قراءة في كتاب الحكمة ( أوشو)

لا أنكر أن عنوان الكتاب* إستفزني ، فالحكمة تبدو مُلغاة في عصر الجنون والإجرام ، فماذا يمكن أن يقدم لك كتاب موضوعه الحكمة ؟ولأن الكاتب الفيلسوف أوشو الذي يجمع بين صفتين نادرا” ما تجتمعا البساطة والعمق . فقد قرأت الكتاب بيوم واحد بافتتان بلا مبالغة . وأظن أن كتاب الحكمة هو أهم إنجازات أوشو من بين كتبه كلها .

يقول أوشو : يتميز القرن العشرين بوجود أكبر عدد من الناس اللذين يتساءلون عن معنى الحياة ؟ ولماذا نستمر في هذا العيش القاسي والعنف والقتل والمجازر والحروب الأهلية تتكاثر في العالم ؟ أصبح إنسان اليوم خائفا” من الحياة ، أكثر بكثير من خوفه من الموت . أصبح وجوده بحد ذاته يخيفه ، إذ كيف عليه أن يتكيف مع حياة بتلك القسوة والوحشية ؟

لكن طبيب النفوس المعذبة يُعلمنا كيف نحول النقمة إلى نعمة ويبين لنا أن لكل سلبية جانب إيجابي أيضا” ، وبأن القوى التدميرية والإبداعية ليستا شيئين مُختلفين بل هما وجهان للطاقة نفسها وبأن كلمة الشر باللغة الإنكليزية حين تعكس حروفها تصبح الحياة . يعلمنا أوشو أن وجودنا مرتبط بالكون وبأن علينا أن نبدأ بتأمل أنفسنا ومشاعرنا ، إننا لا نعرف أنفسنا بل نسعى لنكون كما يُريد منا الآخرون ، أصبح إنسان اليوم لا يشعر بالسعادة إلا بمقدار رضى الآخرين عنه . وكل بناء المجتمعات الإنسانية مؤسس على نوع من التنويم المغناطيسي ، بنائه قائم على روبوتات وليس بشر ، قدر البشرية أن تهبط من مستوى الإنسان إلى مستوى الرعاع ، يتحرك المجتمع وفق سياسة مدروسة بدقة وهي السيطرة على روح الإنسان –الفرد – وأساس تربية الطفل تقوم على زعزعة ثقته بذاته وجعله مرتبط كليا” بآخر يقوده ويوجهه ويعلمه ميوله ويرسم له حياته ، يمكن للمجتمع أن يدمر روح الطفل مع إمكانية جعله رئيس وزراء . لأن غاية المجتمع الرئيسية هي السيطرة ، وحين تتم السيطرة على روح الشخص فإنك تجعله مُترددا” وخائفا” مدى حياته وبحاجة لمن يقوده ويتخذ القرارات عنه ، إلى الحد أن البعض يرغبون أن يكونوا مُضطهدين ويتوقون إلى طاغية !والا لما تمكن أشخاص محدودي الذكاء مثل هتلر وموسوليني وماوتسي تونغ أن يقودوا العالم . لكن ثمة أمل بالتحرر من هيمنه المجتمع الطاغية ومن هيمنه القوى العظمى التي تتحكم بالعالم وبمصير البشرية ، الأمل يكمن في ذاتنا الحُرة ، يقول أوشو : كُن ولا تحاول أن تُصبح ، ليس عليك أن تصبح أحدا” آخر ، أنت سلفا” كما أنت ، أوقف مطاردة الخيالات ، اجلس بصمت وكن ذاتك . كم من الأشخاص يتقبلون ذواتهم ويتحررون من هيمنه المجتمع لجعلهم أشخاصا” وفق مواصفات معينه ؟ من يريد أن يتعلم فن الحياة عليه أن يتقبل أن يكون غير مستقر وأن ينسجم مع عدم استقراره ، لأن الاستقرار هو السكون ، والسكون حالة سلبيه ، السكون هو البلادة والموت ، حالة من اللا أمل حيث لا يوجد ما تنتظره . بداية الحياة الحقة تقوم على ثقة الإنسان بنفسه ، حرر نفسك من سموم المجتمع بالتأمل العميق ، ولا تعنف نفسك حين ترتكب الأخطاء ، فالخطأ جزء من الطبيعة البشرية ، ولا داعي للتوبة لأنها أشبه بالعبث بالجراح ، يكفي أن تعترف بينك وبين نفسك بأخطائك حتى يحصل التغيير ، على الإنسان أن يتعلم كيف يتأمل نفسه جيدا” ، حتى حين يكون تعيسا” وحزينا” عليه أن يتأمل حاله ومشاعره ، عندها يخلق مسافة بينه وبين حزنه ، لقد مارس بوذا التأمل لسنوات ، حتى وصل إلى حالة الاستنارة وهي المصالحة مع العالم ، يُقال أن بوذا أينما كان يتحرك ، كانت الأشجار تُزهر قبل أوانها ، لأنه امتلك جوهر الحياة الذي هو كينونة الإنسان المرتبطة بكينونة الكون . علينا أن نسير باتجاه ذاتنا ، أن نحقق ذاتنا كما نحن وألا نخشى ذاتنا ، الناس يتكلمون كثيرا” ويكثرون من الكلام لأنه يشغلهم عن تأمل ذاتهم ، عن حقيقة وجودهم . يعلمنا أوشو فن الحكمة بأن نكون حقيقين وغير مزيفين ، يقول : ليست الكراهية هي نقيض الحب ، بل الحب الزائف هو نقيضه ، وليس الغضب هو عكس التعاطف بل التعاطف المصطنع هو نقيضه ، الابتسامات التي لا تخرج من القلب والتي لا تحمل أي شعور هي ابتسامات زائفة . الإنسان الزائف يخشى أن يقترب منه أحد ولا يسمح لأحد بالاقتراب منه بشكل صميمي ، لأن الصميمية تسمح للآخر برؤية الأعماق ، وهو لا يريد لأحد أن يرى أعماقه المُزيفة ,إن كنت مزيفا” سوف تعيش تعيسا” حتى لو كنت مشهورا” وتحت الأضواء . يعلمنا أوشو أن نكون مثل المرآة ، المرآة تعكس لكنها لا تتأثر ، لا ينطبع أي شيء عليها ، لنتأمل وجودنا وتعاستنا وألمنا كما لو أننا مرآة ، تنعكس عليها هذه المشاعر لكنها لا تنكسر ولا تُصاب بالغبش ، حين نراقب أحزاننا تظهر مسافة كبيرة بيننا وبين الحزن ، نتحرر إلى حد كبير من وطأته ، نتعلم كيف نحوله إلى شيئ مفيد ، إن السم ذاته يمكن أن يكون دواء ، وطاقة الشر يمكن تحويلها إلى طاقة خير ، كل شيء يعتمد على طريقة نظرتنا للحياة وقراءتنا لها ، ألا نخشى الموت ، لأن الموت يكشف الحياة عبر التباين ، إنه اللوح الذي كُتبت عليه الحياة . إن رغبة الإنسان بالإنجاب ليست مرتبطة بالأطفال فقط بل ارتباطها الأساسي هو أن الطفل يجعلنا خالدين وأحياء بالوكالة . يضعنا أوشو أمام سؤال رائع : تخيل الحياة بدون موت وستعرف كم الألم غير المُحتمل فيها ، سيكون وجودا” غير محتمل ، ولو كانت الحياة أبدية فمن سيهتم بها !الحياة ليست ولادة وموت –يقول أوشو – بل محيط تتحرك فيه الأمواج بشكل دائم . وفي قطرة ندى يكمن المحيط ، والبذور لا يمكن أن تقابل الشجرة أبدا” عليها أن تختفي وتموت لتظهر الشجرة ، هكذا الحياة ، لا يريدنا أوشو أن نكون أمواتا” على قيد الحياة ، ولا أن نعيش الحياة كما لو أننا أنابيب حيث تمر الحياة من خلالنا كما يمر الطعام المهضوم ، ولا أن نقتل الوقت بالثرثرة والتفاهة لأن الوقت هو الحياة وقتل الوقت هو قتل الحياة . الحكمة الحقة هي في رؤية الجوهر ، جوهر الكون وجوهر الإنسان ، . يؤمن أوشو أن باستطاعة كل منا أن يكون نور نفسه . عندها تصبح الحياة تسبيحا” للوجود ويصبح التعاطف بين البشر وسيطا” للتغير وطرد الشر وتحويل طاقته التدميرية إلى طاقة بناءة .

العالم مُقدم على انتحار كوني إن استمر بهذه الطريقة من العيش . غياب الحكمة يحولنا إلى أموات على قيد الحياة . كتاب الحكمة لأوشو صرخة حق مزلزلة قبل فوات الأوان ، إنه دعوة لكل إنسان أن ينتبه أن النور بداخله ، وأننا لا نزال نملك الفرصة لنستيقظ من أوهامنا ونرمم الخراب حولنا وداخلنا . من مثل أوشو يعلمنا كيف نرمم تصدعات أرواحنا المُعذبة .

وأخيرا” لا يسعني إلا أن أشيد بالترجمة الرائعة لمتيم الضايع . الذي ترجم العديد من كتب أوشو .

* الكتاب : كتاب الحكمة : 300 صفحة عام 2014

الكاتب : أوشو

الناشر : دار الحوار –اللاذقية . سوريا

المترجم : متيم الضايع

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *