صادق في ذهني أن إيقاعات الأدب والفن والتصوف والفلسفة الذاتية إنما تصدر عن حساسية باطنية تستهدف الاستنكاف المتعالي، أو الصعود فوق المياوم الوضيع باتجاه الديمومي الرفيع. وما من ريب في أن النص الذي ينجز هذه المهمة الجليلة هو أدب معياري، أو عظيم القيمة وخطير الشأن، لأنه شديد القدرة على صقل النفس وتزويدها بمشاعر السمو والكمال التي هي أعلى مطالب الإنسان وأرقى غاياته وأهدافه. ولعل من شأن هذه المذهب أن يتضمن ما فحواه أن الحساسية هي الأس الأولاني الذي ينبثق منه الأدب والفن الأصيلان.
فالكاتب الأدبي روح حساس رهيف الوجدان، بل قل إنه أكثر حساسية من سائر الناس. وهذا ما تنبه له ابن رشيق في «العمدة» حين قال بأن الشاعر يشعر بما لا يشعر به سواه. وههنا يتبدى الفرق ناصعاً بين كاتب شديد الحساسية وآخر لا يملك إلا أن يتجول فوق سطح الأشياء فقط. ولئن كان الأمر كذلك، فإن واحدة من أكبر وظائف الناقد الأدبي لا بد لها من أن تكون الكشف عن حساسية الكاتب، وكذلك عن زخمها ومدى فاعليتها أو قدرتها على البلوغ إلى لباب الأشياء. فما من كاتب أدبي جاد إلا وهو مهموم بهم كبير يتلخص في أن هذا العالم ليس على ما يرام.
ولئن حاول النقد أن يكشف عن حساسية الكاتبة الفلسطينية سميرة عزام (1927-1967)، وهي التي اغتالها الموت على نحو مفاجئ ومبكر جداً، فإنه سوف يلاحظ، بعد التأني وحسن المأتى، أن مثنوية المقدس والمدنس، أو النظافة والقذارة، هي التي تؤسس بعضاً من أجود القصص في تراثها كله. ولعل مما لا تخطئه العين أن هدفها النهائي هو إنجاز عالم نظيف ونقي، أو خالص من كل دناءة ورداءة. كما أن المرء يملك أن يلاحظ، بعد شيء من التأمل والتفطن، أن شخصياتها الآتية من قاع المجتمع، في الغالب الأعم، أي من الفسحة الملوثة بالفقر والتعاسة، لا تحن إلى شيء قدر ما تحن إلى عالم صاف وبريء وناج من كل دنس وتلوث مادي وروحي في آن واحد.
فلو تأمل المرء قصة «أريد ماء»، وهي المنشورة في مجموعة لها عنوانها «وقصص أخرى» (1960)، لاستطاع أن يدرك بسهولة أن ما تتحسسه البطلة، التي بلا اسم، هو الدنس الذي يلازمها في فترة الطمث. تقول: «تعساً لمن تخلق أنثى. أما من سبيل غير الطوفان دمغة للجنس؟ هذا الطوفان الأحمر..» ههنا تماماً يكمن بيت القصيد، أو قل ههنا بالضبط يتبدى صنف الحساسية المنبجس من أعماق روح البطلة الذي هو روح الأنثى، أو ربما شعور الكاتبة نفسها. ولهذا، فإن تلك الفتاة المراهقة تحسد أخاها فريد، وهو الابن الوحيد في الأسرة، لأنه يجهل هذا «الطوفان الأحمر» الذي لا ترى فيه سوى نوع من أنواع الدنس. وما من شيء يملك أن يواجه هذا الشيء الذي تحسبه البطلة دنساً سوى الماء. وهذا ما يفسر عنوان القصة ويسوغ نهايتها: «أريد ماء، أريد ماء».
ومما يسع المرء أن يلاحظه فوراً هو غياب الماء المطلوب غياباً مثيراً للاستهجان. «أين الماء؟ أليس في الغرفة إبريق، كوب؟» كما يسعه أن يلاحظ الحضور الفعلي للسم، الذي يلعب في هذا النسق دور وساطة من شأنها أن تتوسط بين الطهر والدنس. ففي الحق أن الكاتبة شديدة القدرة على الإيحاء بواسطة العناصر البسيطة، أو على الإلماع إلى الدلالة والفحوى دون أي تعقيد، أي إنها تملك أن تحيل كل عنصر في البنية السردية إلى رمز قادر على أن يسهم في بناء المجمل المتلاحم الأجزاء.
ولعل مما هو ناصع تمام النصوع أن الدنس في القصة مركب وكثيف. فهو لا يتألف من دم الطمث وحده، بل هنالك إشارة إلى خطيئة ما تلمح إليها القصة ولا تصرح. وربما لم تزد تلك الخطيئة عن الفاظ لم يتح لها أن تتحول إلى فعل قط. إن شعوراً غامضاً بالخطيئة يستولي على تلك الفتاة المراهقة التي دخلت سن البلوغ منذ شهرين وحسب. وبسبب من شعورها بالإثم، فإنها تخاف أن ينتقم الله من أخيها فريد، كنز الأسرة النفيس. ولهذا، فإنها تريد أن تسبق هذا الحادث المنتظر وتنتحر بالسم، كي تدفع هي وحدها ثمن خطيئتها التي تتوهمها توهما وحسب. ولكنها لا تجد الماء الذي ساعدها على ابتلاع حبوب السم. أما غياب الماء، الذي هو النقاء وصانع النقاء، فهو إشارة إلى تعذر الخلاص وعدم إمكان الطهر في آن واحد.
وأما السم في هذا السياق فليس بالطهر ولا بالدنس، لانه جماع الشيئين معاً. فهو بحكم كونه سم فئران، فإنه يطهر البيئة من الدنس. ولكنه يستحيل إلى شيء إبليسي. إذا ما شربه الإنسان عمداً لأن الانتحار عدوان على المقدس نفسه. وبذلك يتبدى البعد المثنوي للسم، أي أنه في برهة الوساطة بين المقدس والمدنس. كما يتضح تماماً أن الرموز الثلاثة التي تؤلف الركائز الكبرى لبنيان النص هي الدم الذي يجسد الدنس في رأي الفتاة والماء الذي هو الطهر ووسيلة التطهير، والسم الذي يتوسط بين الشيئين.
ولكن مما له دلالة أن السم يبقى حيادياً، أي هو بغير فاعلية قط. وبسبب من هذه العطالة، فإنه يغدو كما لو أنه عديم الوجود. أما الماء فلم يحضر حضوراً فعلياً باي حال من الأحوال، وإن كان حاضراً في فسحة الكلام وحده. والجدير بالتنويه أن الدمع الذي هو ماء بائس ودليل على حدة الأزمة، إنما يظهر في بداية القصة، ولكن دون أن يترك أيما أثر على الواقع المدنس. فلا يبقى هنالك شيء يتمتع بالحضور العيني سوى «الطوفان الأحمر» الذي تنظر إليه البطلة على أنه الدنس والقذارة بأم عينها. إنه بالضبط ما يزلزل النفس ويحرمها من هدأة البال. كما ترى الفتاة أن هذه الحياة المدنسة والمأهولة بالخطيئة والإثم، على نحو حتمي أو جبري، لهي حياة لا تستحق أن تعاش بتاتاً.
وأياً ما كان جوهر الأمر، فإن من شأن هذه الرموز أن تضرم القلق والنزق والاضطراب في مناخ النص كله. وهذه هي التوترات النفسية التي تصنع المزية لتلك القصة الجيدة التي اندرجت أزمتها داخل الذات وليس خارجها. ففي الحق أن بطلة القصة إنما تحضر بوصفها رمزاً للإنسان الذي يكابد اضطرابه وألمه، حتى لكأنه مصلوب على صليب الوجود المرير. ومع أن هذه الشخصية مثلوبة بمثلبة الإحجام عن أية فاعلية مهما يك نوعها، مثلها في ذلك مثل معظم الشخصيات التي ابتكرتها سميرة عزام، فإنها تظل شديدة القدرة على اجتذاب القارئ، وذلك بسبب ما تكابده من قلق يفتك بروحها الرقيقة الهيفاء حتى درجة التفكير بالانتحار. وهذا يعني أن سر المزية فيها هو انخراطها في توتر من توترات الحياة، فلقد أدركت دنس الواقع من خلال دنسها الخاص، الذي لا يعدو كونه أمراً موهوماً وحسب.
وقصارى الشأن أن الكاتبة قد استطاعت أن تنجز استبارا جيداً لشعور فتاة غريرة ولجت للتو إلى تلك البرهة التي يتم فيها التماس بين الطفولة والمراهقة، وكشفت كذلك عن التهويمات والنزوات الصغيرة التي قد تعانيها الفتيات في مثل هذا الطور الذي لا يخلو من توتر واحتدام. ولكنها أوحت، من خلال التأكيد على حاجة المرء، حتى وإن كان مراهقاً، إلى الطهر والنقاء، بأن الإنسان، في أساسه الأصلي، كائن أخلاقي دون أدنى ريب. وبهذا الإيحاء الناجح، أثبتت سميرة عزام أنها تتمتع بفذاذة تلقائية نادرة.
ثمة قصة أخرى يمكن للنقد أن ينظر إلى بطلها على ِأنه إشكالي، كالفتاة في القصة السالفة. وهو إشكالي لأن الذهن النقدي لا يملك أن يحسم الأمر فيعده مذنباً أو بريئاً. ذاك هو بطل تلك القصة المتميزة التي تحمل هذا العنوان: «لأنه يحبهم»، وهي المنشورة في مجموعة «الساعة والإنسان» (1963)، والتي أراها أجود قصة كتبتها سميرة عزام. وسر المزية فيها أنها تنبثق من الوجدان، أو من التحسس والتهجس، وليس من التذهن، أو من النزعة الشكلانية التي يهندسها العقل بنهج مصطنع لا حياة فيه. ومما هو جدير بالتنويه أنها واحدة من تلك القصص الست التي خصصتها الكاتبة للموضوعة الفلسطينية.
تدور هذه القصة في أحد مخيمات اللاجئين، وبطلها موظف في وكالة الغوث الدولية (الأنروا). وهو متخصص بتوزيع التموين على أناس المخيم كل شهر. وتبدأ القصة بعدما أوقفت الشرطة موظفاً آخر، اسمه وصفي، بتهمة أنه سرق إعاشة اللاجئين، وباعها وراح يتنعم بما حصل عليه من المال. وكان وصفي هذا صديقاً للشخصية المركزية في القصة، أي لموظف التموين الذي لا اسم له (؟). فما كان من هذا الأخير إلا أن قرر أن يفعل فعلاً مضاداً لهذه الوضاعة التي تغمس المخيم كله. فحمل زجاجة نفط وخرج ليلاً إلى مستودع التموين وفتحه بالمفتاح الذي في جيبه، وصب محتويات الزجاجة على الأكياس التي تحتوي على قوت اللاجئين، ثم أضرم فيها النار.
لقد فعل ذلك وهو يقول لنفسه: «إن قومه لن يلعنوه إذا جاعوا، فما حرق قوتهم، وما سلط النار على غنائم اللصوص والفئران إلا لأنه.. لأنه يحبهم.» وبهذه الكلمات تنتهي تلك القصة المتميزة.
ومما هو جدير بالإشارة أن مسار السرد يعوم في بحر من الدنس الذي لا مخرج منه إلا بقوة الأنفة، أو بالفعل المتمرد النابع من الحنين إلى النقاء. ففي القصة هناك وصفي اللص، وكذلك فياض الذي قتل زوجته الحامل لأنها تريد أن تمنعه من بيع التموين ليسكر بثمنه. وهنالك المرأة الساقطة ابنة الشهيد التي وجدت نفسها في العراء بعد الكارثة التي حلت بالأسرة. وثمة رجل وغد أسمه أبو سليم، يعمل مخبراً لدى الأنروا. فالوضع كئيب، ولا بد للإنسان الطيب، وهو الموجود في كل مكان وزمان، من أن يرد الفعل على نحو من الأنحاء. وهكذا انفجرت قوة الأنفة فأحرقت مستودع التموين، الذي هو رمز من رموز الذل والخنوع في عالم ساقط خسيس.
بيد أن أبرز ما يتوجب على الذهن النقدي أن يأخذه في الحسبان ههنا هو عنصر النار الذي يختم القصة أو ينهي البنية كلها. إن النار في هذا الموضع تحضر حضوراً فعلياً وتمارس نشاطاً عملياً بحيث تنجز التطهير الذي قد يوصف بأنه جزئي وحسب، ولكنه يبقى، مع ذلك فعلاً يستجيب لنزعة راحت تفور في أعماق النفس. لقد حاولت القصة الأولى أن تستنجد بالماء، ولكن الماء لم يحضر قط في ذلك السياق. أما في هذا الموضع فالأمر مختلف تماماً، إذ إن الدنس أو القذر فعلي ويحتاج إلى تطهير بإلحاح. وههنا يتبدى الصراع بين النظافة والوسخ، أو بين المقدس والمدنس، جلياً لا تخطئه العين. وأهم ما في الأمر أن هذه الصورة إنما تنبجس من مملكة الباطن أو اللاشعور، حيث تطهى المحتويات أو المضمرات وتستحيل إلى رموز وأشكال فنية متباينة.
ولا ريب في أن الفرق بين هاتين القصتين هو كالفرق بين الماء والنار تماماً. وهو فرق تصنعه الفاعلية حصراً، وهي شيء لا وجود له في قصة الماء، ولكنه شديد الحضور في قصة النار هذه. يقيناً، إن الأدب السردي كله، ومعه الأدب المسرحي، قلما ينجح بغير أفعال كبيرة، أو شديدة القوة والتأثير في النفس المتلقية. وعندي أنه ما من وظيفة للآداب كلها قبل التأثير في وعي المتلقي، بل في بنيته الباطنية برمتها.
وفي مجموعة عنوانها «وقصص أخرى» ثمة قصة ذات صلة بقصة «أريد ماء». أما هذه القصة فهي «بنك الدم». وخلاصتها أن فتاة اسمها نعمت قد ذهبت لتبيع دمها في أحد بنوك الدم ابتغاء الحصول على خمسين ليرة تشتري بها أو بجزء منها فستاناً جديداً تلبسه في يوم العيد القادم بعدما أصبح فستانها الذي ترتديه أصغر من جسمها النامي باضطراد. لقد شرحت لها جارتها أم ناصر كل شيء بخصوص بيع الدم، فأم ناصر باعت دمها سابقاً في البنك نفسه، وقبضت الليرات الخمسين. ولكن الممرضة فاجأتها بأنها ما زالت صغيرة، وتحتاج إلى عشر سنوات أخرى قبل أن تمارس هذه التجارة.
ليست الصدمة أو الخيبة هي ما أردت إبرازه من هذا التلخيص السريع لمجمل القصة، مع أن هذه الخيبة هي سر المزية فيها دون أدنى ريب، بل إن ما أريد إبرازه بوجه خاص هو المناخ الفاسد الذي تتحرك فيه القصة، وكذلك المثنوية التي ينطوي عليها فعل بيع الدم. فالقادمون لبيع دمائهم، أو حياتهم، هم من الفقراء ذوي الأحذية الكثيرة الثقوب. والإبرة تمتص الدم من شريان البائع كما لو أنها علقة نهمة. وهذا التشبيه يتكرر ثلاث مرات في النص.
«وتذكرت الدويدات السود التي كان الحلاق يضعها في وعاء زجاجي يعرضه في واجهة دكانه ويبيعها علقاً يمتص الدم الفاسد. إن منظرها قبيح كالحيات الصغيرة. ثم تتخيل نعمت «الإبرة تنفذ إلى شرايينها كعلقة كبيرة سوداء والإناء الزجاجي الأحمر يمتلئ بدمها». أما الخارجون” من غرفة بيع الدم فوجوههم صفراء كالليمون، وتعتريهم دوخة تزعجهم كثيراً. لقد استطاعت الكاتبة أن توحي بالمناخ النفسي إيحاء، أو أن ترسمه على نحو غير مباشر، ودون تكلف أو افتعال.
وخلاصة الفحوى الذي ينطوي في غور هذه القصة هو أن الدم نفسه، وهو الذي لا يقل عن كونه رمزاً قوياً من رموز الحياة، لا يملك أن ينظف هذه الدنيا التي يلتهمها الدود والعلق والأفاعي. إنه عالم قذر بائس يجهل النظافة ولا يقدم للروح سوى الإحباط والخيبة، وههنا بالضبط تنكشف العلاقة بين مستويي القصة، أعني مستوى السطح ومستوى العمق. فلئن كانت الخيبة هي الطافية على السطح، فإن العناصر الباعثة على التقزز هي المحتوي المضمر أو المكتوم في أغوار القصة. وإن من شأن هذه المقززات أن تفضي إفضاء حتمياً إلى تلك الخيبة، أو إلى ذلك الإخفاق. والغريب أن الماء ههنا لا ذكر له بتاتاً في مناخ النص كله، حتى لكأن اللاشعور قد يئس يأساً مطبقاً من إمكانية البلوغ إلى أية نظافة مهما يك نوعها.
ولا بأس في مثال آخر ذي صلة بموضوعة النظافة والقذارة في قصص سميرة عزام، وليكن هذا المثال قصة «الفيضان» المنشورة في المجموعة الأخيرة إياها. فرمزية، بطلة هذه القصة، تعمل في المهنة التي تحتم على المرأة، لا أن تبيع دمها هذه المرة، بل عفافها حصراً. ومن غرفتها تسمع المطر يهطل بغزارة، بل هو يظل يهطل منذ بداية القصة وحتى نهايتها. ويعلن المذياع أن مدينة طرابلس قد اجتاحها طوفان فتك بالبشر فتكاً ذريعاً، كما خرب الكثير من أحياء تلك المدينة التي نزل بها غضب الطبيعة الشنيع.
ومع ذلك، أو على الرغم من هذا الطوفان الجامح، فقد ظل العالم قذراً وبحاجة ماسة إلى تطهير، وظلت بعض النساء تبيع شرفها كما تباع أية سلعة في الأسواق. ويوحي النص بأن المرأة المحظوظة هي تلك التي يتاح لها أن تنجز هذا البيع نفسه، تماماً كما هو حال المرأة التي قيض لها أن تبيع دمها في قصة «بنك الدم». إن رمزية، مثل نعمة، لم تجد من يشتري عفافها في تلك الليلة. ولهذا، فقد راحت تبكي في غرفتها المقفرة، وهي تسمع «إيقاع المطر الحزين على بلاط زقاق الشتاء».
في زعمي أن دراسة النار والماء والدمع والدم في تراث سميرة عزام، وصلة هذه العناصر بمثنوية المقدس والمدنس، أو القذر والنظيف، هي فعل خصيب من شأنه أن يكشف عن ثراء ذلك التراث المترع بالفحوى الجليل. ولكنني أعتقد في الحين نفسه بأن البصيرة الحادة هي وحدها القادرة على استبار هذا الفحوى الغزير النفيس.
* * *
ليست هذه المقالة الوجيزة سوى تنويه بالأهمية القصوى التي تتمتع بها القاصة الفلسطينية الكبيرة سميرة عزام، وهي من سبقت الجميع إلى إدخال الموضوع الفلسطيني إلى فسحة الأدب القصصي في العالم العربي كله. وفضلاً عن ذلك، فإنها كاتبة شديدة الحساسية تجاه الحياة المتوترة أو المأزومة على نحو دائم، ولاسيما تجاه المعضلات المعيشية الحادة التي يعيشها أناس الفئات الاجتماعية الفقيرة وهم يطحنون في مطحنة الحاجة والعوز. إنها كاتبة ملتزمة بالحياة التزاما ًوجدانياً، ومنخرطة في محنتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وما من موضوعة تندرج في تراثها القصصي أكثر مما تندرج صورة هذا العالم القذر الذي يتبدى في بعض الأحيان وكأنه يستعصي على كل تنظيف، حتى لو انصب المطر عليه مدراراً. وهذه هي الفكرة المبثوثة بشيء من الحصافة في بعض التفاصيل التي تؤلف قصة «الفيضان».
ولكن أهم ما في الأمر أن سميرة عزام تكتب بطريقة تتبدى للوهلة الأولى وكأنها طريقة مباشرة، ولكنها في حقيقتها محاولة للإيحاء بالنهج البسيط، أو على نحو نأى عن كل تعقيد وافتعال قد يبدد حلاوة النص أو عذوبته المنعشة. ثم إن النهج الإيحائي الذي يؤسس هذه القصص، بحيث يجيء بمثابة قاع لها، لا يفعل فعله إلا على نحو تلقائي نجا من التكلف والاصطناع الذي هو داء الأدب في كل زمان ومكان. وههنا بالضبط تتجلى موهبة تلك الكاتبة التي تتمتع بخبرة حدسية من شأنها أن تصنع الهوية أو الخصوصية. فبهذا النهج الذي يوحي بالصور البسيطة، استطاعت الكاتبة أن تزود الكثير من قصصها بالجودة، أو بالمزية، وذلك لأن هذا النهج الفعال يملك أن يولج العمق، أو الأصالة، إلى عقر النص، أو إلى قاعه الذي يؤسس بنيانه كله.
* * *
نشرت سميرة عزام في غضون حياتها القصيرة خمس مجموعات قصصية، وذلك بين سنة 1954وسنة 1963. وعندي أنه ما من منهج يملك أن يكتشف جودة هذه القصص سوى المنهج التأويلي القادر على استبار الرموز والبلوغ إلى ما تدخره من مضمون يستتر داخل نسيجها الحي.
وحين يفرغ المرء من مطالعة تلك المجموعات كلها فإنه سوف يدرك، إن كان حصيفاً، أن الموضوعة المحورية لتلك القصص، أو لمعظمها، هي غربة الروح في عالم اضطهادي مدنس، سداته المال ولحمته الكذب ولهذا، فإنه لا يصلح البتة مضافة للماهية الانسانية، وذلك لشدة ما يمارسه على النفس من قسوة ونفي واستلاب، حتى تتبدى وكأنها في محنة دائمة لا مخرج منها.
فبطلة القصة الأولى، أعني “أريد ماء”، مغتربة حتى عن أنوثتها التي هي هويتها الكلية، والتي ترفضها رفضاً باتاً لا رجعة عنه قط، وذلك لاعتقادها بأن الدنس يلازمها قبل سواها من الكائنات. ولا غلو إذا ما زعمت بأن هذا الاغتراب الذي توحي به الكاتبة، والذي هندسته الحساسية الأدبية أو الفنية على نحو نصف واع، هو ما يؤسس معظم التركة القصصية التي تركتها تلك المرأة المولودة في مدينة عكا، والتي قال عنها غسان كنفاني، المولود في المدينة نفسها (1936)، إنها معلمته.
يقيناً، إن الأدب قد خسر الكثير بسبب الموت المبكر الذي اختطف سميرة عزام، بل لقد خسر كنزاً نفيساً لا تعويض له على الإطلاق.