غيضٌ من نبيل

ليست المرة الأولى التي يجد نفسه فيها في مواجهة الموت، في كل مرة كان يتعالى عليه ويكسره بشجاعة.

إن التفت من كان يدخل إلى ثانوية اليرموك للذكور إلى اليمين يجد غرفة في زاوية ميتة، هذه هي غرفة الشبيبة، لم تكن ذات سمعة طيبة، يتجنب الطلاب المحترمون دخولها، لأن في ذلك شبهة يصعب حملها، فهي مكان إعداد التقارير واجتماع قاذورات العواينيّة، وما كان يحسِّن من سوء سمعتها في أعيننا قليلاً أنه كان أمامها باحة صغيرة تُعدُّ ملاذاً آمناً للطلاب المدخنين نظراً لما تحققه من حماية من أعين الموجهين المتلهفين للإمساك بطالب يدخن لإنزال أشد العقوبات بحقه، أضف إلى ذلك أن موقعها المحايد كان يؤمِّن الوقت الكافي للتخلص من آثار السجائر والهرب في حال( الكبسات) المفاجئة، أضف إلى أن موقعها يسهِّل عملية رصد خروج أحد الوجهين من الباب المفتوح على باحة المدرسة.

ولذلك اعتمد الموجهون في المدرسة على استراتيجية تفتيش الطلاب المشتبه بهم، وهذه أيضاً كانت مشكلة محلولة، وثمة خطط دائماً لإخفاء السجائر. مع ذلك كان مجرد وجودنا هناك يلصق بنا شبهة التدخين، وأظن أن المؤدبين من الطلاب لم يقربوا هذه الزاوية طوال ثلاث سنواتهم في الثانوية.

في تلك الزاوية كان لقاؤنا الأول، ومنها خطا أغلب الطلاب خطواتهم الأولى نحو احتراف التدخين على يد الجهابذة العظماء الأوائل، ومن تسلق الجدار المحاذي لها كان يسهل هربنا إلى خارج الثانوية، إضافة إلى الحائط الغربي في الباحة الذي كان يوصلنا إلى الحديقة على طرف حي المغاربة.

هنا في هذه الزاوية لا وجود للملكية الخاصة للسيجارة، بل هي عار إذا لم تُقَبِّل شفاه كل الراغبين بها، فهي تدور على أفراد المجموعة، ولهذا فائدة عظيمة وهي أن نفساً واحداً لن يضيع منها هباءً، لم نكن نتيح لها أن تُصَعِّد دخانها، فكل نفس فيها ثمين وضياعه خسارة عظيمة.

 في الغالب الأعم كنا نجمع ثمن العلبة من اشتراكات الجميع، أو مما حمله بعضنا من علبة أبيه في غفلة منه..

كان نبيل من حارة المغاربة وهذا كفيل بأن يدفع الآخرين لاختصار الوقت، إنه شيء يشبه امتلاكك جوازَ سفر تسافر فيه إلى أي مكان في العالم المخيم بلا فيزا، وسيكون لك مكاناً معتبراً في المجموعة، بمعنى آخر إذا كان تقدُّم علاقة يحسب من عشر درجات، فإن ابن حارة المغاربة أو الغوارنة أو حارة الفدائية.. سيكون حاصلاً على خمسة مسبقاً، بينما يحصل غيره على درجة أو درجتين، وعليه المرور بفترة اختبار أصولية، والأمر متعلق بالموقع الاستراتيجي والتأهيل لا أكثر.

في حارة المغاربة, حين كنا صغاراً,  كان معسكر الأشبال( فتح) قبل نقله إلى عدرا وتحويله إلى المدينة الرياضية، والسعودية( المزبلة) التي صارت مركزاً ثقافياً فيما بعد، والحقيقة أن هذا أفقدها شيئاً من أهميتها الاستراتيجية فهذه المزبلة كان مصدر رزق للكثيرين من الأولاد من النحاس إلى الألمنيوم إلى البلاستيك، وهذا أهم عندنا من الثقافة التي ستشع أنوارها لتعم المخيم.. ولكنها مع ذلك حافظت على هيبتها، وفي فترة الثمانينيات كانت مدينة الملاهي في حمى حارة المغاربة أيضاً، حتى غدا أهل حارة المغاربة وكأنهم سدنة المخيم.  فقد كان لكل حارة في المخيم اختصاص تُعرَف به على أي حال.

من تلك  الزاوية عند غرفة الشبيبة بدأ مشوارنا، وكان أول شيء فكرنا فيه ونحن ندخن، هو هذه الغرفة التي للشبيبة، كانت الفكرة أنها يجب أن تكون لكل الفصائل الفلسطينية وخصوصاً أننا كنا نكره الشبيبة والشبيبيين لأنهم عواينيّة أولاد حرام!

كرهنا الشديد للشبيبة كان مبكراً منذ الأسبوع الأول في الثانوية، حضر يومها الموجه سيئ الصيت والسمعة( ك. د) ومعه أعضاء من الشبيبة ومعهم أوراق انتساب، كانوا يبدؤون بالكلام المعسول وبعد أن شرحوا لنا نحن الطلاب عن فضائل الشبيبة طلبوا منا أن نملأ طلبات الانتساب بشكل طوعي، ولكن أحداً لم يكن يرغب بذلك، وهذا ما جعلهم يصعِّدون في لهجتهم إلى أن وصلت إلى التهديد بالطرد والتحويل إلى الأمن! في النهاية أخرجوا إلى باحة المدرسة وهناك وجدنا نصف عواشر المدرسة من الرافضين للانتساب وعلى المنصة المدير وحاشيته والأهم بينهم كان الرقيب علي، جمعونا ثم تحدث المدير معنا بما معناه أننا متمردون ومن يرفض الانتساب سينظر إليه على أنه خارج على الدولة، ولكن هذا كله لم يكن ينفع، وبدأت حفلة التعذيب لردّنا إلى جادة الصواب، يومها عرفت أن نبيل كان مريضاً بالقلب، أبناء حارته حاولوا إقناعه بالانتساب خوفاً عليه، ولكنه رفض بشدة، كنا نعرف أننا نستطيع الانتساب والانسحاب بعد ذلك دون أية مشكلة، ولكن الأمر ببساطة كان متعلقاً بالشرف، وبالعار الذي سيلبسنا إن نحن رضخنا لهم! بعض الطلاب أخبروا الرقيب علي بأنه مريض، خوفنا هذا على نبيل جعلنا نتأهب لتمرد حقيقي نحرق فيه المدرسة، وبدأ البعض يرفضون تنفيذ أوامر الرقيب علي، كل هذا أجبرهم على إيقاف الحفلة، ولم يفُت الموجّه المخبر تهديدنا بأن أسماءنا ستذهب إلى الجهات الأمنية وسيكون موقفنا صعباً في الثانوية، هذه التجربة عرفتنا على نبيل النبيل الذي لن يزداد إلا نبلاً مع تقدم العلاقة.

حدث فعلاً وأن صارت غرفة الشبيبة مكاناً لاجتماع ممثلي الفصائل الفلسطينية لفترة ليست بالطويلة، بل أصبحت مكاناً للتدخين وفيها يمتلك المدخنون حصانة لا يجرؤ( ك. د) ولا الرقيب علي على كسرها.

كان نبيل عضواً في الجبهة الديمقراطية ومحمود شواهين والمرحوم عصام العايدي في فتح وقاسم حسن في الشعبية وأنا كنت الشيوعي وكان هناك المستقلون مثل سيد قطب ونضال السقا وهكذا. لم يكن هذا هو العامل المهم في علاقتنا التي أحب أن أقول إنها حكاية كل مخيم اليرموك، وكل شلة فيه.

كان الهم الفلسطيني على رأس أولوياتنا، وفي تلك الفترة أي الثمانينيات كانت الفصائل الفلسطينية في حالة تنافس وأحياناً صراع، لم يكن ابن الديمقراطية يلتقي بابن فتح المنشقين مثلاً، ولكن الشيء الذي تميّزنا به أننا اختلفنا في كل شيء ولكن الذي حافظنا عليه هو علاقتنا المتينة، هذه العلاقة التي قوَّت عراها هذه المشتركات التي إن خسرناها خسرنا مخيمنا، كان هناك إحساس عام وعميق بأن المخيم هو حبلنا السري، وللحفاظ عليها اعتدنا في فترة من الفترات على جلسات كنا نعقدها وكنا نسميها جلسات النقد الذاتي، وفيها كنا نعالج خلافاتنا ونكاشف بعضنا البعض. كلما كنا نكبر قليلاً كانت المجموعة تتوسع ويدخل فيها شباب آخرون، والقاسم المشترك كان فلسطين.

لم نتأخر عن حدث أو مناسبة إلا وكان لنا كلمة فيه، لدرجة أننا شكلنا مجموعتين للدفاع عن حق العودة: (الرابطة الفلسطينية لحق العودة) و(لجان الأرض) اللتان تشرفت بالمشاركة في تأسيسهما في بيتي، والشيء الذي قد يستغربه البعض، أننا اختلفنا حول بعض التفاصيل فانقسمنا إلى مجموعتين: واحدة مع لجان الأرض والثانية مع الرابطة، واستمر الاجتماعان بشكل طبيعي وودّي.

الحقيقة أنني لم أعد أذكر أو أهتم بمن كان في الرابطة ومن كان في لجان الأرض، فقد كانت كل أنشطتنا مشتركة، وقد أذكر منها على الخصوص نشاط أكبر علم فلسطيني والإضراب عن الطعام في مبنى الأمم المتحدة في دمشق..

كان المرحوم نبيل إبراهيم والمرحوم أبو العبد عصام والمرحوم جعفر محمد وعامر خرما  وخالد السمرة وأبو الخير موعد وعماد رشدان ومحمود شواهين ويوسف فخر الدين وخالد طعمة وبسام الصايغ وعبد الله الطيب ومحمود خليل  وشباب خان الشيخ حتى تحولت بيوتنا إلى ما يشبه المكاتب، وعلى الأخص بيت نبيل إبراهيم وعامر خرما وعماد رشدان وخالد السمرة وأبو سلمى، أما بيت أحمد أبو بكر فهو الأكثر دفئاً فقد كانت سَكِينتنا فيه..

وللقصة بقية…

عن أبو سلمى خليل

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *