المصدر: المعهد المصري للدراسات

عشرة أعوام على الحركة الثورية

أحيت، وتحيي المنطقة العربية الذكرى العاشرة لانطلاق الحركة الثورية الشعبية، عشرة أعوام حافلة بالانفجارات الشعبية، والمؤامرات الإقليمية والدولية، وبالتخبطات السياسية، والتحولات السياسية الإقليمية والوطنية على حد سواء، ومليئة كذلك بالإحباطات والهزائم والانتصارات والتفاؤل الحذر. فمن نجاح تونس في فرض عملية انتخابية دورية، إلى نجاح العسكر في السيطرة على مصر ومن ثم السودان، وصولا إلى التدخلات العسكرية الإقليمية والدولية في سورية واليمن وليبيا والبحرين، مروراً بتصاعد وتيرة القمع الأمني على مستوى المنطقة كاملة وربما يصح القول على مستوى العالم أجمع. مظاهر متعددة وكثيرة تبدو للبعض نتاج هزيمة الحركة الثورية، في حين أجدها انعكاس لمدى ضخامة المهمة الثورية وصعوبتها، وتعبيرا عن حيوية الشارع الثورية وجذريته والأهم على تراكم الوعي الثوري يوما بعد آخر.

إذ تقودنا المحاكمة الصورية المستعجلة إلى التسرع بإعلان فشل الحركة الثورية في المنطقة كاملة أو جزئيا، وكأن المنطقة وشعوبها قد تجاوزت مرحلة الثورة إلى غير رجعة، انطلاقا من زوال مظاهر الثورة في أهم معاقلها الثورية؛ مع التحفظ على اعتبار هذه الدولة أو تلك من أهم معاقل الثورة على حساب غيرها من الدول والشعوب الثائرة؛ مثل سورية ومصر واليمن وتونس قبل بضعة أشهر. حيث تعكس هذه القراءة أحد أهم الأخطاء المتواردة من مرحلة ما قبل الثورة، التي تغفل التراكمات الكمية اليومية المهيئة للانفجار الثوري، فالثروة أي ثورة كانت، هي حصيلة لتراكمات طفيفة يومية لا يعيها المتابع غير المدرك لأهميتها، تصنع الثورة وتؤجج نيرانها حتى زوال أسبابها ومسبباتها. في حين تتسم التغيرات النوعية البارزة والملحوظة للجميع باستثنائيتها الزمنية والمكانية، بمعنى عادة ما تظهر مشاهد الغضب الثوري الاحتجاجي كالاعتصامات والمظاهرات في لحظات محدودة الزمن، وأحيانا تأخذ طابعا فئويا أو مناطقي لا يطال كامل فئات ومناطق الوطن والمجتمع، لذا لا يصح القياس عليها فقط، بل لابد من التعمق في المظاهر والحيثيات الأساسية التي دفعت الشارع عند حد معين أو سبب محدد نحو الانفجار، فالانفجار طارئ بينما الأسباب وتفاعلاتها ذات ديمومة طويلة رغم صعوبة ملاحظتها. إذت الثورة نتاج تراكمات كمية اليومية تبدو بسيطة عند قياسها منفردة، وتفضي لاحقا إلى تحول نوعي يعبر عنه بالانفجار الثوري، وبالتالي لا يصح قياس ثورية المجتمع أو المنطقة انطلاقا من متابعة تحولات المجتمع النوعية فقط، أو ديمومة انفجاراته الثورية، بل لابد من التدقيق ودراسة تحولاته الكمية اليومية وقياس تراكماتها كي ندرك مدى ثورية المجتمع وظروفه المواتية للثورة.

من هنا تشير مظاهر النقمة والغضب الشعبي المكبوتة عن بيئته الثورية الساعية لشق مخرج من الواقع البائس المفروض عليها، وتصبح مظاهر عنف الأنظمة واستبداديتها وتصاعد مظاهر السلطة الأمنية مؤشرات مهمة عن الحالة الثورية الاجتماعية الكامنة ظاهريا. وهو ما نجده في غالبية دول المنطقة العربية من شرقها إلى غربها، المغرب وتونس والجزائر ومصر، والإمارات، والبحرين والعراق وسوريا والأردن ولبنان والسودان…الخ، حتى لو تأخر الإنفجار الثوري فيها أو في بعضها، وهو ما تؤكده وقائع الاحتجاجات الشعبية التونسية واللبنانية في الأيام والأسابيع الأخيرة، كما تؤكده مشاهد الغضب الشعبي المصري ذو الطبيعة الفئوية والطبقية أحيانا والمناطقية في أحيان أخرى المتكررة والمستمرة، وصولا إلى سلوك السلطة المصرية تجاه دعوات التظاهر المليونية، وكذلك نجده في المجتمع السوري في الداخل والخارج مثل الاحتجاجات داخل محافظة درعا والسويداء ودير الزور، وفي مظاهر الغضب والاحتقان والاحتجاج الإلكتروني؛ رغم محدودية تأثيره في غياب الاحتجاج الميداني؛ وعليها يمكن قياس ذات المؤشرات في باق دول المنطقة، دون الحاجة لاستعراضها جميعها الآن، خصوصا في ظل المثال الحي المتمثل بالاحتجاجات التونسية واللبنانية، التي استبعدها البعض نظراً لعدم اكتراثهم بالتراكمات الكمية اليومية الفاعلة بكلا المجتمعين.

وعلى صعيد أخر لا تحظى تحولات الحركة الثورية وتراكم الوعي الثوري فيها بالاهتمام الذي يستحقانه، الأمر الذي ينعكس في تنميط متعمد لثورات المنطقة، وكأننا أمام شكل وأسلوب ونمط ثوري وحيد وأوحد، لابد له من تكرار نفس مظاهر وأخطاء وحيثيات انفجارات المرحلة الثورية الأولى، كالمظاهرات المليونية والدعوات الفيس بوكية العلنية، وعفوية الاحتجاجات والشعارات، والتغطية الإعلامية الفضائية، وغيرها من الظواهر التي عكست ظروف مضت، أو الخاضعة لظرف كل دولة ومجتمع على حدة. فمن الواضح اليوم مدى تماسك وتوحد النظام الإقليمي والدولي في مواجهة المد الثوري، الأمر الذي ينعكس في تهرب إعلامي إقليمي ودولي من تغطية أخبار الاحتجاجات الشعبية، أو على الأقل تهميشها وتجاهل دلالاتها، كما يتبدى في زيادة حجم وطبيعة العقبات المحلية، وبالتحديد الأمنية منها التي تعيق تكرار ذات المظاهر الثورية السابقة، كالاعتصام في ميدان التحرير، أو ساحة الساعة في حمص، بل حتى في المنطقة الخضراء عراقيا وساحة الشهداء لبنانيا. إذا لقد تبدلت الظروف والأوضاع الأمنية المحلية والخارجية، بموازاة اتساع واضح في شريحة رافضي المنظومة المسيطرة والوضع القائم من الباحثين عن مخارج واضحة وحاسمة، الأمر الذي يشير إلى تحولات الحالة الثورية الشعبية، التي تجاوزت أو ربما تتجاوز أجواء الرومنسية الثورية الكلاسيكية ذات الشعارات والخطابات والدعوات التقليدية والجامدة، حيث بتنا نشهد ميلا ثوري نحو اشكال احتجاجية مختلفة، مثل السيطرة أو محاصرة دوائر السلطة ومؤسساتها المالية والإدارية والاقتصادية التي تتجاوز احتلال الساحات، وهو تعبير واضح عن وعي حالة المواجهة وضرورة فرض السلطة والإرادة الشعبية عمليا.

كما يتبدى تراكم الوعي الثوري في تجليات عديدة، مثل سيطرة المبدأ الحقوقي على جزء كبير من الشعارات والنقاشات الثورية والاحتجاجية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، كما يتمدد وينتشر ذات الخطاب في مواقع التواصل الاجتماعية، ليخرق العديد من المحظورات التي تجنبتها الموجة الثورية الأولى مثل الطائفية والمواطنة والعلمانية والمرأة والطفل وحقوق العمال وصغار الكسبة، ودور الدولة الاجتماعي في النواحي التعليمية والرعاية الصحية، ودورها الاقتصادي والتنموي انتاجيا وخدميا. كما يتمظهر في تنامي وعي الشارع بالمتغيرات السياسية الداخلية والخارجية، لاسيما بما يخص فهم التحالفات الإقليمية والدولية المتصارعة فيما بينها والمتوافقة على هدف إجهاض الحركة الثورية وفي حماية المنظومة الدولية والمحلية المسيطرة، ما ينعكس في إدراك أو توسع الشريحة والفئات الشعبية الموقنة بعبثية التعويل الخارجي، لصالح إدراك مدى أهمية بناء تحالفات شعبية عابرة للحدود الوطنية تنسق بين الكتل والفئات والطبقات الشعبية المعنية بالتغيير الثوري الجذري، الذي يطال جميع نواحي الحياة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وهنا أيضا نلمس تحولا بارزا في الوعي الثوري المعبر عن أهدافه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ذات الوقت، على عكس الخطاب الذي تم ترويجه وربما فرضه بشكل مباشر في المرحلة الثورية الأولى قبل عشرة أعوام، الذي حصر المطالب الشعبية الثورية في بعدها السياسي فقط ، كالديمقراطية والعملية الانتخابية الدورية، استنادا إلى قراءة مشوهة ومخلة لواقع الحركة الثورية وأسبابها وظروفها ومتطلباتها، وبتناقض واضح مع شعارات االثورة الأولى، والذي ترافق كذلك مع تسفيه متعمد لمفهوم الديمقراطية وحيثياتها وشروطها الاقتصادية والاجتماعية.

بالمحصلة تمر الحركة الثورية بالعديد من المراحل والموجات الثورية الاحتجاجية الانفجارية المتباعدة زمانيا وأحيانا مكانيا، كما خبرناها في العديد من الثورات العالمية المشهورة، كالثوريتين الفرنسية والروسية، فنجاحهما حصيلة لانفجارات ثورية سابقة، بعضها يعود إلى أكثر من عشرة أعوام، ولكل منها دروسها وعبرتها التي راكمت بحصيلتها وعيا ثوريا جذريا، وأسست لرؤى ثورية وبرامج عمل واضحة ودقيقة، قادت في محصلتها النهائية إلى تأطير وتنظيم موجة الثورة الأخيرة، ما حقق لها انتصارا ثوريا واضح المعالم، يحتفل به العالم أجمع دوريا وهو يتجاهل مراحلها الثورية العديدة وفترات الثبات الظاهر والخادع الطويلة. وعليه نعم لم تنجح الحركة الثورية الصاعدة منذ نهاية ال 2010 في تحقيق التغيير المنشود حتى الآن، لكنها لم تهزم بعد، ومازالت تتفاعل وتنمو كميا ونوعيا، حتى تتمكن من انضاج وبناء عاملها الذاتي القادر على كنس نظام الاستبداد والنهب والاستغلال والاحتلال من جذوره، والتأسيس لنظام منتج ومتطور تسوده قيم العدالة والمساواة والحرية بين جميع أبناءه دون أي تمييز كان.

عن حيان جابر

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *