أفكار منتصف النهار (2): الشر والمرأة

قضيت عطلة عيد الميلاد في إيطاليا لمدة عشرة أيام ، وكنت محظوظة أنني زرت مناطق كثيرة في الجنوب الإيطالي حيث خزنت سحر البحر المتوسط الذي أشعرني أنني في مدينتي اللاذقية ، وفي كل مكان أسافر إليه يهمني روح المكان ومعتقدات الناس فأنا أؤمن أن الأمكنة أرواح مثلاً في اسكوتلندا ( غلاسكو  وأدنبرة ) شفيعهم القديس اندراوس أحد تلامذة السيد المسيح رغم أنه بشر بالديانة المسيحية  في آسيا ، لكن معظم سكان اسكوتلندا شفيعهم القديس مار اندراوس ولديهم طقوساً معينة أنهم كل أول يوم من شهر إيار ينزلون إلى البحر ( بحر الشمال ) وتكون درجة حرارته منخفضة جداً . هذا الطقس يشبه طقس أربعة أيوب في لبنان وسوريا . لكنني في إيطاليا أكثر ما استوقفتني الأساطير وهي كثيرة وذات دلالات كثيرة . فأحد أهم الأساطير في إيطاليا – جنوب إيطاليا – أسطورة حورية البحر الجميلة نصفها العلوي امرأة ونصفها السفلي سمكة ( ذيل السمكة ) وهذه الحورية تحمل بين يديها صدفة كبيرة جداً وثمة عدة تماثيل لها ، وتقول الأسطورة أن ( سيرينا ) أي حورية البحر كانت تنفخ في الصدفة فتصدر أصواتاً أشبه بموسيقى ساحرة وكانت هذه الموسيقى تشوش البحارة خاصة قادة المراكب فيصابون بتشوش ذهني شديد ويفقدون القدرة على التركيز وعلى تحديد الاتجاه ، حتى أن بعضهم كان يجن ويرمي نفسه في البحر . أفهم أن الأسطورة تُعبر غالباً عم يخشاه الإنسان أو لا يفهمه ، إذ كانت عوامل الطبيعة والتيارات المائية واتجاه الرياح وعوامل كثيرة غامضة لم يكن يعرفها من يقودون القوارب والسفن لذا يعزون تحطمها ( خاصة القوارب بين جزيرة صقلية وشواطئ إيطاليا ) إلى قوى غامضة ، وكانت تلك القوة امرأة شريرة تنفخ في صدفة وتصدر أصواتاً تشوش البحارة وتفقدهم التركيز وتصيب الكثيرين منهم بالجنون .

اسطورة أخرى مشابهة في مدينة إيطالية سياحية ساحرة الجمال في وسطها تمثال عملاق لوحش هو عبارة عن تنين فاغر فمه ومخيف ولكن هذا التنين ملتصق بجسد امرأة عارية مستلقيه على ظهرها ، ثدياها جميلان وجسدها متماهي مع التنين المتوحش لدرجة لا يُمكن الفصل بينهما ، هذا التمثال اسمه ( وحش البحر ) وتقول الأسطورة الإيطالية أن وحش البحر كان يسكن في البحر المتوسط الذي يحيط بكل إيطاليا وأنه كان يتسبب في غرق السفن وتحطمها لأنه كان يُهاجمها ، لكن هذا الوحش كان أيضاً امرأة .

أساطير كثيرة قرأت عنها في إيطاليا معظمها متشابه بأن في البحر وحش هو امرأة أو حورية بحر شريرة هي امرأة ، أي ربط الشر بالمرأة ، مع أن مهنة البحارة كانت مرتبطة بالرجال ، ومن يقود السفن رجال والبحارة رجال ، فلماذا لا يكون وحش البحر رجلاً مثلاً ؟ لماذا هو امرأة شريرة ؟ أحسست بخيبة أمل من معظم الأساطير الإيطالية خاصة أسطورة سيرينا التي تحمل صدفة تنفخ فيها وتصدر أصواتاً تفقد البحارة تركيزهم فيغرقون ويصابون بالجنون ، وتمثال سيرينا ( حورية البحر ) رائع الجمال ، المرأة جميلة جداً ويداها رقيقتان تحملان الصدفة . لكن ارتبطت الكثير من القصص المأساوية بالمرأة فكم من نساء حُرقن وإعدمن وعذبن لأنهن ساحرات شريرات ، وعبارة ( الشيطان امرأة ) متداولة كثيراً ولاحظت حين كنت أكتب في مجلات نسائية مثل ( سيدتي ، الحسناء ، الجميلة الخ ) أن هناك الكثير من المواضيع تتناول بإسهاب كبير المرأة كشريرة فهي خاطفة الأزواج خاصة إن كانت عازبة أو مطلقة أو أرملة ، قرأت موضوعاً من ثماني صفحات في مجلة نسائية مشهورة بعنوان خاطفات الأزواج حتى الصورة كانت لامرأة مخيفة أظافرها كالمخالب وتنصح صاحبة المقال الزوجات من ضرورة حماية أزواجهن من النساء خاطفات الأزواج كما لو أن الزوج طفل بريء لا دور له في الخيانه ، وليس هم – غالباً – من يلاحق المرأة كصياد يعرف كيف يصطاد الفريسة .

حتى في الأسطورة فإن حواء هي من أغرت آدم بأكل التفاحة ، أي أن الإثم والخطيئة منها فيما آدم بريء إنقاد للغواية .

لا تزال المرأة حتى عصرنا هذا ورغم الإنجازات الكبيرة التي حققتها ورغم أنها كسرت الصمت وتمردت على النظام الأبوي فإنها لا تزال تُعاني من نظرة اجتماعية تتشارك بها العديد من النساء مع الرجال والنظام الأبوي بأن الشر في المرأة ، وبأنها تحيك المكائد وتخطف الأزواج ، وحتى حين تتعرض للعنف والخيانة الزوجية غالباً ما يُلقى اللوم عليها ولسان حال المجتمع الأبوي يقول : لو عرفت هذه المرأة أن تحافظ جيداً على زوجها وتُريحه لما خانها !!! أي تبرئة الزوج الخائن وإلقاء اللوم على المرأة الضحية كونها لم تنجح في الاحتفاظ بزوجها .

الشيطان امرأة والشر امرأة ، والمكر والدهاء امرأة ، المرأة تكون محترمة ومُقدسة فقط في علمنا العربي في حالة واحدة فقط حين تكون أماً ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) . وهذا مفهوم ليس بريئاً تماماً فمفهوم الأمومة – رغم عظمة الأمومة – يُستعمل بشكل مُبطن لسجن المرأة في أمومتها فقط ، أي تكون الجنة تحت أقدام المرأة الأم التي تبذل روجها حتى آخر نفس في رعاية أولادها وزوجها ، لكن الجنة ليست تحت أقدام المُبدعات اللاتي يُوصفن بالاسترجال والأنانية ولا يكن مرغوبات في سوق الزواج وتلتصق بهن صفات الانحلال الأخلاقي وتعدد العلاقات . مفهوم الأمومة في مجتمعنا العربي ينطوي على الكثير من استعباد المرأة أي أنت المرأة للخدمة ، خدمة الأولاد والزوج والأهل في أرذل العمر الخ .

الأساطير التي قرأتها في إيطاليا ورغم أنها تعود لتاريخ بعيد لكنها تعكس أي تنمر واضطهاد تتعرض لهما المرأة.

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): علاج تناذر ما بعد الصدمة

يحتل موضوع العلاج ما بعد الصدمة اهتماماً كبيراً من قبل اختصاصيين في الطب النفسي وفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *