من ألبوم الكاتب، في حضرة الأموات

قرب جماجم الأجداد في بلد الشيخ..

بعد ربع قرن على الفراق، أجد نفسي وجها لوجه مع رفيق درب، لم يترك الزمن أثراً على حيوية عُرف بها “أبو أمجد” في مخيم اليرموك بدمشق.. أقف مدهوشا لهذا المشهد الذي جمعني به في قاعة اجتماعات بأحد فنادق رام الله.. فمنها كان مشوار رحلة، زادت أياما ثلاثة عما كان مقررا، بدعوة من مركز شمس لحقوق الانسان ونشر الديمقراطية في العام (2008).. وهو أمر يستحق التوقف عنده لاحقا..

رحلة وجدت نفسي فيها منساقا وراء كل ما اختزنته الذاكرة عن فلسطين.. فلسطين بجغرافيتها وتفاصيل أمكنة، أجبرنا الزمن على أن لا نراها، إلا على ألسنة جداتنا وشاشة تلفاز، فيما بعد، تخطى محرمات التواصل.. وشعبها الذي اختزل كل مقدمات التراجيديا الانسانية في صورته المتواضعة والعملاقة في ابتداع صمود لا يمكن أن يكون إلا مستحيلا..

نعم من بلد الشيخ المحاذية تماما لمدينة حيفا وكرملها الشامخ أبدأ، رغم أنها كانت محطتي قبل الأخيرة، وليس لأنني منها أو أُضيق الانتماء الجغرافي أو العشائري.. أبداً.. فهي مثل صفورية التي مررت عليها، والرينة التي مكثت فيها، و شفاعمرو، وسخنين وأم الفحم والناصرة وكوكب ابو الهيجا وطمرة.. وكل القرى والمدن العربية التي رأيتها بأم عيني منتصبة تتحدى الزمن الماضي الذي حاول أن ينكر وجودها، والزمن الحاضر الذي يحاول أن يجعلها وأهلها غرباء على أرضهم.. وبالضد من كل محاولات الزمن.. ها هي صفورية عامرة بسكانها الفلسطينيين.. وإن كانت أراضيهم في معظمها سلبت منهم.. بل ها هم أهل صفورية في الناصرة يحملون اسم قريتهم معهم..

ورغم ذلك اسمحوا لي أن أقص عليكم حكاية شعب تختزلها “بلد الشيخ”… فمن رام الله إلى الناصرة بحثا عن بلدتي التي يقطن آلاف سكانها في الشتات وفي البلاد بعيدا عن أرضهم التي يرونها بالعين المجردة يومياً..

بلد الشيخ، وكما يذكر موقع آل السهلي الالكتروني، بناءاً على دراسات وأبحاث تاريخية، حدثت فيها مجزرتان.. في 1947 وبداية 1948 وبأيدي “الهاغانا”.. وفي كل هجوم كانت تقوم به العصابات الصهيونية لم يكن الأطفال والنساء استثناءاً  أبداً.. بل حتى البيوت كانت تُنسف.. حمل الرجال السلاح بقدر ما إستطاعوا تأمينه.. واجهوا بقدر ما كانت إرادتهم.. استشهد البعض وانتقلت بارودته إلى الآخر.. فيها يرقد قائد الثوار الشيخ عز الدين القسام..

مررت على سخنين.. وأم الفحم.. وشفا عمرو.. كان المفترض أن أُجري لقاءا مع السيد جمال زحالقة رئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي آنذاك في مقر صحيفة فصل المقال، ارتشفنا القهوة وقد انتصف النهار.. واتفقنا بعد دردشة سريعة أن أواصل طريقي إلى بلد الشيخ..

في الطريق كان قد أشار إلي الصديق العزيز توفيق إلى “مقام أبو الهيجاء”.. توقفت السيارة قليلا في المرتفعات المطلة على وديان خضراء، وغابات وأراضي مسيجة ومصادرة.. وقرى عربية في الجليل.. كان توفيق يحدثني عن بلد الشيخ.. وبقية القرى والمدن العربية.. يحدثني عن الإنسان الذي صمد فوق أرضه رغم كل محاولات التضييق عليه.. ورغم جهنمية مخططات أسرلة عقله.. فبقيت لكنة فلسطينية نقية وبشر طيبون وصلبون..

هنا لا يمكنك أن تلمس أية إمكانية لتكرار ما حدث في نكبتنا الكبرى.. لم يكن الأمر عاطفيا أبداً.. ولم يكن هذا كلام توفيق وحده، ولا طارق ابن بيت حنينا الذي أقلني من القدس إلى رام الله.. وليس كلام الاستاذ عمر رحال.. لقد سمحت لنفسي أن أسأل كل من التقيته سؤالا مباشرا: “هل من شيء يمكن أن يجعلكم تتركوا البلاد؟”..

لم يكن لأحد جواب يختلف عن أجوبة الآخرين.. “هم يعرفون (الإسرائيليون) بأنه ليس هناك فلسطيني في الجليل والمثلث والنقب سيغادر أرضه.. وهم يدركون أن زمن النكبة ولى إلى غير رجعة.. مهما فعلوا.. كنت أنظر حولي إلى التضييق عليهم جغرافيا.. إلى “أرض الصبار”( التي ذكرتني بكتاب يحمل ذات العنوان للمؤرخ الدانماركي كارلو هانسن الذي وثق فيه كيف تم طرد السكان وتدمير القرى ومحاولة اخفاء المعالم بالتشجير وبالصبار)..

في الطريق من الناصرة نحو حيفا شهدت بأم عيني ما قصده كارلو هانسن بـ”أرض الصبار”.. أُنظر إلى يمينك، يقول لي توفيق.. تماما مثلما قال لي صديقي هاشم الذي رحل قبل اشهر، بعد يومين من هذه الرحلة التي تكررت.. سترى بيوتاً حجارتها عربية.. سترى بقايا قرى خلف الأحراج.. بالفعل، مازالت الآثار تتحدث عن كذبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”..

من مفرق الياجور والناصرة.. عند مدخل حيفا.. أرى الكرمل أمامي مباشرة.. ألتقط صورة للجبل.. فالجبل مكانه لم يتحرك.. رغم كل التشويهات.. على يساري الكسارات.. آلات صدئة.. قلت لتوفيق.. خفف قليلا.. هنا سقط جدي ووالدي في سنواته الأربعة.. هنا بالتحديد على سفح الكرمل.. دهشة اعترتني حين وجدتني أقف مقابل المكان الذي حدثتني عنه جدتي..

نكمل في طريق، فهمت أنه شُق بعد النكبة، ومن منطقة تسمى “نيشر” يظهر ملعب كرة قدم كبير.. من هنا تبدأ أراضي بلد الشيخ وعلى الجانبين، يقول لي توفيق.. أحدق بما أرى.. وآلاف الأسئلة تجتاحني.. أكبرها.. كيف بقي هؤلاء ورحل هؤلاء؟.. أعود للواقع فالمجزرة لم تترك شيئا.. والمؤامرة فتحت طريقا واحدا أمام “الهاغانا”.. من هنا إذا رحل أجدادي.. رحلة العذاب والشقاء وأرضهم ما تزال هي أرضهم.. إلى اليمين، في الطريق المؤدي مباشرة الى حيفا يظهر جسر أرادوه فوق مقبرة بلد الشيخ.. لم يفلحوا بمحوها لأن ناس الأرض تشابكت أياديهم منعا لهذا العبث حتى بعظام الموتى بعد أن عبثوا بحياة الأحياء..

عند نهاية الملعب الرياضي بالقرب من نيشر، على يمين الطريق، تتوقف السيارة.. أترجل في منتصف نهار أيلولي حار.. هذا بيت عربي أُجريت عليه تعديلات ليقطنه مستعمر من بلد ما باسم “وعد الرب”.. أندفع لأفتش عما في بلد الشيخ.. كنت أحلم أن أجد قبر جدي.. ويا للفاجعة.. فقد نسيت جدي.. نسيت كل آل السهلي.. غبت في ذاتي التي غابت في رهبة التاريخ..

تدنيس للقبور.. محاولات تغيير معالم المكان.. لكنني كنت منساقا إلى حيث لا أدري.. أسأل مندفعا عن جغرافية البلد.. ليس من المعقول أن بلد الشيخ هي فقط تلك الصور القليلة والنادرة التي تقدمها في هيئة المقبرة… إنها أكبر من ذلك.. كان يشير إلي نحو امتدادات من وراء الجسر الى شرق المقبرة وجنوبها وشمالها.. كلها بلد الشيخ.. هنا كانت عائلة السهلي تعيش.. هنا جمع المكان ما لا يقل عن خمسمائة عام من الحياة التي شُطبت بلحظة اختلطت فيها المؤامرة والخوف بالمذبحة..

هنا كان يقطن العمال الفلسطينيون الآتون من مدن وقرى أخرى ليعملوا في حيفا.. فبلد الشيخ كانت الاكبر مساحة في قرى حيفا.. ماذا ألتقط؟.. تركت كاميراتي تقودني.. تنتقل بين الجبل والبلد.. إذا من هنا كانت جدتي زينب الراحلة تشتم نسيم البحر.. ومن هنا كانت جدتي رسمية تلملم ما تقول لها أمها.. هنا كانت تلهو، وفوق سطح ذاك المنزل المتحول الى ركام من حجارة عربية كانت تجتمع مع رفيقاتها ليروين الحكايات.. رمان وزيتون.. وبرتقال.. وتوتة منتصبة تشهد على زمن أهل المكان..

كم هو الوقت قاس وأنت تتجول تاركا لعقلك ومشاعرك أن تسرح، ها هنا حيث إعتاد جدي” أبو نصار” أن يركب الخيل… وربما كان أبي يدور مع أترابه حول شجيرات البلد التي تزاحم اليوم المكان..

أسير ملتقطا لذاكرتي صوراً.. أبحث دون انتظام عما يهديني إلى أجدادي.. حجارة البيوت تتراكم.. وأرض مقلوبة رأسا على عقب..

شجرة رمان دعتني أن أقترب منها.. ألتقط صورة.. أقترب أكثر.. صار الوقت أبعد من منتصف النهار بساعتين.. تتجول عيناي بين الشجرة وكتف الكرمل في المقابل.. تنزلق قدمي.. أكاد أسقط في كوة مفتوحة قليلا تماما على يسار الشجرة التي تغطي ما يشبه غرفة أو ملجأ تحت الأرض.. في تلك اللحظات كان توفيق بعيدا عن مكاني الذي وصلت اليه.. نظرت إلى حيث كانت قدمي ستنزلق.. فأصبت بصدمة.. تجويف تحت الأرض وفي داخله جماجم وعظام بشرية.. صرخت لتوفيق أن يأتي ليرى ما أراهُ.. وثوانٍ معدودةٍ مرت حتى وجدتني تحت الأرض.. رهبة المكان مرة تجعلني هادئا ومرة غير قادر على التصديق..

هذه هياكل عظمية لعشرات البشر، قلت لتوفيق المندهش.. أحمل بين يدي جماجم لأطفال صغار.. لرجال ونساء… عظام ليست مدفونة كما تجري العادة.. إنها أشبه بمقبرة جماعية.. بل إكتشفت بعد لحظات أنها أربعة مقابر.. فلمن تلك الجماجم.. لمن تلك العظام المدفونة جماعيا في بلد الشيخ؟؟

أنا لا أتحدث عن قبور عادية.. فهي موجودة.. حتى لو أصابها التخريب المتعمد.. بل عن شيء مشيد تحت الأرض لعشرات البشر الذين فقدوا أرواحهم بطريقة أو أخرى.. جالت الكاميرا معي.. أتفحص العظام والجماجم.. بدت لي بعضها مثقوبة.. وبعض السيقان والاذرع قد أصابها شيء ما.. هذا عدا عن مشاهدتي ولمسي لحوض آدمي وقد تهشم بفعل فاعل.. لقد أصابتني الدهشة حين كنت أرى الهياكل العظمية، بهذا الشكل الجماعي وهي تتزاحم المكان.. أعترف بأنني في تلك اللحظة استجمعت ما يمكنني من أعصاب باردة، بين جماجم هؤلاء لأسأل سؤالي: من الفاعل؟ وهل هؤلاء هم بقايا جثث المجازر؟ هل هم من بلد الشيخ أم ممن قضوا قبل 60 عاما ورميت جثثهم هناك بعد أن هُجر أهل بلد الشيخ؟

لمن تلك الجماجم.. لمن تلك العظام المدفونة جماعيا في بلد الشيخ؟

كان توفيق، الذي ينظر مندهشا لجماجم الصغار، يضع أمامي الاحتمالات كلها.. لكنني فعلا بين عظام فلسطينية لبشر ضيقوا عليهم حتى في قبورهم، فحُشروا هكذا اعتباطا في مقابر جماعية “مجهولي الهوية”.. وتحديد ما جرى ولمن تعود هذه البقايا للعشرات،  ليس بالأمر المستحيل في زماننا هذا.. لكن من يتحمل مسؤولية البحث ما جرى لهؤلاء ولماذا بعضهم موثوق اليدين بحبال واضحة.. وقد سحبت بنفسي حزامين جلديين لرجلين أو شابين على الأقل.. والدفن لا يتم عادة بلباس أو توثيق بالحبال الغليظة.. ثم كيف يمكن أن تكون بعض الجماجم مثقوبة بهذا الشكل الواضح؟

لماذا بعضهم موثوق اليدين بحبال واضحة.. وقد سحبت بنفسي حزامين جلديين لرجلين أو شابين على الأقل..

ودعت بلد الشيخ وأنا أنظر حولي باحثا عن سبب واحد يجعل هذا العالم المتحضر يثور إذا ما دُنس قبر يهودي في فرنسا أو النمسا، أو أية دولة تدعي الرقي، بينما القبور هنا، ليس فقط بلد الشيخ، بل في كل مكان من فلسطين يجري تدنيس القبور الفلسطينية.. المساجد.. الكنائس.. بل والأنكى هو التدنيس اليومي لقيمة البشر بتشريعات وممارسات حسب الأصول المُرجعة إلى التوراة والتلمود ومحاكم تغرق في عنصريتها وتمييزها الفاضح..

ليست بلد الشيخ، إلا نموذجٍ مصغرٍ لما جرى لكل المدن والقرى الفلسطينية التي جرى تدميرها وتهجير أهلها تحت قرقعة السلاح وفعل المجازر.. إنها القرية الفلسطينية التي لا تختلف عن أخرياتها.. حمل أهلها معهم ذاكرة مورثة عن تفاصيل الحق.. فكان المخيم يروي كل الحكاية في أسماء الأحياء والشوارع التي تحطمت فيما بعد على أيدي الطاغية.. ففيه  كانت تتجسد فلسطين.. بجغرافيتها وبشرها وذاكرتها التي حافظ عليها، وعلى أصالتها من بقي صامدا على أرضها يروي للتاريخ حكاية شعب حولته السياسة الدولية إلى مجرد قضايا معيشية إنسانية، بعد أن حرق اللاجئ خيمة اللجوء ونصب خيمة العودة، ممتشقاً كل ما لديه لكي لا تسقط فلسطين حين يريد لها البعض أن تسقط… حتى من الذاكرة..

عن ناصر السهلي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *