استعادات ذكرى يوسف سامي اليوسف.. البداية من الذائقة

ترتقي تجربة الراحل يوسف سامي اليوسف (1938 ـ 2013) إلى مقام نقدي يضعه في صف الكبار، وقد تميّز أكثر من أي شيء آخر بـ”شبه تخصص” في نقد الشعر.
يوسف سامي اليوسف المولود في بلدة لوبية عام 1938، عاش حياة “عسيرة” وضعته منذ يفاعته في مكانة رب العائلة المسؤول عن أسرته التي لجأت إلى لبنان عام النكبة، واستقرت في مخيم “ويفل” سنوات قليلة. انتقل أفرادها، بعدها، الى العاصمة السورية. يفاعة الراحل كانت خطوته الأولى فيها التحاقه بكتيبة الاستطلاع، فكان أصغر منتسبيها سنًا، ليواصل خلالها دراسته التي أوصلته الى جامعة دمشق، لينال منها إجازة في الأدب الإنكليزي، وليعمل في مدارس “الأونروا”، وكالة “غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” مدرسًا للغة الإنكليزية لما يربو على الثلاثين عامًا، تعلم على يديه خلالها عدد كبير من أبناء مخيم اليرموك.
“نشأ اليوسف عصاميًا. وكان غزير القراءة، بتنوع موضوعاتها وآفاقها. وكان حريصًا، بل شغوفًا، في “محاكمة” ما يقرأ. هو، بهذا المعنى، لم يكن يومًا “قارئًا محايدًا”، أو “متلقيًا” يقبل بالتسليم بما تقوله له الكتب”.
هي نشأة عصامية في التعليم المدرسي والأكاديمية، وهي نشأة عصامية، أيضًا، في الثقافة، وتحصيل المعارف، كانت أبرز صفاته خلالها ملكة القراءة الدؤوبة والحصيفة في الوقت ذاته. أتحدث هنا عن غزارة القراءة، كما عن تنوع موضوعاتها وآفاقها، وبالقدر ذاته عن حرصه، بل وشغفه، في “محاكمة” ما يقرأ. هو، بهذا المعنى، لم يكن يومًا “قارئًا محايدًا”، أو “متلقيًا” يقبل بالتسليم بما تقوله له الكتب، بل ذهب في “محاكماته” إلى ما وراء السطور، فحدَق في ما خلف النصوص من معان، وأيضًا، من خلفيات ودوافع، وبالتأكيد حدق في الظروف الاجتماعية التي تحقق فيها هذا النص الإبداعي، أو النقدي، أو ذاك. هذا “النظر” الفاعل والمتفاعل مع قراءاته، أوصله، لاحقًا، إلى ما أعتبره “فتوحات يوسف سامي اليوسف”، خصوصًا في الشعر الجاهلي، ومقولات متميزة في النقد العربي، كالحب العذري، مثلًا.
علمية الناقد الراحل، وموضوعيته، في الحكم نقديًا على النصوص الإبداعية، من خلال متونها، وما تحمله وما تشير إليه، ترافقت، أيضًا، مع التفاته إلى عنصر شديد الأهمية، بل لا نبالغ حين نقول إنه لم يشهد اهتمامًا نقديًا، كما شهده في تجربة يوسف سامي اليوسف، وأعني الذائقة الشخصية، الفردية، التي تخصه كشخص، وهي في رؤيتي شيء آخر لا علاقة ولا صلة له بـ”المزاجية”، بمعناها المتقلب ومساراتها اللحظية. يوسف، كناقد، ظل طيلة تجربته كلها يبدأ من ذائقته كمتلق شديد الحساسية، لا في قراءاته وحسب، ولكن، أيضًا، في أحكامه النقدية التي تعتني كثيرًا بملاحظة “أثر النص الإبداعي في النفس”، وقدرته على ملامسة روح القارئ الداخلية.
لعل هذا بالذات ما جعل تجربته النقدية تنحاز أكثر ـ وبصورة واضحة ـ إلى “مقارعة” الشعر أكثر من الرواية والأجناس الأدبية السردية، وهو من هنا “ذهب” في ترحاله داخل التجربة الشعرية العربية إلى بدايات تلك التجربة وتجاربها الأولى، منذ الملك الضليل، أمرئ القيس، وحتى شعراء زماننا الراهن، من دون القفز عن قراءاته الحصيفة للشعر الإنكليزي، وترجماته منه، واعتنائه بالذات بتجربة الشاعر إليوت. في “نظره” الطويل، واستخلاصاته النقدية، حقق الناقد الراحل دراسات عميقة ما لبثت أن صارت حاضرة وبقوة كمراجع في عدد كبير من الجامعات العربية، مثلما حققت حضورًا في ثقافة الشعراء، والكتاب العرب، عمومًا.
“حين أسأله: ما المفيد يا أبا وليد؟ يقول بنصف ابتسامة، ونصف سخرية: أن ترى أن ما تقرأ يهمك شخصيًا، وتعنيك سطوره، وما وراء تلك السطور”
ذلك كله لم يثن يوسف سامي اليوسف عن تحقيق دراسات في الأدب والحياة الفلسطينية، وأشير هنا بالذات الى كتابه الهام والجميل “رعشة المأساة”، عن تجربة الكاتب الشهيد، غسان كنفاني.
هنا، أيضًا، تحضر تجربته الشخصية بالذات من خلال كتابه المؤثر والبليغ “تلك الأيام”، بأجزائه الأربعة، الذي قدم فيه بعض صور حياته في قريته لوبية، وما مرَ بعدها. هو يكتب عن حياته، فينتخب بعض أهم صورها، وأقسى أحداثها، فيستعيد ونستعيد معه أزمنة كانت محطات مؤثرة بلغة تمزج السرد المباشر بالرؤى الشخصية ـ الفردية، ولكن التي لا تجافي الموضوعية، ولا تجانب الحقيقة.
كان قدر كتاباته كلها أن تثير “قلق” الآخرين، وأن تزجه في أتون حرائق موضوعاته، هو الذي آمن في عيشه، وكتاباته، معًا، بأن “الأشياء مقمَطة بنواميسها”، وأن قدر المبدع أن يقتحم الشائك، فيأتي للقارئ من “هناك” بالمفيد والجميل. وحين أسأله: ما المفيد يا أبا وليد؟ يقول بنصف ابتسامة، ونصف سخرية: أن ترى أن ما تقرأ يهمك شخصيًا، وتعنيك سطوره، وما وراء تلك السطور.
يوسف سامي اليوسف عاش تراجيدية الحياة، وعاش تراجيدية الموت؛ الفتى الذي خرج مطلع صباه من مخيم “ويفل” في لبنان، عاش المحنة السورية بكل أهوالها وقسوتها، خلال وقوعه أسير المرض، فشاء قدره أن يعود إلى مخيمه الأول “ويفل”، وأن يموت هناك بعيدًا عن “لوبية”، وبعيدًا كذلك عن مخيم اليرموك، وكأن حياته كلها كانت رحلة بين مخيم أول يغادره للثاني كي يعود إليه من جديد مثقلًا بسنوات العمر، وأمراض الشيخوخة، وبحلم لم يغادر روحه يومًا.. حلم كان يعود به إلى صباحات مبكرة جدًا، يستيقظ فيها ليأكل إفطارًا من التين الندي، من إحدى أشجار تلك القرية الجبلية التي لا تشبه شيئًا أكثر من الفردوس المفقود.

راسم المدهون – 18 أبريل 2021

عن راسم المدهون

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *