أخوات السرعة Speed Sisters حالة فلسطينية

قراءة في فيلم عنبر فارس

 

إن جمال صورة الرجل الفلسطيني في هذا الفيلم النسوي الذي يتناول حياة نساء رائدات في مجال سباق السيارات في الشرق الأوسط، هو شهادة ذكاء ورقي للمخرجة. فهي صورة تجمع بين حقيقية هؤلاء الرجال تحديدًا وبين الصورة المأمولة لعلاقات طبيعية ومجتمع سليم، والتي أصبح الوصول إليها اليوم صعبا للغاية.

 رغم اختلاف أراء – القلة من- الرجال المتواجدين على الشاشة فيما يخص ممارسة النساء لرياضة سباق السيارات، إلا أن الصورة الغالبة في الفيلم هي للأكثرية المُشاهِدَة أو الداعِمَة منهم. نرى الآباء والإخوة والأصدقاء منغمسين في مساعدة الصبايا في تحضير السباق وتجهيز السيارات ونرى الآلاف من الرجال يشكلون جمهوراً مشاهداً مشجعاً، ولا شك أنها من الصور النادرة في الأفلام التي تعرض الحال الفلسطيني عامة.

“لو بقي الفيلم في منطق كسرالمألوف وصورة المرأة لما تألق”

لم تتخذ المرأة في هذا الفيلم موقع المتسابقة، اللاعبة، المُتَفَرَّج عليها فقط، فقد لمعت الأمهات والصديقات أيضاً بمواقعهن إلى جانب اللاعبة وبين الجمهور أيضاً. ورغم اختلاف الواقع (الذي نعتقد أننا نعرفه) عن هذه الصور، إلا أن الشعور العام هو أننا نشاهد واقعاً جميلاً، مسالماً، طبيعياً.

ينبض الفيلم من بدايته بثقة وتحدي وفرح كما باعتيادية وواقعية، خاصة مع سيارة نور التي لا تعمل وتحتاج إلى “دفشة”، ويستمرُ بعرَض نفَسِه دون مبررات أو مقدمات أو أعذار، بل يتسارع بإيقاع عالٍ وسعيد خاصة مع الموسيقى المختارة بنجاعة. وبينما يقدم واقعًا فلسطينيًا “مختلفًا”، غير مألوف للعالم الخارجي، فإنه يكشف أيضًا عن ممارسات غير معروفة للجمهور المحلي الفلسطيني، ويثير الجدل حول تركيبة المجتمع وعلاقاته الداخلية، أوضاع المواطن، الجنس و”الأنوثة” كما السلطة والسلطة الوطنية.. ويجتمع كل ذلك في موقع وصورة المرأة.

أما المعالجة التي استحوذت على اهتمامي وتقديري تمامًا، هي قراءة المخرجة ونظرتها إلى المجتمع الفلسطيني (في مناطق سيطرة السلطة في الفيلم)، المنقسم إلى سلطة وشعب – والى فئات اجتماعية واقتصادية وفكرية تتصارع مع النيو ليبرالية المتغلغلة في فلسطين، بما فيها من معاداة فكر فلسطيني لفلسطين، تحت مسمى التقدم والتحرير.

لا شك أن هذا الصراع هو عالمي، وأن الفيلم يحاكي مجتمعات عالمية كما يحاكي فلسطين، ولكن مما لا شك فيه أيضا أن النضال الحقوقي السياسي النسوي الفلسطيني لا يزال يأمل ويسعى لان تعمل شرائحه في ذات الاتجاه دون صراعات داخلية تحرف من مساره وقوته وحلم نجاحه بعدالة سياسية واجتماعية.

“نتابع من البداية الصراع بين أهم متنافستين، إحداهن%امرأة” والأخرى “أنثى”، وبين شريحتين مجتمعيتين اقتصاديتين…”

كأغلبية الناس، لم أكن أعلم بوجود هكذا سباق في فلسطين للنساء، أو حتى للرجال، وليس ذلك بسبب فقر الإعلام والدعاية فقط، وإنما بسبب كارثية الحياة القمعية التي نعيش أيضًا.  فأعداد الشهداء والأسرى، كما المظاهرات والمواجهات، صعوبة التنقل أو استحالته، هدم البيوت والإنسان تحتل وبحق الواجهة الفلسطينية الحقيقية. لذا، لا غرابة في أن يوصم الفيلم بالبرجوازية و/أو الأوسلوية، بسبب الاهتمام برياضة “الأغنياء” الدخيلة، وأن يُتَّهم بالانفصال عن الواقع خاصة من قبل “أبناء الهم العام”، وهم كثر، الذين يسعون إلى إنتاجات تضيء على هذا الواقع أملًا بفضحه واستمرار النضال من اجل تغييره وتحريره!

لكن الحياة تستمر، وتتشعب تلقائيًا طالما هناك قلب ينبض، وأجيال جديدة تكتشف وتستحدث لغات جديدة. ومع مشاهدة الفيلم نرى أنه يحاكي، من بدايته حتى نهايته، الواقع الفلسطيني المحيط به، في مناطق (أوسلو- السلطة الوطنية) جنين، أريحا، بين لحم … بل ويسلط الضوء تدريجيًا على عدد من الأزمات والقمع الذي يسببه الاحتلال دون أن تقع أي من شخصياته في فخ التصريحات السياسية الخشبية، خاصة مع قرار الكاميرا التمركز في الحيوات والأحلام “الخاصة” لشخصياتها.

جلبت المخرجة كاميرتها لتوثق حدثًا وقصة اكتشف أنها موجودة فعليًا في المجتمع الفلسطيني عام 2016، وهو اكتشاف يثير الفضول ويحث على الاستقصاء بلا شك، خاصة في ظل ما ذكر سابقًا.

أما الأسلوب الروائي الذي اتبعته عنبر فارس في معالجة الشخصيات والعلاقة بينهن، فقد أضفى على هذا الفيلم الوثائقي تألقًا آخر، وجعل منهن أشبه بممثلات في فيلم روائي تم إعداده مسبقًا- يقمن بأدوارهن الحقيقية مع كل المشاعر والتخبطات والآمال-، ونجحت المخرجة بذلك في التوفيق بين حضور وعلاقة الشخصيات الرئيسية الخمس في الفريق، اللواتي ارتكز عليهن الفيلم، والتنافس بين اللاعبتين الرئيسيتين في الفريق ذاته كما في الحياة، بالإضافة إلى أنه ترك مساحة جيدة للبحث والتساؤل عن باقي فلسطين التي نعرفها.

نتابع من البداية الصراع بين أهم متنافستين، إحداهن “امرأة” والأخرى “أنثى”، وشريحتين مجتمعيتين اقتصاديتين غاية في الأهمية في فلسطين، وعلاقة كل منهن في المكان، في مفهوم الفردية و “الهم الشخصي أو العام”، في معنى المنافسة والفوز وفي الوعي السياسي والإنساني، ذلك رغم تنوع الشخصيات الأخرى واختلاف أحوالهن الحياتية.

يشتد التنافس بين الشابتين، مرح وبتي، مرح ابنة المخيم المنتمية له، ولعائلتها وتاريخها وقضيتها، والتي يُشكِّل تجميع وتحضير سيارتها جزءا هامًا من الفيلم ونضالًا عائليًا يحلم بالفوز وتمثيل فلسطين في الخارج رغم كل المعوقات والوضع الاقتصادي المتدني. وبين بتي، أبنة بيت لحم، المولودة في المكسيك، والمنتمية فلسطينيًا ومكسيكيًا، تسابق الموضة وتدرك أهمية الكاميرا كما وأساليب التموضع العصري أمام عدستها.  وهي صاحبة السيارة الجديدة والأنيقة، التي اعتادت أن تحصل على ما تريد وتسعى بكل ما لديها من رغبة وقدرة ومعرفة ومال لأن تكون “البطلة” وتصل العالمية.

نرتبط ارتباطًا أشبه بالشخصي مع “البطلة المظلومة” مرح، بملامحها الشرقية، شعرها البني وتلقائية حضورها الحازم، المطالب بالعدالة والاحترام ونتمنى أن “نفوز” معها أو أن تفوز من أجلنا، ونرتبط بالتالي مع الفيلم أكثر ونغدو طرفًا هامًا في المباراة وفاعلًا في الفيلم.  تتألق المعالجة السينمائية أيضًا في هذا السياق؛ من خلال عدم تفضيل مرح عن الأخريات من شخصياتها وخاصة بتي، المنافسة الفردانية المختالة بجمالها، التي تعتني بمظهرها وأنوثتها وإغرائها وتسعى للفوز باي ثمن. ورغم أنها كسبت السباق من دون حق، إلا أن المخرجة استمرت بحمايتها والتعامل معها بسواسية مع زميلاتها، بل وبعرض الصورة التي اختارتها بتي لنفسها حتى اللحظة الأخيرة، وبالتالي لم تضع المخرجة نفسها موضع الحَكَم، بل تركت هذا الموقع للمشاهد.

الممارسة “النيو ليبيرالية” التي تتمثل بشخصية بتي، التي لا تخلو من الغرور، بل ومن المجاهرة الواعية به، رغم عفويتها، التي تُسَخِر إمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية، الأنثوية، لا النسوية، كما وموقعها من السلطة -التي تغض الطرف بدورها عن أخطاء بتي وتدعمها دون حق- من اجل الفوز، هي بلا شك توصيف لشريحة مهمة تستحق الاهتمام في المجتمع الفلسطيني والسلطة القائدة.  وتشكل انشقاقًا كبيرًا عن الصورة والخطاب الذي رافق مسار النضال الفلسطيني والنسوي الساعي منذ بداياته لعدالة سياسية تاريخية واجتماعية.

تقول بتي، بعد فوزها، رغم أن صندوق سيارتها كان مفتوحًا خلافًا للقوانين: “… لا يهمني، أنا لم أعد اهتم بمنافسة البنات، أنافس الرجال حاليًا. نعم نحن فريق واحد، ولكني لا اشعر أننا فريق واحد”

لا يعيب شخصية بتي اهتمامها بشخصها وطموحها، ولا يتعارض مع أهمية حب وتطوير الذات وحلمها، إلا أن ممارسات هذه الشخصية في سياق الفيلم، وأخلاقيات التنافس في ذات الفريق، كما وترجيح الشخصنة على حساب القيمة يجعل منها مثلًا رائعًا يجسد قوانين القوة والسوق العالمية الحرة مقابل الحق والوطنية المحلية.

فَرحت ُحتى الدموع عندما فازت شخصية مرح الوطنية، الفقيرة ماديًا والشامخة نسويًا، بالسباق، وعدا عن كون هذا الانتصار حقيقيًا موثقًا، إلا أنه نهاية رائعة لفيلم يحفظ الأمل لفلسطين. ولو بقي الفيلم في منطق كسر المألوف وتغيير الصورة المتعلقة بأحوال “المرأة” لما تألق. لكن يبقى السؤال؛ هل ما زال بإمكان “مرح” الفوز اليوم أيضًا؟ أم أن العقبات التي تنتظرها، وأمثالها، أصبحت صعبة التخطي؟

** بين 3 و10 شياط 2022، يعرض الفيلم مجانا على الرابط  التالي  https://www.womencaravan.online/speed-sisters ضمن نشاط “كارت بلانش” على منصة “قافلة بين سينمائيات” ، وهي صاحبة الدور الرائد منذ عام 2008 في خلق شبكة فنية ثقافية دولية من صانعات الأفلام للمساهمة في تطوير العمل السينمائي النسوي، والعربي منه خاصة ، كما وتعزيز التعددية الثقافية والمساواة بين الجنسين…  https://www.womencaravan.online/

 

عن علا طبري

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *