أفكار منتصف النهار (1): الهدر الوجودي للسوريين

لا يمر يوم إلا وأسمع عن تنوعات المأساة السورية ، كل يوم قصصاً تفوق في قسوتها وغرابتها الخيال . وسأحكي عن الأحبة في الداخل الذين أتواصل معهم يومياً .

– أيمن طفل سوري عمره خمس سنوات أمه تعمل في تنظيف البيوت وشطف درج البنايات والده لا يستقر في عمل . أيمن الابن الأصغر لثلاثة أخوة ،روحه حلوة يخلق الفرح من الفراغ والتراب ، يذكرني بأغنية فيروز ( عنا أولاد وناطرين بالضحك بيتسلوا ) . من وقت لآخر أرسل هدايا تفرح قلب أيمن خاصة ولعه بنوع بونبون ( إم أند إم ) وآخر مرة طلب مني أن أشتري له سيارة إسعاف ، فكرت كم تؤثر ظروف الحياة على طفل مثل أيمن وطوال الوقت يسمع أصوات زمامير الإسعاف . فكان طلبه سيارة إسعاف انعكاساً للحياة في سوريا . . منذ أيام بدا أيمن حزيناً وحزن الأطفال لا يخفى سألني : خالتو هلق في كهربا في الجنة ؟ أحسست سؤاله يُلخص الحياة في سوريا فالعتمة شاملة وتحتل أزمة الكهرباء أكبر حديث عن معاناة السوريين ، طفل يحلم بالكهرباء في الجنة وأسرته تقضي الليل بشمعة وحيدة برفع الأصبع ( أصبح سعر الشمعة 457 ليرة سورية ) وعلى نورها الواهن بالكاد يرى وجه إخوته وهم يأكلون بطاطا مع خبز ويشربون الكثير من الماء ليستطيعوا ابتلاع هذه العصيدة . صدقاً لازمني صوت أيمن لأيام في عقلي وأنا أعيد تساؤله طوال الوقت .

– مأساة جديدة في يوم جديد في سوريا خبر نشره موقع ( بلدي نيوز ) عن وفاة الشابة رشا علي رزق إثر سقوطها في عجانه المعكرونة في جبلة ، المأساة الأكبر كانت التعليقات على الحادثة ، فالأكثرية ترحمت عليها وطلبوا من رب العالمين أن يغفر لها ، أحدهم كتب : مسكينة صارت كبة نية ، وتعليقات كثيرة ليس فيها ذرة من إنسانية أو غضب ، وقد أعاد سقوط رشا رزق في عجانه المعكرونة ( شهيدة العجانة ) ذكرى غير بعيدة هو سقوط شابة في حفرة مجرور ( شهيدة المجرور ) . الإحساس بالكرامة مُكتسب أي أنه لا يولد مع الإنسان والسوريين الذين عاشوا عقوداً من الخوف والفساد والمحسوبيات ، وخطر الفكر الحر الذي يؤدي إلى السجن أو الموت ، انكمش شعورهم بكرامة الروح حتى كاد يتلاشى وصارت حياتهم كشعار ( الحيط الحيط ويا رب السترة ) وكل وجودهم متعلق بالبطاقة الذكية ، ولا أستغرب أن يصير الهواء على البطاقة الذكية أيضاً . .

إحدى صديقاتي امرأة تخاف من ظلها ، تعيش وحيدة بعد أن سافر ولديها إلى دولة أوروبية ، أطمئن عليها من وقت لآخر ، منذ أيام حكيت معها على واتس كان صوتها يرتجف من التوتر قالت لي : عرفت أخباري ؟ قلت : لا . قالت بصوت كالهمس : أرسلوا هؤلاء ورائي ؟ سألتها من هؤلاء ؟ غضبت وقالت أوووف يعني ألم تعرفي هؤلاء نفسهم الذين كانوا من حين لآخر يرسلون للتحقيق معك . حاولت طمأنتها أن تحكي بحرية لأن الواتس آب غير مُراقب . قاطعتني قائلة : بل أصبح مُراقباً لأن روسيا أهدت النظام برنامجاً يستطيع من خلاله مراقبة كل شيء . قالت أنها عاشت ذعراً دمر أعصابها وأنها طلبت من كثيرين الاتصال ( بهؤلاء – أي الأجهزة الأمنية ) وكان السؤال الوحيد الذي وجهوه لها إن كانت تعرف فلان الفلاني وهو قريب لا تربطها به أية صلة . وتنهدت وقالت : الحمد لله مرت المقابلة على خير . أي ذعر تثيره  أجهزة المخابرات في نفوس الناس ذعر يصل أحياناً لخطر توقف القلب فعلاً . لا أنسى يوم كتبت مقالاً عام 2008 . مقالاً ساخراً أتساءل فيه بمرارة ما الغاية أن ندرس تفاصيل تفاصيل البارودة الروسية ونحن في المرحلة الإعدادية وأن نتعلم فكها وتركيبها واسم كل قطعة فيها ، وكتبت في المقال أنني كنت أموت من الضحك من كلمة ( السبطانة ) وكنا فتيات بعمر البراعم ( 13 – 15 سنة ) يأخذن مدربات الفتوة إلى حقول الرماية لنتدرب على الرمي في البارودة . ومن لم تفلح في الرمي تُوصف بالحمارة والحيوانة الخ . فقط في هذا المقال تساءلت ما الغاية من هذه الدروس ومن تدريس مادة القومية حتى في الجامعة ( وهي مادة مُرسّبة ) يومها بسبب مقالي عن البارودة استدعاني جهاز أمن الدولة وجهاز الأمن العسكري اتهمني أنني أهين وطني وأن كل مقالاتي هي تشويه صورة سوريا ، وكل ما أكتبه هو ( نشر الغسيل الوسخ ) . عرفت أن القاسم المُشترك الأعظم لكل الأجهزة الأمنية هي عبارة نشر الغسيل الوسخ . فكل مقال صادق وجريء هو برأيهم نشر للغسيل الوسخ ، عدا عن منع السفر والرعب النفسي الذي جعل المرارة تصبغ أيامنا وأرواحنا . حين أود أن أكتب عبارة الحياة في سوريا أحس يدي تحرن وترفض أن تكتب كلمة حياة في سوريا ، فلا شيء في سوريا يُشبه الحياة ، السوريون يعيشون هدراً وجودياً قمة في الذل يقبعون في الظلمة والبرد والجوع مُروعين من قول كلمة قد تُسر أنها جريمة إلكترونية . كل يعيش في قوقعة عزلته . أحد أصدقائي يسكن في الطابق الثامن ولدية ابنه جامعية وإبن جامعي ، كل يوم يحمل الولدين البطارية ( وزنها أكثر من عشر كليات ) والشواحن ومقويات الشواحن وجهاز الكمبيوتر والموبايلات وينزلون في العتمة الشاملة درج ثماني طوابق قاصدين مقهى يملك مولدة ويدفعون مالاً لصاحب لمقهى ليسمح لهم بشحن الأجهزة الكهربائية ( خاصة البطارية ) أحياناً يضطرون للانتظار ساعات حتى يحين دورهم في الشحن لأن معظم الشعب السوري تحول إلى متسول كهرباء .

كل يوم في سوريا هناك مآسي تفوق مسرح اللامعقول . الخطر الكبير الذي لا يأخذ حقه هو إرتفاع مخيف في نسبة إدمان الشباب والشابات على الكبتاجون .

عبارة دقيقة : سوريا مأساة القرن .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): علاج تناذر ما بعد الصدمة

يحتل موضوع العلاج ما بعد الصدمة اهتماماً كبيراً من قبل اختصاصيين في الطب النفسي وفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *