يوسف سامي اليوسف: (بين النقد المتفرّد والرعشة الإنسانية)

ناقد ومفكر من طراز فريد غلب عليه الفكر الاغترابي الذي يُؤمن بفكرة تميّز الإنسان عن القطيع، كتبَ وأفاض عن الاغتراب في الأدب الجاهلي والشعر العذري والصوفي والمتنبي وشعراء الحداثة، أصدقاؤه الأوائل المتنبي والمَعري والنفّري وكانط وهيغل وراسل. كما حاول أن يجيب عن سؤال أرقه منذ البدايات: ما الشعر العظيم؟! واختار من غسان كنفاني الرعشة المأساوية ليكتب عنها. وقد جمع إلى عذوبة اللغة النقدية وبيانها عمق الفكر الفلسفي. وفي ظني أنّ هذه الخاصية هي ما منحت الفرادة للنصّ النقدي الذي أنتجه؛ فعند غيره إمّا أن نجد نصاً ذا لغة متينة لكنه سطحي لا يرشح منه أي عمق فكري، أو نجد نصاً عميقاً ذا لغة وعرة مقعّرة تجعل المتلقي ينفر من السير معه وفيه. أما اليوسف فقد جمع بين العمق المعرفي من التراث والمعاصرة، من الأصالة والحداثة، وكوّن لغة مدهشة تستمتع وأنت تقرأها، بل تأسرك تلك اللغة وتتمنى أن تقلّدها لعذوبتها وقوتها!! إذ يرشح منها أصالة الماضي وروح المعاصرة؛ لأنه يرى في تكوين الذات القومية ضرورة استيعاب لحظات التاريخ الثلاث دون انقطاع أو قطيعة، فيقرر منذ الصفحة الأولى من كتابه (مقالات في الشعر الجاهلي 1975) ضرورة تكوين الذات على هذا النحو: ((ليس من الصواب أن نضحّي بالمحلية من أجل العالمية، وبالقديم من أجل الجديد… ولعلّ أهم سمة للشعر العربي المعاصر هي التبعثر، “بمعنى” تنوّع أشكاله الفنية المترجّحة بين النمط الجاهلي للإنتاج الشعري، وبين أحدث التقليعات الأوروبية… إنّ المسؤول عن هذا التبعثر هو النمو الخارجي لحركة الشعر، فالشعراء يخاطبون جمهوراً غير أوروبي بأساليب أوروبية، والحقيقة أنّ مجتمعنا العربي كله ينمو نمواً خارجياً…)).
ويختلف يوسف اليوسف عن سواه في جانب التأثير العام في المشهد الثقافي في مخيم اليرموك فقد كان صاحب خلوه اغترابية تضمّ مجموعة ضيّقة من الكتاب “صفوة الصفوة ربما” تجتمع رأس كلّ شهر في بيته القديم الذي تظلله شجرة نخيل تمدّ أذرعها خلف الجدار الخارجي للبيت وتغطي جزءاً من شارع (الجاعونة) الضيّق أصلاً ولا يرى الناس إلا أجزاءها الخارجية، وهذه حال صاحب الشجرة فقد كان المثقفون لا يَرَوْن من اليوسف إلا نتاجه وثمره الذي طبق الآفاق متجاوزاً حدود المخيم وسورية إلى العواصم العربية. لكنه كان ضنين الإطلالة الإعلامية، محدود العلاقات تشعر إن استقبلك في بيته باقتضاب كلامه وحدّية أحكامه، أذكر ما قاله لبعض أصدقائنا من الشعراء الشباب الذين أصرّوا على لقائه في بيته وإسماعه بعض كتاباتهم ليكتفي بالقول: ينقصها (للقصيدة) ملعقة من ماء القلب!! أو قلعاط (كلمة لوبانية قبيحة) أو بأن ينصح أحدهم بقوله: أنت ماذا تعمل في الحياة فيجيب الشاب: نجار!! فيقول له: خليك بالنجارة واتركك من الشعر!! أو لآخر أنت تظن كتابة القصة مثل قضم البسكويت!!! وهكذا لم يكن يجامل أو يساوم فيما يتعلق بالأدب والكتابة.. فكان معظم جيل الشباب من الكتّاب بالمخيم، بل خارجه يكتبون وأبو الوليد ماثل أمامهم، الشرطي المرعب للأدب.. ولم يسلم من أحكامه القاطعة كبار الكتاب القدامى والمعاصرين في الغرب والشرق. ففي معرض استعراضه لكم الروايات التي تُطبع في العالم العربي يشعر بالكارثة ويرى أنها ظاهرة غير صحية، فيعلن في مقدمة كتابه (مقال في الرواية 2007) إعلاناً خطيراً إذ يقول: ((وما يخشاه العقل أن يكون هذا السيل الزاخر علامة انحطاط!!! فأنّى شاهدتَ وفرة عارمة في الإنتاج الأدبي كان من حقك أن تتهمها بأنها مثلوبة بمثالب فاتكة لا ينجو منها إلا النزر اليسير!!! وأن شطراً كبيراً من هذه الروايات يفتقر إلى الحيوية والزهاء، فأسلوبها فاتر، وأشكالها الفنية مبتسرة، وشخصياتها قلما تتزوّد بالعمق… كما أنها محرومة من جلال الغموض الموحي… ثم إنّ شطراً منها ينغمس في وعثاء الشكلية المعقدة الخاوية، ولهذا كله فإنّ ما ينتجه معظم الطور الراهن من آداب ليس سوى نتاج خديج يعوزه النضج والكمال، بل تعوزه التلقائية أول كل شيء)).
وأذكر أنني كتبتُ مطلع التسعينيات مادة نقدية طويلة عن رواية (الفلسطيني)، بعنوان (الإيقاع في رواية الفلسطيني) وهي الرواية الأولى للروائي والسينارست اللامع حسن سامي اليوسف (أخو يوسف اليوسف طبعاً) وكنتُ قد نشرتها في مجلة أدبية اسمها (النافذة) كان صاحبها ورئيس تحريرها صحفياً عراقياً يقيم في مخيم اليرموك، ويبدو أنّ يوسف اليوسف كتبَ فيها أيضاً، وهذا ما جعله يقرأ ما كتبتُ فقد جمعتني وإياه (النافذة) في عددها الأول، وكان هذا الأمر مدعاة للفخر بالنسبة إليّ.. ودفعني إلى السعي الحثيث للقائه، وكان بيته بالنسبة لي حصناً منيعاً على الرغم من قربه الشديد من بيتنا، بالإضافة إلى الهالة العظيمة التي يتمتع بها هذا الناقد بقامته الطويلة ووجهه ذي الملامح المحايدة الصارمة، وفي أثناء لقائي معه اكتفى بالقول: أنا أمقتُ هذه الطريقة الأكاديمية الجامدة التي كتبتَ بها وأعرف أنها من تأثير أساتذتك في الجامعة وتحديداً د. عبد النبي اصطيف الذي هو ليس أكثر من ببغاء يردّد ما يقوله نقاد الغرب، وطالب مجتهد يحفظ النظريات النقدية دون أن يهضمها ويكوّن رؤيته النقدية الأصيلة الخاصة به.. وكذلك أستاذك الآخر د. نعيم اليافي الذي يحفظ الشعر دون أن يسبر بواطنه ويدّعي المنهجية التكاملية في النقد بطريقة تلفيقية تجمع ما لا يجمع (وكان د. اليافي يروّج كثيراً لاختراع اخترعه وقتذاك سمّاه المنهج التكاملي في النقد) وأكمل اليوسف: إذا واصلتَ الكتابة بهذا الأسلوب فلن تصبح متفرّداً ولن تغادر السائد وتفترق عنه وستصبح مثل أساتذتك الجامعيين، واعلم أنه لا يوجد شيء اسمه النقد الأكاديمي!! وبقي كلامه ماثلاً في وجداني وموجِّهاً لي حتى وأنا أعد أطروحة الماجستير والدكتوراه في آداب دمشق.. وأحاول أن أجمع بين صرامة المنهج الأكاديمي والسبر العميق للنصوص الأدبية بالاستناد إلى الذائقة المتفلتة من تلك الصرامة. وكان تصريحه الذي أطلقه في مقدمة كتابه الشهير (ما الشعر العظيم؟ 1981) بمنزلة المنارة الهادية لي في النقد، حيث يقول في مستهل الكتاب: ((أتراني أنادي بنقد مزاجي يتسكع في النصوص هَملاً دونما ضوابط ولا روابط؟ لا، إطلاقاً، ففي العسر والمشقة أن يتمكن ناقد من الإتيان بتعليلات جوهرية لقيمة نصّ أدبي عظيم أو حقير، ناهيك عن القول الفصل والحجة الأصلية الحاسمة، ما لم يكن قد أسّس محوراً دراسياً واضح القسمات والمعالم، مزوّداً بشيء من النزعة المعيارية…)).
وكان اليوسف يرى تأثيره في الجيل من خلال ما يكتب لا ما يتحدث به، ولا يرغب بالثرثرة الأدبية!! ومع هذا لم يكن ليتردد في تلبية دعوة أي مركز ثقافي في المخيم أو دمشق ليقدّم ما لديه، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بفلسطين والثقافة الوطنية فقد كتب وأفاض عن الأدب الفلسطيني شعره ونثره، من أمثال: غسان كنفاني وإميل حبيبي وسميرة عزام وإبراهيم طوقان وأبو سلمى ودرويش ومعين بسيسو وفواز عيد ورشاد أبو شاور ويحيى يخلف وحسن حميد وناجي العلي وغيرهم. وأذكر تلك السلسلة المهمّة التي نشرها منتصف الثمانينات في مجلة (العربي) الكويتية في أجزاء متعددة تحت عنوان ربع قرن على الأدب الفلسطيني.

كان آخر ما أنتجه يوسف اليوسف كتابه الممتع (تلك الأيام) في أربعة أجزاء قبل سقوط المخيم 2012 ووفاته في السنة التالية في طرابلس لبنان. وهو كتاب توثيقي في مستوى من مستوياته جمع بين السيرة الذاتية والغيرية وتحدّث فيه عن أحداث نكبة 1948 حيث كان عمره حوالي عشر سنوات وتحدّث عن السقوط القاسي لبلدته الجميلة (لوبية) عروس طبرية، بالإضافة إلى تشريح عميق للصهيونية وعلاقاتها بالعرب والغرب بأسلوب ممتع وعميق، وقراءة عميقة للتاريخ الفلسطيني القديم والمعاصر…وفي الواقع فإنّ هذا الكتاب يكتظُّ بالأفكار الفريدة وفيه قدر غير يسير من الآراء النقدية المهمة المبثوثة هنا وهناك.. وفيه إطلالة سريعة على الشعر السوري منذ بداية القرن العشرين حتى السبعينات من ذلك القرن.. وقد جاء الكتاب متنوعاً كما أعلن اليوسف في مقدمة الجزء الرابع: ((ظهرت الأجزاء الثلاثة الأولى من هذا الكتاب الذي أحاول من خلاله أن أشهد على زمني أو أن أرسم له صورة ناجية من كل زيف أو تزوير. ولئن كان الجزء الأول والثاني مفعمَين بأخبار الحوادث الخاصة والعامة، وكذلك بوصف الوقائع التجريبية والعينية، فإنّ الجزء الثالث لم يكتفِ بسرد الممارسة العملية، بل أضاف وصفاً للشعور أو استبطاناً لسريرة الذات. ويجنح هذا الجزء الرابع صوب ذلك الاتجاه نفسه، فيكرّس معظم صفحاته للتعبير عن الذات ومحتوياتها وجدلها مع هذا التطور التاريخي الموغل في التوتر)).
وعلى الرغم من تقديم بعض الأبحاث الجامعية حول نتاج يوسف اليوسف النقدي وأشهرها أطروحة الدكتوراه التي قدمتها د. ماجدة حمّود في آداب دمشق منتصف الثمانينات وأفردت حيزاً كبيراً لنتاج اليوسف، إلا أنّ نتاجه الكلي لم ينل ما يستحق من الدراسة والتحليل، ذلك النتاج المليء بالأفكار الجديدة والنظرات الأصيلة التي بثها على ما يزيد عن أربعين سنة، وشكّلت رسالة المعلم أو الرسول التي لابد أن يقتدي بها كلّ مشتغل بالثقافة والنقد، فلقد كانت ملامح تأثيره الثقافي بادية في المشهد الثقافي في سورية عموماً والمثقفين منهم على وجه الخصوص.. تعلمتُ منه الجدة والصرامة في الأحكام وعدم المجاملة.. تعلمتُ منه كيف تفترق عن السائد في الكتابة والتحليل النقدي، بل حتى السياسي والاجتماعي.. تعلمتُ منه كيف تصبح باحثاً جاداً مسلّحاً بالمعارف التراثية والمعاصرة دون ثرثرة أو ادّعاءات فارغة… رحلَ اليوسف لكنّ نتاجه سيبقى خالداً وملهمّاً لكلّ مثقف عربي يبحث عن الأصالة والجدّة والفرادة.

عن د. ثائر عودة

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *