إيران ودول الخليج وإمكانية التلاقي

بعد أشهر من تعليق وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، حول الدعوة للحوار مع إيران، وكلامه عن عدم جدوى الحوار معها، عاد قبل أيام وتحدث عن واقعية الجلوس إلى طاولة المفاوضات معها. يومها برَّر الوزير الرفض بأن إيران لا تلتزم باتفاقاتها، ومضيفاً أن يد بلاده ممدودة للسلام معها. في تلك الأيام كانت الدعوة للحوار معها مستندة إلى الأجواء الإيجابية التي سادت منطقة الخليج بعد مصالحة عددٍ من دوله مع دولة قطر، ودعوة الأخيرة للحوار مع إيران لتخفيف حدة التوتر في المنطقة. فهل توجد إمكانية للحوار مع إيران والتلاقي معها، أم أن أسباب التوتر الذي شاب علاقاتها مع دول الخليج وعدد من الدول العربية لم تنتفِ حتى الآن؟

على الرغم من صعوبة إيجاد نقاط تلاقٍ في هذه الفترة، بين دول الخليج العربي وإيران، إلا أن عدة عوامل جعلت قطر تنبري لمهمة التقريب بين الطرفين عبر تبنيها الوساطة للبدء بالحوار بينهما، من أجل حل الخلافات العالقة بينها. وهي عوامل تعطيها الإمكانية للدعوة إلى حوار كهذا وربما إدارته، بحكم علاقاتها القوية مع إيران، واعتماداً على تجاربها في حل كثير من الخلافات، ورعايتها توقيع اتفاقات بين أطرافٍ متصارعةٍ، كان آخرها الاتفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، علاوة على استغلالها أجواء الارتياح في المنطقة، والتي خلفتها المصالحة الخليجية. إلا أن عمق الخلاف، وبعض الأسس التي تقوم عليها هذه الدول، تجعل هذا الحوار من الصعوبة بحيث يتطلب الكثير من الجهد والمثابرة وتضحية الأطراف التي ستخوضه.

استندت قطر في مسعاها على ما لمسته من أجواء طيبة، على الصعيدين الشعبي والرسمي، بعد مصالحتها مع عددٍ من دول الخليج ومصر، الذي جرى خلال القمة الخليجية، في 5 يناير/ كانون الثاني الماضي. هذه المصالحة التي أوقفت قطيعةً استمرت أكثر من ثلاث سنوات، وأنهت حصاراً ضاغطاً كان له آثارٌ سيئةٌ عليها وعلى الدول المحاصِرة، على السواء. ويبدو أنها لمست إمكانية سحب هذه الأجواء لجعل الأطراف الخليجية تقبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إيران. لذلك لم تنتظر الدوحة طويلاً، إذ أعلن وزير خارجيتها، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بعد أيام من القمة، في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، في حديث لوكالة بلومبيرغ بأن بلاده: “حثَّت دول الخليج على البدء بحوارٍ مع إيران، والآن هو الوقت المناسب لهذا الحوار”، معلناً استعداد بلاده للتوسط فيه.

كما استندت قطر أيضاً إلى تجربة كبيرة في رعاية المفاوضات بين متخاصمين، وإيصال مفاوضاتهم إلى عقد اتفاقات، جنَّبت عددٍ البلدان والمجتمعات صراعاتٍ وانقساماتٍ، وأوقفت إراقة دماء كثيرة. وربما كانت أبرز هذه المفاوضات، تلك التي أثمرت اتفاق الدوحة الخاص بلبنان، سنة 2008، الذي وقَّعته مختلف الأطراف اللبنانية بعد سنوات من الانقسام الذي حصل بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، سنة 2005. وهو انقسام ازدادت حدته بعد حرب تموز التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، سنة 2006، والتي كرَّست حال الاستقطاب الحاد التي سادت بعد حادثة الاغتيال. كما رعت المفاوضات بين حركتي حماس وفتح الفلسطينيتين التي أنهت الانقسام بينهما. وكذلك رعت مفاوضات بين أطراف سودانية، ومفاوضات بين طرفي الصراع في اليمن، ثم تكللت جميعها بالمفاوضات بين حركة طالبان الأفغانية والولايات المتحدة الأميركية وأثمرت توقيع اتفاق بينهما، في فبراير/ شباط 2020، ينصُّ على إنهاء الحرب في أفغانستان وتعزيز السلام.

وإضافة إلى ما سبق، استندت قطر إلى الأجواء المريحة التي أحدثها انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وكلامه عن إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ثم البدء بشكلٍ من المفاوضات بينهما للوصول إلى تفاهمات تريح المزاج العام في المنطقة. وهي أجواء كرسها، كذلك، رحيل دونالد ترامب الذي كان يشدِّد على عوامل الانقسام في المنطقة، من أجل تحقيق مكاسب من التوتر الذي تُخلِّفه، واستغلاله في ابتزاز هذه الدول لدى اللجوء إلى بلاده للحصول على العون والمساندة.

غير أن هنالك عدد من القضايا التي قد تقف حائلاً دون نجاح الوساطة القطرية، أو أي وساطة أخرى، وظهور ثمارها، خصوصاً في هذه الفترة، مع واقع تدخُّل إيران في عدد من الدول العربية ودعم أنشطة المنظمات والميليشيات التابعة لها في هذه البلدان، وفي نشاطها الإقليمي لصالح إيران ومخططاتها. ولا ترى دول الخليج في نشاطات إيران في عدد من الدول العربية سوى تنفيذ لعقيدة نظامها الذي كانت أولى مشاريعه مشروع تصدير الثورة إلى دول الجوار، هذا المشروع الذي عانت منه أول من عانت المملكة العربية السعودية، ولها تاريخ طويل مع الحوادث التي ثبتت فيها محاولات إيران استهداف أمن المملكة.

من تلك الحوادث حادثة الحرم المكي سنة 1987، وما شهده من أعمال عنف دموية كانت سبباً لقطع السعودية علاقاتها معها، وحوادث أخرى ليس آخرها الهجوم على منشأتي شركة آرامكو النفطية، في سبتمبر/ أيلول 2019، ودعم الحوثيين في حربهم مع السعودية وبقية دول التحالف العربي، واستهدافهم المملكة بالصواريخ الباليستية والدرون المفخخة. وهي وقائع جعلت وزير الخارجية السعودي السابق، عادل الجبير، يشير إلى هذا الأمر حين قال في تصريحٍ واضحٍ: “إذا لم تتخلَّ إيران عن مبدأ تصدير الثورة الراسخ في دستورها وتقبل مبدأ سيادة الدول فمن المحال أن نتعامل معها”. فهل تخلت هي عن هذا الموضوع لكي ينتفي ذلك المحال؟ تشير المعطيات الحاضرة أنها لم تفعل، لكن المفاوضات قد تعطي الآمال بأنها قد تفعل.

ولكن، وفي ظل العزلة التي تعيشها إيران، وفي ظل أزماتها الاقتصادية التي سببها الحصار والعقوبات التي تفرضها دول الغرب، وغيرها من الدول، هل لدى إيران استعداد لتقديم تنازلات، وهي كثيرة تتطلبها المرحلة من أجل إظهار نيات حسنة لدول الخليج لتقليل هواجسها وتشجيعها على البدء بالحوار؟ يشي كلام المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، من أن “لدى السعودية مخاوف وهمية من إيران”، بعدم وجود استعداد لتقديم تلك التنازلات، على الرغم من أنه أردف إنهم “مستعدون للحوار معها حول تلك المخاوف”.

غير أن بعض الوقائع تجعل من عقد هذا الحوار ضرورة ضاغطة على الأطراف جميعها لتخفيف حدة التوتر. إذ إن الاستقرار الذي ترجوه هذه الدول، سيما مع توجه دول الخليج، خصوصاً السعودية، لتخفيف الاعتماد على النفط في اقتصادها والبحث عن بدائل لرفد اقتصادها بواردات من قطاعات أخرى، يفرض حوار كهذا. كذلك من ضرورة بحث إيران عن وسائل لتخفيف عزلتها، وسائل لا يمكن توفرها إلا بعد الاتفاق حول برنامجيها، النووي والصاروخي، وكذلك بعد توقفها عن التدخل في شؤون عدد من الدول العربية.

من الواضح أن إيران أحدثت شرخاً في المنطقة العربية لدخولها على خط القلاقل التي حدثت في البلدان التي تتواجد قواتها فيها، أو تلك التي تدعم منظمات وميليشيات عسكرية عاملة على أراضيها. فالدول الخليجية تُعدُّ هذا التدخل بمثابة تأزيم للوضع في هذه البلدان، وتعقيد للمشكلات التي تواجهها ما يجعل حلها مستحيلاً. وستبقى الهواجس لدى الطرفين ماثلة، وإلا كنا شهدنا جولةً واحدةً من تلك المفاوضات بعد مضي هذه الفترة. لذلك ستبقى المنطقة عرضةً لتداعيات التوتر الذي يوصم علاقة الطرفين ببعض، ولن يزول هذا التوتر، وتلك الهواجس، سوى بتقديم الجميع تنازلاتٍ، وربما تضحياتٍ قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، واعتبارها قرابين أمام مكاسب الاستقرار الاقتصادية والاجتماعية الذي يمكن أن تجلبه للمنطقة وشعوبها.

عن مالك ونّوس

كاتب صحفي ومترجم سوري

شاهد أيضاً

ردود الفعل الدولية على الانتفاضة السورية (آذار 2011 – حزيران 2012)

استهلال ثمة حرب في سوريا .. حرب حقيقية موصوفة،  وليست حرب كلمات و أشعار و …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *