في الحرب تذكرت غير مرة رواية إسحق الحسيني «مذكرات دجاجة» (1943)، وتذكرت أكثر مواقف النقاد المتعددة والمتناقضة منها، فمنهم – مثل عميد الأدب العربي طه حسين – من رأى فيها «دجاجة عاقلة جد عاقلة… دجاجة شاعرة تجد ألم الحب ولذته وعواطفه المختلفة… دجاجة رحيمة تعطف على الضعفاء والبائسين وترق للمحرومين وتؤثرهم على نفسها وإن كان بها خصاصة؛ وهي على هذا كله بليغة فصيحة تفكر فتحسن التفكير وتؤدي فتجيد الأداء… تجد من حب الخير وبغض الشر… ما يجده كل عربي من أهل فلسطين بل من أهل الشرق العربي كله» (المقدمة 1943)، ومنهم – مثل الناقد الفلسطيني فاروق وادي – من رأى فيها «دجاجة خلقها مؤلفها من موقع أيديولوجي طبقي ليسبغ عليها حكمته، لكنه، بوعي أو دون وعي، خلق دجاجة فلسطينية تخون فلسطين وقضيتها» (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية 1985)، وهناك – مثل عبد الحميد ياسين – من لم تعجبه مذكراتها فعارضها بـ «مذكرات ديك»، لأن سلوكها وفلسفتها لا تجدي في عالم يخضع للقوة شعاره «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب».
في الحرب تذكرت من الرواية صفحاتها الأخيرة التي أتى المؤلف فيها على موقف الزعيم من دجاج غريب طارئ أراد المأوى له وطرد أصحابه منه.
قرر الزعيم اللجوء إلى القوة للحفاظ على المأوى وطرد الدجاج الغريب الطارئ، وهذا ما لم توافقه الدجاجة صاحبة المذكرات عليه، فقد رأت أن القوة لا تحل خلافاً ولا تلتئم مع المثل العليا التي تمسكت بها طوال حياتها، وطلبت من الزعيم وأنصاره أن لا يلتجئوا إليها، وأن ينتشروا، بدلاً من استخدامها، في الأرض ويبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده ويقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه «وعندئذ تحلون قضية عامة إنما قضيتكم جزء منها» وتطلب منهم أن يسيحوا في الأرض ويتوزعوا بين الخلق وينشروا بينهم المثل العليا والمبادئ السامية، وتنتهي الرواية بموافقتهم على اقتراحها، ويوافق الزعيم على ذلك، فتشعر بالرضا.
في حرب 2023 / 2024 تذكرت الرواية غير مرة وشغلتني عدة أشهر، كما شغلتني أيضاً روايات غسان كنفاني «رجال في الشمس» و»عائد إلى حيفا» و»أم سعد»، بل وبعض قصصه القصيرة مثل قصة «العروس»، ذلك أن طروحاته فيها تتناقض كلياً مع طرح الدجاجة، فهو على لسان شخصية أبو الخيزران أثار السؤال:
– «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟»
وعلى لسان سعيد. س أورد عبارة:
– «تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب!»
وعلى لسان أم سعد ذكر عبارتها:
– «خيمة عن خيمة بتفرق» – أي الفرق بين خيمة المقاتل وخيمة اللاجئ.
هل شغلتني أيضاً مقولة إميل حبيبي «باق في حيفا» والرسالة ما قبل الأخيرة من رواية «المتشائل» وهي «الجلوس على الخازوق».
مرة في أثناء المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة كتبت أن نصوص الأدب الفلسطيني تتصارع في رأسي، وكان سبب الكتابة متابعتي الحثيثة لموقف الكتاب والنشطاء الفيسبوكيين من أحداث ٧ أكتوبر، فقد تعددت وتباينت وهذا أمر طبيعي، ولكن ما لم أره طبيعياً هو أن أدباء عديدين لم يوافقوا، من قبل، الحسيني في طرح دجاجته ووقفوا إلى جانب كنفاني فيما تبناه، في رواياته الثلاث وفي قصصه القصيرة، ومجدوا شعار أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، اختلف موقفهم من أحداث 7 أكتوبر وكتبوا ضدها، بل ومالوا إلى اقتراح الدجاجة، فغادروا قطاع غزة، دافعين الآلاف من الدولارات، علما بأنهم لاموا آباءهم حين خرجوا في العام 1948، أو أنهم تشبثوا بالخازوق، كما تشبث به حبيبي من قبل، مرددين «باق في غزة»، كما ردد «باق في حيفا»، ويستطيع المرء أن يذكر أسماء من غادر ومن بقي ومن نزح ومن ارتقى، أو على الأقل أستطيع أنا شخصياً أن أفعل ذلك، لمتابعتي الحثيثة لأخبار الكتاب وكتاباتهم، وقد أشرت إلى هذا في يوميات الحرب التي أكتبها منذ السابع من أكتوبر يومياً، ولا يعدم المرء قراءة طروحات مثل «القضية عامة والحل فردي»، وهذا مغاير كلياً للفكرة التي توصل إليها النقاد بعد قراءتهم «رجال في الشمس» لكنفاني؛ الفكرة التي استنتجت من موت الرجال الثلاثة في الخزان ومقصد الروائي من قتلهم.
ما تجدر كتابته هو أن تأويل النقاد لمغزى عبارة كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟» ومقصده من وراء قتل شخوص الرواية بدأ يتراجع لدى فئات من الفلسطينيين، فنطقوا بعبارة مختلفة وردت في روايات لاحقة على لسان فلسطينيين من العائدين كما في رواية زكريا محمد «عصا الراعي» (2003/ مقالي في الأيام 20/ 8/ 2023) وفلسطينيي لبنان بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في ١٩٨٢، وهذا نقرؤه في رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن» (٢٠١٣). «المشكلة جماعية، لكن الحل لازم يكون فردي»، وما تجدر كتابته أيضاً أن عبارة شبيهة تكررت في كتابات بعض كتاب غزة منذ ٧ أكتوبر، والكتابة تطول.
هل يئسنا لأن نكبة 1948 بعد 76 عاماً ما زالت مستمرة أم؟
منا من يأخذ بما رأته دجاجة الحسيني، ومنا من يواصل دق جدران الخزان، ومنا من هو راضٍ بخازوقه يتشبث به، وأبو يائير لا يريدنا هنا.