تمهيد
يشكل علم الآثار جزءً من حرب السرديات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فتلعب الهُويات الصهيونية/الإسرائيلية والعربية/الفلسطينية دوراً رئيساً في بناء التوقعات والافتراضات والتحيزات النظرية وتأويل البيانات. وبطبيعة الحال؛ يبدي علماء الآثار الصهاينة، بهدف حماية سردياتهم شكوكاً أقل في الكتاب [المقدس] من نظرائهم الفلسطينيين أو ممن يوصفون بالتنقيحيين minimalists المؤيدين للفلسطينيين، أو الإسرائيليين ما بعد الصهيونيين. ولفهم طبيعة هؤلاء، وطبيعة “العلم” الذي يهتمون به، ينبغي القيام بمقاربات مقارنة معمقة حول “الثقافات المحلية المتداخلة”، وتأثير هذا المفهوم على الجوانب الاجتماعية والسياسية والبلاغية لخطاب علم الآثار الكتابي في إسرائيل الحالية. فبعض المجتمعات تمتلك تشابكات وتوترات مشابهة لتلك التي نصف بها علم الآثار “الإسرائيلي” لجهة عدم إمكانية فصل البحوث والتفسيرات النظرية عن الهويات والتحيزات الاجتماعية والسياسية.
فقد تغلب علم الآثار التركي -على سبيل المثال- على هذه التصعيدات من خلال الطبيعة العلمانية للدولة وآلياتها الحازمة وسياسة التتريك في بدايات بناء الجمهورية التركية الحديثة؛ حين افترضوا وجود روابط مع الثقافات السومرية والحثية وصبغ هذه الروابط بالطابع الأناضولي للدولة، كمقاربة قومية/جغرافية حظيت بدعم مباشر من كمال أتاتورك نفسه. والأمر ذاته ينطبق على علم الآثار الألماني أثناء الحكم النازي وهو ما يصطلح عليه “علم الآثار النازي” حين تطلب الأمر تثبيت وجهات نظر “علمية” مرتبطة بصورة وثيقة بالتأويلات الإثنية والقومية لتعزيز شرعية سلطة الرايخ الثالث؛ والحديث عن الإنجاز الثقافي للجرمان القدماء لتأكيد تفوقهم “العرقي والثقافي على الشعوب الأخرى”؛ الأمر الذي يوصف عادةً بسوء استخدام علم الآثار والتلاعب السياسي بماضي ألمانيا، لا سيما الجهد الذي قام به “غوستاف كوسينا” في حقل دراسات عصور ما قبل التاريخ.
علم الآثار القومي الصهيوني
انطلقت الحركة الصهيونية، منذ تأسيسها، من مشروعٍ يُوظّف الماضي، نصاً ومادة، لصياغة هوية قومية حديثة تُضفي المشروعية على الوجود والسيطرة (1). وسرعان ما انخرطت في عملية منهجية لإعادة بناء الذاكرة التاريخية، مستندةً إلى رموز الماضي الكتابي، مثل يهوذا، وأورشليم، والهيكل، وغيرها، في محاولة واعية لترسيخ تصور بعينه عن استمرارية دينية وسياسية مفترضة.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر (للدقة أكثر، منذ تأسيس صندوق استكشاف فلسطين في لندن سنة 1865)، أخذ علم آثار فلسطين القديمة يتطور بصفته مجالاً علمياً منظماً. وقاد هذا التطور- بالأساس- باحثون غربيون تأثروا بخلفياتهم الدينية المسيحية، وسعوا إلى التحقق ميدانياً من صدقية الروايات الكتابية. غير أن هذه الحملة “العلمية” اتخذت منحى آخر مع مطلع القرن العشرين، بصعود المشروع الصهيوني، الذي وجد في علم الآثار وسيلة لتعزيز الادعاءات التاريخية بحق اليهود في الأرض.
تبنّت الحركة الصهيونية علم الآثار الكتابي باعتباره أداة سياسية تخدم سرديتها القومية، وسعيها إلى إثبات حضور تاريخي متواصل لليهود في فلسطين القديمة، بهدف شرعنة مشروعها الاستيطاني أمام العالم، وترسيخ جذور هوية قومية جديدة بين اليهود أنفسهم. ويكشف استعراض العلاقة بينهما عن تداخل عميق بين البحث الأكاديمي والمشروع السياسي. حيث اتّسمت هذه العلاقة بمقاربة انتقائية واضحة، إذ ركز المنقّبون الصهاينة على الآثار المرتبطة بالممالك العبرية القديمة، ولا سيما مملكتا إسرءيل ويهوذا، متجاهلين حقب تاريخية أخرى كانت أكثر تعقيداً أو أقل انسجاماً مع السردية القومية الحديثة. كما جرى تجاهل السياقات الثقافية الواسعة التي نشأت ضمنها هذه الكيانات السياسية الصغيرة، كالتأثيرات الكنعانية والآرامية والفينيقية، والتي كانت تُظهر تداخلاً حضارياً لا يخدم فكرة “الاستثناء اليهودي” التي سعت الصهيونية إلى ترسيخها.
وهنا، برز تمييز منهجي بين مملكتي إسرءيل ويهوذا في السرديات الأثرية والتاريخية. تمحور حول تقديم مملكة يهوذا باعتبارها أكثر شرعية وأصالة، وبوصفها الحاملة الحقيقية للتراث الديني والتاريخي الذي تبنته الصهيونية لاحقاً. ولأجل ذلك، ركّزت الحفريات على القدس ومحيطها، كمركز لتلك المملكة، فغدت المدينة، بالنسبة للصهيونية، رمزاً للدين والسيادة والمشروعية التاريخية في آنٍ معاً.
في المقابل، جرى التعامل مع مملكة إسرءيل الشمالية بنوع من التهميش أو التحفظ، ووصفت، في كثير من الأحيان، بأنها أقل التزاماً بالتوحيد، وأكثر عرضة للاختلاط الثقافي مع الشعوب المجاورة. وأدى هذا الانتقاء في تمثيل الماضي إلى بناء صورة مشذّبة للهُوية اليهودية، ترفع من شأن سلالة يهوذا –داود وسليمان– كامتداد “أصيل”، وتقلّل من أهمية التجربة الإسرءيلية الشمالية، رغم ثقلها الجوهري في “التاريخ” الكتابي.
ولا يُمكن فصل هذا التفضيل عن الأهداف السياسية المباشرة للمشروع الصهيوني، في سعيه لـ “إعادة تأسيس” “دولة يهودية” في فلسطين، بالحاجة إلى نموذج تاريخي يُجسّد شرعية الحكم الذاتي، واستمرارية السيادة، ويجذر الانتماء، وهي افترضت الصهيونية أنها تتجسد بوضوح في نموذج مملكة يهوذا الصغيرة والمحصنة، أكثر مما عليه حال مملكة إسرءيل الأكبر حجماً والأكثر انفتاحاً وتعدداً.
استمر البناء الإيديولوجي لفكرة الأمة اليهودية في التطور على يد المؤرخين والآثاريين الصهاينة قبل وبعد قيام إسرائيل في العام 1948 لخلق وثيقة قومية تاريخية، مدعماً بسجلات ضئيلة كشفتها الحفريات الأثرية، الأمر الذي جعل من علم الآثار جزءً من السياسة؛ والسياسة جزء منه، وانعكس السرد الكتابي لمرويات غزو يشوع لكنعان وتأسيس مملكة داود وسليمان في الروح القومية الحديثة. واعتمد علماء الآثار الصهاينة الذين اتبعوا منهج عالم الآثار الأمريكي وليم فوكسويل أولبرايت؛ والآثاريين المسيحيين على تبني ممارسة “الكتاب في يد والمعول في اليد الأخرى”.
وكما أثبتت العديد من الحفريات -ولكن ليس جميعها- أن تأويل النص على نحو معتقدي وبمعول الآثاري كلاهما يشيران إلى اتجاهات مختلفة في طريق إعادة بناء الماضي وبالتالي إعادة بناء وكتابة التاريخ، والتمييز بين ما هو “تاريخي” وبين ما هو حكايات وأساطير شعبية متواترة ذات مغزى وقصص ديني تحمل طابع العِظة. وحتى لا يكون الكلام منحازاً، فإن إعادة التفكير في النصوص الدينية استناداً للمعطيات الآثارية لايعني بطبيعة الحال نهاية الإيمان، بل ربما يعني أن الإيمان بات أكثر نضجاً. ويرى فنكلشتين أن اعتماد تقنية الكربون المشع لتأريخ البقايا العضوية في المواقع الأثرية سيكون له دور حاسم في تقديم مصدر مستقل عن المصدر الكتابي أو غير الكتابي فيما يتعلق في السجال التاريخي السائد في الوسط الأكاديمي، في سياق فرز ما هو “تاريخي” وما هو “غير تاريخي” من نصوص الكتاب المقدس.
وهكذا تحوّلت المواقع الأثرية إلى ساحات صراع رمزي. فلم يعد التنقيب في الأرض عملاً علمياً محايداً، بل غدا فعلاً سياسياً بامتياز، يرمي إلى استعادة “الحق”، و”الذاكرة”، و”الجذور”. وتحوّل الحفر في طبقات الأرض إلى حفر في طبقات الهوية، حيث اختلط التراب بالسردية القومية، وامتزج الاكتشاف الأثري بالتأويل الأيديولوجي. ويناء على ذلك، لم يعد علم الآثار الكتابي مجرد وسيلة لفهم الماضي، بل صار أداة مركزية في بناء سردية قومية حديثة، تجمع شتات اليهود، وتمنحهم شعوراً بالانتماء إلى “أرض الآباء”.
وامتد أثر هذا التوظيف الإيديولوجي لعلم الآثار إلى السياسات الإسرائيلية المعاصرة، فتجاوز حدود البحث الأكاديمي ليصبح أداة فاعلة في النزاعات السياسية، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على الأرض وتحديد الهويات. وأسهمت الحفريات المكثفة في القدس الشرقية، على سبيل المثال، في تكريس الادعاء بأن المدينة تنتمي حصراً إلى التاريخ اليهودي، متجاهلة طبقاتها العربية والإسلامية والمسيحية العميقة.
واستندت وجهة نظرهم إلى تأريخ قومي وضعه المفكرون اليهود، بهدف تعزيز هذا الرأي. لقد كان علماء الآثار الصهاينة -في الواقع- جزءً من النخبة الحاكمة، فلم يكن يغال يادين، -وهو تلميذ أولبرايت-، مجرد عالم آثار، وابن إليعيزر ليبا سوكنيك- مؤسس قسم الآثار في الجامعة العبرية في القدس فحسب، بل كان أيضاً رئيس غرفة العمليات خلال حرب 1948، وثاني رئيس أركان للجيش الإسرائيلي ثم وزيراً. وعمل يادين على تفسير وتأويل اللقى التي عثر عليها أثناء حفرياته في حَاصُور ومَجِدّو في الستينيات، فضلاً عن لقى جَزَرْ بصفتها تأكيداً على النشاط العمراني العظيم للملك سليمان كما تذكر نصوص التناخ.
أما بنيامين مزار الذي شكل مع يادين النموذج الصهيوني لعلم الآثار؛ لم يخالط التزامه بالمرويات الكتابية أدنى شك بصفته ممثلاً للنخبة الصهيونية. وحاول موائمة علم الآثار بما يتوافق مع التوجهات الصهيونية لخلق ماض “يهودي” في فلسطين.
كما كان موشي ديان رئيس أركان ووزير دفاع وعالم آثار هاوِ (يصفه البعض “لص آثار”)، ونشر مؤلفه بعنوان “العيش مع الكتاب” الذي دمج فيه إسرءيل القديمة بإسرائيل الحديثة.
قاد هذا الاستخدام الانتقائي للتاريخ إلى تشويه صورة فلسطين القديمة، وتجاهل تنوعها وتعدديتها الثقافية والاجتماعية، وتحويل فضائها التاريخي إلى حقلٍ تأويلي يخضع لرغبات الإيديولوجيا. وامتد هذا النهج ليصبح إحدى ركائز السياسات الإسرائيلية المعاصرة، التي ما تزال تستثمر علم الآثار كأداة لتعزيز الادعاءات السياسية وإعادة تشكيل الجغرافيا الرمزية للأرض الفلسطينية ليس لفهم الماضي، بل لإنتاج الحاضر. ورغم بروز تيارات نقدية داخل علم الآثار الإسرائيلي، فإن السردية الرسمية ما تزال مهيمنة في الفضاء العام، مدعومة بسطوة أذرع المؤسسات السياسية والدينية. ويُظهر هذا الواقع كيف يمكن للعلم، إذا ما خضع للإيديولوجيا، أن ينقلب من أداة لفهم الماضي إلى وسيلة لإنتاج حاضر موجَّه، ومن مشروع للمعرفة إلى آلية للهيمنة (2).
ولم تقتصر المسألة على اكتشاف الآثار، بل شملت أيضاً طريقة عرضها وتفسيرها في المتاحف، والمناهج الدراسية، ووسائل الإعلام، بما يخدم رؤية قومية محددة ترى في الماضي مصدراً لشرعنة الحاضر وتبرير السياسات الاستيطانية. وفي هذا الإطار، جرى تقديم علم الآثار كـ”شاهد صامت” يدعم الرواية القومية، بينما تعرضت الأصوات النقدية من علماء آثار إسرائيليين وأجانب للتهميش أو الاتهام بـ”تسييس العلم”.
وهكذا لم تعد الدراسات الكتابية والآثارية مجرد حقول أكاديمية وتخصصات معرفية، بل باتت ميداناً لصراع سردي أوسع بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ صراع لا يتوقف عند حدود التأويل الأكاديمي، بل يتغلغل في كل طبقة من طبقات التفسير، بل في بنية التحليل ذاتها، حيث تؤدي الهًوية السياسية والثقافية دوراً حاسماً في تشكيل الفرضيات، وتوجيه طرق جمع المعطيات، وتحليل البيانات، وتوجيه نتائج البحث الأثري وصياغة الاستنتاجات.
وفي المقابل يسهم بعض العلماء في نقدهم لعلم الآثار الكتابي، بما يشمل، في جزء منه، نقد الروح الصهيونية التي تعتري علم الآثار الإسرائيلي والمنهجية الأصولية الكتابية؛ فلا يمكن لأحد؛ وفقاً لهذا البعض، الزعم بعدم التحيز. إذ لا يمكن فصل البحوث والافتراضات النظرية عن الآراء الاجتماعية والسياسية والهوية الثقافية. ومن الواضح أن وجهة نظرهم لا تنال رضى الإسرائيليين؛ فينتقد توماس طومسون على سبيل المثال الإسرائيليين في سعيهم لنزع الطابع العربي عن الطبوغرافيا الفلسطينية بما يلحق الضرر بالتراث الثقافي للمنطقة.
كما يستعرض فيليب ديفز بطريقة مماثلة أجندة مناوئة للإسرائيليين؛ فيقول: “تكمن خطورة البحوث الكتابية في كونها “صهيونية” وتشارك في القضاء على الهوية الفلسطينية، وكأن أكثر من ألف سنة من وجود المسلمين على هذه الأرض لا يعني شيئاً، فالتركيز على مدة زمنية قصيرة من تاريخ طويل يسهم في نوع من استعمار الماضي بأثر رجعي، حيث تميل إلى اعتبار الفلسطينيين المعاصرين معتدين على الأرض أو (غرباء مقيمين) في أراضي الغير، ويستأنف القول ” ولا أعني بهذا القول كاتهام لأحد بل هو، باعتقادي، مجرد نتيجة حتمية لهوسنا في الكتاب. ونخطئ تماما عندما نتجاهل هذا أو ننكره”.
وتصب أعمال كيث ويتلام في ذات الاتجاه، كما يظهر من عنوان أشهر كتبه “اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني”. حيث يجادل، مقتفياً خطى إدوارد سعيد، بأن الخطاب الكتابي “جزء من شبكة معقدة من أعمال وأبحاث يعرفها سعيد بأنها” خطاب الاستشراق” تجاهل ويتجاهل تاريخ فلسطين القديمة ويعمل على إسكاته بسبب اهتمامه بإسرائيل القديمة التي تعرض بوصفها معيناً لا ينضب للحضارة الغربية”. وللتخلص من هذه النزعة الإقصائية، يعرف ويتلام عمله كمحاولة لإظهار أن” التاريخ الفلسطيني القديم موضوع منفصل في حد ذاته، ويحتاج إلى الانفكاك من سطوة الدراسات الكتابية، أي من قبضة دراسة الكتاب العبري ومن وجهات النظر اليهودية والمسيحية.
من هنا، فإن أي مشروع تاريخي-آثاري يسعى إلى إعادة رسم وتشكيل المشهد الفلسطيني في حقب تاريخية سحيقة، لا يمكن فصله، بأي حال، عن الهواجس السياسية التي تَصْبغ واقعنا الراهن، وهو ينطلق، في مهمة صعبة ولكن ليست مستحيلة، أصلاً من أفق الألفية الميلادية الثالثة، ويتطلع إلى كتابة تاريخ منطقة صغيرة نسبياً من هذا العالم، يعود بتاريخها إلى ما يزيد عن أربعة آلاف عام.
وما يزيد من صعوبة هذه المهمة ليس الأدوات أو المعطيات فحسب، بل ثقل الأجندات السياسية والتوجهات الإيديولوجية دائمة الحضور في خلفية مثل هذه المشاريع التي تهدد مصداقيتها. إذ لا يمكن لأي جهد بحثي الحفاظ على موضوعيته أو تحقيق شروطه الأكاديمية إذا ما خضع لتأثيرات خارجية، سواء انطلقت من دوافع دينية -يهودية أو مسيحية أو إسلامية- أو من هويات قومية وإثنية -إسرائيلية أو عربية.
ولذلك، فإن أي كتابة نزيهة لتاريخ فلسطين القديم تستلزم، بالضرورة، تجريد أدوات البحث من نزعات التوظيف السياسي ووطأة التحيزات، وفصل المعطى الأثري عن الغاية الإيديولوجية. ذلك وحده ما يسمح للعلم تأدية دوره كأداة للفهم وليس للهيمنة، ويستعيد وظيفته الأصلية، أي فهم الماضي كما كان، لا كما نريد له أن يكون.
فإذا كان الماضي، كما يؤكد ميشيل فوكو، غير قابل للاستعادة بصورة كاملة، فإننا نستطيع على الأقل تمثله بطرق مختلفة، عبر إعادة بناء صور ذهنية وتأويلات متعددة تُحاكي ما كان عليه ذلك الماضي. ويجسد هذا التمثيل محاولة أولية -لكنها ضرورية-لفهم الواقع التاريخي عبر أُطر معرفية متنوعة، لا تكتفي بالاعتماد على النصوص الكتابية فقط، بل تشمل مصادر متعددة مثل الآثار والتراث الشفهي والسجلات غير النصية، مما يتيح رؤية أكثر تنوعاً ودقة. ومن هنا، تتجلى أحد أوجه الفشل في البحوث التي تستند حصرياً إلى المصادر الكتابية، والتي أنتجت وهم “إسرءيل القديمة” كمجتمع متجانس ومحدد، لا يتلاءم مع الواقع الفعلي للمجتمع الفلسطيني القديم، كما يتضح من الأدلة الأثرية والثقافية المختلفة. ويُظهر هذا التباين أن الاعتماد على النصوص الدينية وحدها في تفسير التاريخ القديم يقود إلى سرديات ضيقة ومحدودة، تهمل التنوع والتعقيد الذي ميز ذلك المجتمع.
فمن وجهة نظر المؤرخ الموضوعي، تُعتبر “إسرءيل القديمة” كياناً شاذاً ومصطنعاً، نتج عن خيال الرواد من الباحثين اللاهوتيين المهتمين بعلم الآثار، ومن مدرسة النقد التاريخي التي نشأت وانتشرت بسرعة بين مؤرخي النصوص الكتابية وخلفياتهم الفكرية الحديثة خلال القرنين الماضيين. وأسفر هذا التصور الوهمي عن إشكاليات جوهرية واجهها الفكر الكتابي، ثم الفكر الصهيوني والإسرائيلي، أبرزها الإصرار على تغييب الفلسطينيين عن “المكان” أي الأرض. التي تغدو، في هذا السياق، رمزاً مقدساً يمثل المدخل والمخرج لكل التعبيرات الاستشراقية التي وظفها المثقفون الإسرائيليون (3)، في تعاطيهم مع الفلسطينيين بطريقة يتحول فيها الفلسطيني من صاحب أرض وحضارة إلى غائب أو غير موجود، لمصلحة مشروع سياسي يستهدف تبرير الهيمنة والسيطرة على الأرض تحت ذريعة شرعية تاريخية مزيفة.
لذلك، تطرح هذه المعطيات ضرورة إعادة النظر في منهجيات البحث التاريخي، وتبني مناهج متعددة المصادر قادرة على تجاوز الإشكالات التي تسببها القراءة الأحادية للنصوص. ويعني ذلك إدماج البيانات الأثرية، والدراسات الأنثروبولوجية، وتحليل السياقات الثقافية والاجتماعية لتكوين فهم شامل للماضي، يراعي تعدد الطبقات والهُوية المتغيرة للمجتمع الفلسطيني القديم.
يشكل الهوس الشديد بإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، بدءً من مفهوم “إسرائيل القديمة”، جوهر كتابة التاريخ “الجديد”. ويهيمن هذا الهوس على العقول في الوقت الراهن، لكنه يقود إلى فشل واضح في المشروع الآثاري الكتابي في فلسطين، لأن الباحثين المعتمدين على النصوص الكتابية لا ينتمون في الأصل إلى حقل علم الآثار.
ويصف هذا الواقع نيلز بيتر لامكه بدقة حين يشبه اعتماد المؤرخين على الإرث الكتابي كمصدر أساسي لتاريخ أصل إسرائيل، بأنه “تكريس لوضع يائس للمؤرخ الذي يريد كتابة تاريخ نقدي، لا تاريخاً عفا عليه الزمن”(4).
في الواقع، لا توجد طريقة معقولة للتوفيق بين صورة إسرءيل كما وردت في النصوص الكتابية والماضي التاريخي الحقيقي الموضوعي للمنطقة، وهو ما يؤكده لامكه نفسه. فالطريقة التي يجادل بها المختصون في علم الآثار الكتابي وعلم الآثار القومي الإسرائيلي تتسم بإشكالية حادة بسبب الاستخدام السياسي والإيديولوجي للماضي وتحويله إلى “ماضٍ قومي”؛ وهذا بحد ذاته يُشكّل -في الأساس- أحد الإخفاقات الأساسية لكلا التخصصين حين تتحول الدراسة الآثارية إلى مطية لسرديات تعكس أحكاماً مسبقة عن الأرض [المقدسة] بوصفها دولة قومية، عتيقة وخالدة، لمنح الشرعية لوجود دولة قومية باسم إسرائيل في عصرنا الحالي.
لذلك، يجب على علم الآثار الكتابي التخلي عن الأمل الخادع في بناء سردية تاريخية متماسكة للحقبة ما قبل الهلنستية اعتماداً على مرويات العهد القديم، لأن أي تاريخ يُكتب على هذا الأساس سيكون في جوهره تاريخ مختلق، مبنياً على عدد محدود من الإشارات المعزولة عن سياقها، والتي تتحدث عن “أشياء” قد تكون حدثت فعلًا، أو ربما لم تحدث ولم تكن موجودة أصلاً.
المملكة المنسية
يطلق اسم “إسرءيل” على الإقليم والكيان السياسي الذي كان قائماً في فلسطين في وقت ما من العصر الحديدي حسب الفهم التقليدي الكتابي لتاريخ فلسطين القديمة؛ ويعزز علماء الآثار الكتابيون والإسرائيليون وجهة نظرهم هذه بتأويل لكلمة وردت في لوح مرنبتاح (اكتشفه السير ويليم بيتري في العام 1896) باعتبارها تشير إلى جماعة تدعى إسرءيل، عاشت في أرض كنعان في أواخر القرن الثالث عشر ق.م (رغم أن اللوح لا يذكر أي تفاصيل أو معلومات حقيقية عن هذه الجماعة أو القبيلة، أو أنه يقصد فعلاً مثل هذه الجماعة). ويترتب على هؤلاء، ومن بينهم فنكلشتين، الإجابة على السؤال التالي: كيف تطورت هذه الجماعة لاحقاً وأعطت اسمها لمملكة إسرءيل [أي للمملكة الشمالية]، التي ظهرت في أواخر القرن العاشر ق.م؟ أي، بعد نحو 250 عاماً من حملة مرنبتاح. يضاف لهذا التساؤل عدم وجود نصوص ذات صلة خلال الزمن الفاصل بين الحملة العسكرية المصرية وظهور المملكة الشمالية.
يستطيع فنكلشتين الاعتماد على علم الآثار لتقديم الإجابات المطلوبة والتفسيرات المقنعة، بمعنى أنه يجب البحث عن “إسرءيل مرنبتاح” بين المجموعات التي استقرت في الهضاب الغربية والشرقية من وادي الأردن ابتداء من أواخر القرن الثالث عشر ق.م. لأن هذه الجماعات هي التي ستشكل لاحقاً الممالك الجهوية خلال العصر الحديدي، ومن بينها “إسرءيل” الكتابية على حد قوله، ويطرح هنا مثالاً واضحاً على تلك القراءة الانتقائية لنصوص العهد القديم بالطريقة التي تم فيها تفسير لقى موقع “خربة قيافة” والتي كانت موضع نقاش حاد بين المختصين. لجهة الرغبة في هزيمة هذه الاتجاهات النقدية الحديثة عن طريق البحث عن كشف أثري إعجازي، فالموقع مثير للاهتمام حقاً من نواحٍ كثيرةٍ، نظراً للرغبة العميقة لأصحاب المنهج الأصولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إرث الآثاريات الكتابية بخصوص تاريخ إسرءيل القديمة.
ويشير مخطط الموقع إلى أن أصل السكان يعود لمنطقة الهضاب الوسطى، إلا أن هذا لايعني الإشارة بالضرورة إلى توسع يهوذا في بداية ظهورها. وتشير بعض اللقى إلى إمكانية ربط الموقع بالمرتفعات الشمالية. بعبارة أخرى، المكتشفات، وليس النص، هي ما يمكنها أن تلقي مزيداً من الضوء على التكوين الإقليمي للمرتفعات الشمالية في القرن العاشر ق.م أكثر من علاقة هذا التكوين بيهوذا في زمن تكوين السلالة في القرن التاسع ق.م.
ويرى الآثاري الإسرائيلي غارفينكل، الذي قاد عمليات الحفر في الموقع، إن ما عثر عليه هناك هو قصر الملك داود، ووفقاً لتقديراته فقد بلغت مساحته نحو 1000 م2. غير أن فنكلشتين يشكك بهذا ويشير، بصورة غير مباشرة، إلى الباحثة الإسرائيلية إيلات مزار التي زعمت قبل عدة سنوات أنها وجدت قصر الملك داود في القدس: “هذا يذكرني بخرافة الفتاة الصغيرة التي صرخت تستنجد من الذئب. فيوم أمس وجدوا قصر الملك داود في القدس، واليوم في قيافة، وغداً سوف تجد أنه… من يدري أين. هذه البيانات تسترعي انتباه الجمهور”. وربما ستكون الخطوة التالية إذن الزعم بانتماء الملك داود للمدينة، طالما هناك قصر فيها، وبالتالي، فمن الواضح [لغارفينكل] أن ” الملك داود نام هنا عندما جاء لزيارة هذه التلال”. (انظر الفصل الثاني)
غير أن ما هو أكثر إثارة هنا يتمثّل في عدة كسر فخارية عثرت عليها بعثة غارفينكل تحتوي نقوشاً أثارت أحدها نقاشاً حاداً، فالنقش مكتوب بلغة ما قبل كنعانية التي تطورت منها الأبجدية الفينيقية. وتشير عدة مقالات إلى أن النقش قد يكون من أقدم النقوش “العبرية”، ويمثل المرحلة التي سبقت تحوّل النص ما قبل الكنعاني إلى نص فينيقي نموذجي كما يقترح ذلك غارفينكل في محاولة منه لتحديد لغة سكان خربة قيافة “العبرية” القديمة. في حين يرى فنكلشتين أن النقش لم يكتب بلغة عبرية من أي نوع، ويؤكد أن جميع النقوش ما قبل الكنعانية المتأخرة عثر عليها تقريباً في السهول الساحلية الجنوبية، لا سيما قرب مدينة “غات” الفلستية. كما تم العثور على نقوش هيراطيقية مصرية تعود لحقبة العصر البرونزي المتأخر الثالث في المنطقة عينها، وبصورة خاصة حول مدينة لخيش.
ونظراً لأن المنطقة كانت مركز الإدارة المصرية في كنعان في العصر البرونزي المتأخر، فقد عكست النقوش ما قل الكنعانية المتأخرة أثر التقاليد الإدارية والثقافية القديمة. (للمزيد عن الجدل حول خربة قيافا، انظر الملحق”1″)
إن ما يراه فنكلشتين إشكالياً في الروايات الكتابية هو أن قصص المملكة الشمالية التي تبنّاها الأدب اليهوذي لاحقاً رُويت بشكل رديء، وشُوّهت إيديولوجياً بما يخدم سردية يهوذا المنتصرة، فهو يرى أن نهاية شاؤول لم تكن على يد الفلستيين، بل نتيجة حملة شيشنق الأول، إذ لم يكن بمقدور الفلستيين حشد قوة عسكرية تبلغ “بيت شان” في أواخر العصر الحديدي الأول، ويذهب أبعد من ذلك حين يربط التحصين المكتشف حديثاً في خربة قيافة بوادي إيلة ببناء الأسرة الشاؤولية، مشيراً إلى أن هذا الموقع دُمِّر أيضاً على يد شيشنق الأول.
إن اختزال روايات المملكة الشمالية باعتبارها “منحرفة إيديولوجياً”، ثم في الوقت ذاته الاعتماد عليها لوضع مقتل شاؤول في جبل جلبوع، أو لتحديد مقر يَرُبْعام في تِرْصَة، يثير شكوكاً حول نهج فنكلشتين التفسيري أكثر مما يعزز الثقة به. ويزيد من هذه الشكوك غياب النقاش الجاد حول المفاهيم الأساسية. فهناك إشارات إلى “ذكريات تاريخية”، و”ذكريات غامضة” ، و”ذكريات أصيلة”، و”ذكريات قوية”، وغيرها من هذه الأنماط، لكن دون أن يوضح الكاتب ما الذي تعنيه هذه الذاكرة فعلاً للمؤرخ، أو كيف يميّز بين أنواعها المختلفة، أو ما هو وضعها المعرفي وأهميتها التاريخية. والأسوأ من ذلك أن عنوان الكتاب ذاته يستدعي مفهوم “النسيان”، غير أن الدوافع التاريخية لهذا النسيان، ودلالاته المحتملة، لا تُناقش في أي موضع.
وإذا كان فنكلشتين نفسه لا يملُّ من تكرار رفضه لمزاعم الآخرين في تفسير الأحداث بالرجوع إلى عصور سابقة، فهو لا يمانع من زلق ماضي عصر العمارنة (القرن الرابع عشر ق.م) إلى حاضر العصر الحديدي ( القرن العاشر ق.م)، فيخلق “كيانات سياسية” يستلّها من قائمة المدن التي استهدفتها حملة ملك مصر شيشنق الأول تمهيداً لظهور تلك المملكة المنسية في الهضاب الغربية الشمالية لفلسطين، ولا يتورع في سبيل هدفه، عن تقديم أو تأخير زمن حملة الملك المصري باستخدام تقنيات مخبرية علمية (التحليل الكربوني).
يرى البعض أن النقد الموجه لـ “أصول إسرءيل” هو نقد صامت من الناحية الجدلية رغم انحيازه، كما يمثل مقاربة تشوبها عيوب كثيرة رغم “الرصانة الأكاديمية لمعتنقيها”، فالإشارة إلى غياب أدلة أثرية مادية تدعم الحدث الكتابي بالسؤال عن مدى صحة “الأوامر المقدسة” يعني استخدام منهجية “مشكوك فيها”؛ بمعنى “عدم وجود الأدلة لايعني أن هذا دليل على عدم وقوع الحدث”، ويستمر هذا المنطق الدائري من خلال تسويغ “عقلاني” أو “تفسيري” لغياب مثل هذه الأدلة. ويطلق فنكلشتين على غياب الأدلة أو البقايا الأثرية تعبير “الأدلة السلبية”(5). غير أن مقاربة “غياب الدليل لايعني عدم وقوع الحدث” هي بحد ذاتها مثال كلاسيكي على طبيعة الجدل الصامت.
وهذا يعني أنه “رغم عدم عثورنا على أدلة مادية أثرية تدعم حقيقة المرويات الكتابية بوقوع الحدث فعلاً، علينا الاستمرار في الاعتقاد بوقوعها”.
ويفوت هؤلاء -وفنكلشتين واحد منهم على كل حال بطريقة ما- أن ما يصلح “منطقياً” لشيء فإنه يصلح لشيء متعارض له حتى لو كان يشبهه ظاهرياً، ولعل هذا ما يمكن استخلاصه حين نرى تمسك فنكلشتين ليس بقضية واحدة، بل بجملة قضايا يراها صحيحة لمجرد أنها تستهويه ويعتنقها ويتبناها وتتحكم إلى درجة كبيرة ليس في آرائه فحسب، بل في رؤيته للعالم أيضاً، وهو يرى أنه يمكن الدفاع عن فكرة ما واعتبارها صحيحة لو أثبتت هذه الفكرة صلاحيتها في شروط تجريبية مختلفة؛ وهذه مغالطة منطقية أخرى تعبر عن سطحية وسذاجة وعدم دراية حتى في المنهج التجريبي ذاته حين يسعى فنكلشتين لتبنيه.
على سبيل المثال، كلمة “ك م ش” التي ترد في نصوص العهد القديم عدة مرات، يعتبرها فنكلشتين الإله “كموش”؛ بإضافة حرف الواو للتصويت كما يستخدمه الآثاريون عند قراءة النقوش والنصوص الأثرية، بينما يرى د. كمال الصليبي أن “كمش” هي اسم مكان يقع في اليمن (يعتقد الصليبي أن التوراة أتت من جزيرة العرب)، بينما يرى البعض الآخر من المتخصصين أن “ك م ش” ليس اسماً، بل فعل عادة ما يأتي بعده حرف الجر الباء الذي يفيد الالتصاق. ومن خلال اتساق الجملة سيظهر المعنى بشكل أوضح، حيث ترد مثلاً “كمش ب أرضه” و “كمش ب حرمتو” وهي هنا تفيد معنى الإمساك والقبض باليد أو مجازاً على شيء ما، ولم يكلف قارىء نقش ميشع نفسه عناء البحث حينما ترجم كلمة “قر” و “كمس” الواردتين في النقش، حين اعتبر “قر” على أنها (قرية)، بينما “كمس” تشير إلى “كموش” إله مؤاب… وهكذا حذا حذوهم فنكلشتين، رغم أن “قر” و “كمس” تظهران في مواضع أخرى من النقش على أنهما اسمان لبلدتين أو قريتين متجاورتين في مؤاب. وعند البحث عن هذين الاسمين في البيئة الحقيقية لمملكة مؤاب الحجازية سرعان ما يتبين أنهما قريتان قريبتان من “الهدبة” في مرتفعات الطائف الأولى اسمها اليوم “القر” من “قر” والثانية اسمها “قماشة” من “قمش” على ما يذكر كمال الصليبي.
التقاليد الكتابية وتاريخ فلسطين القديم
ماذا لو قيض لأحدنا أن يطل على المشهد الفلسطيني في القرن العاشر ق.م؟
ماذا ومن سيشاهد؟ من هم السكان هناك؟ ما هي المدن الكبرى، وما هي العاصمة أو العواصم؟ كيف كان حال طرق التجارة وأنماط الزراعة والرعي وأشهر المحاصيل والموانئ؟ كيف هو شكل وثقافة العبادة وطقوسها؟
أي إله أو آلهة كانوا يعبدون؟
وهل كان دين القرية يختلف عن دين المدينة؟
وأخيراً… هل لعلم الآثار سبيل لتقديم إجابات “مشروعة” عن تلك الأسئلة “المشروعة”؟
يرى فنكلشتين بأن الإجابة أو الإجابات لا تكمن في النص؛ أو بمعنى أدق، ليس في النص وحده على الأقل، نظراً لأن هذه مهمة المؤرخ الذي يقع على عاتقه فرز ما هو تاريخ وما هو غير ذلك. بل يمضي بعيداً حين يرى، كآثاري، بضرورة الحفر عميقاً تحت كل صخرة، وفي جوف كل واد، وفي قمة كل تلة، وبين أنقاض كل خربة؛ لنعرف ما إذا كان “الإسرءيليون”، مثلاً، خرجوا من مصر فعلاً وتاهوا في سيناء ثم غزوا كنعان وفتحوها وهدموا أسوار أريحا وأقاموا مملكتهم. على أن يعزل ما عدا ذلك في نطاق الفرضيات مثل الزعم بأن رعمسيس الثاني هو “فرعون الخروج” والربط بين الهكسوس والإسرءيليون، كما فعل المؤرخ اليهودي القديم يوسيفوس فلافيوس استناداً إلى نصوص مانيتو.
والأسلم هنا-بالنسبة لفنكلشتين- القول بأن تقاليد الخروج تمثل تراكماً لإرث وذكريات موغلة في القدم تم تضمينها في “الكتاب العبري” لخلق سردية رئيسة يلتف حولها الشعب، ومن الممكن لهذه السردية القديمة الاستناد إلى جزئية طرد الكنعانيين من دلتا النيل في القرن السادس عشر ق.م، حتى بوجود طبقات أخرى لاحقة، حيث يمثّل الوصف الجغرافي لمنطقة دلتا النيل على سبيل المثال-كما يظهر في النص- معرفة المؤلفين لوقائع القرنين السابع والسادس ق.م (حقبة الأسرة الصاويّة في مصر).
لكن السؤال لا يبدو حقيقياً من حيث الجوهر، أي واقع تواجد جماعة أو قبائل تدعى “عابيرو أو شاسو” أطلق قسم منهم على نفسه اسم “إسرءيل”. إنما السؤال يأخذ منحىً أو مظهراً إقليمياً أوسع، بمعنى حقيقة وجود كيان سياسي يسمي نفسه إسرءيل ويرى سكان هذا الكيان أنفسهم على أنهم إسرءيليين وأن إلههم هو يهوه، كما هو مدوّن في قصص التاريخ التثنوي (6)
واختلط مع مجاميع العابيرو والشاسو بقايا المزارعين الذين اضطروا لهجرة أوديتهم الخصبة بسبب الجفاف أو الغزو (شعوب البحر؟) والتمركز في الهضاب الآمنة نسبياً. وثمة نصوص تشير إلى وجود إله باسم يهوه في أرض الشاسو، مما يوحي، عرضاً، بتواصل ما مع مناطق جنوب كنعان.
ويرد ذكر الإله يهوه هذا بعض النصوص التي تعود لأوائل القرن الثامن ق.م التي عثر عليها في كونتيلة عجرود ويعرف باسم “يهوه تيمان”، أي يهوه الجنوبي أو الجنوب، كما أن العديد من الملوك الكتابيين “سواء من المملكة الشمالية أو الجنوبية” حملوا أسماء ترتبط بالإله يهوه ابتداءّ من القرن التاسع ق.م. ويرد ذكر يهوه في نصوص مصرية تعود للقرن الثالث عشر ق.م. وهذا يعني -بحسب فنكلشتين- أنه كان ضمن مجمع آلهة، ولم يصبح الإله الوحيد الحقيقي إلّا بعد العام 586 ق.م، “تاريخ سقوط أورشليم” لاعتبارات أخرى غير دينية قطعاً.
وإذن لا يبدو فنكلشتين-من موقعه هذا- مغالياً في تأويل حرفية النص الكتابي لتتبع التاريخ القديم لإسرءيل من الأقدم للأحدث لترتيب معطيات الحدث الكتابي كما هو حال العديد من الآثاريين الكتابيين من أتباع مدرسة أولبرايت الذين يطلق علهم في الحقل الأكاديمي تسمية الأصوليين maximalists ولا هو أيضاً من الجماعة المقابلة المعروفة باسم الاتجاه التصحيحي minimalists الذين يميلون لإنكار “تاريخية” الكتاب بشكل عام، ويرفضون الإملاءات النظرية التي تمهد لهذا، كما هو حال أبحاث نيلز بيتر لامكه، وتوماس تومسون، ممن يعرفون بـ “جماعة كوبنهاغن” أو فيليب ديفز، وكيث ويتلام، الذين يبدون شكوكاً قاطعة فما يتعلق بـ “الإرث الكتابي”، على الرغم من إسهام كلا الاتجاهين في تقديم الدراسات والبحوث الأكاديمية الآثارية والتاريخية في إطار ما يعرف بمجال “الدراسات الكتابية”.
وغنيٌّ عن القول الإشارة إلى تمتع فنكلشتين بذكاء حاد وإمكانات بحثية هائلة وقدرات سجالية لافتة للنظر، فضلاً عن خيال واسع ضروري -لا ريب- لعمله حتى يبدو كأنه خُلقَ ليكون باحثاً آثارياً ولا شيئاً سواه. فيستخدم، في أحيان كثيرة، لغة تخلو من التعقيد لطرح سرديته وأفكاره عن “ممالك العهد القديم” بأسلوب واضح فينتقل بسهولة بين الأفكار والموضوعات. ويرى أن الجانب الذي ينتمي له بات له الآن أنصار كثر، ولديهم رؤية ينبغي أن تحظى بذات القدر من الدراسة والاهتمام، فالحديث عن اليمين واليسار هنا كتصنيف يقود إلى ترتيب نتائج تأويل النص الكتابي (ويشمل هذا بطبيعة الحال “تاريخ إسرءيل”) حيث يتبع الأصوليون في تأويلهم الوصف الكتابي لتاريخ “إسرءيل القديمة” من منطلق إيمانهم بحدود هذا النص كما يعبّر عن ذلك عالم الآثار الفرنسي، الأب رولاند دوفو: “إذا لم يكن الإيمان التاريخي بإسرءيل موجوداً في التاريخ، فهذا الإيمان خاطئ، أي أن عقيدتنا خطأ أيضاً”.
وفي الحقيقة، تدين رؤية فنكلشتين حول “علم الآثار الكتابي” كثيراً لرؤية الأب دوفو في المبالغة في التركيز على الطابع الإثني لدور إسرءيل، فيهمل إلى حد كبير، مثل دوفو، وجود “بنية مستدامة غير إسرءيلية” في فلسطين خلال العصر الحديدي (7)، حتى عندما يسلّم، على سبيل المثال بوجود توجّه فينيقي لفلسطين الساحليّة (من عكا حتى دور\ الطنطورة) وبوجود روابط ثقافية آرامية للجليل والأغوار الشمالية، بما في ذلك بيسان\بيتشان وتل العريمة\ قنريت وتل القاضي \ تل دان والكثير من مواقع شمال شرق الأردن.
وفي واقع الأمر تعبّر النتائج المستخلصة من كتاب فنكلشتين عن المأزق المنهجي الذي يواجهه المشتغلون في حقل الآثار الفلسطيني، أي الدوافع السياسية و “القومية” لإنتاجهم المعرفي.
وحين يبدأ بإعداد مسرح الأحداث، مثل مخرج سينمائي محترف، ويضع، منذ البداية، نصب عينيه “التخلص” من الحجج والأدلة التي “تعيق” تصوره لظهور “مملكة إسرءيل”، رغم عدم تصريحه بصورة مباشرة، وإنما يظهر ذلك من خلال رغبته وإصراره على بناء سردٍ “موازٍ” لسير وتطور الأحداث في شمال فلسطين وإلى الجنوب قليلاً حيث تقع المرتفعات الوسطى “قلب وروح العهد القديم”، ويستخدم مقاربة تمزج بين علم الآثار والتأويل النصي، لتفسير وجود أو غياب لقى “إسرءيلية” في وسط وشمال فلسطين للاستدلال على وجود كيانات يمكن وصفها بأنها “إسرءيلية”، تتشابه في تكوينها وظهورها وأنشطتها العسكرية مع ما حصل سابقا في عصر العمارنة في القرن الرابع عشر ق.م أو ما سوف يحصل لاحقاً مع ظاهر العمر في القرن الثامن عشر م، وفخر الدين المعني في أوائل القرن السابع عشر م. فيركّز على المشهد المكاني لفلسطين دون غيره، خلال أطوار العصر الحديدي المختلفة [على كل حال هذا العصر حسب التحقيب التقليدي على غاية في الأهمية لمن يعرف كيف تتم صياغة التأويلات الكتابية لجهة احتكار الحدث لجماعة معينة ولكيان معين].
ولا شك أن أطروحته حول القدس (أورشليم) في القرن العاشر ق.م، التي ترى في المدينة مجرد موقع فقير على مرتفعات نائية، لا يتمتع بأي أهمية تُذكر، حتى الأنشطة العمرانية المنسوبة لسليمان، بحسب الرواية الكتابية، هي في الواقع من إنجازات الأسرة العُمْريّة، ستجد مؤيدين لها، لكنها تواجه في ذات الوقت معارضة قوية من عدد كبير من الباحثين المتخصصين. وتشير هذه الاختلافات إلى أن تفسير الثقافة المادية لأورشليم خلال القرن العاشر ق.م ليس أمراً محسوماً أو بديهياً، كما توحي بذلك لهجة فنكلشتين القاطعة.
لذلك، يصبح من الضروري الحذر في التعامل مع الادعاءات النصية حول مكانة أورشليم في القرن العاشر ق.م. فعلى سبيل المثال، تُظهر رسائل العمارنة من أواخر العصر البرونزي أن العلاقة بين الدليل الأثري والنفوذ الذي مارسته أورشليم في ذلك العصر ليست علاقة متناسبة دائماً.
ولتعميم الصورة بشكل أوضح؛ يجادل ألبرت غلوك بأنه لا يمكننا دراسة تاريخ فلسطين “القديم” بصورة وافية ما لم يتم تحرير علم الآثار في الشرق الأوسط من “الأسطورة الكتابية”(8). ويستنتج بأن العديد من القصص الكتابية هي محض قصص خيالية، فلم يحدث أن خرجت جماعة بشرية تسمى إسرءيل من مصر ولا يوجد ثمة دليل على أن شخصاً يدعى يوشع حاصر و\ أو احتل مدينة أريحا، ناهيك عن سقوط أسوارها بالطريقة التي يصفها العهد القديم، ولم يوجد في أي مرحلة أو عصر ملك عظيم اسمه داود فتح أورشليم (9) وجعلها عاصمته وأورث حكمها من بعده لابن له يدعى سليمان الذي قام بدوره ببناء معبد\هيكل للرب على تلك الرابية في أورشليم.
ليس هناك ما يجزم بوجود هذين الملكين، فضلاً عن مملكتهما الموحّدة التي كانت عاصمتها “أورشليم” في كنعان في القرن العاشر ق.م حيث وصلت حدودها إلى مشارف حماة وميناء عصيون جابر الذي كان يضاهي موانئ العالم القديم اتساعاً ونشاطاً كصيدا وصور. وفي أحسن الأحوال لم تكن شخصيات مثل داود وسليمان -إن وجدا- أكثر من شيوخ قبيلة صغيرة رعوية تتجول في السهول الصحراوية أو على حواف الصحراء وتخوم الحواضر، فنصوص العهد القديم مجرد ذاكرة تضخمت وتأسطرت في القرن السابع ق.م لتخدم أجندات سياسية وعسكرية معينة. والكيان المعروف بـ”المملكة الموحدة” ليس أكثر من بناء أدبي، لا سند تاريخي له، وبيت داود لم يكن له تأثير يُذكر في المنطقة قبل أواخر القرن الثامن ق.م. وإذا ما نجح “زعماء محليون من أورشليم” في وقت مبكر في السيطرة على أراضٍ كانت تابعة سابقاً لبيت شاؤول، فقد فعلوا ذلك بصفة “أتباع لهيمنة مصرية قصيرة الأمد”.
إذ لا يمكن، في الواقع، لعلم الآثار إعادة خلق تلك الرموز البطريركية المؤسِّسَة؛ أو غيرها من الرموز الدينية (بل إن أقصى ما يمكن فعله هنا تأويل مروياتهم، وحتى هذا يبقى موضع خلاف) التي يختلط فيها التاريخي بالأسطوري، بيد أنه في الوقت ذاته لا يمكنه، أي علم الآثار، إنكار -بصورة قطعيّة- عدم تاريخيّة تلك الشخصيات، وأنها عاشت في عصور موغلة في القدم، غير أنه من غير المتوقع العثور على لقى تعود أو تنتمي لها. وإذن لا يمكننا -على سبيل المثال- الجزم بما يمكن إرجاعه إلى إبراهيم بصورة شخصية، فهذا ضرب من المحال والخيال سواء بسواء. فحتى النص الديني، بصورته الحالية النهاية التي وصلتنا، والذي يحظى بمصداقية وإجماع عند المؤمنين لا يمكنه تقديم معلومات وافية وصلبة عن جماعة تدعى “إسرءيل” عاشت في حدود الألفية الثانية ق.م في مكان ما من الشرق القديم، جنوب بلاد الشام.
فما يقدمّه النص الديني ليس سوى شذرات مبتسرة وذاكرة غير مترابطة، وغير واضحة المعالم، -لا تحظى بدعم من خارج النص الذي يعكس، أساساً وقائع عصره لحظة تدوينه كتعبير منطقي عن احتياجات الأفراد المعاصرين له. أما التوصيفات المعنيّة بأحداث أقدم فهي مطمورة، في واقع الحال، بين ثنايا النص الأحدث. ولكن الصعوبات ستبرز مع مرور الوقت من خلال التأويل المتحيز للقى الآثارية. فالآثاري لا يتعامل مع النص كبنية أثرية، بل إن جلّ ما يهمّه الثقافة المادية المندثرة التي سوف تتجسد لاحقاً، ربما، في نص مدوّن أحدث. وبناء على ذلك يمكننا إعادة بناء “المادة التاريخية” عن مدنٍ مثل حَاصُور ولَخِيش وجَزَرْ ومَجِدّو وغيرها، بعيداً عن التفسيرات الإيديولوجيّة القوميّة المحافظة -مثل تفسيرات يغال يادين-والتي ترى، على سبيل المثال، أن تدمير حَاصُور يعود إلى “فترة الغزو التوراتي” (افتراضياً حوالي 1225 ق.م) حسب الإصحاح 11 من سفر يشوع “10 ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ، لأَنَّ حَاصُورَ كَانَتْ قَبْلًا رَأْسَ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَمَالِك”. بينما يميل الباحثون اليوم إلى فهم “الغزو” المذكور كبناء إيديولوجي يعود لعصر الملك “يوشيا” ويراد منه العِظَة ليس إلّا.
وبالتالي لم يعد بالإمكان النظر أحداث السفر كتوصيف تاريخي حقيقي، أو على الأقل كتوصيف لحقيقة ما حدث فعلاً في حَاصُور، ويمكن القول هنا أن سقوط المراكز الحضارية الكنعانية كانت عملية طويلة، ولم تحدث فجأة بين ليلة وضحاها، بل استغرقت نحو قرن ونصف كما تشير الدلائل الآثارية المتوفرة في مواقع حَاصُور ومَجِدّو ولَخِيش وغيرها، ابتداءً من دمار حَاصُور في منتصف القرن الثالث عشر ق.م، وصولاً إلى تدمير لَخِيش ومَجِدّو في حدود 1130 ق.م. وهذا ما تؤكده السجلات التاريخية والنصوص غير الكتابية. ويتفق أهل الاختصاص على أن دمار حَاصُور يقع ضمن سلسلة أحداث شملت الساحل الشرقي للمتوسط بأكمله في نهاية العصر البرونزي.
وحتى لو أبدينا بعض التفاؤل في القول بأن الجماعات السكانية المسؤولة عن هذا الدمار استقرت لاحقاً في هضاب ومرتفعات فلسطين الوسطى، بهدف عقد الصلة بين حَاصُور و”طلائع الإسرءيليين”، فلن يكون هذا سوى تصوّر باهت يزخرفه المخيال الديني القومي. إذا لا يتوافر لدينا ما يؤكد وجود جيش بالحجم الذي يذكره النص تحت إمرة قائد واحد استطاع غزو و “فتح كنعان” وتدمير المدن المحصّنة، وهو من عانى قبل ذلك تيهاً في صحراء قاحلة لمدة تقل عن نصف قرن بقليل، فضلاً عن معاناته قبل وصوله لمشارف كنعان وموت نبيّه وملهمه الأول هناك!
وللتخلص من هذا المأزق، يلجأ البعض، ومنهم يادين نفسه، إلى المنطق الدائري (10) على قاعدة أن “غياب الأثر أو الدليل لايعني غياب الحدث”، فاليهود، على سبيل المثال، يحرمون أكل لحم الخنزير، ولذلك حين يتم العثور على عظام خنزير سوف يكون من الصواب القول إنها موجودة في موقع غير إسرءيلي\ يهوذي.
فماذا لو عثرنا على عظام خنزير في مكان يعتقد أنه إسرءيلي؟ هنا يتم التأويل الدائري، كما فعل يادين بالضبط، حين عثر على عظم خنزير في الموقع المفترض أنه قلعة مسعدة “مسادا” فتم اعتبارها أضحيات قدّمها الرومان المسيطرون على المنطقة، وحين عثر من بين اللقى على عظام شخص مدفون بطريقة طقسية، تم الاسترشاد بما ذكره يوسيفوس في “حروب اليهود” كدليل على تاريخية الحدث، وهذا في الحقيقة ليس سوى تفكير مرغوب فيه يسقط ما هو موجود في النص على ما هو موجود في الحقل على ما هو موجود في الذهن والخيال.
وذات الشيء يمكن أن يقال عند مطالعتنا تاريخ مدينة مَجِدّو، التي كانت تعتبر أكبر المواقع المحصنّة في العصر البرونزي بمساحة تصل إلى حوالي 60 هكتاراً، (يعود تاريخ المدينة في الواقع إلى حدود الألفية الرابعة ق.م).
إن وجود مدينة بحجم مَجِدّو كما يصفها علم الآثار الكتابي وعلم الآثار القومي الإسرائيلي يستلزم وجود عدد لا بأس به من السكان للقيام بالمهام المتنوعة، بالإضافة إلى تصريف معيشهم اليوم، إذ لا يعقل قيام 400 أو 500 شخص مثلاً ببناء صروحها، وعلى هذا لابد من أن مَجِدّو كانت تتمتع بصلات قويّة مع الريف المحيط بها، بل وحتى الهيمنة عليه وجلب العمّال المهرة للقيام بأعمال التحصينات والصيانة والدفاع عن المدينة عند الزوم. وتدل المعطيات الأثرية أن المدينة ازدهرت في العصر البرونزي المتأخر (1550-1150 ق.م)، فيما يصطلح عليه “مَجِدّو الكنعانية”، ثم تعرضت للدمار في القرن الثاني عشر ق.م. ولايمكن الجزم بهُوية من دمرّ المدينة، هل شعوب البحر؟ هل بفعل جيش كنعاني آخر؟ أم بسبب غزو أتى من بعيد أو من مملكة مجاورة؟
ومهما كانت الإجابة، ففي الأغلب لن يكونوا الإسرءيليون القدماء، إذا لا يمكن الجزم بوجودهم في ذلك الوقت أو حتى التعرف إليهم كجماعة، سواء بمطابقتهم مع العابيرو أو الشاسو أو أيّا يكون من سكان القرن الثاني عشر ق.م.
فإذا كان هذا هو الحال، فينبغي علينا التخلي عن أمل إعادة بناء تاريخ الحقبة ما قبل الهلنستية في فلسطين على أساس مرويات العهد القديم فقط. لأن أي تاريخ يتم كتابته وفقاً لذلك سيكون تاريخاً مختلقاً يتم اختراعه بعدد قليل من الإشارات المعزولة عن سياقها التي تتحدث عن “أشياء” ما ربما حدثت حقاً أو كانت موجودة، وربما لا.
يتطرق فنكلشتين، في هذا الصدد، إلى ما يدعوه “الأدلة الظرفية”، اي الأدلة غير المباشرة، وهي الأدلة التي تمكن الباحث الاستنتاج أو الافتراض وفقاً للسياق أو الظروف المحيطة، في حال غياب أدلة مباشرة أو صريحة(11).
وبذات المقاربة يستند فنكلشتين إلى نقش ميشع لتوضيح وجهة نظره في مؤاب في القرن التاسع ق.م والتي كانت تعيش حالة صراع وتنافس مع بيت عُمْري\إسرءيل ومع آرام دمشق ومَجِدّو وتْعَنِّك للسيطرة على سهول الجليل \يَزْرَعِيل. وكانت هذه المناطق موضع نزاع في تلك الفترة، ولكن من الصعوبة بمكان القول إنها كانت “إسرءيلية”. ورغم ذلك يزعم فنكلشتين -بعبارات لا لبس فيها- عن عظمة إسرءيل التي لا مثيل لها (12)، حين يعتقد بإمكانية تفسير توسع أورشليم نحو التلال الغربية في وقت ما من القرن السابع ق.م، عن طريق استقراء حدوث هجرة جماعية للاجئين من السامرة المحاصرة آنذاك والتي سرعان ما سقطت في الربع الأخير من القرن الثامن ق.م.
يجادل التصحيحيون، بأن معظم أو جميع المواد الكتابية هي من إنتاج الحقبة الفارسية أو الهلنستية (القرنين الرابع والثالث ق.م)، ولا علاقة لها بما يمكن أن يكون “تاريخاً حقيقي لإسرءيل المبكرة”، وبالتالي ليس لهذا النص قيمة تاريخية لفهم تاريخ إسرءيل في العصر الحديدي. وبين هذا وذاك يرى فنكلشتين أن مادة النص كانت مكتوبة في المراحل المتأخرة من “الحقبة الملكية للإسرءيليين القدماء” لتعكس، بذلك، حقائق ذلك العصر المتأخر (أي القرن السابع وربما الثامن ق.م)، يتخللّها نصوص تعبّر عن ذكريات وتقاليد تعود لفترات سابقة تسرّيت إلى النص.
ووفقاً لهذا الرأي، فإن أقرب نص مدون من الكتاب المقدس العبري لابد من أن يكون قد وضع في النصف الأول من القرن الثامن ق.م، وحدثت ذروة “الإسقاط” للنصوص الكتابية [في يهوذا في أواخر العصر الملكي وبعد تدمير أورشليم] ربما بشكل رئيس في بابل، كما أن هناك العديد من النصوص التي تنتمي فعلياً لوقائع القرن الثاني ق.م.
ويزعم فينكلشتين (وكذلك يفعل الآثاري الكتابي الأمريكي وليم ديفر) أنه يتبع مبدأ النأي بالنفس عما يعرف بـ “علم الآثار الكتابي” الذي وضع لبناته الأولى الباحث الأمريكي ويليم أولبرايت. وأيا كان التقدم الذي أحرزه علم الآثار منذ أن نشر أولبرايت أولى مساهماته قبل نحو قرن؛ فإننا بالكاد نلحظ ابتعاد فنكلشتين المنهجي “المزعوم” لوجهات نظره بخصوص “علم الآثار الكتابي” حين نرى أن جهوده المتمثلة بربط علم الآثار الفلسطيني مع المرويات الكتابية لا تعكس أساليب أولبرايت فحسب، بل تخلق أيضاً عدم اتساق ذي منحى سياسي.
غير أن مثل هذا الاستنباط يضعنا أمام عدة تساؤلات -عندما نضع في الحسبان الضغط الذي يمارسه فنكلشتين بلا كلل على هذا الزعم ذي التوجه الكتابي- لماذا كان على أولئك اللاجئين -إن وجدوا حقاً- السعي للبحث عن الأمان في أحضان من هم أكثر غدراً بهم من بين أعدائهم؟، لا يمكننا هنا-كرمى لعيون فنكلشتين وغيره- غض النظر عن التناقض العميق والمثير للشفقة والسخرية بآن معاً، الذي رسمه فنكلشتين وسيلبرمان في كتابهما الشهير [التوراة مكشوفة على حقيقتها، العنوان حسب الترجمة العربية] بين الأدلة الأثرية التاريخية المحددة لمملكة يهوذية قبل القرن الثامن ق.م والقصة الكتابية للمملكة المتحدة لداود وسليمان.
ويتوجب علينا، ربما، الإشارة إلى أن سردية سفري الملوك، التي أطلقت القصة التراجيدية عن جنون سليمان، إنما تكمن خطوط حبكتها الأساسية في إطار ثيمة معروفة في تراث وأساطير الشعوب القديمة، أي: الوحدة والانقسام كما قرأها توماس طومسون (13). إن جزئية العظمة -سواء للمملكة أم لملوكها أم لشعبها- لا تشكّل محلاً هندسياً قابلاً للسحب مع قصة داود مثلما هو الحال في القصة المأساوية لصعود سليمان وسقوطه. وتتطرق قصة داود إلى ما هو أبعد من مسار وثيمات الاستيلاء على السلطة كما هي في سفري الملوك، لا سيما الجزئية التي تعزز “عذاب الماضي” كصورة نمطية يعثر عليها في ثيمة “شهادة الملك الطيب” و “المستبد العادل”.
ويوحي، كل هذا، بالتناقض مع ما يشغل فكر فنكلشتين عند مقارنته بأدلة التوطن المحدودة في مرتفعات “يهوذا” خلال القرن العاشر ق.م وأوائل القرن التاسع ق.م، مع التوطن الواسع في الهضاب التي دعمت في وقت مبكر حاضرة بيت عُمْري.
نشر فنكلشتين، منذ مطلع الألفية الحالية، العديد من المؤلفات ذات الصلة المباشرة بآثار وتاريخ فلسطين القديم. فيستخدم -بوصفه آثاري-الحجج الأثرية بالدرجة الأولى كمحاولة لحل مشاكل التأويل الكتابي. ولا محيص من الاعتراف بأن مقاربته يشوبها قصور ما عند تطرقه لرموز كتابية مهمة مثل سليمان ويوشيا وسواهما من ناحية ومناقشة “آثاريات المشهد المكاني” وتصنيف المواقع، من ناحية أخرى. حيث يضع معول الآثاري ليلتقط قلم المؤرخ ويبدأ بما يتمتع به من خيال خصب في “إعادة” كتابة تاريخ إسرءيل القديمة كما تصوره الإيديولوجية “اليهوذية” في القرن الثامن ق.م، ويقرر -وإن كان ينطلق من “افتراضات” آثاريه ونصية وتاريخية- بأن وراء “ظهور” فكرة “عموم إسرءيل” أو “بني إسرءيل” إنما تقف أساطير قومية مؤسسة لتلك الفكرة، أهمها، برأيه سلسلة قصص يعقوب المبكرة في سفر التكوين والتقاليد المتعلقة بخروج أو نزوح كبير لجماعة مع تيه صحراوي في وقت ما يعود ربما لنهايات الألفية الثانية ق.م. (انظر الفصل السادس)
عن هذا الكتاب
يستند هذا الكتاب إلى سلسلة محاضرات ألقاها إسرائيل فنكلشتين -كما يقول في تقديم الكتاب- في كوليج دو فرانس في شباط 2012، ونُشر لأول مرة في العام التالي تحت عنوان “المملكة الكتابية المنسية”Le Royaume biblique oublié. ويتألف من سبعة فصول تغطي مرحلة حاسمة في تطور المشرق القديم تمتد من أواخر العصر البرونزي الثاني–الثالث حتى نهاية العصر الحديدي الثاني IIB(حوالي 1350–720 ق.م).
ويطغى على المحتوى -لنقل في معظمه على الأقل- أطروحة مركزية مفادها أن ما حفظته النصوص الكتابية عن مملكة إسرءيل الشمالية، تعود أصولها إلى القصص الشفوية والمواد التي نقلها اللاجئون الذين فرّوا جنوباً إلى يهوذا في أواخر القرن الثامن ق.م هرباً من الزحف الآشوري. وتشكل هذه الفرضية الإطار المفاهيمي Conceptual Framework الذي ينطلق منه المؤلف في إعادة بناء التاريخ السياسي والاجتماعي للملكة الكتابة الشمالية. مؤكداً أن هذه التقاليد التاريخية الشمالية، التي نقلت شفاهياً عبر أجيال، جمعت وأعيدت صياغتها لاحقاً في أعمال أدبية وضعها كُتّاب يهوذيين من “أورشليم” في أواخر العصر الحديدي، فظهرت بلبوس إيديولوجي يهوذي مهيمن يروّج لشرعية بيت داود، ويعمل بشكل منهجي على تفكيك وإضعاف المزاعم السياسية والثقافية الأصلية المنسوبة إلى التقاليد الشمالية.
ويرى فنكلشتين ضرورة العودة إلى السجل الأثري لمواجهة هذا “التحريف؛ بما يكفل خياراً أكثر جدوى، وشاهداً حقيقياً وحيداً -زمنياً- لو أردنا تدوين تاريخ إسرءيل على نحو أقرب إلى الوقائع، لا سيما المتعلقة منها بالأطوار التكوينية للمملكة الشمالية. ويزعم أنه يمكن، بفضل المعطيات الأثرية، إعادة بناء تاريخ للمملكة الشمالية بعيداً عن المؤثرات الإيديولوجية اليهوذية، واستناداً إلى وقائع تُقلّص من تأثير التأويل اللاهوتي التي يفرضها الكتاب العبري.
وعندما تُدمج هذه المقاربة الأثرية مع نصوص الشرق الأدنى القديم، إلى جانب إشارات كتابية “أصيلة وغير دعائية”، يصبح بمقدور المؤرخ إنتاج سردية أكثر توازناً لتاريخ “إسرءيل القديمة”، ولتاريخ المملكتين العبريتين على وجه العموم، عبر مساءلة الثقافة المادية.
ويستشهد فنكلشتين بثلاثة أمثلة على إسهام علم الآثار في البحث عن “إسرءيل التاريخية” في مراحلها الأولى:
– الدليل الأثري الذي يشير إلى أهمية موقع شِيِلُوة (أواخر القرن الحادي عشر وبدايات القرن العاشر ق.م) ثم اندثاره بعد العصر الحديدي الثاني.
– ظهور جماعات مهاجرة في العصر الحديدي الأول كانت تجول على أطراف المناطق الحضرية النامية، بينما شهدت تلك المناطق ذاتها، في العصر الحديدي الثاني، كثافة سكانية مرتفعة ترافقت مع اختفاء هذه الجماعات.
– معطيات الثقافة المادية التي توثق بروز المدينة الفلستية “غَتْ” (تل الصافي) في القرن التاسع ق.م، واختفائها لاحقاً خلال القرنين التاليين.
ليستنتج من هذا ما يؤكد على “أقدمية” أجزاء محددة من بعض القصص الكتابية عن هذه الأمثلة الثلاثة، ما يشير إلى احتفاظ النص الكتابي بروايات لاحقة أعادت صياغة أساطير، وحكايات، تحولت فيما بعد -عبر أزمنة متباعدة- منطلقاً لظهور سرديات “كتابية” تعكس طبقات ووقائع متعددة وذكريات عن ماضٍ أبكر، ودمجت تلك التقاليد تدريجياً داخل إيديولوجيا المؤلفين الكتابيين بطريقة يتعذر عزلها وتحليلها ويتطلب تحدياً كبيراً وأدوات نقدية أشد صرامة.
يقترح فنكلشتين، من هنا، العمل بمنهج أولي يعتمد على قراءة التاريخ الكتابي بما يرشح من نقطة الالتقاء، التي هي برأيه زمن جمع النص الكتابي، أي أواخر الحقبة الملكية، -على الأرجح في عهد الملك يوشيا-، وليس الأزمنة الفارسية أو الهلنستية- كما يرى “التنقيحيون” Minimalist، ولا في مطلع القرن العاشر ق.م- كما تذهب المدرسة الأنكلو-أمريكية التقليدية. ويعتمد في ترجيحه لتلك اللحظة مناسبة لإعادة بناء التاريخ المبكر للمنطقة، خاصة في سياق سوريا الكبرى وفلسطين، على أدلة أثرية عن ازدهار يهوذا الملحوظ في عهد يوشيا، من حيث تطور مؤسسات الدولة، وانتشار أنشطة الكتابة والتدوين.
يركّز الفصل الأول على الكيان السياسي لمدينة شَكِيم في العصر البرونزي المتأخر، وعلى دويلات المدن الكنعانية في أواخر العصر الحديدي الأول. ويهدف إلى تمكين القارئ من فهم أعمق لأنماط التوطن والعمليات الإقليمية التي سبقت ظهور المملكة الشمالية في العصر الحديدي الثاني IIA. وتظهر في هذا الفصل-بوضوح- ملامح “الكرونولوجيا المنخفضة” التي يتبناها المؤلف. فيؤكد، عند تحديده لنهاية العصر الحديدي الأول في العقود الأخيرة من القرن العاشر ق.م، أن عدداً من المواقع الشمالية – مثل مجدّو، وتل قنيريت، وتل رحوف، تعافت بعد الدمار الذي لحق بها في أواخر العصر البرونزي المتأخر. وعاودت الظهور، خلال تلك المرحلة، في إطار نظام سياسي محلي جديد، يضم مجموعة من دويلات المدن الكنعانية، أطلق عليه “كنعان الجديدة” New Canaan. لكن لم يدم طويلاً، إذ بدأ يتفكك تدريجياً خلال القرن العاشر ق.م. ويُرجّح أن السبب يعود إلى الغارات والهجمات التي نفذتها جماعات لا تُعرف طبيعتها بدقة قادمة من المرتفعات المجاورة، أسهمت في إضعاف البنية السياسية، ومهّدت لتحوّلات لاحقة في المشهد الإقليمي.
يحرص فنكلشتين، منذ البداية، وإن بشكل غير مباشر، على التخلص من الحجج والروايات التي تعيق تصوره عن نشأة “مملكة إسرءيل”، فيصوغ تصوراً بديلاً لتاريخ فلسطين القديمة، يبتعد فيه عن ظاهر الرواية التقليدية الكتابية، لكنه لا يتجاوز جوهرها. فيعيد ترتيب الأحداث والوقائع استناداً إلى المعطيات المادية والآثارية، عبر سردٍ موازٍ لتطور الأحداث بدءً من الشمال، ثم إلى الجنوب قليلاً، حيث الهضاب الوسطى التي تُعد قلب وروح السردية الكتابية، خلال أطوار العصر الحديدي (حسب التقسيم الزمني التقليدي)، الذي يُعد مرحلة حاسمة في تاريخ المنطقة، بالنظر إلى مركزية هذا العصر في إنتاج التأويلات الكتابية. إذ غالباً ما يُحتكر الحدث التاريخي في هذا السياق لمصلحة جماعة معينة وكيان محدد، تُنسب إليه أصول السردية المقدسة.
يتخذ فنكلشتين من القرن العاشر ق.م منطلقاً لكرونولوجيا بدايات المملكة الشمالية، ويركز على بيت شاؤول (انظر الفصل الثاني) باعتباره يمثل أول ظهور لكيان إقليمي شمالي إسرءيلي. ويولي أهمية خاصة لمنطقة الهضاب الممتدة من جبعون إلى بيتئيل، إذ يسجل في هذا الإقليم وجوداً مفاجئاً لعدد كبير من التحصينات ذات الغرف المتلاصقة (casemate fortifications) والتي تعود إلى أواخر العصر الحديدي الأول وبدايات العصر الحديدي الثاني، إضافة إلى مفارقة لافتة في سرعة هجر هذه المواقع. ويربط ظهور هذه التحصينات بما يسميه “ذكريات كتابية غامضة” عن الأسرة الشاؤولية، ويعتبر أن هجرها المفاجئ كان نتيجة للحملة التي قادها الفرعون شيشنق الأول. ووفقاً لتحليله، فإن كيان جبعون/جبع -المرتبط ببيت شاؤول- كان قد تمدد شمالاً إلى سهل يَزْرَعِيل، مما شكل تهديداً للمصالح المصرية، فاستهدفته الحملة المصرية بالتدمير. وأن معركة جبل جلبوع (صموئيل الأول 30–31) تعكس هذه الحملة، وأن شاؤول لم يقتل في مواجهة مع الفلستيين كما تقول الرواية الكتابية، بل في سياق الهجوم المصري بقيادة شيشنق الأول. كما يشكك في صحة الإشارة الكتابية إلى الجزية التي قُدمت إلى شيشنق على يد رحبعام (سفر الملوك الأول 14: 24–25)، ويعتبرها اختلاقاً لاحقاً. كما يشكك في الترتيب الزمني الكتابي لفترات حكم شاؤول وداوود وسليمان، ويرى أن بيت شاؤول (شاول وإيشبعل) والفرعون شيشنق الأول كانوا معاصرين لبعضهم البعض، بينما يُرجّح أن يربعام الأول نُصّب في تِرْصَة بأمر من شيشنق نفسه.
ويتناول في الفصلين الثالث والرابع مرحلة كيان تِرْصَة وسلالة العُمْرِيين، على التوالي، وهي حقبة تمتد تقريباً من 931 ق.م حتى 842 ق.م. ويلاحظ أن العاصمة تِرْصَة (موقع تل الفارعة) كانت خالية من العمارة الضخمة والتحصينات، ويفترض أنها كانت مركز حكم لزعيم محلي يسيطر على المرتفعات الممتدة من تلال [بنيامين] حتى سهل يَزْرَعِيل، إضافة إلى جزء متواضع من شرق الأردن. ومع بداية حكم العُمْرِيين، يظهر لأول مرة كيان إقليمي قوي في الشمال، تتمثل مظاهره الأثرية في نشاط معماري ضخم وواضح، ليس فقط في السامرة ويَزْرَعِيل، بل في مناطق عدة مثل سويات حاصور X، وجَزَر VIIIومواقع أخرى. ويرى أن العُمْرِيين شيدوا أيضاً مواقع في شرق الأردن، كما أسسوا مملكة امتدت من ساحل المتوسط إلى رقعة واسعة في شرق الأردن، وربما قاموا أيضاً بتوغلات في الأراضي الآرامية شمالاً. والوحيد الذي استطاع التصدي لهم والوقوف بوجههم كان حزائيل ملك دمشق.
يستخدم فنكلشتين مقاربة تمزج بين علم الآثار والتأويل النصي، لتفسير وجود أو غياب لقى “إسرءيلية” في وسط وشمال فلسطين للاستدلال على وجود كيانات سياسية يمكن وصفها بأنها “إسرءيلية”، تتشابه في تكوينها وظهورها وأنشطتها العسكرية مع ما حصل سابقاً في عصر العمارنة في القرن الرابع عشر ق.م أو ما سوف يحصل لاحقاً مع ظاهر العمر في القرن الثامن عشر م.، وفخر الدين المعني في أوائل القرن السابع عشر م. ويستعرض لهذا الغرض مواقع العصر الحديدي في “القرن التاسع ق.م”؛ في فلسطين و الأردن، ويصفها بلغة عالية الدقة والتخصص كآثاري، ويحدد لهذه المواقع سمات مشتركة يربطها مباشرة بالظهور التأسيسي لإسرءيل الشمالية على يد الأسرة العُمْرية، وعاصمتهم السامرة “سبسطية”، وإن كان يقر بين الحين والآخر بالتضارب في معلومات النص الكتابي عن تلك الفترة، (يفسر ذلك في المقام الأول بالبعد بين زمن الحدث وزمن تدوينه، الأمر الذي تسبب بتشويه “الذاكرة” الجمعية عن الحدث، فضلاً عن أنه يغمز من قناة مؤلف النص الكتابي” اليهوذي” بتحامله على المملكة الشمالية وحكامها).
ينظر فنكلشتين إلى الولاءات السياسية التي غلبت على الكيانات الإقليمية آنذاك بعين رجل سياسة صهيوني معاصر (هو لا يقول ذلك صراحة، ولكن ليس صعباً استنتاج ذلك). فحين يصف أن أحد أهم أهداف الأسرة العُمْرية للسيطرة الاجتماعية وسعيهم الحثيث لإثبات شرعيتهم يتمثل في” التغلب على السكان المحليين وحتى الإفراط في تخويفهم” تظن أن من يتحدث أحد قادة مجلس المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وليس “عالم” آثار رصين.
يتناول الفصل الخامس القرن الأخير للمملكة الشمالية، في أعقاب “النظام الجديد” الذي فرضه حزائيل ملك دمشق. فبعد حملات أدد-نيراري الثالث ملك آشور، فقدت دمشق هيمنتها على المنطقة مطلع القرن الثامن ق.م، ما أتاح للمملكة الشمالية ازدهاراً وتوسعاً غير مسبوقين، لا سيما في عهد يَرُبْعَام الثاني، الذي دام واحداً وأربعين عاماً (788–747 ق.م)، فأعيد تنظيم الطقوس الدينية، والاستفادة من شبكات تجارية مربحة، وتطوير جهاز إداري بيروقراطي متقدم، تطلب بدوره تطوراً في ممارسات الكتابة وتدوين السجلات. لكنها بدأت تشهد مظاهر الانحدار في السنوات الأخيرة من حكم يَرُبْعَام الثاني، وسرعان ما انتهى وجودها نهاية كارثية على يد الآشوريين بين 722 و720 ق.م.
وبتابع في سياق تناوله لهذه الأحداث الجسيمة البحث عن “أصول إسرءيل”، دون الالتفات للنقد الموجه لمثل هذا النوع من الأبحاث، سواء كان أثرياً أم تاريخياً. فبعد فشله في العثور ولو على شقفة فخار واحدة تدعم ما يقوله عن “مملكة شمالية” (ومن ثم “مملكة جنوبية”) يصر على أن بعض السويات الأثرية؛ مثل “حاصور VI–V، ودان الثانية III–II على سبيل المثال” تمثل ثقافة “مادية إسرءيلية” بل يرى أن دان أصبحت “إسرءيلية: في النصف الأول من القرن الثامن ق.م بدليل -حسب زعمه- أن نصب تل دان الذي أقامه حزائيل ملك “آرام دمشق” تم تحطيمه!
ما تبقى من الكتاب (الفصلين السادس والسابع، بالإضافة إلى الخاتمة) عبارة عن تأملات مختصرة حول الدلالات الأوسع لإعادة البناء التاريخي التي يقترحها المؤلف، لا سيما ما يتعلق بالتقاليد المدونة في الكتاب العبري. فيركز في الفصل السادس على نوعين أو عنوانين من “الأساطير التأسيسية” للمملكة الشمالية وهما: سيرة حياة يعقوب، كما ترد في سفر التكوين (الإصحاحات 25–36) وتقاليد الخروج، كما هي تفصيلاً في السفر الذي يحمل الاسم عينه. ويرى فنكلشتين أن دورة حياة يعقوب، رغم تدوينها في القرن الثامن ق.م، تعود بأصولها إلى أواخر العصر الحديدي الأول (القرن العاشر ق.م)، حين كانت الهُويات تتبلور في “المنطقة المركزية” للمملكة الشمالية. أما تقاليد الخروج، فهي تعكس، بدورها، ذكريات تعود إلى القرن العاشر ق.م، لكنها تتصل بالتجربة التاريخية لغزو شيشنق الأول لجنوب بلاد الشام.
أما في الفصل السابع، فيطرح سؤلاً جوهرياً، عن سبب تبني الأدبيات اليهوذية روايات اللاجئين الشماليين، لا سيما حين تمجد هذه القصص إسرءيل على حساب يهوذا؟
يجيب فنكلشتين بأن وجود مثل هذه النصوص في الأدب الكتابي يشير إلى حاجة الكتّاب اليهوذيين إلى مخاطبة جمهور شمالي واسع بات يعيش في أراضي يهوذا بعد دمار المملكة الشمالية.
وللقراء الذين اعتادوا على أفكار فنكلشتين ستبدو العديد من الأفكار المطروحة في هذا الكتاب مألوفة. في حين يتمثل الإسهام الأبرز في تقديم توليفة كبرى، شاملة، ومتماسكة لحججه وأطروحاته التي طالما دافع عنها على مدى مسيرته المهنية الطويلة. فيظهر لنا معرفته المذهلة بالسجل الأثري للمناطق الشمالية من فلسطين، وأسلوبه الشائق في قراءة الثقافة المادية في المنطقة، بطريقة أشبه بمشاهدة صانع ماهر يمارس حرفته، يعيد رسم ملامح أفكاره القديمة ويصقلها من جديد بعد عمر طويل من البحث (انظر ملاحظاته الشخصية في المقدمة).
كما لا تخلو استنتاجاته ونتائجه من الجرأة، بل حتى المستفزة والصدامية لمجتمعه. فهو يعتقد فنكلشتين، على سبيل المثال، بغياب أي دليل على وجود نشاط كتابي في إسرءيل أو يهوذا قبل القرن الثامن ق.م، مما يعني أن الإشارات في السرد الكتابي إلى أزمنة أسبق يجب فهمها على أنها مستندة إلى تقاليد شفهية “مبهمة”، أو ذكريات “مشوشة” وصلت إلى أورشليم بعد مرور قرون، كما يردد في مواضع متعددة من الكتاب. وتبدو نبرة فنكلشتين في هذا العمل واثقة، بل متحدّية، غير أنه يواجه تساؤلات جوهرية لا تزال قائمة يتحتم الإجابة عليها. فدليل النقوش من عصري الحديدي الأول والثاني (I–IIA) في جنوب بلاد الشام محدود بالفعل، إلا أن النقوش الأبجدية الخطية المكتشفة تؤكد وجود نشاط تدويني على امتداد تلك القرون. واللافت أن هذه النقوش وجدت فقط على أسطح متينة مثل رؤوس السهام، وشظايا الفخار، والصخور، وهو ما ينبغي أن يدفع المؤرخ إلى التروي قبل إصدار أحكام واسعة بشأن طبيعة وحجم الكتابة آنذاك، خاصة أن العديد من النصوص دُوّنت على مواد قابلة للتلف كالبردي، لم تترك أثراً في السجل الأثري. ولا يدل الظهور الأول للنقوش الملكية باللغات السامية الغربية في أواخر القرن التاسع ق.م على غياب نشاط الكتابة والتدوين في المنطقة قبل ذلك الزمن، كما يذهب فنكلشتين، بل يشير فقط إلى بروز دافع في تلك المرحلة لتقليد أشكال الكتابة والخطابة السائدان في الإمبراطورية الأشورية القائمة آنذاك. وتصبح حجته أكثر التباساً حين نضع في اعتبارنا إقراره هو نفسه بإمكانية وجود جهاز بيروقراطي في تَرْصَة في مطلع العصر الحديدي الثاني (IIA)، استناداً إلى الكمّ الكبير من الأختام المكتشفة هناك (انظر الفصل الثالث).
ما يثير الدهشة حقاً هو أن أحكامه التاريخية الواسعة التي يطرحها حول مصادر النص الكتابي وتاريخ تدوينه، مع أن العملية الكتابية ذاتها تظل، جزئياً على الأقل، غير مرئية لنا. كما تظهر تساؤلات أخرى. فمن الناحية الزمنية، لا شك أن التأريخ الكتابي للقرن العاشر ق.م يفتقر إلى اليقين، لكن من الصعب أيضاً تبيّن التسلسل الزمني الذي يتبناه فنكلشتين نفسه. ففي موضع ما، يُشار إلى أن العصر الحديدي الثاني المبكر يبدأ في “العقود الأخيرة” من القرن العاشر ق.م، ثم يظهر لاحقاً أنه يبدأ في “مطلع النصف الثاني” من القرن ذاته، في ضوء إعادة تأريخ حملة شيشنق الأول. وعند مراجعة أعماله الأخرى، تتعقّد الصورة أكثر، إذ يُشار مثلاً إلى أن العصر الحديدي الأول في سهل يَزْرَعِيل الغربي انتهى في وقت ما من النصف الأول للقرن العاشر ق.م(14).
لكن التدرّج في الأحكام والدقة في التحليل لا يُعدّان من سمات هذا العمل. فالأركيولوجيا تُقدَّم باعتبارها علماً “موضوعياً” و “متوازناً”، في حين تُصوَّر النصوص الكتابية على أنها مشحونة إيديولوجياً. والنتيجة هي سرد تاريخي جاف ومباشر، يُختزل في تحركات أفراد نافذين يجتاحون المنطقة. فشخصيات مثل شيشنق الأول، وحزائيل، وتغلات بلصر الثالث يُقدَّمون بوصفهم الأبطال الحقيقيين لهذا التاريخ، وتُصوَّر معظم نصوص الكتاب التي تتناول الحقبة السابقة لسقوط إسرءيل على أنها مستلهمة منهم بشكل أو بآخر.
يضع هذا التركيز على نشوء “الدولة القومية” وتأثير “الشخصيات” التاريخية الكبرى، عمل فنكلشتين في إطار منهجي قريب من الأعمال المبكرة في تأريخ إسرءيل القديمة. فالحكاية التي يرويها ليست جديدة تماماً، بل تتكرر بصيغة مختلفة، مع تغيير في أسماء الفاعلين فقط. ولعله كان من الأجدى له لو تناول على نحو صريح التزاماته التأويلية (الهرمنيوطيقية)، بصورة تظهر كيفية التعامل مع صعوبات تمثيل الماضي القديم، وكيفية مواجهة التوترات الكامنة بين المعطى الأثري والدعوى المرجعية التي تطرحها النصوص القديمة.
خاتمة: حين يغمّس “فنكلشتين” خارج الصحن
يقال على سبيل العِظة، لا مكان في هذا العالم المتحوِّل للأفكار الجامدة أو المفاهيم والتعميمات المطلقة. فالتشبث بالمسلّمات الذهنية بوصفها حقائق نهائية، لم يعد مقبولاً لا أخلاقياً ولا معرفياً. وإن مراجعة ما نحمله من تصورات ومفاهيم ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة إنسانية ونفسية، تفرضها الحاجة إلى إعادة تشكيل الذات الفاعلة الاجتماعية بوصفها كائناً حاضراً في العالم، لا خارجه؛ ذاتاً تتكوَّن في التفاعل مع الواقع، وليس في الانفصال عنه.
من هنا نفهم مقولة بول فاليري نحن “لا نفكر إلا على أساس النماذج”؛ بمعنى التمثل الذهني لفكرة ما أو لعدة أفكار ولكيفية اشتغالها في العقل والحيّز عندما نضعها في قالب/ نموذج. وبهذه الحالة، سنضطر إلى تقليد هذا النموذج اصطناعياً لإضفاء ميزة التنظيم على فكرنا لتحقيق الغاية المطلوبة، ضمن صور ذهنية تمكننا من تركيب وتقليد النموذج، فيجري حصر النسق المدروس افتراضياً “وهو هنا تاريخ فلسطين القديم” بطريقة تجعل الباحث قادراً على إعادة تشكيله كلما عجز عن البرهان على صحته أو واقعيته أو “تاريخيته”.
ولعل هذا، أيضاً، هو الأساس الذي بنى عليه المؤرخون والآثاريون فهمهم وتصورهم لمملكة “إسرءيل القديمة” حين تخيلوها دولة “قومية ” تشبه دولهم الحديثة بحدود طبيعية أو جمركية، يرتبط سكانها فيما بينهم برموز مشتركة مختلفة مثل اللغة والدين و التاريخ السردي” التاريخي و الأسطوري” والمركز الديني أو القومي الاقتصادي المقدس. فيقف الإسرءيليون في مواجهة سكان الأرض الأصليين الذين يتميز سلفهم كنعان بلعنة نوح القديمة، وحالما تصبح كنعان أرض إسرءيل، يُختزل الكنعانيون إلى شعب مطرود من الرحمة، بسبب لعنة الجد القديم المجهول والذي لا يعرف حتى مكان سكنه وإقامته. ويتم تقسيمهم جغرافياً وإثنياً وفقاً للأغراض السياسية لمحرر النص، ليصبح جزء منهم كنعانياً وجزء آخر “فلستياً” وجزء آرامياً أو مؤابياً أو أدومياً أو حتى “عابيرو”…وهكذا.
وسوف تطلق هذه الأجندة القومية الآثارية مجاز تعيين “ميراث الأرض” -أي فلسطين العصر الحديدي حسب التصور الكتابي التقليدي لتاريخ فلسطين- على أنه إرث إسرءيلي، وميراث العصر البرونزي على أنه إرث “فلسطيني” وتمييزهم بالتالي، كأناس ليس لهم إرث في “أرض إسرائيل” (التي هي هنا فلسطين العصر الحديدي!)، بل هم في الحقيقة ورثة كارثة إبادة جماعية وتأريخية بمباركة إلهية وأدبية!
ولن يفيد -والحال هذا- أي نقاش في أولوية الاسم (الشعب أو الأرض) سواء في اللغة أو الأدب أو النص الديني؛ وفي أي نقش ظهر؛ في عملية النقد البناء للأفكار المطروحة في هذا السياق والتي أصبحت منهجاً قائما منذ مئتي عام تقريباً. بحيث يصبح واقع الحال ملتبساً هنا.
وحين يلبس الماضي قالباً سياسياً بخلفيات معاصرة -كما هو الحال مع علم الآثار القومي الإسرائيلي- فسوف يتيح هذا تحويل أسماء وردت في نصوص كتابية إلى علامات تاريخية بوجود حقيقي “مفترض نصيّاً”. فاسم الكنعانيين، مثلاً، يُستحضر-في الكتاب المقدس- لشعب وهُوية وتراث معين، كما تصفهم نصوص العهد القديم. ومثل هذا الافتراض يجعل من السهولة بمكان لمحرر النصوص تحويل “المجاز الأدبي” إلى حقيقة ورسم “الإسرءيليين” و”الكنعانيين” كفرعي عائلة يتمتعان بوظيفة أدبية فعّالة وأساسيّة لمجاز ما يدعوه توماس طومسون “الشعوب الأصلية”، و”أصل كل شيء”، و”أسبقية شعب على شعب”، و”أحقيّة” شعب بالأرض على حساب شعب آخر. حيث يتم تعريف “الأرض الموعودة” كتابياً “أرض إسرءيل”.
في هذا الركن من العالم، أي شرق المتوسط -وفلسطين تحديداً-، حيث تتقاطع السرديات الكبرى ويتنازع الخطاب السياسي معاني “القديم” و”الحديث” ضمن إطار لغوي استهلاكي مبتذل عن الفكرة ونقيضها، ينهض “إسرائيل فنكلشتين” بصفته أكثر من مجرد عالم آثار تقليدي.
إنه يقدّم نفسه، بكل ما في الكلمة من وضوح، كحارس أمين للرؤية الصهيونية الأولى، تلك التي تخلط بين الأسطورة والتاريخ، وتعيد إنتاج فكرة “أرض إسرائيل” وطناً حصرياً لـ “الشعب اليهودي”. ورغم انتمائه المعلن للتيار الوسطي في الخريطة السياسية الإسرائيلية، فهو لا يتوقف عن ترداد شعارات “السلام مقابل الأرض”. وهي صيغة تمّ تدويرها سياسياً لتبدو أقرب إلى تبادل الأدوار بين المعتدي والضحية، منها إلى اتفاق متكافئ بين طرفين.
وباعتبار أن ذخيرة جهده تنصب في الدفاع عن “حق الوجود لدولة يهودية في أرض الكتاب المقدس… الوطن القديم للشعب القديم”، فمن الواضح أن أكثر ما يثير فزعه، عندما يجلس على أريكته في بيته، هو مشاهدة ما يعرضه التلفزيون من مشاهد وصور “مرعبة” عن الاضطرابات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وليس ما يقوم الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة على كل حال) وردود فعل العالم. ويزداد شعوره بالقلق حين يجد نفسه عاجزاً عن “تقديم العون” لهذه البقعة من الجغرافيا التي بات ينتمي إليها والتي تعج بالمخاطر (في الحقيقة لم يحدد كيف ومتى ومن سيساعد لو قيض له ذلك، لكنه لن يعدم وسيلة ليذكّرنا بأن تلك الاضطرابات تشعره بأن تراثه التاريخي مهدد).
كان، ولا يزال، فنكلشتين، وعلى مدى العقود الماضية من أهم المشتغلين بالدراسات والبعثات الآثارية الميدانية والأكاديمية في فلسطين المحتلة، مسترشداً بهدي ما يعرف بين أهل الاختصاص بـ “علم الآثار التوراتي أو الكتابي”.
غير أن نشاطه يتسم بصبغة “تجديدية” تقف بصرامة إزاء المحاولات التي ترمي إلى اعتبار ما ورد في نصوص العهد القديم وثيقة تاريخية تتمتع بمصداقية وراهنية معرفية، وهو يجادل-بذكاء يحسد عليه حقاً- بأن التاريخ التقليدي للعديد من الاكتشافات واللقى الآثارية المتعلقة بالأحداث الكتابية إنما ترجع دراستها وتصنيفها وتأويلها إلى مدة لا تزيد عن قرنين فقط، ويرى أن مفتاح التعامل مع علم الآثار الكتابي وتاريخ نشأته بطريقة مناسبة يكمن في فهم ما يجري في كواليس الأبحاث الكتابية اليوم.
وهذا يعني أن الاطلاع على البحوث الآثارية الكتابية وقراءتها لاينبغي له أن يتم بالطريقة التي تقرأ فيها الجريدة، فمثل هذه النظرة السطحية تدل على عدم الاعتراف بتعقيد النص وعدم احترام الجهود المبذولة من قبل العلماء والباحثين، فضلاً عن أن مثل هذا النمط من القراءة، لا يأخذ بعين الاعتبار المسائل الإيديولوجية واللاهوتية التي رافقت نشأة هذا الفرع من علم الآثار. ولكن هذا لايعني، في المقابل وكما يزعم فنكلشتين، الغوص عميقاً، حيث تكمن مخاطر الإفراط في التحليل والتأويل؛ فالبساطة هي دلالة الحقيقة كما يقال. وإذا كانت قصص الخروج من مصر والتيه وانشقاق البحر وغزو كنعان ليست وقائع تاريخية، فهي بالنسبة للمؤمنين إعجاز معطى من الرب، لك، بصفتك باحثاً، أن تصدقه أو ترفضه، لكن لا يمكنك رفض إيمان من يؤمنون به كحقيقة، لأن الإيمان هنا يقع خارج نطاق وظيفة ومهمة علم الآثار، أو حتى علم التاريخ لإثبات أن هذا الأمر حدث فعلاً أو لم يحدث.
يقرّ فنكلشتين بعدم القدرة على إثبات تاريخيّة ما سبق، غير أن هذا لا يجعله يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، كأن يقول علناً، وعلى سبيل المثال، في محاضراته بعدم الوجود التاريخي لأشخاص مثل يوشع أو إبراهيم أو موسى أو داود أو سليمان.. إلخ، بل هو يرى فيهم (وفي سواهم) رموزاً قوميّة له ولشعبه. رموز تأتي من عمق الماضي ويتم استحضارها لدواعٍ مختلفة، ليس دينية فقط، كلّما دعت الحاجة، أي نداء وظيفي على هيئة بروباغاندة قومية\دينية تؤدي أدواراً سياسيّة وإيديولوجيّة ولاهوتيّة بآن معاً.
وبناء على ذلك، يرى فنكلشتين نفسه بعيداً عن النظر أو البت في المسائل الإيمانية اللاهوتية، لأن هذا، بطريقة ما، شأن الأفراد وليس شأن “الأكاديميا”، حتى لو حاول هذا الآثاري أو ذاك لعب دور القابلة، فلن يقدر على تقديم إجابات مقنعة تعكس حقائق أو وقائع عصر مضى عليه آلاف السنين، فحتى مقارنة أسماء الأشخاص والأماكن لا يمكنها أن تمدّنا بفهم واضح عن شخصية محدّدة بعينها مثل إبراهيم عاشت أو عاصرت الأحداث المذكورة في نصوص العهد القديم.
من ناحية أخرى، يظهر تقليد الخروج بالفعل في نبوءات القرن الثامن ق.م عند بعض أنبياء العهد القديم؛ مثل هوشع وعاموس، مما يزيد من تعقيد تحديد الإطار التاريخي للحدث. وكما يرى دونالد ردفورد، تشكّلت الطلائع الأولى من الإسرءيليين [ثمة إصرار عجيب وغير مبرّر من الجميع على اعتبار وجود “تاريخي” لهؤلاء القوم] من بدو الشاسو في جنوب كنعان، وعابيرو العصر الحديدي الأول الذين استقروا في المرتفعات عقب انهيار حضارات العصر البرونزي في كنعان وانسحاب مصر من بلاد الشام بصورة عامة.
فإذا كان “الكنعانيون” ليسوا أمة ولا شعباً، بل مجرد جماعة عاشت في بقعة معينة من الشرق القديم، فهذا يستلزم بالضرورة عدم وجود تاريخي لمن هم “إسرءيليون” الذين لن يكونوا بالمقابل أكثر من مجرد قبائل شبه رعوية سكنت يوماً في مرتفعات فلسطين على تخوم الصحراء وحواف الحواضر الفلسطينية في العصر الحديدي نحو 1000 ق.م. وإذن لا يمكن، منطقياً، القبول بأنهم سيشكلون لاحقاً مملكة تعرف باسم إسرءيل أو يهوذا أو غيرها؛ وستكون جميع سلاسل النسب وقوائم الشعوب والكيانات السياسية المنبثقة عنها عبارة عن شكل أدبي له صفة العِظة الدينية ليس إلّا.
فإذا كنا مقتنعين بعدم وجود أسئلة غير مشروعة، بل يوجد فقط أجوبة غير مشروعة سواء عند المؤمن أم غيره، فليس من الأهمية بمكان، إذن، للباحث التمسك بالمفهوم الإيماني لتفسير “ظاهرة طبيعية” مثل الجفاف أو انشقاق البحر أو انهيار أسوار مدينة بشكل مفاجئ، أو لماذا وعد الرب شخصاً بعينه وليس سواه بأرض ليست أرضه، ليس هذا فحسب بل سوف يرثها أحفاده ما بقيت الحياة على الأرض.. إلخ من المعطيات الإعجازية التي يتطرق إليها النص الديني.
وسوف يكون لعلم الآثار الدور الحاسم -وربما النهائي- في عملية بناء و/أو إعادة بناء السردية التاريخية عن إسرءيل القديمة. حيث يفترض من علم الآثار تقديم التأويل القريب إلى الصحة عن حقبة تاريخية معينة أكثر من النص نفسه، نظراً لأن النص هو نتاج مرحلة تالية لتلك الفترة، ويعكس التوجّه الإيديولوجي لصاحبه أو لكاتبه أو لمن طلب كتابته. في حين أن اللقى الآثارية يمكنها التعبير عن ذاتها دون تدخل خارجي.(إحدى الملاحظات المشروعة على استخدام تقنية الكربون المشع(15) لإثبات تاريخية دعامة خشبية استخدمت في سقف قصر أو باب معبد لا تعني تاريخ البناء بقدر ما تعني تاريخ قطع هذه الخشبة من الشجرة… راجع الملحق”1″)، غير أنه من الواضح أيضاً عدم قدرة علم الآثار على تقديم التصوّر والحكم النهائي على تلك السردية وذلك لأسباب عديدة تعود لبنية علم الآثار ذاته، لا سيما مقارباته المنهجية، وهنا يطرح فنكلشتين تساؤلاً هاماً، بالنسبة له، في سياق رؤيته للإسرءيليين عن السبب الذي يجعلهم يظهرون كمجموعة متميزة في كنعان: هل كان ذلك بسبب التوحيد؟
ليجيب بالنفي؛ فالتوحيد أتى لاحقاً، ونصوص العهد القديم لا تنكر وجود آلهة أخرى إلى جانب إله الإسرءيليين، مما يعني أن هناك آلهة أكثر أهمية من غيرهم. ويعتقد فنكلشتين أنه لا يمكننا الحديث عن التوحيد حتى في حدود نهاية القرن السادس ق.م (586 ق.م، التاريخ المفترض لتدمير أورشليم)، ويمكن وصف ديانة المملكة الجنوبية “يهوذا” في ذلك الحين أنها توحيدية. فالتوحيد الذي نعرفه الآن هو نتاج الحقبة الفارسية، وإن شئنا الدقة أكثر هو نتاج الحقبة التي تلت، أي الهلنستية، إذا لم يحدث التوحيد الإسرءيلي إلا في عصر الحشمونيين، كما يقول فنكلشتين. وحتى في مراحل لاحقة، تحديداً العصور المسيحية الأولى [مرحلة العهد الجديد] كان الناس يعبدون آلهة أخرى.
ألم يتهم المسيح بعض الإسرءيليين بعبادة البعل؟ كما أن الملك عُمْري دعا، كما يخبرنا النص، إلى عبادة البعل (16) ويرى نص العهد القديم أن سليمان وعُمري عملا الشر في عيني الرب، وتشير العديد من الدراسات أن معبد سليمان تم بناؤه وفقاً لنموذج معبد عين دارا السوري\الحثي الذي كان مكرّساً لبعل وعشتار والذي يعود تاريخه إلى العام 1300 ق.م تقريباً.
ولذلك يمكن لقارئ النص الديني، أو من يؤمن به، تبني قراءة انتقائية تساعده على فهم وتأول النص، في حين يدلّنا بنيان المعبد وأسلوبه على نمط عيش الناس في الزمن الحقيقي وليس في الزمن المفترض، أي طريقة عيشهم كما هي فعلاً وليس كما هي موجودة في ذهن محرر النص، ولهذا أتى الإصحاح 11 من سفر الملوك الأول ليوضح السلوك الخاطئ لأنبياء عظام مثل داود وسليمان وما فعلوه من شرور في عيني الرب.
فهل المقصود هنا السلوك اتجاه يهوه إله بني إسرءيل أم توجيه نقد لاذع لحياة الترف والبذخ التي تصورها النصوص لداود وسليمان على حد سواء. ويستمر النقد وصولاً لعهد عُمري وأخاب، مع الأخذ بالاعتبار التأويل السياسي هنا، أي وجهة نظر محرر النص اليهوذي الجنوبي وموقفه من ملوك المملكة الشمالية “الإسرءيليين”.
فما تم تقديمه من تفسير أصولي لاكتشافات خربة قيافة ليس سوى عملية إحياء لمنهج أولبرايت الذي لم يعد يصلح لتفسير نصوص العهد القديم، نظراً لأن علم الآثار قدّم إسهامات حاسمة في الكشف عن خطأ المقاربة الأولبرايتية لتاريخ ونصوص ونقوش الشرق القديم التي تربطها بالعهد القديم وقصص أنبياء وملوك وآباء بني إسرائيل، والتي أتت ربما ردّاً على فرضية يوليوس فلهاوزن (17) في نقده للمصادر النصية. وما هجوم أولبرايت على فلهاوزن إلّا نموذج من نماذج عديدة لانحراف البحوث الآثارية والكتابية -التاريخية عن مسارها الصحيح. وظهر هذا الاتجاه بأشكال مختلفة، وإن بشكل متقطع في السنوات الأخيرة باستخدام علم الآثار كسلاح لقمع تطور البحوث النقدية.
يستند فنكلشتين في تصوره للتاريخ إلى مقاربة مدرسة “الحوليات Annales” الفرنسية (18) التي تهتم بالجوانب المتعددة للأنشطة الإنسانية -وليس السياسية والدبلوماسية فحسب- وجعلها الموضوع الرئيس للأبحاث التاريخية وضمن هذا السياق النظري يضع فنكلشتين بذرة نشوء إسرءيل القديمة عبر التاريخ وهو يكرر ما ورد في الفصول السابقة عن نشوء دول وكيانات سياسية لا تتمتع بعاصمة مركزية قوية بما يشبه الحالة الإسرءيلية ويستشهد بظهور لابايو حاكم شَكِيم في عصر العمارنة (أواخر العصر البرونزي) والكيان السياسي في منطقة جبعون\جبعة الذي كان هدفاً لحملة شيشنق الأول وكلاهما هزما من قبل إمبراطورية قوية -مثلما هو حال دولة ضاهر العمر التي هزمتها في نهاية المطاف الدولة العثمانية-. وهو حين ينظر إلى مصير دولة إسرائيل المعاصرة من حيث ظروف نشأتها (ضعف الدولة العثمانية وانهيارها مما مهد السبيل للدول الاستعمارية الغربية في احتلال المشرق وظهور إسرائيل على مسرح الأحداث كنتاج للإمبريالية البريطانية) يلتفت خلفه ليرى مآل كل من إسرءيل ويهوذا “القديمتين” وارتباط ظهورهما بضعف أو تراجع التأثير المصري والآشوري. وكان لعودة صعود تلك القوى الإمبريالية من جديد السبب المباشر في انهيار المملكتين الكتابيتين. فكان ظهور المملكة الشمالية “عملية مزدوجة من تطورات طويلة الأمد في منطقة الهضاب في وقت ما من العصر البرونزي المتأخر أدت لاحقاً (القرن التاسع وأوائل القرن الثامن ق.م) إلى صعود قوة إقليمية قوية تحكم مناطق واسعة ذات سكان متنوعين مما جعل من ظهورها حدثاً فريداً من نوعه في تاريخ جنوب بلاد الشام وتكاد تكون حسب رأيه الظاهرة الوحيدة في التاريخ المسجل التي كُتب لها النجاح بوصفها وكيلاً أو قاعدة لدولة أو إمبراطورية أقوى، أو في ظل غياب قوة قوية.
وكان هذا هو الحال في الأيام الأولى من المملكة الشمالية، ربما تحت مظلة مصر، في أواخر القرن العاشر ق.م، والدولة الحشمونية التي نشأت نتيجة للمناورات الناجحة بين القوى الهلنستية المتصارعة من وقتها.
وفي ظل هذه التناقضات -بين نفي وإثبات- يفضّل فنكلشتين وضع، أو تصنيف، نفسه كعالم آثار، ضمن معسكر الوسط، في خضم الجدل الدائر بين أوساط الباحثين الكتابيين، فيقول: “اعتبر نفسي باحثاً يقف في مكان ما في الوسط بين معسكر المحافظين والمعسكر النقدي، لا شك أنه عمل صعب للغاية أن تكون في الوسط، في المركز. فأينما كنت تقف، على أحد الجوانب، فسوف تتم مهاجمتك من هذا الجانب فقط، ولكن إن كنت في المركز، فأنت عرضة للهجوم من جميع الجوانب.. في بعض الأحيان يتهمني بعض الأصدقاء، من الجانب الأكثر تحفظاً، بأنني أنتمي إلى مقاربة أكثر عدمية (أو إلى النهج النقدي) الذي ينكر وجود المملكة المتحدة. ولكن الأمور ليست بهذه البساطة، فأنا-لأسبابٍ كثيرةٍ- لا أنفي وجود داود وسليمان (قد يكون نقش تل دان أحد هذه الأسباب)”. ويتابع:” ثمة معطيات على شكل “ذاكرة” كانت موجودة بالفعل في القرن التاسع ق.م ترى بأن مؤسس السلالة [الملكيّة] في عاصمة يهوذا كان يدعى داود. أنا لا أنكر وجود داود وسليمان في التاريخ، ينبغي أن يكون كلامي هذا واضحاً [هنا]، بيد أنه لدي، التأكيد، وجهة نظر مختلفة حول مدى وطبيعة الكيان الذي كان محوره مدينة أورشليم في القرن العاشر ق.م، لنقل، كان ثمة شيئاً هناك في تلك الفترة، ولكن ما هو هذا الشيء بالضبط؟ هنا يكمن السؤال الكبير، ولكي نجيب عليه، يتوجب علينا العودة إلى مسألة التحقيب التاريخي لمدينة القدس ذاتها”(19)
إذا كان المؤرخون لا يقولون الحقيقة دائماً، فعلماء الآثار يمتازون، إلى جانب ذلك، بخيال خصب يسمح لهم بسرد قصة رومنسية كلما تأملوا قطعة فخارية وأن ينطقوا الحجر قبل البشر على طريقتهم الخاصة؟
وإذن! لا يمكن إنكار قيمة الإضاءات الغنية التي يقدمها فنكلشتين حول الثقافة المادية في شمال فلسطين. فالخرائط، والصور، والجداول الكثيرة المنتشرة في الكتاب تبث الحياة في العالم الذي يحاول الكاتب استحضاره. ثمة الكثير مما يمكن أن يتعلمه القارئ من فنكلشتين الأركيولوجي. أما في ما يخص فنكلشتين المؤرخ، فعلى القارئ التحلي بكثير من الحذر.
ملاحظات منهجية في الترجمة:
– تشير الأقواس المعقوفة [ ] إلى إضافات من إعداد المترجم، أُدرجت لتوضيح السياق أو الاعتراض على صياغات وردت في النص الأصلي. للتعليق النقدي على ما ورد في النص الأصلي، من باب إثراء الفهم أو إبراز التناقضات والمشكلات المفهومية.
– جميع استشهادات الكتاب المقدس التي تظهر في النص المترجم من وضع المترجم، ما لم يُذكر خلاف ذلك، وقد تم اختيارها بالاستناد إلى النسخة المتاحة على موقع الأنبا تكلا هيمانوت https://st-takla.org.
-رسمنا كلمة “إسرءيل” بهذا الشكل تماشياً مع مقترح الباحث الفلسطيني الراحل د. زياد منى، لتمييزها عن الكيان السياسي الحديث الذي يُطلق على نفسه اسم “إسرائيل”. فالمقصود بـ”إسرءيل” هنا هو الكيان أو المملكة القديمة الموصوفة في نصوص العهد القديم، والتي يرى البعض أنها قامت في أرض فلسطين في وقت ما من القرن العاشر ق.م، ويُفترض أنها كانت عبارة عن تجمع قبلي من أقوام انقرضت، تُشبه في ذلك قبائل عاد وثمود وجديس وغيرها من “العرب البائدة”. ونعتمد هذا الرسم الأقرب إلى الشكل القرآني، تجنباً للخلط والالتباس السياسي أو المفاهيمي “المقصود أحياناً” في بعض الكتابات بين إسرءيل التاريخية والكيان الاستعماري الحديث، الذي يتكوّن من خليط من الجماعات المهاجرة، لا يجمعها رابط عرقي أو قومي حقيقي مع الجماعة الإسرءيلية القديمة. يُذكر أن هذا التفريق يظهر جلياً في اللغات الأوروبية من خلال التمايز في الكتابة والاصطلاح، خلافاً للنشاط التأليفي العربي (وكذلك العبري) الذي غالباً ما يستخدم الكلمة نفسها للدلالة على الكيانين المختلفين تماماً.
– نستخدم في هذه الترجمة مصطلح “توطن”، و “مواقع التوطن”، للدلالة على طبيعة التجمعات السكانية القديمة التي نشأت عبر عمليات ديموغرافية واقتصادية عضوية، بعيداً عن أي حمولة إيديولوجية معاصرة. فالمصطلح يتيح وصفاً أكثر دقة لتنوع أنماط السكن في العصور القديمة، سواء كانت قرى زراعية، أو مدن-دول، أو تجمعات بدوية. في المقابل، نُبقي على مصطلح “استيطان” حصرياً للإشارة إلى المشاريع الاستعمارية الحديثة التي بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر. ويُعد هذا التمييز ضرورياً للحفاظ على الموضوعية العلمية، وفصل التحليل الأثري عن الخطابات السياسية الراهنة. كما أنه يستند إلى اختلاف السياقات التاريخية والاقتصادية التي نشأت فيها أنماط السكن القديمة عن تلك التي تقوم عليها مشاريع الاستيطان الإحلالي الحديثة. وقد كشفت العديد من الدراسات النقدية كيف استُخدمت المصطلحات الأثرية في خدمة أجندات سياسية، لا سيما في الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية.
من المهم الإشارة إلى أن مصطلحات مثل “مستوطنة” (Settlement) و”استيطان” (Colonization) تُطبَّق حالياً -دون سند علمي كافٍ- على مواقع العصر الحديدي وغيرها، في محاولات لخلق انطباع زائف بـ”استمرارية زمنية” بين استيطان قديم مزعوم والاستعمار الصهيوني الحديث. وهذا الاستخدام يؤدي إلى اختزال التنوع التاريخي لأنماط التوطن القديمة، وإسقاط مفاهيم حديثة كالهجرة الاستعمارية على مجتمعات لم تكن تخضع لتلك البُنى أو الديناميات.
في ضوء ذلك، نقترح اعتماد مصطلح “توطن” بوصفه توصيفاً علمياً أكثر دقة وحياداً. فالنقد المصطلحي هنا لا يُعد ترفاً لغوياً، بل هو جزء أصيل من تفكيك البنية المعرفية للاستعمار الاستيطاني. إذ لا ينبغي التعامل مع المصطلحات كمجرد أدوات وصفية، بل يجب فضح الأيديولوجيات التي تشحنها وتوجه استخدامها. فمجتمعات العصر الحديدي لم تكن “مستوطنات” بالمعنى الاستعماري الحديث، بل كانت تجمعات عضوية نشأت في سياقات محلية، من تفاعل السكان مع بيئتهم ومواردهم. أما مصطلح “استيطان” في السياق الحديث، فيرتبط بمشاريع إحلال سكاني منظّمة ومدعومة سياسياً، كما هو الحال في الضفة الغربية المحتلة.
للاطلاع على مزيد من النقد المتعلق باستخدام المصطلحات الأثرية في سياقات سياسية، راجع:
Nadia Abu El Haj (2001). Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society.
Greenberg, R. (2009). Towards an Inclusive Archaeology in Jerusalem.
– وللغرض ذاته، نستخدم في هذا النص مصطلح “يَهوذ” و”يَهوذيين” بالذال المعجمة، للإشارة إلى سكان مملكة يهوذا القديمة، مقابل “إسرءيليين” (Israelite) سكان مملكة إسرءيل. ويأتي هذا التمييز أيضاً في إطار اقتراح د. زياد منى الذي دعا إلى إعادة ضبط المصطلحات لتفادي الخلط القائم بين “اليهوذيين” كهوية إثنية/جغرافية، و”اليهود” كهوية دينية. فالأصل في “يهوذا” أنها كلمة كنعانية (يهوده)، ويُرجح أنها مشتقة من سبط “يهوذا” أكبر أبناء يعقوب، ولا تعني إطلاقاً “يهود” أو “يهوديين” كما شاع لاحقاً في الخطاب الديني والسياسي الغربي. ونؤكد على أهمية هذا التمييز الاصطلاحي، خاصة في ظل التوظيف السياسي الحديث للدين في سياق صهيوني، حيث يختلط القومي بالديني عمداً لتبرير الادعاءات التاريخية، وهو ما نرفضه علميًا ومنهجيًا في هذه الترجمة.
– نستخدم في هذه الترجمة كلمتي “الكتاب” “كتاب” “كتابي” كمقابلين للمصطلحين The Bible وBiblical، بدلاً من “التوراة” “توراة” و”توراتي”، نظراً لأن “الكتاب” يشير إلى مجموعة أسفار العهدين القديم والجديد، بينما تقتصر “التوراة” على الأسفار الخمسة الأولى فقط من العهد القديم. ولا يشمل الكتاب العبري أي نص مسيحي. ويستخدم فنكلشتين هنا مصطلح “الكتب العبري” The Hebrew Bible وهو مصطلح محايد شائع في الدراسات المقارنة عند الحديث عن النصوص اليهودية دون تضمين تقاليد وتأويلات لاهوتية مسيحية، كما أنه يُميز بوضوح بين النصوص التي يعترف بها اليهود فقط، وتلك التي اعتمدها المسيحيون لاحقاً كجزء من الكتاب [المقدس]. يقابل الكتاب العبري مصطلح “التناخ” Tanakh الذي غالباً ما يستخدم في سياقات دينية أو ثقافية يهودية وبعض الدراسات اليهودية. وكلمة تناخ هي اختصار من الأحرف الأولى للأقسام الثلاثة الأساسية للكتاب العبري وفق التقليد اليهودي:
-توراه أي الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية).
-نِبيئيم أي “الأنبياء”، وتضم أنبياء سابقون مثل يشوع والقضاة وصموئيل، ولاحقين مثل إشعيا وإرميا.
-كِتوبيم أي “الكتابات”، وتشمل المزامير، الأمثال، أيوب، نشيد الأنشاء، دانيال، وغيرها.
وهذا ما يُعرف إجمالاً بـ “الكتاب العبري”، ويعني النصوص الدينية المعتمدة في الديانة اليهودية، والمكتوبة أساساً بالعبرية وبعض الأجزاء بالآرامية. أما “العهد القديم” في التقاليد المسيحية (خاصة الكاثوليكية والأرثوذكسية)، فيحتوي على أسفار التناخ تقريباً لكن بترتيب مختلف، ويضم أحياناً أسفاراً إضافية تُعرف بالأسفار القانونية الثانية.
ومن المهم أن نذكر استشهاد فنكلشتين في بعض مواضع الكتاب بإحدى النسخ السبعينية للكتاب المقدس (الترجمة اليونانية للعهد القديم) ويشير لها فنكلشتين باسم النسخة اللوقيانية Lucianic version، وهي واحدة من العديد من النسخ المختلفة لهذه الترجمة، وتنسب إلى القديس لوقيان الأنطاكي Lucian of Antioch الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وتعرضت النسخة للتنقيح في القرن الرابع، ولاقت رواجاً في أوساط المسيحيين في المشرق، ويعتقد أهل الاختصاص أن الهدف من النسخة اللوقيانية تحسين وضوح النص ودقته مقارنة بالنسخ السابقة. وتعد جزءً من الموروث النصي المسيحي الإغريقي للكتاب المقدس، وهي تختلف بعض الشيء عن النصوص السبعينية الأخرى من حيث الصياغة والمحتوى، وإن كانت الفروقات صغيرة نسبياً.
-نميّز بين “أورشليم” و”القدس”، ونستخدم “أورشليم” للإشارة إلى مدينة أو موقع يرد في النصوص الكتابية، بينما تشير “القدس” إلى المدينة الفلسطينية المعاصرة، عاصمة فلسطين. ولا تتطابق- حسب فهمنا- “القدس” مع “أورشليم” لا جغرافياً ولا دينياً ولا سياسياً. وقد نستخدم الاسمين تبادلياً، حسب السياق، مع الالتزام بالتمييز التاريخي و”الجغرافي” والدلالي.
– الاستدلال الدائريCircular reasoning أو المنطق الدائري، مغالطة منطقية تعتمد على افتراض مغلق لا يتيح مساحة للنقاش أو البرهنة. يقوم هذا النوع من الاستدلال على استخدام النتيجة كدليل على صحة السبب، في حين أن السبب نفسه لم يُثبت بعد. بعبارة أخرى: يتم افتراض سبب غير مؤكد، ومن خلاله تُستنتج نتيجة، ثم تُستخدم هذه النتيجة لاحقًا كحجة لإثبات صحة السبب الذي انطلقت منه. وهكذا يدور المنطق في حلقة مفرغة، دون أن يُقدَّم أي دليل مستقل يبرهن صحة أي من الطرفين. كأن يقال، على سبيل المثال، “يجب أن تكون مدينة حاصور التي اكتُشفت في موقع تل القدح هي ذاتها حصور المذكورة في سفر يشوع، لأن الكتاب يقول إن يشوع دمّرها بالكامل، ونحن وجدنا طبقة دمار في الموقع. وهذا الدمار دليل على أن يشوع قد دمّرها، وبالتالي فإن رواية يشوع صحيحة.”
– يسرد فنكلشتين تجربته في المسح الأثري شمال القدس خلال الثمانينيات وتأثيرها على اهتمامه بالمرتفعات، ومقارنة أنشطة التوطن بين شمال وجنوب القدس وربطها بالدورات التاريخية الطويلة، ويبرز تعارض الرؤية الدورية للتاريخ مع السرديات الكتابية والخطية التقليدية بتأثير مدرسة “الحوليات” الفرنسية Annales على إعادة تفسير التحولات التاريخية والاجتماعية، مع التركيز على أعمال بلوخ وبروديل. ومدرسة الحوليات ظهرت بوصفها بديلاً نقدياً للمدرسة الوضعية التقليدية في كتابة التاريخ، ورفعت شعار “لا تاريخ من دون وثيقة”، وكان يمثلها آنذاك التيار الأكاديمي السائد في جامعتي السوربون وبرلين. وبدأت هذه المدرسة بمقالات نقدية كتبها مارك بلوخ ولوسيان فيفر في مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي Annales d’histoire économique et sociale منذ تأسيسها عام 1929.
سعت هذه المدرسة إلى فتح آفاق جديدة أمام كتابة تاريخ اقتصادي-اجتماعي، يتجاوز المنهج التقليدي الذي يركّز على العوامل السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وعلى الوثائق الرسمية ذات الأفق الضيق. فبدلاً من التركيز على الفرد (مثل الحاكم أو القائد) باعتباره محرّك التاريخ، اهتمت الحوليات بدراسة الإنسان ككائن اجتماعي، وانفتحت على ميادين معرفية متعددة لفهم “المدى الطويل للتاريخ”.
قدم فرناند بروديل لاحقاً تصوراً للزمن التاريخي قسمه إلى ثلاثة مستويات متداخلة:
- الزمن الجغرافي le temps géographique زمن البنيات العميقة، وهو بطبيعته بطيء التغيّر، مثل تأثير التضاريس والمناخ في حياة البشر عبر قرون.
- الزمن الاجتماعي le temps social زمن التبدلات البنيوية في الاقتصاد والمجتمع، ويشمل الظرفيات التي تمتد لعقود أو قرون.
- الزمن الفردي أو الحدثي le temps individuel زمن الوقائع السريعة مثل الحروب، المعاهدات، وصعود أو سقوط الملوك.
أولت مدرسة الحوليات أهمية للذاكرة الجماعية والرواية الشفوية بوصفها مصادر لفهم التاريخ، خاصة حين تفتقر الفترات القديمة إلى وثائق مكتوبة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك أساطير هوميروس، كالإلياذة والأوذيسة، التي انتقلت شفوياً من جيل إلى جيل على مدى قرون قبل أن تُدوّن. ويُظهر ثبات هذه الروايات عبر الزمن مدى قدرة النقل الشفوي على الحفاظ على الدقة والاتساق في نقل الأحداث، ما يجعلها جديرة بالاهتمام في الدراسات التاريخية. مثال آخر شهير هو الرغفيدا، مجموعة من الأناشيد الهندية القديمة المؤلفة باللغة السنسكريتية. تم نقل هذه الأناشيد شفهياً عبر الأجيال قبل أن يتم تدوينها بشكل مكتوب. بالإضافة إلى ذلك، ثقافات السكان الأصليين حول العالم تحتوي على تقاليد شفهية تمتد لقرون، تحتفظ بالسجلات التاريخية، والأساطير، والقصص الثقافية. تلك السردية تظهر القدرة على الحفاظ على الدقة والمصداقية في الرواية الشفهية عبر فترات طويلة. أما في سياق الدراسات الكتابية، فإن حفظ بعض التقاليد داخل النصوص مثل سفر صموئيل، حيث يُفترض أن المواد القديمة قد دُمجت في تكوينات كتابية لاحقة، يشير إلى إمكانية النقل الشفوي وحفظ الذكريات التاريخية قبل أن تُدون. وهذا يُسلط الضوء على مدى مصداقية وثبات التقاليد الشفوية في الحفاظ على الأحداث التاريخية والسرد الثقافي عبر الأجيال.
-يقصد فنكلشتين بتعبير Amarna-like society أو “مجتمع عصر العمارنة”: النمط الاجتماعي السائد في الهضاب الوسطى لفلسطين خلال القرن الرابع عشر ق.م، والمتميّز بتجاور جماعات مستقرة، ومكوّن رعوي قوي، ووجود جماعات هامشية خارجة عن سلطة المركز.
-يُستخدم مصطلح عابيرو Apiru للإشارة إلى فئات منبوذة أو خارجة عن القانون، كانت تنشط في الألفية الثانية ق.م، وتعمل أحياناً كمرتزقة لصالح حكّام محليين. استُخدمت الإشارة إلى العابيرو من قبل بعض الباحثين، مثل نداف نَعَمان، لتسليط الضوء على طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة، ولتقديم صورة عن هشاشة البنى السياسية وظهور سلطة محلية غير رسمية تعتمد على القوة والولاء الشخصي، وليس على بنية مؤسسية مستقرة.
-تشير كلمةfavissa الواردة في الفصل الأول إلى حفرة أو خزان يُستخدم لتخزين الأوعية الطقسية والتماثيل وأدوات العبادة التي لم تعد قيد الاستخدام أو كانت جزءًا من الطقوس الدينية. تُعد هذه الحفر دليلاً ملموسًا على ممارسات تعبدية في ذلك العصر. عادةً ما تحتوي هذه الحفر على أواني فخارية وأدوات أخرى تتعلق بالعبادة والطقوس، مما يساعد العلماء على فهم الطقوس والديانات التي كانت سائدة في تلك الفترة. أصل الكلمة لاتيني، وتعني حرفياً “حفرة” أو “خزان”، ويمكن ترجمتها هنا إلى “حفرة مقدسة” أو “حفرة طقسية”.
-في الفصل الثاني، يفسر فنكلشتين نقش حملة شيشنق الأول مستخدماً كلمة boustrophedon، وهي كلمة يونانية βουστροφηδόν مركبة من βους bous بمعنى “ثور” و στροφή strophe بمعنى “دوران” أو “انعطاف”. تعبر هذه الكلمة عن طريقة كتابة تحاكي حركة الثور أثناء حرث الحقل، حيث تُكتب الأسطر بالتناوب بين اليمين واليسار. فيكتب السطر الأول من اليسار إلى اليمين، ثم يعكس الاتجاه في السطر التالي، وهكذا دواليك. كان هذا النمط شائعًا في الكتابات اليونانية القديمة وبعض النصوص القديمة الأخرى، لكنه غير مألوف في الكتابة الحديثة. يقترح فنكلشتين هذا النمط كأحد التفسيرات الممكنة لنقش شيشنق، دون تأكيد قاطع على صحته، إذ أن اتباع هذا الافتراض قد يساعد على فهم النص منطقيًا، لكنه لا يحل معضلة تفسيره بشكل كامل.
– الجرة مطوقة الحافة Collared-rim jarجرة تخزين نموذجية من العصر الحديدي الأول، تتميز بسلسلة تشبه الطوق حول عنقها.
– المنزل ذو الغرف الأربع Four-room houseنموذج معماري شائع في بلاد الشام في العصر الحديدي، يتألف من ثلاثة أقسام طولية: ساحة مفتوحة تحيط بها ممرات مسقوفة على الجانبين، وغرفة واسعة تقع في الخلف.
-التحقيب الزمني المنخفض Low Chronologyنظام تصحيحي لتأريخ طبقات العصر الحديدي، في بلاد الشام، يضع العصرين الحديدي الأول والثاني في مرحلة انتقالية خلال أواخر القرن العاشر ق.م، (بدلاً من تأريخ تقليدي سابق يستند إلى النصوص الكتابية، كالسنة 1000 أو 980 ق.م). كما يؤخر نهاية العصر الحديدي الثاني الدور A إلى أواخر القرن التاسع ق.م، بدلاً من سنة 925 ق.م حسب النظام التقليدي.
-الشاسو Shasu مصطلح يشير إلى جماعات رعوية تشبه البدو الرحل، عاشت في بلاد الشام خلال الألفية الثانية قبل الميلاد.
-أشرنا في نهاية الكتاب إلى ملحق غير متضمني في نسخة الكتاب الأصلية، بل هما من وضع المترجم. وهو عبارة عن مقالة موسعة لشيمون آميت Shimon Amit تعود للعام 2014، بعنوان Israel vs. Judah: The Socio-Political Aspects of Biblical Archaeology in Contemporary Israel. أي بعد عام تقريباً من صدور كتاب إسرائيل فنكلشتين. ومن هنا تأتي أهميتها في أنها تتناول بالنقد أطروحة فنكلشتين التي ضمنها في كتابه المقدم هنا “المملكة المنسية”؛ أي فرضية “التحقيب المنخفض”. كما يقدم الرأي الآخر المقابل لها أي “التحقيب العالي”، والصراع بين أتباع الفرضيتين حول مملكتي إسرائيل ويهودا، كما تعكسه المقالات والكتب والمحاضرات والعروض التقديمية والمقابلات والمناقشات المحتدمة في وسائل الإعلام.
ونرى أن هذه المقالة مهمة للغاية للقارىء العادي حتى يستطيع التعرف أكثر على طريقة تفكير إسرائيل فنكلشتين وخصومه من علماء الآثار الإسرائيليين، علاوة على أنه يمكن للقارىء المختص الاستفادة منها بشكل مستقل.
يناقش شيمون آميت الجوانب الاجتماعية والسياسية والبلاغية لخطاب علم الآثار الكتابي في إسرائيل المعاصرة. حيث يطرح آميت ما يراه باستحالة فصل البحوث والتأويلات النظرية عن الهُويات والتحيزات الاجتماعية والسياسية.
ويستعرض تطور علم الآثار الإسرائيلي منذ تسعينيات القرن الماضي، وظهور مدرسة جامعة تل أبيب التي تعنى بتطوير وترويج نموذج تاريخي جديد يستند على الكرونولوجيا المنخفضة للحقب التاريخية يتنكر لوجود مملكة متحدة تعود لعصر الملكين اليهوذيين داود وسليمان. وعلى الرغم من بعض النجاح الذي حققه هذا النموذج التحقيبي، إلا أنه ما انفك يواجه تحدياً من ممثلي التيار الأصولي المحافظ في الجامعة العبرية في القدس باعتبارهم يمثلون، بزعمهم، رموز حماية أو تحديث النموذج القديم للتحقيب “العالي”. ولعل المراكز الأكثر جدلاً اليوم تتمثل في موقع مدينة داود والمدينة القديمة التي تم التنقيب عنها في موقع خربة قيافا.
…..
- مع أواخر القرن التاسع عشر، بدأ علم الآثار، بصفته ميداناً معرفياً وأكاديمياً، يحفر بحثاً عن تاريخ فلسطين القديم، بإشراف بعثات غربية استندت، في الغالب، إلى خلفيات دينية مسيحية، هدفت إلى اختبار صدقية الروايات الكتابية من خلال التنقيب الميداني. غير أن هذا المسعى العلمي سرعان ما انحرف عن مساره الأولي مع مطلع القرن العشرين، حين تقاطع مع صعود المشروع الصهيوني، الذي سرعان ما أدرك ما يتيحه علم الآثار من إمكانات رمزية لتعزيز ادعاءاته التاريخية بخصوص “الحق اليهودي” في الأرض. وهكذا تحول الحقل الآثاري من ساحة للبحث إلى ساحة للصراع، ومن أداة استكشاف معرفي إلى وسيلة لإنتاج سردية تضفي الشرعية على مشروع استعماري استيطاني مازال قائماً حتى الساعة.
- ترى الباحثة الأنثروبولوجية ناديا أبو الحاج أن علم الآثار الإسرائيلي ليس مجرّد أداة معرفية تسعى لفهم الماضي، بل هو أحد المكونات المركزية في المشروع الصهيوني القومي الحديث، ويجري توظيفه لتثبيت سردية إيديولوجية تدّعي أصالة “الوجود اليهودي” في فلسطين. كما يعبر عن “مفارقة” أكاديمية واضحة بين الخطاب العلمي المفترض في علم الآثار، والممارسات السياسية التي توجهه وتؤطره داخل منظومة استيطانية استعمارية، بوصفه مشروعاً مادياً يُبنى بالحفر، ويُفرض بالرواية، ويُسوّق كحقيقة تاريخية، في حين أنه في جوهره أداة سياسية لصناعة هوية استيطانية على أرض مأهولة بالآخر.
وتقدم أبو الحاج طرح نقدي بالغ الأهمية في كتابها: “حقائق على الأرض: الممارسة الأثرية وإعادة تشكيل الذات القومية في المجتمع الإسرائيلي” (2001) Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society، تتناول فيه بالتفصيل العلاقة الوثيقة بين علم الآثار والسياسات القومية الإسرائيلية، بالتركيز على أثر “التسييس الأكاديمي” في تشكيل المعرفة الأثرية وتوظيفها ضمن السياق الصهيوني. كما تكشف عدم الحيادية أو “العلمية” التامة للتنقيبات الأثرية في فلسطين، بل كانت –وما تزال– موجَّهة سياسياً لتعزيز الرواية الكتابية حول تاريخ فلسطين القديم، عبر ممارسات تأويلية متحيّزة في تفسير اللقى والنقوش، فتعمل على إهمال أو إقصاء الأدلة التي، ربما، تناقض هذه الرواية. وبدل من اعتبار اللقى المادية مدخلاً نقدياً لقراءة الماضي، استخدمت كمادة أولية تُعاد صياغتها لخدمة الحاضر السياسي الإسرائيلي، بإبراز ما هو افتراضي أو رمزي على أنه “حقيقة علمية”، وتحويل ما هو قابل للتأويل إلى “دليل دامغ”.
لا تكتفِ أبو الحاج بتحليل الحفريات أو تفسير نتائجها، بل تغوص في البنية السياسية والمعرفية التي شكّلت التخصص الأكاديمي الآثاري الإسرائيلي منذ بداياته، خاصة بعد العام 1967، حيث صار التنقيب في الأرض الفلسطينية فعلاً سياسياً بامتياز، يخدم إنتاج “حقائق” تدعم شرعية المشروع الصهيوني. وتشدد، في هذا السياق، على أن علم الآثار في إسرائيل لا يقتصر على بناء المعرفة بالتاريخ القديم، بل ينخرط فعلياً في “صناعة” أسطورة قومية حديثة، تُعيد إنتاج الماضي بوصفه ماضياً يهودياً خالصاً، فتُقصي منه العناصر الثقافية الأخرى، العربية أو الكنعانية أو الإسلامية. وبالتالي، لا يُقرأ الأثر كبقايا مادية فقط، بل كأداة لبناء وطن حديث، وتبرير الحاضر الاستيطاني عبر الماضي “المصنوع”.
ويعكس هذا الاستخدام الانتقائي للأدلة الأثرية حاجة الدولة إلى بناء شرعية رمزية، تبرّر بها سياساتها الاستيطانية المعاصرة، وتُروّج لحق تاريخي مزعوم يتجاوز حدود العلم ويدخل في مجال العقيدة السياسية.
تتقاطع أفكار ناديا أبو الحاج، مع أطروحات عدد من المؤرخين والباحثين النقديين الذين يبدون اعتراضات جمّة على طريقة استخدام نصوص العهد القديم كمراجع تاريخية موثوقة في دراسة تاريخ فلسطين القديمة. وتلفت النظر إلى أن المزاعم بوجود “مملكة موحدة” حكمها داوود وسليمان، مثلاً، لا تحظى بدعم أثري حاسم، بل تُبنى على افتراضات نصية لا تقابلها لقى مادية كافية.
من هنا، يصبح علم الآثار، في السياق الإسرائيلي، أداة لإنتاج “حقائق على الأرض”، لا لتفسير الوقائع، بل لإعادة صياغتها وفق ما تقتضيه الحاجة السياسية.
- يحضرني هنا شريط فيديو للإسرائيلي إيتمار يوباني بعنوان “القبة أو السرادق” في معرض “العبرانيون الجدد: قرن من الفن في إسرائيل The New Hebrews. A Century of Art in Israel “. في ألمانيا في العام 2005. عُرض الفيلم على جدار واسع من درج الصعود إلى المعرض. وتم تصويره من طائرة هليكوبتر. ترتحل الصورة على طول التلال والكهوف والأودية ضمن مشهد مكاني صحراوي، وتنقضُّ الكاميرا على “قلعة مصعدة” أو مسّادة التي تقع أعلى الجبل، بجانب مباني دير مار سابا، إلى جانب مواقع أثرية وبقايا مساكن الإنسان القديم. لافت هنا غياب الوجود البشري في هذه المشاهد، ما يعكس بعداً رمزياً من القطع مع الحاضر الفلسطيني. كما لو أن الأرض تُعرض بوصفها فضاءً تاريخياً محايداً ، مما يسهل إعادة إنتاج الأرض كفضاء “فارغ” بلا سكان، وهو التصور الذي يشكل جزءً من المشروع الصهيوني الذي يغيب الفلسطينيين عن حسابات المكان والتاريخ.
ويبدأ التصوير الأرضي من كنيس يشبه القبة يقع أسفل القلعة، مما يعزز الرمز الديني والوطني في العمل. حيث تلعب قلعة مسعدة دوراً محورياً في تشكيل “الأساطير المؤسسة لإسرائيل”، بتحولها إلى رمز وطني متكرر في الأدب والتعليم، فضلاً عن أنشطة “الحجيج” والسياحة، وموقع مقدس وطقس قومي يعبر عن “إحياء الأمة” من خلال استحضار ماضٍ يهودي “مصنوع”، يهمش التراث الثقافي المحلي.. ويُنظر إليها كحدث رمزي يعكس إحياء الأمة اليهودية في كهوف يهوذا، وأصبح طقس تنصيب الجنود في مسعدة منذ العام 1969 تعبيراً حيوياً عن انتماء بدئي للتاريخ القديم، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصياغة الهوية القومية الإسرائيلية. ولا يقتصر ها التمثيل على الفن وحده، بل يشكل امتداداً مباشراً لممارسات علم الآثار الإسرائيلي التي لا تكتفي بجمع الأدلة، بل تعيد صياغتها لتناسب الأهداف السياسية، فتصبح أدوات لصنع “حقائق على الأرض” تدعم شرعية الاستيطان والسيطرة. في تشابك واضح بين الفن والآثار والسلطة لتحويل المعرفة التاريخية إلى أداة سياسية تخدم بناء هوية قومية متجانسة، تستبعد الآخر (الفلسطيني) وتقصيه من ذاكرة الأرض، فيتحول الماضي إلى سردية إيديولوجية لا تقبل التشكيك، تشرعن وجودها بتحوير التاريخ والإرث الثقافي.
جاء في كتالوغ المعرض أنه يستعرض “قصة تاريخ الثقافة الإسرائيلية الحديثة منذ نشأتها قبل نحو قرن، من خلال أعمال فنية متنوعة تعكس الرؤى المختلفة لهُوية ثقافية جديدة نشأت ضمن تقاليد الشتات اليهودي، لكنها لا تتطابق معه تماماً رغم ارتباطها بالماضي اليهودي البعيد”. وضم المعرض أعمالاً فنيةً عكست التعبيرات الفنية المتنوعة والتأثيرات داخل المجتمع الإسرائيلي من خلال 242 صورة توضيحية، أدار المعرض دوريت لوفيت هارتن، مؤرخة فن مقيمة في برلين، بالتعاون مع ييغال زلمونا، مؤرخ فن وناقد وأمين متحف إسرائيل في القدس، بهدف تعريف الجمهور الألماني بالثقافة العبرية التي نمت في إسرائيل بوصفها “دولة علمانية جديدة”،[لكن] جذورها تنغرس عميقاً في حركة أوروبية تعود إلى قرن مضى. أثارت حساسية الموضوع حرص إدارة المهرجان وصالة مارتن غروبيوس باو Martin-Gropius-Bau على حضور شخصية من المؤسسة الفنية الإسرائيلية للمزيد انظر. https://www.imj.org.il/en/exhibitions/new-hebrews-century-art-israel . ويرتبط هذا الفن “الوطني” الجديد بنسق معرفي وسياسي أوسع، يختزل الماضي ويعيد تشكيله بما يتوافق مع الحاجات الراهنة للدولة الإسرائيلية، متجاهلاً أو محوّلاً كل ما يتعارض مع هذه الرواية إلى “آخر مغاير”. لذلك، يُصبح الفن جزءاً من الممارسة السياسية، يشارك في إنتاج رؤية مؤسسية عن التاريخ والهوية، تبرر استمرار الاستعمار والاحتلال. وهكذا تتقاطع وظيفته مع التحليل الذي قدمته ناديا أبو الحاج حول دور علم الآثار في بناء السردية القومية الإسرائيلية ( انظر الهامش أعلاه).
- انظر، Thompson, T. L. 1987: The Origin Tradition of Ancient Israel. Journal for the Study of the Old Testament. Supplement Series 55. Sheffield Academic Press, Sheffield
- يشير إلى ذلك في سياق حديثه عن مناطق معينة في موقع التنقيب في تل الفارعة، فبدلاً Bottom of Form
من العثور على بقايا واضحة، لم يتم العثور على أي آثار تشير إلى وجود نشاط أو استيطان خلال هذه المدة في بعض الحقول التي تم التنقيب فيها). ويفهم من مصطلح الأدلة السلبية غياب الدليل أو الطبقات الأثرية المتوقعة في هذه المناطق التي كانت تتوقع الفرق الأثرية العثور على آثار فيها. هذا الغياب يُعتبر دليلاً بحد ذاته، إذ يمكن أن يشير إلى أن التوطن خلال هذه المدة كان محدوداً في نطاق جغرافي ضيق من الموقع، أو أن الموقع كان صغيراً ومأهولاً بشكل متفرق بحيث لم يترك آثاراً كافية في المناطق التي تم التنقيب فيها.
- التاريخ التثنويDeuteronomistic History سرد تاريخي لاهوتي ضمن مجموعة نصوص تاريخية تشمل أسفار يشوع، القضاة، صموئيل، والملوك، وتُظهر وحدة فكرية كُتبت، أو حُرّرت في تأثير التقاليد التثنوية، أي الأفكار الدينية والتاريخية التي تنعكس في سفر التثنية (Deuteronomy).. ويقسَّم هذا التاريخ إلى طبقتين:
-Dtr 1 ويضم تقاليد ونصوصاً قديمةً تشكل نواة الرواية التثنوية.
-Dtr 2 ويضم إضافات لاحقة تعيد تأويل الرواية الأصلية.
ظهرت نظرية التاريخ التثنوي مع الباحث الألماني مارتن نوث في أربعينيات القرن العشرين، حين اقترح أن هذه الأسفار كُتبت أو نُقّحت كمجموعة واحدة من قبل مؤلف تثنوي أو مدرسة تثنوية خلال السبي البابلي (القرن السادس ق.م). وتهدف إلى تفسير سقوط مملكتي إسرءيل ويهوذا نتيجة مباشرة لعصيان بني إسرءيل وصايا الرب. وينظر التاريخ التثنوي إلى الأحداث التاريخية من منظور لاهوتي، فتكون نجاحات وإخفاقات الملوك وانهيار الممالك وفقاً للطاعة أو العصيان للرب وأوامره. كما يركز على مركزية وأهمية “معبد أورشليم” المكان الشرعي الوحيد للعبادة. إلى جانب التوحيد وإدانة العبادة الوثنية ورفض العبادات التي كانت تُمارس في المملكة الشمالية. ويتركز محور التاريخ التثنوي على دورة الخطيئة والعقاب، إذ يعتقد مؤلف هذا التاريخ بوجود نمط متكرر من الانحراف عن الدين: خطيئة، غضب إلهي، عقاب، توبة، خلاص، ثم خطيئة من جديد وهكذا دواليك. ونظراً لأن هذا التاريخ كُتب أو جُمع من وجهة نظر يهوذية بعد سقوط المملكة الشمالية، فقد تم تجاهل المملكة الشمالية أو جرى تصويرها بشكل سلبي، باعتبارها مملكة منشقة مارست العبادة في أماكن غير شرعية (مثل بيتئيل)، وانحرفت عن الدين الصحيح.
في الواقع التاريخ التثنوي ليس مجرد رواية تاريخية، بل هو إعادة تفسير سياسية ودينية للتاريخ من وجهة نظر كُتّاب يهوذيين، وبالتالي فهو يؤثر على كيفية فهمنا للأحداث الحقيقية التي وقعت في العصر الحديدي. حسب مجريات أحداث النص الكتابي
- 1111يتردد صدى أفكار ومشاعر دوفو عند ويليام أولبرايت، عميد علم الآثار الكتابي، الذي يصر على أن “صورة الأحداث في سفر التكوين هي صورة تاريخية بشكل عام، وليس هناك أي سبب يدعو للشك، عموماً، في صحة تفاصيل السيرة الذاتية التاريخية”. ومن الواضح أنه من غير الممكن قراءة مرويات “الآباء والخروج والغزو” التي تصف التاريخ التكويني لـ “شعب إسرءيل” باعتبارها، أي المرويات، وصفاً تاريخياً مباشراً وسرداً تسلسلياً من الأقدم للأحدث، إنما يجب فهمها من منظور الحقبة التي دوّنت فيها. ويجادل كل من جون فان سيترس، وتوماس طومسون، بأن اختيار وترتيب القصص يعبر عن رسالة واضحة من قبل محرري الكتاب أثناء جمعه، أكثر من كونه يحفظ وصفاً تاريخياً موثوقاً للأزمنة المبكرة، حتى لو كانت النصوص المتأخرة تحتوي على بعض التقاليد المبكرة. ومن المحتمل أن العديد من هذه القصص تحفظ ذكريات قديمة، وحكايات فلكلورية، وأساطير وحكايات سببية. وتبدو هذه المرويات كأنها إطار جامع للقصص الكتابية التي تصف ظهور المملكة الداوودية والسليمانية (سرديات الآباء والخروج، التي اندمجت بسرديات السبي وما بعده). علاوة على ذلك، تفضح الطريقة التي تم فيها تجميع هذه السرديات هدفها في خدمة الأهداف الإيديولوجية لمؤلفيها في العصر الحديدي الثاني المتأخر. ولعل هذا ما دفع الآثارية الألمانية هيلغا زيدن إلى القول: “في كل مرة نتحدث فيها عن فلسطين يرفعون في وجهنا “توراتهم”.. إن علم الآثار “التوراتي” سبّب الكثير من الدمار والضرر في دراسة تاريخ المنطقة العربية، وكل “إسرائيل” قائمة على “التوراة”، ويكررون دون ملل أنهم جاؤوا إلى فلسطين لأن “التوراة” قالت ذلك، وهذا غير ممكن ولا يمكن القيام بذلك تحت أية ذريعة أو توهم”.
- انظر، Glock, A. 1995 Cultural Bias in the Archaeology of Palestine. Journal of Palestine Studies, 24(2): pp.55. فهم غلوك، وهو على حق، أن المضامين السياسية لعلم الآثار؛ لاسيما نزعته القومية، تشكّل عواقب خطيرة من شأنها تحطيم بنيانه كتخصص يراد له ومنه تأويل الماضي. وتكاد تنحصر التحيزات المعرفية هذه في معالجة الصلات التي تربط آلية عمل البحوث الأثرية ومناهج البرامج السياسية والدينية المتمركزة إثنياً. ولعل ما يحدث في فلسطين هو أكبر مثالاً على معنى هذا الاضطراب الديني\القومي بشكله السياسي، والذي يتم التعبير عنه من خلال النقاشات المتكررة بشأن الأثر القوي للبحوث الأثرية.
وكان لغياب علم آثار “إسلامي” موازٍ لعلم الآثار الكتابي دور في تشكيل أحد المداخل المهمة لهيمنة رؤية واحدة على آثاريات المنطقة. ونظراً لعدم وجود بحوث آثارية تحاول إثبات التفسيرات الحرفية للقرآن، فإن المقاربات الآثارية التي قدمها غلوك (كما هو مبين في مقالته المشار إليها أعلاه) طوال مدة إقامته في فلسطين، وحتى لحظة اغتياله، تسعى لتلبية مثل هذه الاحتياجات؛ وعلى وجه الخصوص لمجتمع الفلاحين الفلسطينيين المهمشين. ورغم ذلك؛ تستنسخ تجربة الدكتور غلوك -في تعاطيه مع المآزق الفكرية لعلم الآثار الكتابي- تقاليده المعرفية من مفاهيم عنصرية تتمثل في الاستبعاد والتحيز وتدمير الطبقات الإثنية الآثارية غير المرغوب فيه كانت بلا شك تجربة محكوم عليها بالفشل.
شكل اغتيال الدكتور ألبرت غلوك، المفجع، صدمة لكل دعاة التوجه العقلاني لجعل تاريخ فلسطين الآثاري تاريخاً مستقلاً عن الهيمنة الكتابية والمفاهيم التوراتية السائدة. كما عبّر -اغتياله بتلك الصورة الفظة والسهلة بآن معاً- عن عدم تحلّيه بالحنكة السياسية وافتقاره للوصول للمعنى الحقيقي الكامن في فعالية البحوث الأثرية والمخاطر الناجمة عنها.
- يصف النص الكتابي كيف استولى الملك داود على حصن صهيون الصغير حيث كان يقيم اليبوسيين وحوّله إلى عاصمة دولته وهي المكانة التي ظل فيها هذا الحصن محتفظاً بها طيلة زمن المملكة المتحدة الكتابية، أي القرن العاشر ق.م تقريباً، وبعد وفاته ارتقى سليمان “ابنه وخليفته” إلى العرش، فبنى، والكلام على ذمة العهد القديم، عدة قصور ومعبد فخم، ويستمر النص في وصف المدينة بالقول إنها كانت جميلة وعاصمة إمبراطورية عظيمة وغنية جعلت ملكة مثل بلقيس تحبس أنفاسها عند زيارتها ومشاهدة غنى وثراء سليمان..
ولكن ماذا تقول اللقى الآثارية؟ في الواقع، لم يعثر في المدينة الحالية، القدس، أورشليم المفترضة، على أي من المباني الموصوفة، فلا قصور ولا هيكل ولا بيت مستدير كما يذكر محرر سفر صموئيل الثاني في الإصحاح الخامس: ” 9 وَأَقَامَ دَاوُدُ فِي الْحِصْنِ وَسَمَّاهُ «مَدِينَةَ دَاوُدَ». وَبَنَى دَاوُدُ مُسْتَدِيرًا مِنَ الْقَلْعَةِ فَدَاخِلًا”. على الرغم من إعلان بعض علماء الآثار بين حين وآخر العثور على بعض المباني، ثم يضيفون أن هذا لا يعني عدم وجود مدينة قديمة، فربما اختفى كل شيء وتآكل، وربما هي في مكان آخر غير المكان الذي يبحثون فيه دعنها. وفي الحقيقة؛ قد لا نجد مدينة العهد القديم الفخمة التي تعود للقرن العاشر ق.م، وذلك لأنها ببساطة لم تكن موجودة قط. أو ربما كانت مدينة أكثر تواضعاً بكثير مما يصفه النص، فما عثر عليه من لقى تعود لتلك الحقبة هي عبارة عن مبانٍ عامة وتحصينات فقط. كانت القدس مجرد بلدة صغيرة، ربما لا تزيد مساحتها عن 12 هكتاراً، ولم يكن يسكنها أكثر من 2000 نسمة فقط، ناهيك عن “تاريخية” و”صحة” اسمها المفترض “أورشليم” الذي هو بحث آخر بحد ذاته. للمزيد انظر، Margreet L. Steiner 2009 The “Palace of David” Reconsidered in the Light of Earlier Excavations,2009. http://www.bibleinterp.com/articles/palace_2468.shtml
- للمزبد انظر، Thompson (1974), 57; ”A Testimony of the Good King: Reading the Mesha Stele”, Ahab Agonistes: The Rise and Fall of the Omri Dynasty, ed. Lester L. Grabbe (London: T&T Clark 2007), 236-292; Biblical Narrative and Palestine’s History: Changing Perspectives 2 (Sheffield: Equinox 2013).
- يشير مصطلح الأدلة الظرفية، في العلوم الإنسانية، مثل علم الآثار، إلى المعلومات التي توفر إشارات أو دلائل على شيء لم يُكتشف بشكل مباشر، ولكن يمكن استنتاجه بناءً على ما هو موجود أو من خلال تحليل سياق معين. ويستفيد فنكلشتين من هذا المعنى أثناء حديثه عن الأدلة الظرفية المتعلقة بتقويم طبيعة موقع شِيِلُوة بناءً على المعلومات المتاحة حول المواقع المحيطة، أنماط البناء، والتحليلات التاريخية، عوضاً عن وجود دليل مباشر مثل هيكل معبد واضح أو نقوش توضح الاستخدام الطقسي للموقع… وما إلى ذلك.
- يقول فنكلشتين حول الفصل بين البحث والتقاليد والمعتقد أي الإيمان: “أنا مؤمن بدرجة كبيرة في الفصل التام بين التقاليد والبحوث، وأحتفظ -شخصياً- ببقعة دافئة في قلبي للكتاب [المقدس] وقصصه الرائعة. ولا تستمع ابنتاي؛ اللتان تبلغان الحادية عشرة والسابعة من عمرهما، خلال عيد الفصح Pesach seder أي كلمة عن عدم وجود خروج من مصر، وعندما يصلان إلى سن الخامسة والعشرين سنقول لهما قصة مختلفة. الاعتقاد والتقاليد والبحوث هي ثلاثة خطوط متوازية يمكنها أن تتواجد في وقت واحد. ولا أرى في ذلك تناقض فادح”. يؤمن فنكلشتين أن قصة الملك داود المذكورة في نصوص العهد القديم، على سبيل المثال، تمثل بالنسبة لليهود “معنى السيادة الإقليمية على الأرض، مثلما تمثل أسطورة الإمبراطورية بالنسبة للمسيحين، فضلاً أن داود بالنسبة للمسلمين نبي صالح جاء قبل محمد ويرتبط ارتباط مباشر بيسوع والمسيحية، وبالتالي فقصة هذا الملك العبراني ليست هي الأهم في الكتاب المقدس فحسب، بل هي الأهم في “ثقافتنا”. للمزيد انظر، الملحق (1) وكذلك Lori, Aviva (2005) ‘The Greatest Spin in History’، Haaretz.co.il (26 February). English version [‘Grounds for Disbelief’] available at http://www.haaretz.com/grounds-for-disbelief-1.10757
- للمزبد انظر Thompson (1974) مرجع سابق، الهامش “10”
- انظر على سبيل المثال، Israel Finkelstein and Eli Piasetzky, “The Iron I/IIA Transition in the Levant: A Reply to Mazar and Bronk Ramsey and a New Perspective,” Radiocarbon 52:4 (2010): 1678–79.
- يوجد عنصر الكربون في المواد العضوية فقط، سواء كانت حية أو ميتة. والكربون 14 هو نوع من الكربون المشع غير المستقر، ونسبته ثابتة في الجو تقريباً (مقابل 98.89% من الكربون 12 و1.108% من الكربون 13) وهو ينتج من اصطدام الجسيمات الكونية بنوى ذرات الكربون 12 الموجود في طبقة الستراتوسفير المنخفضة. وهذه القذائف متوافرة باستمرار وتأتي من أعماق الكون. وتحتوي المادة العضوية (أثناء حياتها) على أنواع الكربون الثلاثة.
يقدر نصف العمر المتبقي من الكربون 14 المشع 5568 سنة. فإذا علمنا أن النبات يعمل ،طالما هو حي، على امتصاص الكربون من الهواء، حيث تكون نسبة الكربون المشع فيه 1,9 %، فإن كميته تبدأ في التناقص بعد موت النبات، بينما تبقى كمية الكربون العادي ثابتة. ومع مرور الوقت تتغير نسبة الكربون المشع C14 إلى الكربون العادي C12 بسبب انخفاض كمية الأول وثبات الثاني. ويمثل هذا التغير مفتاح معرفة عمر القطعة الأثرية ذات الأصل العضوي.. وهذا الأصل العضوي هو الشرط الأساسي لتحديد عمرها؛ مما يعني وجود نوعي الكربون المذكورين؛ وحيث إننا نعرف أن الكربون المشع بعد 5568 سنة يفقد نصف كميته. فيمكن بعد تحليل المادة العضوية في القطعة الأثرية التوصل إلى معرفة نسبة الكربون المشع إلى العادي. ومن هذه النسبة ومعرفة نصف العمر نتوصل إلى معرفة عمر القطعة، على افتراض أن المادة العضوية عليها قد ماتت حين صنعت. وبدأ الكربون المشع بالتناقص.
- وضع يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918م) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ما يعرف بالفرضية الوثائقية في مؤلفه المعروف “المقدمة النقدية لتاريخ إسرءيل القديمة” Prolegomena to the history of Israel” 1878التي تنص على أن بنيان الأسفار الموسوية (التناخ أو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم) يتكون من أربعة مصادر مختلفة تعود لعصور مختلفة. وكان يرى في اليهودية -كدين خلقته المؤسسة الكهنوتية في زمن الهيكل الثاني- منظومة عقائدية مؤلفة من وصايا وطقوس، وهي، برأيه، مرحلة متدنية من دين “الإسرءيليين القدماء واليهوذيين والملكية (الدولة)”.
يرفض فلهاوزن المزاعم التي تقول بوجود مؤلف واحد للأسفار الموسوية.
تصنف فرضية فلهاوزن الوثائقية ضمن ما يعرف بمنهج “النقد النصي العالي”. ويقسم فيه فلهاوزن “مادة” الأسفار الموسوية إلى أربعة مصادر مختلفة:
-المصدر اليهووي Yahwistic (J ) ويعتبر فلهاوزن أن محرره redactor عاش في يهوذا بين 850-950 ق.م، وكان يهدف من عمله تمجيد الملك داود ورفع مكانة أورشليم ومركزيتها، وأطلق عليه تعبير “يهووي” لأن نصوصه تظهر الإله “يهوه” وهو يتكلم مباشرة مع عباده.
-المصدر الإيلوهيمي Elohistic (E) حرر في السامرة بين 750-850 ق.م. لا يركز على مركزية معبد أورشليم، ويظهر هنا إشارات متعددة لإيلوهيم بعلاقة غير مباشرة مع عباده إما بالرؤيا أو الملائكة، مثل استجابته لإيليا حين بعث إليه نار من السماء.
-المصدر التثنوي Deuteronomy (D) محرر هذا النص عاش في عصر الملك يوشيا (623 ق.م)، وسمي بالتثنوي للتشابه بين مصطلحات يوشيا، كما يضيف فلهاوزن إلى هذا المصدر أسفار يشوع والقضاة وصموئيل.
-المصدر الكهنوتي Priestly (P) يرى فلهاوزن أن حزقيال النبي (450-500 ق.م)، الذي يعود بنسبه إلى هارون، هو محرر هذا المصدر أثناء السبي.
ويرى فلهاوزن أن هذه المصادر دمجت على يد عزرا الكاتب حوالي 400 ق.م لتظهر لنا الأسفار بشكلها الذي نعرفه اليوم، وأن شكل وتطور المصادر الأدبية للنص الكتابي ارتبط منذ البداية بالتطور الديني الإسرءيليين من دين بسيط ومتغير وطبيعي إلى دين رسمي وكهنوتي مستقر. للمزيد انظر، Wellhausen, Julius (2013 [1878]) Prolegomena to the History of Ancient Israel (New York: Cambridge University Press)
- انظر الإصحاح 11 من سفر الملوك الأول الذي يشير أيضاً إلى بناء سليمان مذبحاً لكمّوش إله مؤاب شرقي أورشليم: “33 لأَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَسَجَدُوا لِعَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَلِكَمُوشَ إِلهِ الْمُوآبِيِّينَ، وَلِمَلْكُومَ إِلهِ بَنِي عَمُّونَ، وَلَمْ يَسْلُكُوا فِي طُرُقِي لِيَعْمَلُوا الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيَّ وَفَرَائِضِي وَأَحْكَامِي كَدَاوُدَ أَبِيهِ.34 وَلاَ آخُذُ كُلَّ الْمَمْلَكَةِ مِنْ يَدِهِ، بَلْ أُصَيِّرُهُ رَئِيسًا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ لأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ الَّذِي حَفِظَ وَصَايَايَ وَفَرَائِضِي.”)
- 18. للمزيد انظر، https://www.academia.edu/18994343/The_key_role_of_Biblical_Archaeology_in_Exegesis_An_Interview_with_Professor_Israel_Finkelstein
- 19. المرجع السابق وكذلك ، http://individual.utoronto.ca/mfkolarcik/jesuit/finkelstein.html