العالم في ربع القرن الأخير: ثلاثة فلاسفة وثلاث نظريات وثلاثة كتب

هذه المقالة تناقش أهم ثلاث نظريات وضعها فلاسفة بارزون لهم مكانتهم العلمية في بلدانهم خلال ربع القرن الأخير، أو منذ مطلع الألفية الثالثة. كل واحد منهم له نظرية فلسفية اجتماعية، تؤثر بشكل مباشر على السياسة والاقتصاد العالميين، تم تبني نظريتين منهم من مجموعة أشخاص يحكمون بلداً كبيراً، بحيث تصبح النظرية عند العمل بها شكلاً من أشكال النظام السياسي. وكل فيلسوف له مجموعة من الكتب، لكننا سوف نستعرض الكتب الذي جاءت فيه النظرية بحيث لكل فيلسوف نراجع كتاباً.

معروف أن الزعيم، أي زعيم، في الدول القوية يكون محاطاً بعدد كبير من المستشارين الذين ينتقيهم بما يتلائم مع ما يناسب نهجه وأفكاره، وغالباً ما تكون أفكارهم عنده مثل كتاب مقدس غير قابلة للمناقشة أوالمجادلة.

كان هذا واضحاً بزمن الرئيس الأمريكي بوش الصغير، عندما كان محاطاً بمجموعة كركوزات أو بهلوانات كانت تطلق على نفسها اسم”المحافظين الجدد” على رأسهم دونالد رامسفيلد “المجرم المضاعف” و دِك تشيني، وهو فعلاً يشبه “دِك” حقيقي، والعديد من الأسماء الأخرى. لكن هناك اسم غير موجود على الإعلام، تعرفه الأوساط الأكاديمية فقط، كان هو رجل الظل لكل هذه المجموعة، هو المفكر الأمريكي “فرانسيس فوكوياما” الذي كتب مقالاً صدر عام 1989 في مجلة مغمورة اسمها ناشيونال انترست  National Interest، فكان للمقال ترحيب كبير في الأوساط العلمية، فقرر أن يتوسع في المقال ليكون كتاباً صدر عام 1992 تحت عنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، وهو كتاب شرح فيه نظريته السياسية لمستقبل العالم.

وبأخذ الظرف التاريخي الذي كتب فيه الكتاب، يمكننا معرفة كيف توصل فيه إلى نظريته، ففي عام 1989 سقط جدار برلين، وسقط معه الاتحاد السوفييتي. ففي بداية التسعينات كان سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية قد أصبح أمراً واقعاً، فأصبح السؤال: ماذا بعد؟ أو بدقة كيف سيكون عليه العالم بعد تفرد الولايات المتحدة بالتحكم بهذا العالم؟

أجاب عن هذه الأسئلة بأن الليبرالية الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية سوف تشكّلان المرحلة الأخيرة من التطور الإيديولوجي للإنسان وبالتالي سوف تدخل الديمقراطية بمرحلة العولمة وذلك كحل نهائي لجميع أشكال الحكم لكل البشر.

إلى هنا يبدو كلام نظري جميل، يأخذه من يريده، ويرفضه من لا يريده، ويبدو أفكاره تداعب خيالات الناس. لكن المجموعة التي آمنت بهذه الأفكار تجمعت بداخل الحزب الجمهوري وأصبح اسمهم “المحافظين الجدد” وكان عليهم الانتظار بضع سنوات حتى يفوز بوش الابن بالانتخابات الرئاسية ويحاولون أن يعمموا أفكارهم على العالم، بل تطبيقها أيضاً وهم يظنون بالخطأ أنهم تحولوا إلى القوة الوحيدة في العالم التي تفعل ما تريد، إذ تم غزو أفغانستان في 2001 وبعدها بسنتين غزو العراق، وفي تلك الفترة كبرت أحلامهم وأصبحوا يتحدثون عن مصطلح NAC ، التي هي اختصار الكلمات   New American Century، التي تعني قرن أمريكي جديد، وهم مقتنعون أن القرن الحادي والعشرين سيكون محكوماً بهم.

لكن جاءت الأحداث التي لم تجعل حساباتهم صحيحة، وها هم قد غابوا عن مسرح الأحداث، بل وقد يغيبون حتى عن مسرح التاريخ المعاصر، لأسباب يطول شرحها، لكني أظن أنها معروفة لكل متابع للأحداث. أما فرانسيس فوكوياما يبدو لي، كما بدا لي عندما قرأت الكتاب عام 2005، رجل نصاب ومراوغ ومشعوذ لايختلف عن أولئك المنجمين الذين نراهم كثيراً على الشاشات اللبنانية. فاندثر هو ونظريته وكتابه وحزبه وفريقه ورئيسه.

على المقلب الآخر، هناك الرئيس بوتين، وهو رجل قوي يحكم روسيا اليوم (أقصد بكلمة قوي على الصعيد الداخلي في روسيا وليس في الصالح العالمي العام)، فمعلوم أن روسيا منذ حوالي ربع قرن كانت تحت حكم المافيات الروسية التي تراها في الشوارع علناً، فأن يأتي شخص ويحطم كل هذه المافيات ويعيد مركزية الدولة ويحتكر هيبتها، هو حتماً شخص قوي، مع أني شخصياً أعارض ما فعله في سوريا، وشاهدت الإجرام الذي ساهم فيه بسبب مشاركة القوات الروسية أوبسبب تغطيته لمجرمي النظام الحاكم فيها. وهذا الزعيم أيضاً مُحاط بمجموعة مهرجين أو كركوزات على نفس نمط “المحافظين الجدد” في أمريكا مع فرق أنهم يريدون إحياءها ويبعثوها بعد أن أصبحت رميماً. ومجموعة البهلوانات هذه تُدار من عقل أكاديمي مفكر هو الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين Aleksander Dugin، وهو أستاذ جامعي وفيلسوف وجيوبوليتكي، ويعتبره بوتين مرجعه الأول في جميع القضايا الاستراتيجية. ليس كذلك فحسب، لكن حسب ما تقوله نشرات الأخبار فإن بوتين يستخدم ويكرر الكلمات نفسها التي يستخدمها هذا الدوغين. وتصفه صحيفة الاندبندنت “بأنه الرجل الذي يوسوس في أذن بوتين”.

وأنا أتمنى عليك أيهاالقارئ العزيز، أن تبحث عن اسمه في غوغل، ثم تشاهد صورته، ثم تجيب عن سؤال: هل يوجد فرق كبير في الشبه بينه وبين راسبوتين؟ راسبوتين ذلك المشعوذ الذي حكم روسيا في بدايات القرن العشرين من داخل غرف نوم نساء أسرة رومانوف، تلك الأسرة العريقة التي كانت تحكم روسيا لأكثر من مئتي عام؟ ثم قتلوه بأنفسهم بعد أن عرفوا أنه مشعوذ وكذوب. وأظن أن دوغين مشعوذ لا أكثر ولا أقل، بفارق واحد لم يتمكن راسبوتين من تملكه، وهو أنه يحمل درجة الماجستير بالفلسفة ودرجة الدكتوراه بعلم الاجتماع.

كتب هذا المفكر مجموعة من الكتب منها الأفلاطونية السياسية Political Platonic والاستيقاظ العظيم Great Awakening  والنظرية الرابعةThe Fourth Political Theory . وهذا الأخير الذي سوف نتوقف عنده ونتناوله بشيء من التوسع.

صدر كتاب النظرية الرابعة عام 2009 ، وادّعى دوغين فيه أن العالم سابقاً تم حكمه إما حسب النظرية القومية (مثل الممالك والدول قبل الحرب العالمية الثانية)، أوحسب النظرية الشيوعية الماركسية (مثل حالة روسيا والاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية)، أوحسب النظرية الديمقراطية الليبرالية (مثل حالة الولايات المتحدة وأوروبة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية)، وجميعها فشلت في بناء مجتمع سياسي واقتصادي متماسك. لذلك نادى بوحدة الجزء الشرقي من أوروبا مع أجزاء من آسيا وخاصة أسيا الشمالية في كتلة واحدة أسماها أوراسيا (أوروبا + آسيا)، بقيادة روسيا والصين، تحت شكل حكم ستاليني النمط والنزعة، ويرفض جميع الأفكار الليبرالية سواء أكانت اقتصادية أم سياسية، ويعتبر أن الليبرالية هي التي أوصلت العالم إلى هذا الجشع والاحتكار الأمريكي.

وسبب إعجابه باسم أوراسيا هو أنه معجب برواية (1984) التي كتبها جورج أورويل والتي تقسم العالم إلى ثلاث قارات مستقلة سياسياً، ومتنازعة فيما بينها، هم أوراسيا Eurasia وإيستاسيا Eastasia وأوقيانيا Oceania.

وفي تفاصيل شرحه لهذه الوحدة الأورو-آسيوية، نجد أن هذه الفكرة مأخوذة بالأساس من مفكر انكليزي اسمه السير هالفورد ماكندر Sir Halford Mackinder، الذي وضع هذه النظرية عام 1904. وشرحها حينذاك واعتبر أن الأراضي التي تضم شرق أوروبة وشمال آسيا أطلق عليها اسم هارتلاند Heartland، أي دول القلب، لذلك اعتبرها قوة برية، بينما دول جنوب آسيا مع غرب أوروبة، دول تطل على البحار والمحيطات، لذلك أسماها بالقوة البحرية Sealand.

أما لو نظرنا جيداً، وخاصة بعد انهيار نظرية فوكوياما، فإننا سوف نلاحظ الفشل الذي يعتري هذه النظرية التي افترضها هذا المدّعي الأفّاك أوالمشعوذ، نرى أن العالم يسير في تخبطه بسبب حفنة من الزعران الذين يتحكمون بمصيره. بل حتى تبدو نظريات الفيلسوف اوزوالد اشبنغلر Oswald Spengler في طريقها للتحقق إذا ما استمر السياسيون في هذا السعار المحموم والمتسارع تجاه السيطرة. فعندما كتب اشبنغلر كتابه “انهيار الحضارة الغربية” بين الحربين العالميتين، جاءت جميع الأحداث لتؤكد هذا الانهيار، وكامتداد طبيعي لهذا الانهيار، جاءت نظريات فلسفية أكثر حداثة قدمها الفيلسوف الكندي آلان دونو Alan Deneault، أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك، أي الإقليم الفرنسي في كندا، والذي يعمل أيضاً أستاذاً في علم الاجتماع في باريس – فرنسا.

بدأ الرجل بطرح نظرياته رويداً رويداً، إلى أن كتب مؤلفه الشهير “كندا السوداء” Noir Canada ، الذي كتبه عام 2008، واتهم فيه شركات الذهب العالمية، مثل شركة باريك غولد Barrick Gold  ، بامتصاص خيرات افريقيا وخاصة تنزانيا، بحيث أن هذه الشركات تراكم الثروات بينما تموت الشعوب الإفريقية جوعاً، وغير قادرة على القيام بأي مشروع بسبب نقص الثروات اللازمة، حتى لو كان مشروعاً لجر مياه الشرب. فتقدمت شركة باريك غولد بدعوى في المحكمة ضده وضد الشركة التي نشرت الكتاب، التي اسمها إيكوسوسيتيه Écosociété ، واستمرت المعارك القضائية بينهما مدة طويلة. لكن بايجاز سريع أقول بسبب من نزاهة القضاء، ردت الدعوى، وقام القاضي بإلزام شركة الذهب بدفع تعويضات وأتعاب المحامين ورسوم المحكمة البالغ قيمتها 144$ ألف دولار كندي وذلك في قضية كانت مشهورة في كندا، واستمرت وقتاً طويلاً لكنها انتهت عام 2011. ثم في عام 2012 كتب كتابه “كندا الإمبريالية” Imperial Canada ، وبعدها بثلاث سنوات، أي في عام 2014 ألّف كتاب “كندا: الملاذ الضريبي الجديد”Canada: A New Tax Haven  الذي يبرهن فيه على تحوّل كندا إلى ملاذ للتهرب الضريبي للشركات الكبرى وخاصة الشركات المتعددة الجنسيات. ثم في عام 2015 نشر كتابه الشهير La médiocratie ، والتي تعني بالترجمة الحرفية حكم الطبقة الوسطى، لكنه يُعرف في العالم بنظام التفاهة، وهذا ما قصده قعلاً، وفي عام 2020 قامت الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري بترجمته إلى اللغة العربية، وهي دكتورة في كلية الحقوق في جامعة الكويت، وفي مقدمتها للكتاب قدمت جميع المسوغات المقنعة لماذا أسمته بهذا الاسم، “نظام التفاهة”.

عرّف دونو النظام العالمي الذي نعيشه اليوم بأنه نظام التفاهة مستنداً إلى صفاته التي تميّزه، وهو نظام فكري اجتماعي “ما بعد حداثوي”، بمعنى أن المصير الذي وصل له الإنسان في المجتمعات النيوليبرالية قد جعلت قيمته على المقياس الانساني منخفضة أوحتى اضمحلّت، لكن تضخمت لديه النزعات الاستهلاكية والمادية، وأصبح كل شيء عبارة عن سلعة قابلة للبيع والشراء، حتى الإنسان نفسه تم تشييئه، بمعنى أنه أصبح يشبه السلعة، بدلاً من الحفاظ على كرامته وصون أخلاقه وتطويرها، والأهم من هذا كما يقول دونو أننا أصبحنا نعيش في نظام اجتماعي “تسيطر فيه طبقة التافهين، ليس هذا فقط، بل تقوم هذه الفئة بتكريم التافهين والرديئين، بدلاً من الناس الجيدين والذين يهتمون بتطوير الجانب الانساني في المجتمع”.

فالتوحش الرأسمالي عند دونو قد جعل الناس مثلهم مثل الآلات التي تنجز عملاً محدداً لا تحيد عنه، وتحوّلت المهن إلى مجرد وظائف يؤديها الموظف بدقة، فالنظام يضمن أن هذا الموظف يعمل من أجل نمو رأس المال، لكن أين ابداعه هو؟ فهذا يبدو ليس مهماً في النظام التافه.

ثم يرى دونو أن مجالات الفنون والثقافة والأدب سيطر عليها التافهون، حتى أصبحنا بالكاد نعثر على أعمال تحاكي المشاعر الإنسانية العالية. ويعزو السبب في ذلك إلى توحّش سيطرة رأس المال على السوق الاقتصادية.

يدعو دونو القراء إلى التفكير في الرعب الناتج عن نظام التفاهة ​​المحيط بنا من كل جانب. ويقول إن الأمر الأكثر إثارة للقلق في هذا الصدد هو في مثال الاستجابة السياسية لكارثة بحيرة ميغانتيك Lac Megantic عام 2013 التي حدثت نتيجة انفجار قطار مليء بالنفط الخام في وسط مدينة كيبيك الصغيرة، مما أسفر عن مقتل سبعاً وأربعين شخصاً وتسبب في أضرار بملايين الدولارات، فبدلاً من أن تقوم الحكومة بإجراءات التخلص من المشكلة، تم استدعاء الفنانين لتهدئة السكان المحطمين كلياً. ثم يضيف إن عبثية كل ذلك هي في كونها لم تعد قصة سياسية، أي يعمل “الفنان كعامل خدمة اجتماعية”، على حد تعبيره، وذلك بإخفاء حقيقة أن كارثة بحيرة لاك ميغانتيك كان من الممكن تجنبها بسهولة لولا الفساد الحكومي، أي أنها كانت كارثة تنتظر الحدوث بسبب الفساد.

يعترف دونو بأن العالم الكلاسيكي القديم نسبياً كان محكوماً بقوانين اقتصادية وتجارية ناظمة وصارمة، الأمر الذي أصبح مفقوداً اليوم، وذلك من خلال هيمنة رأس المال والشركات المتعددة الجنسيات، فبتنا نرى التفاهة قد أزاحت هذه القوانين. ثم يتطرق إلى النقابات التي يجب أن كانت تأخذ دور العمال في الدفاع عن حقوقهم، أصبحنا نرى قيادات هذه النقابات قد أصبحوا مستثمرين في العملية الاقتصادية. كذلك الأحزاب اليسارية التي تراجع دورها ولم تعد تعمل من أجل العدالة الاجتماعية. وأكثر ما يركّز عليه الضوء هو الجامعات، التي هي من المفترض أن تكون محمية ومحصّنة ضد التفاهة، لكننا لا نجدها كذلك، بل القائمون عليها بدل أن يكونوا مثقفين هم بالواقع خبراء أو حتى أشباه خبراء، ويميز بين المثقف والخبير، بأن المثقف هو الذي يقاتل ويدافع إن وجد خللاً ما، بينما الخبير هو الذي يعطي الشرعية للطبقة الحاكمة أو المؤسسة المستثمرة، ويقتبس دونو مقولة لإدوارد سعيد Edward Said في إحدى تعريفات الخبير، إذ يقول الخبير هو الشخص الذي تدفع له الشركة حتى يفكّر بالطريقة التي تؤمن مصالحها، لذلك نجد خبراء ينكرون الكثير من الحقائق التي لا تناسب شركاتهم التي يعملون من أجلها، مثل التلوث البيئي، أو مضار التدخين وأمثلة أخرى، تدل وتبرهن على تفاهة زمننا هذا.

عن وليد يوسف

كاتب و مترجم فلسطيني

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

2 تعليقات

  1. مقال جميل يشرح حال المجتمعات الغربية بشكل عام وما وصلت إليه ليس فقط في ” تشييء ” الإنسان ، بل من حماقة في موضوع ” الجندرة ” تؤدي بها ليس إلى الفناء ، فهي سائرة إلى هذا المصير ، ولكن يؤدي إلى تسريع هذا الفناء ..

  2. المقال مفيد بكل المقاييس..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *