سهرة مع إلياس خوري وروايته ” رجل يشبهني ” -القسم السادس-

XVII

أدباء المقاومة الفلسطينية بين آدم وإلياس خوري

أنفقت اليوم 16 /1/2023  ثلاث ساعات في البلدة القديمة في نابلس أتتبع الأماكن التي كتب عنها إلياس خوري، حالي في هذا حال إميل حبيبي عندما تتبع حيفا غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا”، ولي عودة إلى هذا الموضوع، إذ كنت في الصباح قررت أن أكتب تحت عنوان “أدباء المقاومة الفلسطينية بين آدم وإلياس” لأخطو خطوة ثانية في إيجاد التشابه بين الكاتب والمؤلف الضمني.

كان السؤال الذي يراودني وأنا أقرأ الرواية بأجزائها الثلاثة هو:- لماذا اقتصر آدم في الحديث عن ثلاثة روائيين فلسطينيين، هم كنفاني وحبيبي وجبرا، ولم يتتبع غيرهم، ولماذا ركز على شاعرين، هما محمود درويش وراشد حسين، دون غيرهما، سواء أدرسهما هو أم مأمون الأعمى؟

كتبت وأنا أدرس “اسمي آدم” تحت عنوان “التناص مع الأدب الفلسطيني” فدرست حضور الروائيين الفلسطينيين الثلاثة وإدوارد سعيد ومحمود درويش، وأتيت على راشد حسين. لقد كان هؤلاء الأعلام الخمسة وبعض أعمالهم ساطعي الحضور في ذهن الشخصية الروائية، ومع أنها ستحكي عن أماكن فلسطينية جديدة ذكرناها إلا أنها لم تأت على أدباء فلسطينيين جدد، فبالكاد يذكر سميح القاسم أو كمال ناصر، ولا يذكر معين بسيسو أو فدوى طوقان أو غيرهم. هل ظلت قراءات آدم للأدب الفلسطيني محصورة في الأسماء الخمسة تقريباً، وفي أنطون شماس الذي درسته في باب التناص مع الأدب الإسرائيلي؟ وكما حضرت الأسماء الخمسة في “رجل يشبهني” يحضر أيضاً شماس.

كان إلياس خوري أصدر بضعة كتب في النقد الأدبي قبل أن يتحول إلى روائي يخلص إلى فن الرواية ويهمل النقد إلى حد كبير، وهذا التحول يدركه جيداً، إذ يحكي آدم عن مشكلة النقاد المزمنة المتمثلة بكتابة الرواية: “هكذا ينهي الناقد حياته الأدبية عبر التحول إلى روائي.. هذا ما أراد إدوارد سعيد القيام به عندما خط كتابه “خارج المكان”، فكتب مذكرات مدهشة لكنه لم يكتب رواية”. وما يشغل بال آدم أيضاً هو أن لا علاقة له بما يكتب، فالكتاب مجرد أداة للكتابة، ولهذا تجدهم يكتبون على الكتابة: “الأدب هو إعادة كتابة أدب سابق عليه، وهذه مسألة يجب أن تشغل النقاد، كي يصلوا في النهاية إلى الكتاب الذي كتب الأدباء مقاطع منه من دون أن يدروا..”

أنهى إلياس خوري، أو كاد، حياته ناقداً ليكتب الرواية، وروايته هذه “أولاد الغيتو” تبدو، في جانب منها، تبدو إعادة كتابة على أدب سابق عليها، وقد أشرت تحت عنوان “الروائي قارئاً ومثقفاً” إلى اكتناز الثلاثية بأبعاد معرفية وبينت هذا بالتفصيل في كتاب “أسئلة الرواية العربية”.

حين عدت إلى كتابي إلياس “دراسات في نقد الشعر” 1979 و “الذاكرة المفقودة: مقالات نقدية” 1981 لأتصفح أدباء المقاومة الذين درسهم فيهما لاحظت أنه درس الروائيين الفلسطينيين الثلاثة والشاعرين الفلسطينيين وركز عليهم أكثر من أي روائيين فلسطينيين أو شعراء فلسطينيين آخرين، وأغلب الظن أنه درّسهم في الجامعة أكثر من تدريس غيرهم. صحيح أنه كتب في “الذاكرة المفقودة” عن شعراء الثلاثينيات والأربعينات من القرن الماضي وكتب أيضاً قليلاً عن فدوى طوقان، إلا أنه لم يقارب الأخيرين مقاربة الخمسة، وهكذا رسخ كنفاني وجبرا وحبيبي ودرويش وراشد حسين في ذاكرته، فظل يحلم بعوالمهم وبمدلولات كتاباتهم الرمزية ، فحضروا حضوراً لافتاً في “أولاد الغيتو”.

“جبراوي وبحب غسان كنفاني”، قلت “زي بعضه، كلهم كتبونا” . “ما الشعر وما الأدب؟ إنهما روح، وإلا فلا معنى لهما”. “هذا النقاش الذي تخيلته كان مدخلي كي أجمع مزق حكايات راشد حسين في حكاية واحدة. أقول حكاية واحدة وأنا أعرف أن لا وجود لوحدانية الحكاية، فكل حكاية هي تأويل، وكل تأويل خاضع بدوره للتأويل”، وقد درس إلياس خوري الموت الجانبي في أعمال راشد حسين معاً.

لا أريد أن أتساءل لماذا درس إلياس خوري الأسماء المذكورة فقط، فهذا متعلق به، ولكني أرى أنه لم يكتب في رواياته عن غيرها؛ من شعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة، إلا لأنه منذ بدايات ثمانينيات القرن 20 تحول إلى روائي، ولم يواصل كتابة النقد فيكتشف أسماء جديدة أخرى.

XVIII

إشكالية التجنيس: أنا وإلياس وآدم.. هل غدوت شخصية مسطحة؟

حسم إلياس خوري أمره فيما يتعلق بثلاثيته “أولاد الغيتو” حين كتب دال “رواية” على غلاف روايته الخارجي، وفي الإشارات التي ختم بها الرواية: “لم تكن كتابة هذه الرواية ممكنة لولا المساعدة التي قدمها لي مجموعة من الأصدقاء الأوفياء..”. وفي الصفحة (502) “أنجزت كتابة هذه الرواية في..”، وحسمت أنا نصي “خربشات ضمير المخاطب” (1997) بتعريفه مرارا بأنه “نص”، ولم يحسم المؤلف الضمني لـ “أولاد الغيتو” أمر تجنيس ما يكتب، وقد ناقشت هذا من قبل وأنا أكتب عن الجزأين؛ الأول والثاني، واستمر آدم في حيرته في الجزء الثالث، ولم تقتصر الحيرة على تجنيس ما يكتب وحسب، فلقد كان حائراً أيضاً في هويته وفي حياته.

تكرر تساؤل آدم حول ما يكتبه بشكل لافت، وتكررت كتابتي عن إشكالية تجنيس دفاتره حتى صار تكراري صدى لتكراره، وخفت أصير شخصية مسطحة يمكن اختصارها في جملة كما يعرف (فورستر) في كتابه “أركان الرواية “ الشخصية المسطحة / الثابتة / غير النامية.

لنر التكرار في كتابة آدم عن الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه دفاتره:

“أنا لست روائياً”، أجبتها.

“كل آن وله أوان، فالحكايات لا تكتب إلا حين تنتهي، لذا نميز بين الكاتب والبطل.. كنت أريد أن أفهم من أنا فلم أفهم شيئاً، وبدلاً من أن أكتب حكاية أو مذكرات كتبت مزيجاً غريباً من النصوص التي لا أعرف كيف أصنفها”.

“صارت (سارانغ لي) هي الإنسان الوحيد الذي رافق مغامرتي مع هذه الدفاتر، من مشروع حكايتي عن وضاح اليمن إلى أزمتي النفسية التي سببها لقائي بمأمون وحكاياته، إلى قراري بكتابة شذرات من سيرتي كبديل من رواية لن أستطيع كتابتها”.

“لكن ما علاقتي بالموضوع؟ ولماذا اعتقدت أن جنياً أو شيطاناً برز من مكان ما، ودفعني إلى كتابة هذا النص الذي أردته أن يكون سجلاً للحقيقة”.

“لا أدعي أنني أكتب أدباً، أقصى طموحاتي هو أن يكون ما كتبته شبيها بالأدب. لكن الكتابة أكثر إيلاماً من الصمت، فلماذا أتابع؟ ولماذا أخضع لهذا الهاجس الذي رفض أن يخلي سبيلي.. وكيف أنهي الحكاية بحكاية، على عادة الرواة”.

“ولن أروي لها عن مشروع حكايتي المجهضة عن وضاح اليمن، أو أحكي لها أنني أكتب كتاباً لا أول له ولا آخر، كتاباً لا يشبه الكتب لأنه لا يروي حكاية واحدة، بل يمزج مئات الحكايات كي يصل بالكتابة إلى كونها فعلاً مستحيلاً”.

“أريد أن أعترف بأن جميع ما كتبته في هذه الدفاتر، لم يكن سوى محاولة لتضميد جروح روحي بالكلمات. هذا الشعور الذي يقدمه لنا الأدب.. لكنني لست إنساناً مهماً كي أكتب مذكراتي، ولست كاتباً كي أكتب أن الكتابة صارت عندي شكلا للتنفس”.

“وعندما سأل ناحوم الفتاة التي تدعى سارانغ لي عن الدفاتر، قالت إنها كتابة عن نصوص كتبها الرجل باللغة العربية..”

ولننظر في الدوال التي يكتبها آدم: لست روائياً، فالحكايات، مذكرات، نصوص، هذا النص، كتابة شذرات من سيرتي..”. لم يقرّ آدم على دالٍ واحدٍ يعتمده فحيّرنا معه في تصنيف ما يكتب.

عندما كتبت “خربشات ضمير المخاطب” (1997) وكتبت عن تجربتي الروائية المحدودة شهادة ألقيتها في مؤتمر الأدب الفلسطيني في جامعة بير زيت، قلت إن الخربشات هي كوكتيل من الأجناس الأدبية، فهي سرد وبعض سيرة ويوميات وقصائد نثر وقصص قصيرة، ذلك أننا إذا اعتمدنا الرواية التقليدية معياراً سنسقط “الخربشات” من جنس الرواية، ولا أظن أنها تقبلت يومها على الإطلاق، ولذلك لم أتشجع لنشرها ورقياً ونشرتها على مواقع إلكترونية يمكن أن يعثر عليها المرء الآن في موقع “ديوان العرب”. (حول تجربتي الروائية ، جريدة الأيام الفلسطينية ، 2 / 5 / 1997)، فهل قرأ إلياس خوري هذه الخربشات التي رفض محمود درويش نشرها في مجلة “الكرمل”؟؟

ما ينبغي أن أقر به هو أن ثلاثية “أولاد الغيتو” مختلفة كلياً عن “خربشات ضمير المخاطب” ولا تتقاطع معها إلا في جانب واحد هو إشكالية التجنيس، وهذه إشكالية لا يعاني منها إلياس، وإنما تعاني منها شخصيته الروائية – أي المؤلف الضمني.

ها أنا أكرر الكتابة وتكرار الحكي سمة اتسم بها آدم في أجزاء الرواية الثلاثة ويبدو أن عدواها انتقلت إلي.

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

تداعيات حرب 2023/ 2024: تـداعـيـات قـراءة روايـة ابتسام عازم «سفر الاختفاء»

عندما كتبت عن يافا نبهني بعض القراء إلى رواية ابتسام عازم «سفر الاختفاء» (2014). وعندما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *