استهلال
في العام الماضي، حين اكتشف الأطباء إصابته بالسرطان، قال ببساطة: “من الواضح أنني سأموت… يستحقّ المحارب أن يستريح.” وهذا ما كان، فقد رحل يوم أمس في أوروغواي، في قلب أميركا اللاتينية، الرئيس السابق خوسيه “بيبي” موخيكا (1935–2025)، أحد أنبل من عبروا ساحة السياسة، وأكثرهم وفاءً للفقراء والحرية والكرامة الإنسانية. رجل اختصر في سيرته تاريخ مقاومة، وتجربة سياسية نادرة، ووصية أخلاقية مفتوحة لكل من يريد بناء وطن دون أن يخسر روحه.
لم يكن موخيكا مجرد سياسي، بل كان ابن تجربة ثورية صلبة، تشكّلت في شوارع الأوروغواي وسجونها. انتمى منذ شبابه إلى حركة “التوباماروس” الثورية، التي خاضت حرب عصابات المدن ضد الحكم العسكري في الستينيات والسبعينيات، واستلهمت الكفاح من قلب الواقع الأمريكي اللاتيني المحلي، وليس من واقع “مستورد”. ودفع، مقابل ذلك، ثمناً باهظاً، إذ اعتقلته الديكتاتورية العسكرية، وسجنه لأكثر من عشر سنوات، معظمها في الحبس الانفرادي. لكنّه خرج من ظلمات السجن وهو أكثر هدوءً وأشد إيماناً بقيمة النضال الطويل*.
في ثمانينيات القرن الماضي، ومع عودة الأوروغواي إلى الديمقراطية، ساهم موخيكا مع رفاقه في تحويل “التوباماروس” من حركة مسلّحة إلى مشروع سياسي مدني، وكان من مؤسسي “حركة المشاركة الشعبية”(MPP)، وتحول إلى أحد أبرز وجوه اليسار في البلاد. بحضوره القريب من الناس، وبصوته الصادق، عمّق قاعدة الحركة الشعبية، ووسع حظوظها في الوصول إلى الحكم. وحين فاز مرشح اليسار تاباري فاسكيز برئاسة الجمهورية في العام 2005، اختار موخيكا وزيراً للثروة الحيوانية ومصائد الأسماك.
لم تغير السلطة نمط حياته. وبقي يسكن في بيته الريفي المتواضع، ويقود سيارته القديمة، ويعيش على جزء ضئيل من راتبه. لم يحوّل السلطة إلى وسيلة للثراء، بل إلى فرصة للتخفيف من معاناة الناس. وحين سئل عن ثروته، أشار إلى سيارته الفولكسفاغن التي اشتراها بـ1800 دولار، وكلبه الأعرج الذي يعيش معه في البيت نفسه، وقال مرة إنه مستعد لبيع السيارة بمليون دولار، فقط ليبني بها مأوى للفقراء.
أحبّه الناس. ليس لأنه “أفقر رئيس في العالم”، بل لأنه كان أصدقهم. كما أحبّته شعوب أميركا اللاتينية، وكل من آمن بأن الأخلاق يمكن أن تكون جزءً من السياسة، لا نقيضاً لها.
خوسيه موخيكا لم يكن زعيماً سياسياً فحسب، بل صفحة مضيئة من تاريخ النضال اليساري في أمريكا اللاتينية، يسار لم يعش في الكتب، بل نما وسط الناس، في الريف والمدينة، في الحقول والمصانع، في السجون والمنافي. يسار اختبر الهزائم والانتصارات، واستمر لأنه لا ينفصل عن كرامة البشر العاديين، عن وجوههم المتعبة وأحلامهم الصغيرة.
في عهده، (آذار 2011)، اعترفت الأوروغواي بدولة فلسطين المستقلة ذات السيادة، في موقف جريء وعلني. لم يكن موقفاً بروتوكولياً، بل كان امتداداً لموقف رجل وقف دائماً إلى جانب المظلومين.
رحل موخيكا اليوم، لكنّ قصته، في زمن تعب فيه العالم من الزيف، ستظلّ واحدة من أنقى ما كُتب في سجلّ الكرامة الإنسانية
تحوّل كارولينا دي روبرتيس سيرة موخيكا إلى ما يشبه تجربة تأملية في هشاشة المبادئ، وفي الثمن الباهظ الذي قد يدفعه الإنسان حين يحاول أن يكون صالحاً في عالم لا يكافئ الصلاح. لكنها لا تكتب سيرة ذاتية، بل رواية تستند إلى الواقع دون أن تتقيد به، وتستغل طاقاتها السردية لتفتح أسئلة كبرى عن السياسة، والخير، والاعتراف بالخطأ. الرئيس في الرواية، وهو بلا اسم، يتحدث إلى ضفدع في حديقة منزله الريفي. لكن هذا الحوار الهزلي الظاهري يتحوّل إلى مرآة داخلية لانكساراته، ولاستعادة ماضيه الثوري زمن حركة التوباماروس. بدلاً من تمجيد البطولة، تختار دي روبرتيس تفكيكها، وتُظهر بطلاً كثير التبرير، عنيداً، مشوشاً، وأحياناً كارهاً لذاته. هذه الملامح لا تضعفه في عين القارئ، بل تُقرّبه إليه.
من الناحية البنائية للرواية، يعمل السرد على تفكيك فكرة “الطيب” الثابت، الصلب، الذي لا يخطئ. فالبطل، في شيخوخته، لا يتباهى بتاريخه، بل يُعيد النظر فيه، ويقول: “لم نكن مستعدّين.” الاعتراف هنا ليس ضعفاً، بل لحظة صدق نادرة في الخطاب الثوري المعتاد، لكنه يصر على مواصلة الإيمان، إنما دون يقين، كل هذا بلغة سردية تبدو متقشفة أحيانًا، وغنائية متوهجة أحيانًا أخرى. ففي مقابلة مع صحيفة Buenos Aires Times، يقول موخيكا: “لقد قدمنا تضحيات عديدة وارتكبنا أخطاءً كثيرة، لكننا كنا مقتنعين بأن الأوروغواي كانت تنجرف نحو الديكتاتورية… لكننا فشلنا لأسباب متعددة . انظر، https://www.batimes.com.ar/news/latin-america/jose-pepe-mujica-its-one-thing-to-be-passionate-and-convinced-of-what-youre-defending-and-another-thing-to-fall-into-fanaticism.phtml?utm_source=chatgpt.com
ومن ناحية “الحكاية” لا تسعى الرواية إلى صناعة أيقونة، أو تمجيد البطل الثوري أو تثبيت صورته بصيغة نهائية، بل تنخرط في ما يشبه محاكمة أخلاقية داخلية، في أعماق الذات الثائرة، بعد أن خمد صوت البنادق. لا نرى في الرواية البطولة بصورتها النقية أو النبيلة، بل على العكس، هي ترفض ذلك بشكل صريح. حتى أن البطل نفسه يعترف، وقد تقدّم في العمر، أنه كان يحلم، لكنه لم يعد أحداً بحلم نقي، صحيح كان يحلم بالتغيير ولكنه أبداً لم يكن يحلم بالكمال، فلا مكان الآن للأنبياء في هذا العالم، بل لمن يعمل مجتهداً ثم يخطىء ثم يحاول مجدداًَ ثم يتعثر، ثم يحاول، وهكذا دواليك.
فالخير ليس نقاءً ولا طهارة، بل فعل مستمر، وتعلّم دائم، وتحمّل للخطأ، ومثابرة على الإصلاح. وهذا ربما هو جوهر الرواية. (عبر موخيكا عن ندمه، في مقابلة مع صحيفة La Nación الأرجنتينية في العام 2009، : “بسبب الكفاح المسلح، حُكم على شعب الأوروغواي بالعيش تحت ديكتاتورية عسكرية دامت 16 عاماً، ولم نتمكن من إزاحتهم. لقد فشلت كمقاتل .” انظر، https://en.mercopress.com/2009/09/15/mujica-repentant-for-condemning-uruguay-to-endure-military-dictatorship?utm_source=chatgpt.com)، ورغم أن الرواية لا تشرح جذور الثورة الاجتماعية بالتفصيل، لكنها تنجح في إثارة الأسئلة الأصعب: هل يمكن للشخص أن يكون محقاً من الناحية السياسية ومخطئاً من الناحية الإنسانية؟
هل يمكن؟
هل يمكن أن تخدم فكرة عظيمة وتفشل في رؤية الآخر؟ هل يمكن للتاريخ أن يغفر، إن كنت مستعدًا أن تتذكّر؟.
تلك هي المساءلة التي تطرحها الرواية، وتطالب القارىء بطرحها وتأملها، والتعلم، ربما، من مآسي الماضي، وما يضفي على الرواية قوتها الأخلاقية أنها ترتكز على نقد الطهرانية الثورية أو النقاء الإيديولوجي، فالصلاح لا يعني الحق ولا النقاء، بل إن الصلاح يعني تحمل مسؤولية الخطأ، فترفض الفصل بين “النوايا الحسنة” و”النتائج المدمّرة”. فلا يكفي أن يكون الفاعل السياسي مخلصاً، بل عليه أن يتحمّل تبعات فعله، وأن يعترف بخطئه إن أخطأ.
وهنا، يتكامل هذا البعد مع طرح دي روبرتيس: بطلها الثائر السابق لا يتراجع عن قناعاته، لكنه يعترف بأنه لم يكن مستعداً، ويشكّك، ويحاور ذاته، ويستمع أخيراً للآخرين بعد أن أمضى سنوات وهو لا يسمع سوى صوته. وهذا التحوّل، في ذاته، عمل سياسي وأخلاقي جوهري. وهكذا، تُعيد الرواية تعريف القيادة لا بوصفها سيطرة، بل باعتبارها إصغاءً وتواضعاً ورغبة في التغيير لا في الاحتكار.
يصبح الضفدع، هنا، بصوته الهامس في عزلة الزنزانة، تجسيداً للضمير المعذَّب، وربما للصوت الذي حاول البطل إسكاته في حياته العملية، لكنه يلاحقه في وحدته. فهو ليس مجرد عنصر غريب أو خيال ساخر، بل هو رمز مركزي يحمل دلالات عميقة. يظهر كضمير البطل الذي لا يتوقف عن مناقشته، أو كماضيه الحيّ الذي يرفض الزوال، فيرغم عليه مواجهة حقيقة أفعاله وقراراته. من خلال هذه العلاقة المعقدة، تدفع الرواية القارئ إلى إدراك أن الصراع الحقيقي ليس خارجيًا فقط، بل داخلياً وعميقاً، حيث يختبر الإنسان مصداقيته أمام ذاته قبل أن يواجه الآخرين.
…
*بحسب تقرير نشرته صحيفة The Independent البريطانية، قضى خوسيه موخيكا جزءً من فترة اعتقاله في قاع حوض قديم كان يُستخدم لسقاية الخيول، في عزلة تامة لم يؤنسه فيها سوى النمل. انظر: https://www.the-independent.com/news/world/americas/jose-mujica-pepe-death-uruguay-president-b2750605.html. وفي مقابلة مع جيمس دراغان، أشار موخيكا إلى أنه أمضى عامان كاملان من سنوات سجنه الثلاث عشرة في قاع هذا الحوض ذاته، وهي تجربة تركت أثراً عميقاً في نفسه، وأسهمت في تحوّله لاحقاً من مقاتل في حرب العصابات إلى سياسي يدعو للمصالحة والسلام، يقول في ذلك: “لم أسامح، لكنني لا أحمل ضغينة. لا وقت لديّ لأضيعه في الكراهية. عليّ أن أعيش. لا أحد يمكنه تعويض ما ضاع، لكن لا جدوى من التوقف عند الخسائر. في الحياة، يمكنك أن تسقط ألف مرة، لكن المهم أن تمتلك الإرادة لتنهض وتبدأ من جديد”.. “تعلمتُ أن السعادة لا تأتي من التراكم، بل من القناعة. إما أن تكون سعيدًا بالقليل لأنك حرّ من عبء الامتلاك، أو أنك لن تكون سعيد أبداً. ” انظر: https://www.jamesdargan.com/my-blog/2019/4/17/jos-mujica-a-tragic-struggle-to-the-top-of-the-presidential-mountain
رواية “الرئيس والضفدع”: ماذا يعني أن تكون لاعباً سياساً جيداً
ليلي ماير
ترجمة محمود الصباغ
في العام 1975، كشف فيليب آجي(1)، في مذكراته بما يشبه الصدمة المدوية، عن أسرار عمله داخل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بصفته عميلاً سابقاً للوكالة في الإكوادور وأوروغواي. ويذكر آجي كيف وصل إلى أوروغواي- والذي كانت مهمته الأولى التعامل مع النفوذ الكوبي- في العام 1964، في وقت كانت تشهد فيه البلاد بداية تبلور حركة ثورية ستصبح لاحقاً حجر الأساس في تاريخ أوروغواي. فقد بدأ الناشط النقابي راؤول سينديك(2)Raúl Sendic بجمع نواة صغيرة من الثوار المسلحين (مجموعة ثوار حرب العصابات)، التي سرعان ما تحولت إلى جماعة كان لها دور محوري في تشكيل المشهد السياسي الحديث في البلاد.
أول إشارة يكتبها عن هذه المجموعة الثورية لا تعبّر عن قلق أو تحذير، بل تأتي بنبرة ساخرة أو لا مبالية. ففي مذكرته المؤرخة بتاريخ 15 كانون الثاني 1965، يلاحظ ببساطة أن “اسم” توباماروس(3)Tupamaros “بدأ [يظهر] في عدة… تفجيرات حديثة وفعت مؤخراً”. وحيث كان المفوض “أوتيرو Otero”، رئيس مخابرات الشرطة، يحاول معرفة من هم هؤلاء الأشخاص.. فقد كان آجي واثقاً، بعد ثمانية أشهر، من أن سينديك، بلا شك، هو زعيم حركة التوباماروس، وبدأ يحث أوتيرو على “التركيز عليهم”.
وبعد شهرين إضافيين، بدأ آجي يشعر بالقلق من أن أوتيرو قد لا يكتفي باعتقال أعضاء التوباماروس، بل قد يبدأ أيضاً في تعذيبهم—وهو قلق يبدو زائفاً أو غير صادق، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت، منذ العام 1965، قد اعتادت بالفعل على إرسال ضباط من الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي لتدريب قوات الأمن في البلاد على أحدث تقنيات التعذيب.
لم يذكر آجي أيّاً من قادة حركة التوباماروس سوى سينديك، الذي، رغم مرور أكثر من خمسين عاماً على تأسيسه لهذه الحركة، لم يعد، على الأقل على الصعيد الدولي، أبرز أسمائها شهرة. فقد انتقل هذا التميز الآن “خوسيه موخيكا(4)José Mujica “، الذي انضم إلى حركة التوباماروس—أو كما تُعرف أيضاً: “حركة التحرير الوطني” Movimiento de Liberación Nacional ، عندما كان مزارعاً شاباً.
تسلّم موخيكا زمام القيادة في الحركة، وحين شدّدت الحكومة قبضتها على التوباماروس، اضطر للهرب والاختفاء عن الأنظار. لكنه اعتُقل في نهاية المطاف وسجن أربع مرات، وتمكّن من الفرار مرتان. وعندما تنازل الرئيس “خوان ماريا بورديبيري(5)Juan María Bordaberry” عن السلطة في العام 1973 للقوات المسلحة، معلناً بداية ديكتاتورية مدنية-عسكرية استمرت اثني عشر عاماً، كان موخيكا قد دخل السجن بالفعل. ومع ذلك، أعلنته السلطات الديكتاتورية رهينة رسمية، أي أنها هدّدت بإعدامه في حال استأنفت حركة التوباماروس كفاحها ضد النظام.
نجا موخيكا من أهوال الديكتاتورية، بعد أن قضى أكثر من عقدٍ من الزمن في الحبس الانفرادي. وعندما استعادت الأوروغواي ديمقراطيتها بطريقة سلمية، خرج من السجن وعاد إلى الساحة السياسية، لكن هذه المرة بصفته مسؤولاً منتخباً يحمل مشروعاً إصلاحياً. تولى رئاسة البلاد بين عامي 2010 و2015، وحاز إعجاباً عالمياً واسعاً، سواء بفضل سياساته التقدمية أو بسبب أسلوب حياته المتواضع. فخلال فترة رئاسته، كان يقود سيارة فولكسفاغن قديمة، ونادراً ما يرتدي ملابس رسمية، ويزور عربات النقانق في وسط المدينة، ويُفضّل الإقامة في مزرعته لزراعة الزهور على الانتقال إلى القصر الرئاسي.
غالباً ما صوّرت وسائل الإعلام الأجنبية موخيكا كشخصية يسارية طيبة وعجوز ودوداً، متجاهلة حقيقة ماضيه الثوري. فقد شارك ذات يوم في عملية استيلاء مسلح على مدينة باندو Pando، وتعرّض لإطلاق النار ست مرات بعد أن أشهر سلاحه في وجه شرطي تعرّف عليه، كما أنه فرّ من سجن بونتا كارّيتاس Punta Carretas في مونتيفيديو Montevideo(الذي تحوّل اليوم إلى مركز تجاري فاخر) عبر نفق حفره برفقة 110 معتقلاً آخرين من عناصر توباماروس، في ما لا يزال يُعدّ أكبر عملية هروباً جماعياً من السجون في التاريخ.
تؤرخ الكاتبة الأمريكية من أصول أوروغواينية كارولينا دي روبرتس(6) في روايتها التي أتت على هيئة سيرة ذاتية بعنوان “الرئيس والضفدع” ملامح حياة شخصية بلا اسم، تقول إنها “مستوحاة” من شخصية خوسيه موخيكا. ويقضي بطل الرواية، الذي تقاعد حديثاً من منصبه الرئاسي، الوقت في حوارات مع صحفيَين من التلفزيون النرويجي حول مسيرته السياسية، بينما ينخرط داخلياً في مراجعة ذاتية عميقة لتاريخه الشخصي وجهوده في فعل الخير. وتسترجع هذه الشخصية الرئيسة -بطريقة الفلاش باك- سنوات الحبس الانفرادي، حيث تقدّم دي روبرتيس هذه التجربة من خلال بناء سردي غريب وجذاب، لكنه يبدو مقنعاً، فبطل الرواية يتشبث بتماسكه الذهني عبر سلسلة من المحادثات مع ضفدع—ربما يكون مجرد هلوسة—يُلِحّ عليه أن يروي له قصة حياته.
تتشابك في الرواية ثلاثة خطوط سردية: مقابلات الصحفيين، التأمل الذاتي، والحوار مع الضفدع. ورغم اختلاف أشكالها، إلا أن هذه الخطوط الثلاثة تطرح الأسئلة الجوهرية ذاتها: كيف يمكن للمرء أن يبلغ منزلة رفيعة أخلاقياً في السياسة، كما فعل موخيكا أو معادله الروائي؟ وما معنى أن يكون الإنسان “جيداً” أصلاً؟
لا يبدو أيا من هذين السؤالين سهلين أو يقدّمان إجابات سهلة، وربما لا يمكن الإجابة عنهما بشكل قاطع. لكن من خلال محاولتها الجريئة للنفاذ إليهما، تنجح دي روبرتيس في تقديم عمل مزدوج: دراسة لشخصية إنسانية متخيّلة، وتعليم غير مباشر لتاريخ سياسي حقيقي، وتحقيق أخلاقي دقيق في التزام بطلها العميق بتغيير المجتمع.
وكانت المؤلفة كارولينا كتب دي روبرتس قد كتبت، من قبل، عن النظام الدكتاتوري في أوروغواي وما نتج عنه من عواقب. فعلى سبيل المثال ، تبدأ أحداث روايتها “المغنيات(7) Cantoras”، التي نشرتها في العام 2019، في منتصف السبعينيات، وهي الفترة التي يقال أنه كان من بين كل 33 أوروغواياً واحداً على الأقل سجيناً سياسياً، فبطلات الرواية خمس سيدات، جميعهن مثليات، يسعين إلى الحرية بكل معنى الكلمة وأينما وجدن، كنّ يعيشن في حالة خوف من النظام.
غير أن هذه الرواية ملتزمة، بما يتناسب مع روحها النسوية، بإرساء الأسس السياسية على الصعيد الشخصي. في حين أن رواية “الرئيس والضفدع” من طبيعة وأجندة مختلفتين للغاية، فهي رواية سياسيّة بحتة، بل كتاب تحدٍّ سياسي بلا شك، فبطل الرواية مكرس لتحسين الوضع الجماعي لمواطني أوروغواي، إلى الحد الذي يمكنه بالكاد أن يستوعب فكرة أن يكون للمرء حياة شخصية مستقلة عن نشاطه السياسي. وعندما طلب منه رفيقه الضفدع أن يصف شريكته صوفيا، وهي أيضاً كانت عضواً قيادياً في التوباماروس، شرح له كيف أنه عندما التقى بها، كان قد تخلى، منذ فترة طويلة “عن وجود صديقة أو حبيبة، في حياته، مرة أخرى. لقد كانت حياتي ملكاً للثورة، وليكن ذلك، حسناً، كنت سأسلمها حياتي بالكامل بالطريقة التي يسلّم بها الرهبان حياتهم إلى الرب”. ولكن مثل هذا التصريح ما هو إلا تبجح ذاتي، فعبارة “وليكن، حسناً” تخون الرغبة المكبوتة في أن يعيشا معاً حياة أكثر طبيعية. إنه فخور بنفسه ومستنزف بآن معاً، وهذا هو التصعيد الذي يثير الكثير من أحداث الرواية. إن تفانيه لا يدوم إلا من خلال المزج من الأنا ونبذ الذات -وهو مزيج يصعب الحفاظ عليه.
تركّز دي روبرتيس في روايتها على ميل بطلها إلى الغطرسة أكثر من ميله إلى التضحية. وتفترض أن القارئ يعرف مسبقاً أن شخصية البطل مستوحاة من خوسيه موخيكا، الرجل الذي يحظى بسمعة طيبة عالمياً، وبالتالي سيُنظر إليه تلقائياً بوصفه “رجلاً صالحاً”. ولو أن الرواية أكثرت من التأكيد على هذه الصفة، لانزلقت سريعاً إلى كتابة أشبه بالتمجيد أو ما يشبه أعمال سير القديسين، وهو ما كان سيقوّض الطابع الأخلاقي الاستقصائي للرواية. لذلك، تفضّل دي روبرتيس تسليط الضوء على عيوبه بدلاً من فضائله. في الزمن الحاضر من الرواية، يظهر البطل متجهّم المزاج، شارد الذهن، مفرطاً في تبرير أفعاله. أما في الفصول التي تعود إلى الماضي، فغالباً ما يبدو عنيداً، فظاً، وأحياناً مزعجاً بوقاحته. يتجنّب محاسبة النفس، يتصرّف بسلوك ذكوري متعجرف في اجتماعات التوباماروس، ويعامل ضفدعه الرفيق بفظاظة وعدم احترام.
الأسوأ من كل ذلك، أنه يدّعي النظر إلى المجتمع بوصفه “محادثة طويلة لا تنتهي”، ومع ذلك، لا يتعلم الإنصات إلا بعد لقائه بصوفيا—وهي مفارقة لافتة، لكنها شائعة لدى أصحاب الإيديولوجيات الصلبة الذين يميلون إلى التحدث أكثر مما يستمعون.
خلال سنواته في العمل المسلح، يظهر البطل وكأنه لا يتوقف عن إقناع نفسه بصحة أفكاره. هذا الميل الذاتي للتأكيد المستمر يمكن أن يبدو مزعجاً ومكرراً، لكنه يؤدي وظيفة واضحة: إذ لا يستطيع مواصلة نضاله إلا من خلال تذكير دائم لنفسه بأن هناك عملاً طارئاً لا بد من إنجازه، وأن لا وقت للتراجع أو الشك. تتحول حالات تذكير النفس هذه إلى أسئلة مؤلمة مثقلة بالذنب في السجن، وتعتمد دي روبرتيس عليها لتمنح الرواية حركتها الداخلية.
قد يتساءل القارئ غير المُلم بتاريخ الأوروغواي: لماذا يقضي البطل وقته في الحبس الانفرادي قلقاً من أن يكرهه مواطنوه، ويحمّلون التوباماروس مسؤولية ما جرى؟ لكن شيئاً فشيئاً، تكشف دي روبرتيس أبعاد هذا الخوف: يبدأ البطل بطرح تساؤلات مبهمة عمّا إذا كان عناصر التوباماروس على حق عندما اختاروا طريق الثورة، ثم يذهب أبعد من ذلك ليعترف بأن تكتيكاتهم العنيفة، بما فيها التفجيرات وعمليات الاختطاف، “بما ساهمت في الانهيار” الذي حلّ لاحقاً. ورغم إدراكه، كما تؤكد كتب مثل مذكّرات فيليب آجي، أن التوباماروس “سُحقوا، وأن إمبراطورية اليانكي أرسلت أعوانها ودمرتنا”، إلا أنه، أي البطل، لا يزال يتألم بمرارة من احتمال أن حربه من أجل الحرية ربما كانت خطأً دموياً مكلفاً.
وفي أحد أكثر مشاهد الرواية تأثيراً، يستعيد البطل تلك النقاشات التي اختار فيها أعضاء التنظيم اللجوء إلى الكفاح المسلح، ثم يعترف للضفدع قائلًا: “لم نكن مستعدين لهذه الخطوة”.
في ما تبقى من حياته، تبدو سياساته الإصلاحية مدفوعة برغبتين متناقضتين ومتصالحتين في آن: ألا يكون قد أخطأ حين كان ثورياً، وأن يكفّر عن خطئه إن كان قد أخطأ.
ولأنه يرى نفسه ملوثاً وناقصاً، يواصل السعي ليصبح إنساناً أفضل. ولأنه يعرف جيداً كيف يمكن أن تنقلب محاولات فعل الخير إلى نتائج كارثية، يتعلم أخيراً أن يُنصت لأصوات غير صوته. يصبح، كما يقول عن نفسه، “حالماً، لا طوباوياً”. ويشكل رفض هذا النقاء الإيديولوجي أو تلك النزعة الطهرانية، حجر الأساس في الرواية. وتبدو الكاتبة كأنها تقول إن السير نحو الخير، مع الزمن، لا يتطلب مجرد التنازل، والبحث عن حلول وسط، بل يستوجب التناقض أيضاً. فالخير، في تعقيده، يقتضي المساءلة، والاستعداد للتغيير، والمثابرة التامة، ويتطلب، ربما قبل كل شيء، وعياً عميقاً لفهم قابلية الخطأ الفردي والسقوط البشري. فأي قرار، مهما بلغت دقته في التحليل أو اتساقه مع المعتقدات السياسية، قد ينقلب خطأً، أو إلى قرار مستند إلى خطأ. ويدرك بطل الرواية هذا الأمر جيداً بعد تقدمه في العمر. فنراه يذكّر نفسه، باستمرار، بأخطائه الكبيرة والصغيرة، ويتخيل ما الذي كان يمكنه فعله بشكل أفضل.
ومع ذلك، لا يندم على خوض الفعل، ولا على أي قرار اتخذه من قبل أو عن إجراء عمل به. فالأمر، بالنسبة له، (ولدى الكاتبة على ما يبدو أيضاً) يمثل قناعة راسخة باستحالة أن يكون المرء صالحاً من دون السعي نحو التغيير. تغيير العالم، وتغيير الذات والنفس. أما قبول الوضع القائم أو الراهن، أو الاكتفاء بالتعليق عليه من بعيد، فهو في هذا السياق فشل أخلاقي، لا شك في ذلك. ونجد أنفسنا هنا نتفق مع دي روبرتيس في هذا الطرح. غير أننا نجد أنفسنا في بعض الأحيان، نتمنى لو أنها جذّرت الرواية بعمق أكبر في الواقع القائم، ذاك الذي كافح بطلها طيلة حياته من أجل تغييره.
نادراً ما تصف الرواية المشاكل التي أنهكت أوروغواي في منتصف القرن العشرين؛ على سبيل المثال، لا الحصر: التضخّم، وارتفاع تكاليف المعيشة، والبطالة، وسوء ظروف عمال الزراعة. ففي مقالة نُشرت في العام 1970 في مجلة New Left Review، تنقل الكاتبة ماريزا غيراسي Marysa Gerassi عن أحد كوادر التوبامارو قوله:”بلادنا مفلسة. وأي خطة للتنمية الرأسمالية تستهدف زيادة إنتاج السلع التصديرية، حتى لو كانت ممكنة، ستعطي نتائج ضئيلة وعلى المدى الطويل فقط. بكلمات أخرى، سيظل الناس يعيشون حالة تقشف ويشدّون الأحزمة لسنوات طويلة.”
غياب هذا التصوير الصريح للواقع المعيشي الصعب يضعف بعض الشيء التزام دي روبرتيس بالتعقيد. فالعيش على أرض الواقع، كما نعلم، أكثر تعقيداً بكثير من شعارات الثورة أو شعارات الإصلاح. ومع ذلك، تُنجز الرئيس والضفدع عملاً أدبياً لافتاً: تحوّل أدوات العمل الروائي (السرد الحر غير المباشر، والغوص العميق في الشخصية، والابتكارات السردية الغريبة مثل الضفدع الناطق) إلى دعوة للتأمل السياسي والأخلاقي والتاريخي.
وتقول عبارة الغلاف إن الرواية “تدعونا إلى إعادة تصور معنى القيادة والجرأة والحلم.” وأقترح إعادة صياغة كالتالي: تطلب رواية الرئيس والضفدع من قارئها التفكير بجدية في ثِقل اتخاذ أي فعل أو إجراء سياسي، ثم تقترح عليه تبني ذلك. وأرجو كذلك أن تدفع الرواية قرّاءها إلى التعمّق في فهم السياقات التي دفعت التوبامارو نحو العمل الثوري. فالسياق، كما يُقال، هو من يملك زمام الفهم والمعنى
….
هوامش المترجم
1.فيليب بورنيت فرانكلين آجي (1935- 2008) أحد عملاء وكالة المخابرات المركزية (CIA)، ومؤلف كتاب Inside the Company: CIA Diary يسرد فيه بالتفصيل عمله داخل وكالة المخابرات المركزية، التي انضم إليها في العام1957، في الإكوادور وأوروغواي والمكسيك. بعد استقالته من الوكالة في العام 1968، أصبح من أبرز المعارضين لممارسات وكالة المخابرات المركزية. توفي في كوبا في كانون الثاني 2008.
2.راؤول سينديك أنتوناتشيو (1926- 1989) محامٍ ونقابي ماركسي، يُعد من أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ أميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين، ومؤسس حركة توباماروس للتحرير الوطني (MLN-T). انضم في شبابه إلى حركة الشباب الاشتراكي للحزب الاشتراكي في أوروغواي، ليصبح لاحقاً من أبرز وجوهها الفكرية والتنظيمية.
مارس سينديك المحاماة مدافعاً عن حقوق العمال الريفيين، ثم شارك في تأسيس نقابة العاملين في مصانع السكر. لكن تجاربه في العمل النقابي أوصلته إلى قناعة جذرية: أن الكفاح المسلح لم يعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة سياسية لاستكمال نضال الطبقة العاملة في ظل انسداد الأفق الديمقراطي، وتفاقم القمع الاجتماعي. فأسس “التوباماروس في بداية ستينيات القرن الماضي، التي تحولت مع نهاية العقد إلى حركة التحرير الوطني MLN-T وبلغت ذروتها في عهد الرئيس خورخي باتشيكو أريكو بين عامي 1970 و1971، فنفّذت الحركة سلسلة عمليات نوعية، أبرزها فرار أكثر من مئة من أعضائها من سجن بونتا كاريتاس في واحدة من أكبر عمليات الهروب الجماعي في تاريخ أميركا الجنوبية. اعتقل سينديك في آب 1970 ، وبقي في السجن حتى هروبه في أيلول1971. وظل متخفياً في البلاد لمدة عام تقريباً حتى ألقي القبض عليه من جديد، ليقضي فيه 12 عاماً حتى أطلق سراحه في العام 1985 بعد سقوط عهد الديكتاتورية العسكرية.
توفي سينديك في باريس في العام 1989، ودفن في مونتيفيديو.
3.توباماروس Tupamaros مشتقة من Tupac Amaru وهو اسم آخر عضو من الأسرة الملكية للأنكا الذي أعدمه الإسبان في العام 1571.
- خوسيه ألبرتو “بيبي” موخيكا كوردانو (1935-2025) الرئيس الأربعون لأوروغواي من 2010 إلى 2015. وواحد من أبرز رموز السياسة في أميركا اللاتينية، ليس فقط بسبب ماضيه الثوري، بل لطبيعة شخصيته وأسلوب حياته الذي تحدّى تقاليد السلطة .
بدأ موخيكا مسيرته السياسية مقاتلًا في صفوف التوباماروس MLN-Tupamaros في منتصف الستينيات، وكان من المشاركين في الهجوم الجريء على مدينة باندو عام 1969، إحدى أكبر عمليات الحركة، التي وضعت النظام السياسي في اختبار غير مسبوق. اعتُقل عدة مرات، وكان من ضمن مجموعة الهاربين عبر نفق من سجن بونتا كاريتاس عام 1971. وبعد اعتقاله مجددًا، تمكّن من الفرار مرة أخرى عام 1972، لكنه أُعيد إلى السجن في وقت لاحق. ومع انقلاب 1973 العسكري، أصبح موخيكا من “رهائن” الجيش، ووُضع في الحبس الانفرادي لسنوات طويلة ضمن ظروف قاسية وغير إنسانية. لم يُفرج عنه إلا في عام 1985، بموجب قانون العفو الذي طوى حقبة القمع السياسي. والجرائم السياسية والعسكرية ذات الصلة التي ارتكبت منذ العام 1962. عقب إطلاق سراحه، لم يتقاعد عن السياسة. بل انضم إلى حزب الجبهة الواسعة، وانتُخب نائباً في البرلمان مرتين (1994 و1999)، ثم شغل منصب وزير الزراعة، قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية في العام 2009.
ما ميّز رئاسته لم يكن فقط سجله النضالي، بل أسلوب حياته الزاهد. فقد عاش في مزرعة متواضعة، وقاد سيارة فولكسفاغن قديمة، وتبرع بـ90% من راتبه الشهري لمصلحة منظمات اجتماعية. وصفته وسائل الإعلام العالمية بأنه “أفقر رئيس في العالم” لكنه كان واضحاً في رفض هذه الأوصاف، مؤكداً أن “الثراء لا علاقة له بعدد الأشياء التي تملكها، بل بعدد الأشياء التي يمكنك الاستغناء عنها”.
5.خوان ماريا بورديبيري أروسينا (1928 – 2011) تولى رئاسة أوروغواي بين عامي1972 و1973، في ظل لحظة سياسية مأزومة بسبب تسلط الحكم الاستبدادي للرئيس السابق باتشيكو أريكو وتصاعد التهديد المسلح للمعارضة اليسارية، وعلى رأسها حركة التوباماروس. في حزيران1973 حلّ بورديبيري الجمعية العامة يدعم من المؤسسة العسكرية، ودخلت البلاد رسمياً في مرحلة الديكتاتورية العسكرية، التي استمرت حتى العام 1985.
ورغم محاولته قيادة المرحلة الجديدة بنفسه، إلا أن طموح الجيش وانعدام الثقة في المدنيين دفع العسكريون إلى الإطاحة به عام 1976، ليخلفه المجلس العسكري الحاكم. لم ينجُ بورديبيري من تبعات تلك المرحلة. ففي العام 2006، اعتُقل بتهمة التورط في اغتيال سياسي مزدوج جرى في بوينس آيرس في العام 1976، وذهب ضحيته كل من السيناتور زيلمار ميشيليني وزعيم مجلس النواب هيكتور غوتيريز. ووضع قيد الإقامة الجبرية بسبب تدهور حالته الصحية. لكن العدالة لم تتوقف عند ذلك الحد. فأعيدت محاكمته في أيلول 2007 بتهم إضافية شملت عشر جرائم قتل وخرق الدستور. وأدين رسمياً في العام 2010، وحُكم عليه بالسجن لمدة 30 عاما. رحل بورديبيري في العام 2011، وقد أصبح رمز لسقوط الحكم المدني في فخّ التحالف مع المؤسسة العسكرية، ولسنوات الحكم القمعي التي أعادت تشكيل الحياة السياسية في أوروغواي لعقود لاحقة.
6.كارولينا دي روبرتس Carolina de Robertis كاتبة أمريكية من مواليد العام 1975 لأبويين أوروغواينيين، تحمل شهادة الماجستير في تخصص الكتابة الإبداعية وهي المادة التي تقوم بتدريسها في جامعة ولاية سان فرانسيسكو. تعمل في مجال العمل الروائي والترجمة وكتابة المقالات ونشرت أعمالها باللغات الإسبانية والإنكليزية (لم تترجم أعمالها إلى اللغة العربية بعد على حد علمي).
بدأت النشر منذ العام 2009 وهي رواية بعنوان الجبل الخفي The Invisible Mountain التي تُرجمت إلى 17 لغة ، بما في ذلك الإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والفرنسية والعبرية والصينية. للكاتبة دي روبرتس منصة إلكترونية يمكن لمن يرغب التعرف عليها وعلى إنتاجها وأنشطتها المختلفة https://www.carolinaderobertis.com/
7.كانتوراس Cantoras بمعنى المغنيات، وتعني أيضاً في العامية الإسبانية القديمة: السحاقيات”. وتتحدث عن خمس نساء يجمعهن الحب المتبادل، في ظل الحكم الديكتاتوري القمعي الذي سيطر على أوروغواي في منتصف سبعينيات القرن الماضي. حيث تقوم السلطة بسحق المعارضة بقسوة شديدة وتنتهك الحقوق المدنية للمواطنين دون رادع، وهنا تكمن التورية في عنوان الرواية بالإشارة إلى مثلية النساء الخمس وهي جريمة كانت تعاقب عليها السلطات الحاكمة -آنذاك- باعتبارها انتهاكاً خطيراً لمعايير “المجتمع وأخلاقه وقيمه روحية”.
تكمن قوة الرواية في تصويرها للعلاقات الإنسانية المتشابكة والمعقدة التي تجمع بين الحب والصداقة، والتوتر والوفاء، والتفكك والوحدة، بما يعكس تجربة حقيقية للحب في مجتمعات تحكمها القوانين الصارمة والوصم الاجتماعي. فترسم دي روبرتس صورة واقعية وشجاعة لحياة النساء اللواتي يعانين من الاضطهاد على خلفية ميولهن الجنسية، وتلقي ضوءً على الروح الإنسانية التي تناضل من أجل حق العيش بكرامة وحق اختيار الحرية الشخصية،
ففي أجواء القمع الديكتاتوري، تكتشف السيدات الخمس (الكانتورات)؛ رومينا وفلاكا وأنيتا “لا فينوس” وباز ومالينا، كهفاً منعزلاً على شاطئ كابو بولونيو، فيعتبرنه ملاذهن السري ليمارسن فيه “حياتهن” وغنائهن. الغناء بأكثر ما تكون عليه العاطفة والشغف، الغناء في علاقات مع نساء أخريات، في بلد يحظر العلاقات الجنسية المثلية وهكذا تمضي حياة الكانتورات على مدار 35 عاماً يتنقلن بين كابو بولونيو ومونتفيديو، المدينة التي يسمونها الوطن، حيث يعودون، أحيانًا معاً، وأحيانًا في أزواج، مع عشاق، أو وحيدات بمفردهن. وطوال الوقت، سوف يتعرضن للنقد من عائلاتهن وعشاقهن ومجتمعهن وحتى من بعضهن البعض – لكنهن يواصلن الكفاح ليعشن حياة أكثر أصالة بنظرهن. ورغم بعض الفروقات بينهن، يعزز كابو بولونيو مشاعر الصداقة بينهن ويوفر لهن قاعدة مستقرة على مر السنين حيث نتعرف على خلفيات كل واحدة منهن، تلك التي تعاني من المعاملة القاسية للسلطة الديكتاتورية، وتلك التي تتعرض للمضايقة من عائلتها.. إلخ نتابعهن على مدى أربعة عقود وهن يكافحن، فيتقاربن ويتباعدن ثم يتحدن مرة أخرى.
يجتمع في السرد العميق لحياة تلك النسوة المثليات، الصراع السياسي والاجتماعي مع الصراع الشخصي الداخلي، كما تبرز فكرة المقاومة بكل أشكالها، إذ تحوّل الكانتورات كهف “كابو بولونيو” إلى رمز للحرية والاستقلال، وإلى مكان يتحررن فيه من قيود السلطة والمجتمع وأحكامه الأخلاقية الصارمة، ويتجاوز الكهف تعريفه كمجرد مكان، ليصبح فضاءً هوياتي حقيقي، لا يخضع الحب فيه إلى المعايير السائدة.
كانتوراس ليست مجرد رواية عن النساء المثلية، بل هي تأمل إنساني عميق في معنى الحرية، الحب، والمقاومة في وجه الظلم السياسي والاجتماعي، فأهم ما يميزها تلك الرابطة التي تشكلها النساء مع بعضهن البعض، والصداقة التي تتحمل تغيير الشركاء والحب المفقود. حيث يمثل كفاحهن من أجل الحرية بأشكالها كافة، “وطبعا من ضمنها حرية اختيار الشريك الجنسي الذي تطرحه الرواية بقوة ووضوح” هو كفاح لا ينتهي ومعين تفاؤل لا ينضب وتجربة حب وتمرد لا مثيل لها. ولكن ماذا تعني الحرية الحقيقية؟
ربما هذا هو السؤال الجوهري الذي تطرحه الرواية. فهل تكمن تلك الحرية في البقاء على قيد الحياة فقط، أم في العيش بصدق مع الذات رغم المخاطر؟ . ولعل ما تقوله فلاكا، إحدى الكانتورات، يلخص الإجابة
” فلتذهب المخاطر إلى الجحيم، لا يهمني حتى لو قتلوني بسببها، لأني أكون قد عشت كما يحلو لي”. أي التضحية بالحياة ذاتها من أجل العيش كما نختار، وهذا بحد ذاته تمرد وجودي يتحدى الموت والقهر.
……
العنوان الأصلي The Moral and Magical Political Fictions of Carolina de Robertis
المؤلف Lily Meyer
المصدر: The Moral and Magical Political Fictions of Carolina de Robertis (thenation.com).