من مظاهرات الجمهوريين أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في مدريد

التجربة الديمقراطية في إسبانيا والعالم العربي

هل تصلح التجربة الديمقراطية في إسبانيا للدول العربية؟!.. وهل نعتبر تجربة ديار الأندلس نموذجية للدول العربية، أي هل يصلح النموذج الإسباني الديمقراطي للعرب؟!.. أو بمعنى آخر تصدير الديمقراطية الإسبانية الى العالم العربي !! ..

قبل الإجابة على تلك التساؤلات والأفكار، تعالوا نتعرف على حكاية الديمقراطية على الطريقة الإسبانية..

شهدت إسبانيا خلال القرن الماضي ولادتين للديمقراطية، وبدون إراقة دماء، الولادة الأولى كانت عشية مغادرة الملك الفونسو الثالث عشر إسبانيا طواعية بعد ظهور نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في 12 نيسان/ أبريل 1931 والتي كانت بمثابة استفتاء بين الملكية والجمهورية، ففي ليلة 14-15 نيسان/ أبريل 1931 تم الإعلان عن إسقاط الملكية وإشهار الجمهورية الثانية..

أما الجمهورية الأولى فقد ولدت في 11 شباط/فبراير 1873 وانتهت بعودة الملكية في 29 كانون الأول/ ديسمبر 1874 .. حين تنازل الملك أماديو الأول Amadeo I عن عرش إسبانيا في 11 شباط/ فبراير 1873 (أماديو الأول؛ تورينو، 30 أيار\ مايو 1845 – تورينو، 18 كانون الثاني\ يناير 1890 وهو  الملك الإسباني الوحيد من عائلة سفويا. وهو النجل الثاني لفيتوريو إمانويلي الثاني ملك إيطاليا، عـُرف معظم حياته بدوق أوستا، ولكن حكم لفترة وجيزة إسبانيا من عام 1870 حتى 1873).  كان الدافع وراء تنازله الصعوبات التي واجهها خلال فترة حكمه القصيرة مثل الحرب في كوبا واندلاع الحرب الكارلية الثالثة والمعارضة من الملكيين لاستعادة حكم آل بوربون بشخص ألفونسو دي بوربون نجل ايزابيل الثانية، وحركات التمرد الجمهوري المتعددة واضف عدم الانسجام بين مؤيديه. وفوق ذلك كله: فإن عاهل إسبانيا الإيطالي كان يفتقر إلى أي دعم شعبي إسباني.
والولادة الثانية كانت بعد تنصيب الملك خوان كارلوس الأول ملكاً على إسبانيا بعد يومين من إعلان وفاة الجنرال فرانكو في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975 وهذه كانت وصية الجنرال فرانكو بعد موته، وما يبدو أن الدكتاتور اعتقد أن النظام الملكي في إسبانيا سيكون الحاجز والمانع لعودة اليسار الإسباني، من شيوعي واشتراكي ونقابي، الذي شن عليهم حرباً شعواء وقام باجتثاثهم من إسبانيا وهي الحرب الأهلية الإسبانية 1936- 1939.. وكما هو معروف ما إن وضعت الحرب الأهلية الإسبانية أوزارها حتى اشتعلت الحرب العالمية الثانية ولم يدخل فرانكو الحرب مع حلفائه من الفاشيين في إيطاليا والنازيين في ألمانيا، واستطاع إبعاد الدمار عن إسبانيا الخارجة لتوها من الحرب.. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية بقيت إسبانيا وحدها وتم القطيعة مع أوروبا بحجة النظام الديكتاتوري وغياب الديمقراطية والحريات العامة.

تظل المرحلة الانتقالية في إسبانيا، أي الانتقال الديمقراطي الإسباني من حكم ونظام فرانكو والحزب الشمولي الواحد إلى دولة ديمقراطية برلمانية متعددة القوى والأحزاب من أهم المراحل في التاريخ السياسي الإسباني الحديث، ويظل الرئيس أدولفو سواريس، أول رئيس حكومة انتقالية ديمقراطية، الشخصية الرئيسية والمميزة التي قادت السفينة الإسبانية إلى البر والميناء الديمقراطي وسط تلاطم أمواج الأحداث والصراعات والخلافات المحلية والإقليمية والدولية، ناهيك عن تحقيق مصالحه سياسيه وطنيه ورتق النسيج الاجتماعي والسياسي الذي تفسخ جراء الحرب الأهلية ..
لقد استطاع الرئيس أدولفو سواريس أن يجمع حوله شخصيات سياسية شابة معتدلة ومنحدرة من نظام فرانكو وحزب الكتائب اليميني الفاشي، ومن الديمقراطيين الاشتراكيين والليبراليين والديمقراطيين المسيحيين، وشكل من هذا التجمع حزب اتحاد الوسط الديمقراطي، وبالفعل كان هذا “الخليط” متجانساً ويحمل أفكار وطموحات سياسية “رومانسية” تعتز بتفرد الشخصية الإسبانية وأهمية إسبانيا وموقعها الاستراتيجي وتاريخها المشترك مع أمريكا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربي، بهذا الفريق أصبح أدولفو سواريس بحق رجل المرحلة الانتقالية بلا منازع، حيث أنجز مصالحة سياسية وطنية، أثمرت على إصدار دستور جديد وإقرار منظومة سياسة تحت ظل نظام ملكي برلماني ديمقراطي متعدد الأحزاب.. هذه الانجازات التي نصفها بسطرين قد تحققت خلال عامين فقط، وكان ينتظر أن تتم خلال عقدين من الزمن.. وهي إنجازات تاريخية عظيمة وفريدة حققتها إسبانيا وعكست أحداثها ومجرياتها على القوى الإقليمية والعالمية وحتى القضايا الدولية.. فجرى استدعاء كافة الأحزاب والقوى السياسية من المهجر، بعد أن كانت تحت الحظر والمطاردة في عهد فرانكو، من اليساريين والشيوعيين والاشتراكيين، ودعوتهم إلى العودة وبناء إسبانيا الجديدة.. إسبانيا الملكية البرلمانية الديمقراطية!!…

عاد “الرفاق” إلى الوطن والنضال من جديد، وحينها أشار البعض أن قبول اليسار الإسباني المشاركة في الحياة السياسية ضمن إطار ”نظام ملكي”  إنما جاء (نكاية) بالديكتاتور فرانكو الذي كان يعتقد بعدم عودة الأحزاب والقوى اليسارية إلى البلاد، أو تشارك بهذا النظام، غير أن هناك من أضاف القول بأنه كان إعجاب قيادات اليسار بشخصية وأفكار وحسن نية الرئيس أدولفو سواريس في السعي إلى إقامة نظام ديمقراطي يتسع للجميع.. على أية حال سجلت عودة اليسار مفاهيم جديدة، إذ أكدت على إمكانية تعايش قوى اليسار والعمل والإبداع والتأقلم في إطار ليبرالي متعدد الأحزاب وليس إسقاط نظام وإقامة نظام آخر.. فـ ”الشيوعية الأوروبية” ابتدعها الحزب الشيوعي الإسباني وأمينه العام سانتياغو كارييو حينما عاد إلى إسبانيا الملكية، وتبنت أفكاره عدة دول أوروبية غربية وشرقية، بمنظور الأخذ بالنسيج الشيوعي وتفصيله وفق مقاس وحجم وحاجة المجتمع والإمكانيات المتاحة، فإن الفكر اليساري سينمو ويزدهر ويتفاعل مع الليبرالي من خلال البحث وتوفير العدالة الاجتماعية للطبقة الفقيرة لو كان في إطار نظام ملكي!..

وجرت في العام 1977، أول انتخابات تشريعية عامة فاز الرئيس أدولفو سواريس وحزبه (اتحاد الوسط الديمقراطي) على جميع القوى السياسية وشكل لجنة برلمانية كجمعية دستورية من أجل إقرار الدستور الذي أصبح ساري المفعول في العام 1978.. وبعد ذلك تقدمت إسبانيا بطلب الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، فقد كانت لديهم قناعة راسخة واعتزاز بإمكانيات ودور إسبانيا الكبير في تعزيز مكانة المجموعة الأوروبية حال انضمامها، فالفكر السياسي الإسباني حينذاك كان يرى انضمام إسبانيا لا يعني دخول إسبانيا أوروبا بل إن إسبانيا ستحمل وتقود المجموعة الأوروبية  إلى آفاق واسعة، نحو أمريكا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربي.. هنا كانت المفاجأة، وهي الشروط والطلبات من إسبانيا والتي لم تكن لها علاقة بالديمقراطية أو الحريات العامة ولا بالاقتصاد ولا حتى بأوروبا.. وفي الواقع لم تكن شكل مفاجأة بل صدمة لأول قيادة وحكومة ديمقراطية إسبانية منتخبة حينما جاء الجواب، بل الاشتراط الأوروبي على طلب انضمام إسبانيا إلى المجموعة الأوروبية، الاعتراف أولاً وإقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل؟!!..

لا يعني ذلك أن “اسرائيل” تتمتع بهذه القوة والهيمنة على أوروبا بقدر أن هذا الكيان في الأساس صنيعة أوروبا الاستعمارية وأن المجموعة الأوروبية أضحت “رهينة” الولايات المتحدة الأمريكية، وريثة مشاريعها الاستعمارية مقابل مشروع مارشال الأمريكي الذي ساعد على إعادة بناء أوروبا أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالتالي كان المطلوب من إسبانيا التأقلم والاصطفاف والالتحاق بالسياسة الأطلسية الغربية، بما يعني أن الحديث عن: ديمقراطية.. حريات عامة.. أحزاب.. انتخابات.. جميعها غطاء وقشور براقة تحجب جوهر أطماع ومصالح الغرب وسياسة حلف الناتو في خضم الحرب الباردة بمواجهة حلف وارسو..

لم تستوعب حكومة سواريس الاشتراط الاوروبي.. وكأن أوروبا في واد وإسبانيا في وادٍ آخر، فكيف تقيم علاقات مع “اسرائيل” وما تزال مدريد وبفضل بغداد، عاصمة جبهة الصمود والتصدي العربي ضد اتفاقيات كامب ديفيد، تتلقى النفط الخام العراقي بالمجان، وبذلك تخطت اسبانيا الأزمة النفطية العالمية، ناهيك على أنها قد استعادت علاقاتها الطبيعية مع المغرب وانهت استعمارها للصحراء الغربية.. لذلك واصلت اسبانيا وحكومة سواريس العمل ومحاولة إفهام المجموعة الأوروبية أنها “مختلفة”..

وشعار “إسبانيا مختلفة Spain is different” كان يافطة وعنوان حملة ترويج سياحي نفذتها وزارة السياحة الإسبانية في العام 1960 ونجحت في الخروج من العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليها من قبل أوروبا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد جذبت الحملة استثمارات أجنبية هائلة لتطوير القطاع السياحي، حيث شهدت، منذ ذاك الحين، تدفق الملايين من السائحين على الشواطئ والجزر والمدن الإسبانية للتعرف وللتمتع بطبيعتها الخلابة وطقسها الرائع المعتدل وطيب طعامها وطيبة أهلها.. وفي الواقع تختلف إسبانيا عن باقي دول المجموعة الاوروبية، خاصة بجغرافيتها المطلة على منفذ البحر الأبيض المتوسط وسكانها من مختلف أصول ومنابت الحوض المتوسط وشمال أوروبا، حيث استوطنت بها كافة الحضارات وتلاقحت عليها الثقافات والديانات السماوية وغير السماوية.. كاليونانية الوثنية والرومانية المسيحية والبربرية الأمازيغية والعربية الإسلامية، وبما تواصلت ووصلت إلى بلاد الهند وفارس، وانصهرت جميعها في بوتقة واحدة لتأتي صورة إسبانيا الجميلة والمختلفة بهوية متوسطية مميزة، عكس الدول الأوروبية التي تقوقعت بكينونتها وخاصيتها  كالألمانية والفرنسية والإيطالية ..إلخ ..

لذلك رأت حكومة أدولفو سواريس أنه إذا كان لا بد من الاعتراف بالكيان الإسرائيلي فمن الواجب الاعتراف بالحق الفلسطيني، لهذا اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ودعت السيد ياسر عرفات لزيارة رسمية إلى إسبانيا واتخذت هذا القرار في إطار التأكيد على أهمية إسبانيا للمجموعة الأوروبية من أجل تعزيز دور ومكانة أوروبا في القضايا الدولية، وأن تبادر إسبانيا إلى الريادة لا أن تكون تابعاً لسياسة أطلسية غربية أحادية الجانب، وهذا ما “جّن جنون الغرب” وأصبح المطلوب رأس أدولفو سواريس .. وهكذا كان..

ضغوطات هائلة، في الداخل والخارج، نجحت في إقصاء السيد أدولفو سواريس عن قصر مونقلوا – مقر رئاسة الحكومة- وكذلك حزب اتحاد الوسط الديمقراطي، وتم ذلك بعد “مسرحية” محاولة انقلاب عسكري قادها عقيد في الجيش في العام 1981 ، نقول مسرحية باعتبار أن التغيير والمرحلة الانتقالية وعودة الملكية كانت من وضع نظام فرانكو وعسكره. وبالتالي كان هدف الانقلاب إنهاء حزب أدولفو سواريس ورجاله وطموحات سياساته وأفكاره “الرومانسية” ليتم بعدها صبغ وجه إسبانيا وتطبيعها واصطفافها داخل حظيرة وسياسات حلف الأطلسي..
عديدة هي الكتب التي تناولت هذه المرحلة الانتقالية، كتأريخ ودراسات وأبحاث، إلا أنها لم تتناول مفاصل وتفاصيل الضغوط التي مورست على إسبانيا خلال المرحلة الانتقالية لتخلع جلدها المتوسطي وترتدي الزي الغربي لحلف الناتو، كما أن المؤرخين والباحثين قد اختلفوا على تحديد الفترة الزمنية للمرحلة الانتقالية، حيث حدد البعض الفترة منذ تنصيب خوان كارلوس كملك لإسبانيا (في 22 تشرين ثاني/نوفمبر 1975) ودخول دستور 1978 حيز التنفيذ (29 كانون أول /ديسمبر 1978)، فيما حصره آخرون بين 20 تشرين ثاني/ نوفمبر 1975، تاريخ وفاة فرانكو و28 تشرين أول /أكتوبر 1982، تاريخ نهاية فترة حكومة حزب اتحاد الوسط الديمقراطي. وهناك أيضاً من يؤرخ لنهاية مرحلة الانتقال الديمقراطي الإسباني بين 1985 و1986، حين انضمت إسبانيا للسوق الأوروبية المشتركة وجرى الاستفتاء على عضوية حلف الناتو، ومنهم من اعتبر بداية حكومة الحزب الشعبي اليميني عام 1996 نهاية مرحلة الانتقال الديمقراطي الإسباني.

وأعتقد أن إسبانيا، وبعد أربعة عقود قد استكملت دوران عجلتها الديمقراطية بالكامل، وبغض النظر عن الآراء والأفكار والسياسات المتناقضة، فان المسيرة الديمقراطية الإسبانية كانت بالفعل ناجحة وقطعت أشواطاً  كبيرة رغم العقبات وحققت إنجازات هامة كتبادل السلطة والحكم من يسار ويمين، وكان العام 2019 العام الحاسم في استكمال الدورة الديمقراطية الكاملة، وهو ما شهدناه من صعود قيادات سياسية شابة تتولى الحكم ورئاسة الأحزاب الآن.. لذلك من المفروض أن يتبع تجديد الوجوه والقيادات الشابة بتجديد القوانين والدستور ليتلاءم ويتوافق مع تطلعات خصوصية الأقاليم في إسبانيا كحال كاتالونيا وهو ما يعزز الوضع الطبيعي المستقر لإسبانيا الديمقراطية..

وإذ نأمل من القيادات الشابة الاهتمام على ترسيخ الوجه الانساني المتوسطي لتصبح الرهان والنموذج لدول جنوب حوض المتوسط في التنمية والاستقرار، وهذا ما يعكس تلقائياً على دول شمال المتوسط ، فالفطرة المتوسطية لإسبانيا نجدها تبرز بين الحين والآخر وتواجه بحزم وعزم كافة الضغوطات لتغيير نهجها الطبيعي وواقعها الجغرافي الحضاري، ولدينا أمثلة ونماذج عديدة في هذا الشأن.. فمثلا حين غضب الغرب الأطلسي واعترض على دعوة السيد عرفات وقيامه بزيارة رسمية عام 1979، نجد أن هذا الغرب نفسه قد التجأ إلى إسبانيا لتنظيم مؤتمر السلام في مدريد عام 1991، وكذلك مؤتمر برشلونة عام 1995 من أجل إيجاد صيغة للتعاون والمشاركة.. هذا من ناحية المشاريع السياسية والتعاون، أما من جهة المواطن والإنسان والمجتمع، فقد برزت قبل نحو سبع سنوات ظاهرة وتظاهرات(المهمشون indignados )في فرنسا وإسبانيا، فما تزال هذه الشريحة الهامة تعيش على هامش المجتمع الفرنسي دون تحقيق مطالبهم، في حين أن إسبانيا استوعبت الظاهرة وأتاحت المجال لمشاركتهم الحياة السياسية، وشكل (المهمشون) حزب سياسي اطلقوا عليه اسم(نستطيع Podemos) ) ونجح في الانتخابات وأصبح يمثل القوة السياسية الثالثة في إسبانيا واليوم هم شركاء في الحكومة الإسبانية الحالية..

ربما توضح سرد هذه الأمثلة والنماذج التكوين الإسباني الجغرافي والسياسي والثقافي والاجتماعي المتوسطي والمختلف وحتى المتناقض عن شركائه الغربيين.. ونحن نرى اليوم أن الاتحاد الأوروبي يقف أمام مرحلة قد تصل للتصادم مع الحليف الأمريكي الذي يفكر بنفسه أولاً، فالخلافات قد اشتدت وتصاعدت، والمصالح تناقضت، وهذا ما يتيح المجال لإسبانيا قيادة الدور المتوسطي للاتحاد الأوروبي، هذا إذا لم يعترض اليمين المتطرف الغربي الأوروبي على ذلك؟!..  أو هل يترك الغرب الأطلسي أن تبتعد أوروبا عن الحلف وتحاول إيجاد هوية وشخصية سياسية واقتصادية عسكرية أوروبية مستقلة بالموقف والقرار ؟!..

والآن نعود إلى السؤال: هل تصلح التجربة الديمقراطية في إسبانيا للدول العربية؟!.

وهل نعتبر تجربة ديار الأندلس نموذجية للدول العربية، أي هل يصلح النموذج الإسباني الديمقراطي للعرب؟!..

أو بمعنى آخر تصدير الديمقراطية الإسبانية إلى العالم العربي !! ..

هل يمكن ذلك؟!..

الجواب يمكن ذلك.. ولكن يجب أن تكون هناك رغبة قوية صادقة من رأس النظام، مهما كان شأنه، القيام ببناء أسـس الدولة الحديثة على قاعدة اقتصادية راسخة أولا ولتساهم في تنمية كافة القطاعات وخاصة الخدمية والاجتماعية والثقافية وتهيئة وتأهيل المواطن لهذا النظام ..فالديمقراطية، ليست بضاعة تشحن وتباع في السوبرماركت والأسواق كالبطاطا وزيت الزيتون والسيراميك والوجبات السريعة الجاهزة، بل تحتاج الديمقراطية إلى تأسيس بنية تحتية اقتصادية شاملة لمختلف قطاعات البلد، تتيح للمواطن تطوير وضعه وإمكانياته الاقتصادية حتى يصبح الممول الرئيسي للدولة بإنتاجه الخاص الصناعي والتجاري وعلى كافة المؤسـسات المهنية والخدمية، ومن ثم يصبح للمواطن الوعي السياسي لمعرفة حقوقه وواجباته مما يمكنه اختيار حكومة تشرف وتنفذ وترشد الإنفاق العام وتسعى إلى توفير حاجاته واحتياجاته، أي أن الموطن يدفع أثمان ونفقات الديمقراطية من جيبه الخاص، من خلال عمله وإنتاجه ويحسم من مدخوله وأرباحه ويقدمه بكل طيب خاطر تحت مسمى الضرائب وبنسب متفاوتة، وبالتالي تصبح الدولة والحكومة موظفة لدى المواطن العادي وفي خدمته، وبالضبط كما فعلت الصين وحققت نظام برأسين شيوعي ورأسمالي ونجحت في التآلف بينهما، وكذلك حققت روسيا استعادة هيبتها وقوتها السياسية والاقتصادية وما تحققه الآن على مختلف القطاعات والأصعدة ..
لا نود أن يُـفهم أنه من الصعب تحقيق وتنفيذ هذه المتطلبات في الدول العربية وبالتالي يستحال وصول الديمقراطية، أو أن العرب غير مؤهلين لبناء ديمقراطية وأن الأرض العربية غير صالحة لنمو الديمقراطية كما يروج اعداء الأمة.. بالعكس تماماً، فقد شهدنا في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي، ثلاث دول عربية كانت جاهزة ومجهزة للحياة الديمقراطية وحققت كافة متطلباتها، غير أنه تم كبح طموحها;
الأولى كانت “العراق” حيث فرمل الحصار الجائر وحربي الخليج والاحتلال الامريكي مشروع دمقرطة الدولة والمؤسـسات والوطن والمواطن، والدولة الثانية “الجزائر” التي أجهض جنون عناصر الحركات الإسلامية المتشددة تجربتها الديمقراطية الرائدة، في حين ما تزال الدولة الثالثة “سوريا” تضمد جروحها وتحاول إغلاق أبواب جهنم التي فتحت على مصرعيها وانفجرت في البشر والحجر وهدمت وهجرت على امتداد أراضيها وأراضي الجيران..
دون شك، هناك تواطئ ومؤامرات خارجية ضد العرب والعروبة والإسلام، وليس هاجساً  كما يحلو لبعض المحللين الغربيين وبعض العربان أيضاً!.. وهناك أيضاً عوامل داخلية وأخطاء مؤثرة وهامة ساهمت في الدمار.. ولنأخذ على سبيل المثال دولة عريقة مثل الجزائر التي استقلت عام 1962، ومنذ الاستقلال سارعت عملية البناء وإنشاء وتكوين أسـس الدولة الحديثة، وأضحت مطلع السبعينيات، عملاق اقتصادي شامخ، ونسجت أرقى العلاقات المتكافئة مع معظم أنظمة الدول، وأطلق على الجزائر حينها صفة ولقب “إطفائية الأزمات الدولية”، إذ نجحت الدبلوماسية الجزائرية في إنهاء عديد من الأزمات الدولية والإقليمية، كالأزمة بين العراق وإيران وجرى توقيع الاتفاقية بينهما في الجزائر عام 1975، والتوسط في أزمة اختطاف وزراء أوبك، وأزمة الجيش الإيرلندي السري مع بريطانيا وأزمة إسبانيا مع منظمات انفصالية مثل منظمة إيتا في بلاد الباسك وانطونيو كوبيو في جزرالكناري.. إلخ من قضايا وأزمات جعلت دول العالم تعتمد الجزائر الوسيط والطرف القوي المحايد بل المحترف في التوسط واطفاء الأزمات الدولية، فكيف اشتعلت في ديار “الإطفائي” المحترف المحنك نيران الإرهاب مطلع التسعينيات ؟!..

لقد حققت الجزائر، وفي سنوات قليلة، تطور اقتصادي رهيب ومدهش بفضل صناعات النفط والغاز الطبيعي، في حين كان التركيز على القطاع الاقتصادي والصناعات النفطية غاب أو غُيّب الاهتمام بالعناية وتطوير القطاعات الاجتماعية والثقافية وخاصة التعليم، إذ تبين وجود ثغرة خطيرة في قانون التعليم مما جعل الطالب الذي أنهى دراسته الثانوية لا يستطع الالتحاق بالجامعة قبل القيام بواجب التجنيد وخدمة العلم، وفي الوقت ذاته لا يسمح للشاب دخول دورة التجنيد قبل بلوغ سن ال 21 لذلك تعطلت حياة وحركة الشباب بعمر 17 و18 سنة أي بعد انتهاء الدراسة الثانوية ولفترة ثلاث او اربع سنوات، فقد أضحى في تلك السن والفترة الحرجة وبأحلى سنوات عمره، جالساً مكتوف الايدي لا تعليم ولا علم ولا عمل، لهذا نشطت التنظيمات (الجهادية) التي تشكلت مطلع الثمانينات مستغلة هذه الثغرة في استقطاب زهور شباب الجزائر، حيث كانت الطائرات الأمريكية تنقل الشباب من العاصمة الجزائر إلى إحدى القواعد الأمريكية في فرانكفورت وغيرها من المدن والقواعد في ألمانيا (الغربية) ليجري تدريبهم على استعمال السلاح أسابيع معدودة ومن ثم يتم شحنهم إلى جبال أفغانستان..

ثمان سنوات استمر “جهاد الأمريكان في افغانستان” إلى أن سقط النظام الشيوعي بكابول وبدأ تحلل الاتحاد السوفيتي وعاد “العرب الأفغان”، نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، إلى ديارهم بالأموال والأفكار السوداء والسكاكين تقطع الرقاب ..

استعادت الجزائر زمام القيادة والمبادرة واستعاد الحزب الحاكم الوحيد التحكم بمفاصل الدولة وتحصين البلاد ضد فظاعة هذه الآفة وعدوى الفوضى الخلاقة وشرور عواصف الربيع العربي، وكما هو معروف، انتشر (الجهاد والمجاهدون) على مختلف العواصم والجبال والأرياف والبلدان العربية ..
وما يُـفهم من ذلك وما نود قوله، أن النظام الشمولي والحزب الوحيد الحاكم والديكتاتور المتحكم بمقدرات الدولة لديه القدرة والاستطاعة على إرساء البنية التحتية الأساسية لإنشاء نظام ديمقراطي متعددة القوى والأحزاب، وبالضبط كما حدث في إسبانيا، فالفضل الكبير على إرساء وانشاء بنية تحتية اقتصادية متنوعة القطاعات لتؤسـس وتخدم النظام الديمقراطي الحالي، يعود إلى الديكتاتور جنرال الجنرالات فرانسيسكو فرانكو، والدكتاتور

عن نظمي سلسع

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *