غزة وسؤال الفلسطيني عن الفضيلة في زمن الحرب

في تتبع أحوال أهل قطاع غزة من خلال صفحاتهم أو بعض نصوصهم الأدبية التي نشروها في كتب، مثل رواية عاطف أبو سيف «القبر رقم 49»، تقرأ كتابات مختلفة تصور وجهات نظر متباينة ومختلفة تبايناً واختلافاً شديداً لافتاً، والسبب هو اختلاف المواقع التي تؤدي إلى اختلاف المواقف.

رصد أبو سيف ما ألمّ بثلاثة عشر رجلاً وامرأة لم يكن بينهم مقاتل واحد ممن شاركوا في أحداث ٧ أكتوبر، لنقرأ ما يجيش في نفسه من عواطف وأفكار ورؤى أو تصورات عن الحرب قبل وقوعها وفي يومها الأول والأيام التي تلته.

ربما لم يفعل أبو سيف ذلك لأنه لم يلتق بواحد من هؤلاء، علماً أن شخصية المقاتل وهو يتصدى للدبابات كانت لافتة، وهنا أشير إلى المقاتل الشبح الأنيق الذي شبهه قسم ممن كتبوا عنه بأنه (روبن هود) الغزاوي، وإلى المقاتل صاحب عبارة «حلل يا دويري» التي تنوقلت، ابتداء، جادة وتحولت، مع مرور الأيام، إلى عبارة تهكمية ساخرة من المحلل الأردني في قناة «الجزيرة» فايز الدويري.

ورواية أبو سيف الجديدة تختلف عن روايته «حياة معلقة» (٢٠١٤)، التي كتب فيها عن انتفاضة ١٩٨٧ التي عاشها وشارك فيها، بل وفقد أخاه وكتب عنه.

شيء طبيعي ألا يكتب أبو سيف عن مقاتل ما دام بعيداً عن المشاركين بـ ٧ أكتوبر وصلته بهم منعدمة وعملهم كان سرياً جداً، ولكنه عوّض عدم الكتابة بتصوير مشاعر أم مشارك وزوجته أيضاً، وقد يكون، في أثناء وجوده في مخيم جباليا في الأسابيع الأولى للحرب، أو في رفح في الشهر الأخير لوجوده – أي الشهر الثالث – قبل مغادرته، قد يكون التقى بأم مقاتل وزوجته، أو سمع حكايتهما، فكتب ما كتبه تحت عنوان «الحماة والكنة» ومن هذه الكتابة عرفنا القليل عن المقاتل وعلاقته بزوجته وحبهما لبعضهما، ثم أقل القليل عن مشاعره إزاء ما جرى.

وأنت تقرأ روايته وما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي ومنها «فيسبوك»، تتذكر قصيدة محمود درويش «مطار أثينا» التي يقول فيها:

«مطار أثينا يوزعنا للمطارات. قال المقاتل: أين أقاتل؟ صاحت به/ حامل: أين أهديك طفلك؟ قال الموظف: أين أوظف مالي؟ قال/ المثقف: مالي ومالك؟ قال رجال الجمارك: من أين جئتم؟ أجبنا: من/ البحر. قالوا: إلى أين تمضون؟ قلنا: إلى البحر. قالوا: وأين عناوينكم؟/ قالت امرأة من جماعتنا: بقجتي قريتي. …..».

تتذكر أسطر درويش السابقة لأنها تعبر عن شرائح اجتماعية فلسطينية مختلفة تختلف همومها، فهم المقاتل الذي يضغط عليه غير هم المرأة الحامل، ويختلف هم الموظف عن همهما، كما يختلف هم المثقف عن هموم الثلاثة، ويكون هم رجال الجمارك متعلقاً بوظيفتهم وسؤالهم التقليدي: من أين جئتم؟

هذا الاختلاف في النظر إلى الأمور نجد شبيهاً له الآن في كتابات أبناء غزة وفي كلامهم في أشرطة الفيديو التي يتحدثون فيها عن معاناتهم.

يعرض المقاتلون أشرطة فيديو للمعارك التي يخوضونها تصور بطولاتهم وما أوقعوه في قوات الجيش الإسرائيلي، فيم يبحث النازحون عن خيمة والجائعون عن طعام والراغبون في السفر عن سمسار، وإذا كان المقاتل يضع الوطن في سلّم أولوياته، فيبذل روحه في سبيله، تجد أن أكثر المواطنين يبحثون عن مأوى ومطعم، وستجد بين هؤلاء من يبحث عما هو أكثر، كأن يثرى ويجمع المال غير مهتم بالفضيلة على الإطلاق. كل من لا يحمل السلاح ويقاتل يبحث عما يبقيه حياً، وتصبح الفضيلة لديه أن يبقى على قيد الحياة.

كان غسان كنفاني في قصته القصيرة «الصغير يذهب إلى المخيم» أتى على الفضيلة في زمن الاشتباك:

«نتشاجر عصام وأنا من جهة مع بقية الأطفال أو أصحاب الدكاكين أو السائقين أو رجال الشرطة أحياناً، ثم أتشاجر مع عصام فيما تبقى من الوقت.

كان ذلك زمن الاشتباك. أقول هذا لأنك لا تعرف: إن العالم وقتئذ يقف على رأسه، لا أحد يطالبه بالفضيلة.. سيبدو مضحكاً من يفعل.. أن تعيش كيفما كان وبأي وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة. حسناً. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً». إن الفضيلة الأولى أن تحتفظ بنفسك حياً.

وأغلب أهل قطاع غزة، باستثناء المقاتلين، يعيشون زمن الاشتباك.. الاشتباك مع الحياة، ولعل ما يفسر هذا هو ما نقرؤه في هذه الأيام عن الاستغلال والسرقات والفوضى وارتفاع الأسعار واحتكار السلع، وهذه المزاحمات في الطوابير أمام التكايا وهذا ما نقرؤه في رواية أبو سيف على لسان الشابة التي تركت، مع ولديها، زوجها في الشمال، بناء على طلبه ليرعى والديه:

«قلت للست حليمة، أنت لا تخرجين للشارع فترينَ كيف تأكل الناس بعضها بعضاً، وكيف ينهشون أجساد بعضهم بعضاً. استغلال وجشع وسرقة وبلطجة. الحياة قاسية. الناس لا تعرف كيف تعيش ولا كيف تتدبر أمورها. كل شيء صار مباحاً. ما نفع الأخلاق والقيم حين لا تساعدنا على الحياة. لا تقولي لي إن الأساس أن نموت من أجل أخلاقنا وقيمنا. الأساس أن كل شيء وجد من أجل أن نعيش ونحيا، لا من أجل أن نموت في سبيل الموت».

وثمة سطر في الرواية يتكرر هو أن الحياة في زمن الحرب تختلف.

هل ثمة وجود للأخلاق والفضيلة في زمن الحرب؟ انه سؤال أثاره كنفاني قبل ستين عاماً ويثيره أبو سيف بعد ستين عاماً على إثارته.

المصدر

https://www.al-ayyam.ps/ar/Article/414046/%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B6%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8?fbclid=IwY2xjawKQjlFleHRuA2FlbQIxMQBicmlkETBscGVqOWZ1Z2VRbEZvVU9rAR7-cMv0qm5GQK6mKUpiCLSy9wtso2mMJY1Qnjbi6LErXSYqy8QDiIurvO3DRA_aem_RtwSxUl6BDRBSOoAnG0Wtg

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

الخيانة العظمى

عمت الفرحة قلوب معظم السوريين، فرحة أشبه بالشفاء من مرض خطير أو سرطان، تحقق أمل …