت، ونداءٌ لإيقاظ الضمير الثقافي وإعادة تشكيل الوعي الجمعي. فإما أن يكون المثقف شاهدًا يقاوم، أو شريكًا يمكّن الجريمة عبر الحياد أو تبنّي خطاب الهيمنة.
وهناك نماذج من السلوك النخبوي الثقافي، العربي والفلسطيني، برزت خلال العدوان الأخير على غزة، وهي طالما كانت موجودة خلال العقود الماضية، ولكنها وصلت مؤخرًا إلى درجة غير مسبوقة من الانحدار والتواطؤ، ما يستدعي اشتباكًا جادًا بل حادًا معها، من أجل تفكيك ظاهرة “المثقف المتواطئ” وتفنيد حججها وتعرية ادّعاءاتها. من أبرز هذه النماذج: الصمت والحياد، والانتقاد المستمرّ والموجَّه ــ في ذروة العدوان ــ للفعل المقاوِم، تحت شعارات الموضوعية والتعقّل وتقديس الحياة. يُنتِج هذان النموذجان بدورهما تزييفًا للوعي يستند إلى معادلات تُقلَب فيها المفاهيم: تصبح فيها الضحية مساويةً لجلادها، ومسؤولةً عن الإبادة، وموضوعًا للمساءلة والمحاكمة.
يضاف إلى ذلك، صعود ما يعرف بـ “المؤثرين” على وسائل التواصل الاجتماعي، ليملأ هؤلاء فراغَ “الاشتباك بالكلمات”، ولتُطرَح، في حالة من العجز الجماعي القاتلِ، أسئلةٌ مضلِّلة مثل: “من المسؤول عمّا يحصل؟” ــ وكأنّ جذر المآسي كلها غير معروف، و”هل كان السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عملًا مشروعًا أو صحيحًا؟”، لتُختزلَ القضية إلى إطار زمني يبدأ من ذلك التاريخ، ويُقتَلعَ الحدث من سياقه الشمولي الأوسع.
هذه الأسئلة، وما يشابهها وما يتفرّع عنها، فخاخٌ تُنصَب للوعي، لتقدم إجابات مسمومة. ليغدو الوضع، خلال العدوان الأخير، حالةً من الفوضى التي تستهدف الإدراك الجمعي وعمليات تكوين الآراء والمواقف. وهي فوضى ممنهجة بالأصل، تهدف إلى تزييف الوعي الجماعي تجاه فلسطين. وهي، أي عملية تزييف الوعي هذه، تَمثّلٌ من تمثلات الإبادة الرمزية الموازية للإبادة العسكرية على الأرض.
سقف الوهم.. خطيئة الحياد
قد ينجو المثقف من القصف، لكنه لن ينجو حين يسقط فوق رأسه سقفُ وهم النجاة؛ يظن أن الصمت حياد، والحياد حكمة، وأنه بذلك “يعلو” فوق المعركة، ولا يقع في “وحلها”. إذًا، هو يختار أن ينفصل لا أن يشتبك. والحياد، في معركة الوجود أو الفناء، ليس سوى انحيازٍ مُقنّعٍ للقوة الغاشمة. هكذا، يصير الصمت خيانةً للحقيقة والمعنى.
غير أن التواطؤ لا يقف عند حدود الصمت. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يتزيّا بعباءة “النقد الموضوعي” الذي يحاكم الضحية. هنا، يتحول المثقف من شاهدٍ على المجزرة إلى قاضٍ يُحاكم الناجين باسم التعقّل. وحين تتسرّب السلطة إلى اللغة، يصبح “النقد” أداة للإبادة الناعمة، فينقلب السؤال من “لماذا يُقتل الفلسطيني؟” إلى “لماذا يقاوم الفلسطيني قاتلَه؟”.
هنا، تتسلل السلطة كظلٍّ خلف المثقف، تُغريه بلغةٍ مزدوجة: لغة الخوف المقنع بـ “التعقُّل”، ولغة الخضوع المغلَّفة بشعارات “الحياة أهم من الموت”. وهكذا يتحول المثقف من حاملٍ للمعنى إلى وكيلٍ لغسل الجريمة، ومن مدافع عن الحق إلى خادمٍ للخطاب الرسمي المُعقّم، الذي يُجيد “الحزن” على الضحية شرط ألا يُذكر اسم القاتل.
السلطة ــ وكل سلطة تخشى الحرية ــ لا تسعى إلى إلغاء المثقف، بل إلى ترويضه ليخدم توجهاتها ويعزز هيمنتها: تريده شاعرًا بارعًا في الرثاء، أو رسّامًا لا يتجاوز “جماليات” خطوط آلام الضحايا. ليتكوّن، عبر هذا الخطاب البكائي الموغل في الشعور بالضعف والهزيمة، سدٌّ نفسي منيع في الوعي الجماعي، مرصوص بطوبٍ من الخوف والتحفّظ تجاه كل حراكٍ أو فعلٍ مقاوم. ومن أجل هذا بالضبط، لا يُراد للمثقف أن يكون محرّضًا على النهوض؛ بل “حكيمًا” يشجب الألم و”يقدس الحياة”، لا يُرغَب به ثائرًا يحطم سياج الأسئلة الملحة، بل متواطئًا مع اللغة والإبداع، لتقديم أجوبة سهلة جاهزة مخادعة مسالِمة، لا تجتثّ جذور الألم ولا تفتح نيرانها على مسبّباته.
والمثقف الذي يبرر حياده بالعقلانية، يصير، بدون أن يدري، موظفًا في مؤسسة الإبادة الرمزية؛ يصوغ للجلاد خطابات التبرير، ويقنع الضحية بالموت بصمت. والسلطة لا تتمثل في الحاكم أو المحتل فحسب، بل تتخفى في اللغة، والإعلام، وحتى في حركات اليد التي تكتب كلمة “السلام” على خريطة من المقابر الجماعية.
هكذا ينشأ ما يسميه فانون بـ”الانقسام الداخلي للمثقف المُستعمَر”: يتمزق بين لغته الأم التي تصرخ ألمًا، ولغة السلطة التي تهمس خلفه بلغة تتلوّن بين التهديد والإغراء والتحريض على التزييف. يقف عاجزًا مهزومًا بين ذاته العميقة ــ التي تعي حجم الظلم ومدى الخراب الذي يحدثه في الذات الجماعية، وعقله الذي يروّضه بوهم التوازن والحياد، فيبرّر الظلم ويجمّله، تحت مسميات الحياد، والعقلانية، واحترام الإنسان والحياة.
إعادة تدوير الاستعمار
لكن في الحقيقة، هذا “الاحترام للحياة”، وحين يُنزَع عن سياقه التاريخي والسياسي، يصبح ضربًا من ضروب إعادة تدوير الاستعمار ذاته، وترسيخًا لجذور الألم وإعادة إنتاجٍ للإبادة.
و”الأمن والحياة”: معطيان بديهيان، يفتقدهما الفلسطيني على مدار عقود؛ يدرك المثقفون ذلك، لكن العديدين منهم يصرون على التعامي؛ أي حياة تلك التي تتناثر أشلاءً تحت الأنقاض كلما شعر المستعمر بالتهديد، ــ وهو على كل حال دائم الشعور بالتهديد، بل وجوده كله قائم على الشعور بالتهديد، ما دام الآخر النقيض ــ المستعمَر ــ حاضرًا، وإن كان جريحًا؛ فجرحه مخيف، وحضوره مخيف، وصمته وسكونه وفعله وعدم فعله كله مشبوه ومخيف.
عن أي حياة يتحدث هؤلاء المثقفون؟ عن تلك التي تُحاصر في سجون كبرى في غزة والضفة الغربية والقدس؟ ومن هو الإنسان الذي يحاكمون باسمه المقاومة؟ أهو الفلسطيني الذي تُطارد ذاكرته بالأسلاك الشائكة؟ أم الطفل معصوب العينين الذي تقام له محاكم عسكرية؟ أم هو الفلسطيني الذي تُستلب كرامته وحياته يوميًا على الحواجز، وتحاصَر حياته الشخصية بشبكات تجسّس المستعمر وكاميراته المنتشرة في كل شارع وزقاق؟
أي حكمةٍ هذه التي تدفع بالمثقف إلى أن ينظر إلى المذبحة باعتبارها “مؤقتة”، وليست ذات ارتباط شرطي أصيل بوجود المستعمِر؟ وكأنّ المذبحة لم تسبقها آلاف المجازر الأخرى، وكأن فلسطين، منذ نكبتها، ليست مذبحةً كبرى تتواصل ويُعاد إنتاجها. أي حكمة عمياء مثيرة للسخرية، تلك التي تجعل المثقف يرى أن وقف المذبحة مشروط بإرادة الضحية؟ أليست الضحية بالأصل رهينة لدى الاستعمار الذي أحكم سيطرته عليها؟ أي عينٍ تلك التي لا ترى أن الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، هم رهائن ــ حقيقةً لا مجازًا ــ في سجون المستعمر، التي أقامها أخطبوطًا تمتد أيدي سيطرته على الأرض وفي عمق الذات الجماعية؟
“التعقل” والشعبوية المقلوبة
حين تنهض المقاومة في وجه المستعمر، تنهض لا بوصفها نزوة دموية، بل بوصفها نداء الحياة الأخير، هي انتفاضة الجسد الجمعي لطرد السرطان الاستعماري الذي تفشّى فيه. لكن المثقف الذي فقد بوصلته، يأتي لينقض عليها بدعوى “العقل”، بدعوى أن الدم كثير، وأن التعقل قليل، كأنما كان الاحتلال منذ البدء مشروعَ محبةٍ عقلانيًا ومنطقيًا، لا مشروع محو إبادي يضرب بعرض الحائط كل الأعراف والقوانين.
وفي مقابل دعوى التعقل، تصبح الشعبوية “اتهامًا” يلاحق المقاومة ومناصريها، ليوسَم هؤلاء بغياب العقلانية والانسياق وراء العاطفية وتبسيط القضايا المعقدة. وكأن دفاع الناس عن حقهم في الوجود والكرامة، مجرد انفعال غوغائي. هم لا يرون أن “الشعب” هو آخر ما تبقى من المعنى، وأن المقاومة ليست انفلاتًا من النظام، بل استعادةٌ للحق، في وجه نظام عالمي ينحاز للقاتل، ويطالب الضحية بالاعتذار عن جرحها.
بل هم من يمارسون “الشعبوية” حين يختزلون المقاومة في كونها فعلًا فوضويًا، وهي تلك التي تشكلت عبر سيرورة وطنية ثقافية معقدة في تاريخ النضال الفلسطيني، وضمن معركة حقيقية ضد المستعمر. وبينما هم يروّجون لـ “اللاجدوى” من مقاومة مشروع استعماري يستلب الأرض والحياة، يبذلون جهدًا مضاعفًا في مؤتمرات وندوات تناقش “جدوى الفن”، بل وقد يسهرون الليالي لتأليف كتاب في “جدوى القصيدة”!
معاول هدم
في ذروة المأساة، وتصاعد السعار الإبادي، وبدلًا من الاصطفاف على جبهة رواية أصحاب الأرض، يتقدم من احتكروا لأنفسهم مهمة “النقد الموضوعي”، ليقدموا محاكم لغوية للمقاومة. لم يكن نقدهم محاولة لتصويب السهام، بل خذلانًا للبوصلة والاتجاه. انتقدوا المشهد والأداء والصورة، لكنهم تعاموا عن أصل الحكاية، ومزقوا الرواية الحقيقية.
في نقدهم، يتساوى الجلاد مع الضحية، ويختفي الدم المسفوك وراء لغة باردة عن “الطرفين” و”الموضوعية”، ويثبّتون من وراء حجاب “النقد” خطابَ الضعف والهزيمة. وحين ينطقون بكلمة “الحياة”، لا يقصدون إلا الحياة الخاضعة، المستسلمة، لا الحياة التي تقاتل للبقاء. هكذا ينقلب النقد إلى معول بيد المستعمر، في لحظة كان يفترض فيها أن يكون المثقف ترجمانًا لرواية أصحاب الأرض، لا قاضيًا يحاكم دفاعهم عن أنفسهم، ولا واعظًا ينظر من برج مائل على أطلالهم.
يغفو الحرّاس ليتسيّد الزيف
في هذا المسار، لا يقف المثقف وحده، بل يتقدمه جوقٌ من “الناقدين”، مؤثرين وإعلاميين وناشطين، يرفعون شعار العقلانية، بينما يُمسكون بمباضع تشريح الجرح المفتوح. هؤلاء لا يهاجمون القاتل، بل يدينون الضحية باسم إنقاذها من نفسها. يقولون: “لماذا تقاومون؟ إنكم تستفزون العنف”. يقولون: “الحكمة أن تحافظوا على الحياة، لا أن تضيعوها في مقاومة خاسرة”.
حين ينسحب المثقف إلى صومعته، ولا يبقى في الساحة إلا الأصوات العالية ــ التي تستند إلى أعداد الإعجابات والمتابعين، تنهار اللغة، ويتساقط الوعي، ويتحوّل المعنى إلى سلعة رخيصة على موائد السوق في عصر “التريند”. يعلو صوت “المؤثر”، الذي لا يحمل من الفكر إلا قشره، ومن الحقيقة إلا صدًى مشوّهًا. تغدو القضايا الكبرى ساحةً للتراشق والتلاسن، وتتراجع المجازر إلى الخلفية، لتصير “لوحةً خلفية” لمشاهد استعراض الذات والمواقف.
وفي هذا الفراغ، يُعاد تدوير الضحالة والزيف، وتُبعث النزعات الطائفية والهويات الضيقة، وتُهندَس المشاعر وفق قواعد الخوارزميات والتريند، ويُقاد الجمهور لا إلى مقاومة الاضطهاد، بل إلى معارك وهمية تشغلهم عن جرحهم الحقيقي. غابت البوصلة، لأن الحارس غفا، ولأن من كان عليه أن يشهد للحقيقة، آثر أن يكون شاهد زور.
المقاومة… ضرورة وجودية
في هذا الفراغ الموسوم بالعجز وعلوّ الأصوات بلا معنى، تتجلى أخطر آليات ترويض الوعي: تُختزل المقاومة إلى صورة طيفية من الحماقة أو الرومانسية العدمية، وتُفرغ من بعدها التاريخي والسياسي، فتُصبح مجرد “رد فعلٍ غريزيٍّ” و”عنف مجرد”، بدلًا من أن تُرى كفعل وجودي ضد آلة إبادة ممنهجة.
ولا بد للمثقف المشتبك، في زمن الإبادة، أن يرفض هذا التزييف: أن يرفض اختزال المقاومة إلى مسألة إحصائية، تتحدث عن “أعداد الضحايا”، بدون الحديث عن القاتل وتاريخه ومشروعه وطموحه. عليه أن يرفض أن يُختطَف الخطاب بدعوى “الإنسانية” التي تنسى أن الاستعمار نفسه هو النفي الأقصى للإنسانية. على المثقف أن يظل شاهدًا لا على مأساة الضحية فقط، بل على بشاعة نظام الهيمنة الذي صنع المأساة ويستمر في إعادة تدويرها.
المثقف، في زمن الاستعمار والإبادة، ليس مجرد شاهدٍ عابرٍ على المذبحة، بل هو حارس البوابة الأخيرة للمعنى، وحارس مدينة الوعي التي تتهاوى أسوارها تحت قصف الحديد والنار والكلمات المسمومة والخطابات المزيفة. هو آخر من يقف بين الذاكرة والنسيان، بين الزيف والحقيقة، بين الحكاية الحقيقية وسردية الجلاد التي تُسوَّق كحقيقة وحيدة. هو المرآة التي تُرى عبرها خريطة الذات الجماعية الجريحة، وهو وعيها الحامي لها من الانكسار والانهيار.
في فلسطين، لا ترف للحياد، وعلى حافّة الإبادة، لا مكان للمسافة الآمنة. بين الانحياز والسقوط، يقف المثقف في اختبار وجودي لا يقبل التأجيل. فالموقف الآن اشتباكٌ بجرحِ الذات، والحيادُ ضربةٌ في خاصرة اللغة. ومن يخشى السقوط، لا بد أن يسقط في الخيانة الكبرى: خيانة المعنى.
المصدر