غلاف كتابي سهام اليحيى ومحمود السمرة

المدينة في سيرتي زوجين

  • مفتتح

كانت “المدينة” ولا تزال مالكة مفاتيح الجذب لكثير من الأشخاص عبر الزمن. وعلى ما يبدو أن فكرة المدينة ستبقى هكذاـ بالرغم من الدعوات التي تعلو بين الفينة والأخرى داعية إلى العودة إلى القرية والريف بما يحملان من علاقة وطيدة بين الإنسان والطبيعة، المكون الرئيس له.

وعند التطرق إلى المدينة الفلسطينية، وبالأخص في القرنين الماضيين في الحد الأنى، نجد أن المدينة كانت قوة حقيقية في تحقيق أحلام كثيرين من أبناء فلسطين والجوار، نعني سوريا ومصر وأحياناً كثيرةً شمالي إفريقيا حتى المغرب العربي. وإن كانت المدينة الفلسطينية قد شهدت نمواً سكانياً مشهوداً له حتى عام النكبة، فإنها بموازاة ذلك شكّلت مكوناتها كمصدر من مصادر العمل والارتزاق والعلم والمعرفة والتسلية والترفيه ونهل جرعات من الثقافة على أنواعها المختلفة كالمسرح والغناء والمحاضرات والندوات والأمسيات الراقصة وسواها. مكونات توفرت جميعها منفردة ومجتمعة في مدن الساحل الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص يافا وحيفا. وفي هذا السياق أدركت الحركة الصهيونية مدى أهمية هاتين المدينتين في صنع الثقافة الفلسطينية إلى جانب الدور الخاص الذي لعبته القدس بمركباتها الدينية والتاريخية على مدى عصور طويلة.

لكن، أن تختص المدينة الفلسطينية الساحلية بمكونات تميزها فهذا شأن امتلكته نفسها إلى أن صفعتها النكبة اللئيمة والقاسية والجارحة. ولأن نشوء المدينة الساحلية كان على مراحل بطيئة فيما يتعلق بيافا وعكا وغزة، إلا أن سرعة نمو حيفا بالمقابل جعلها المدينة المركزية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية والعربية. لهذا، ندرك مدى إصرار المخطط الإبادي الصهيوني على تطهير المدينتين (حيفا ويافا) عرقياً وتصفية حضورهما المديني.

تحليل كهذا لا يمكن أن يستند فقط على البحوث التحليلية والتطبيقية، إنما على خبرات معاشة من طرف سكان المدينة، أو من وصل إليها ليعيش ردحاً من الزمن فيها لأسباب تخصه، وهي معروفة بالنسبة لنا، وفي مقدمتها: العمل والتعلم. ومن هذا المنطلق، ولأن النكبة لم تترك مجالاً لكتابة رواية المدينة في نص فلسطيني إلا أن كتابات، وخصوصاً سير ذاتية ،وضعت في عقود لاحقة وأحياناً بعيدة زمنياً عن النكبة، سلطت الضوء على بعض هذه الجوانب. وبالرغم من هذا فإننا نعتبرها نصوصاً مساهمة في كشف اللثام عن مشاهد الحياة الفلسطينية في المدينة، ورداً قوياً للرواية الصهيونية التي تعمل ليل نهار على إنكار الحضور المديني للمدينة الفلسطينية، وتنكر أيضاً أهمية التفاعل بين القرية والمدينة، بل تسعى إلى الحط من هذا التلاقي والتضامن بينهما.

  • سيرتان لزوجين فيهما حضور لحيفا

ارتأينا في مقالتنا هذه أن نستند على سيرتين متميزتين عاش واضعيها فترة في المدينة التي نحن بصدد توجيه عنايتنا نحوها، ونقصد بها “حيفا”. السيرتان لزوجين هما محمود السمرة وسهام اليحيى. الاثنان من مواليد قرية “الطنطورة” الفلسطينية المشهورة تاريخياً، وبألمها الكبير “مجزرة الطنطورة” التي نفذتها العصابات الصهيونية في الـ 48 والتي أودت بعشرات من الأهالي الأبرياء، إلى جانب عمليات التنكيل والقمع والترحيل والتعذيب والأسر والحرمان من العودة. كاتبا السيرتين عاشا في حيفا لغرض التعلم في الأساس، علماً أن أفراداً من عائلتيهما وعائلات أخرى من الطنطورة وقرى جنوبي قضاء حيفا قد هاجرت داخلياً إلى حيفا بهدف الارتزاق والتعلم، والسكن لفترات زمنية طويلة دونما قطع الصلة بينها وبين القرية.

محمود السمرة الذي كسب علمه الثانوي في حيفا ثم في الكلية العربية بالقدس ثم الدرجات الجامعية العليا في الأدب العربي في القاهرة وجامعات أخرى، أصبح من أبرز الباحثين في مجاله، إلى جانب إحسان عباس ابن قرية عين غزال القريبة من قرية الطنطورة والذي زامله فترة ما. وتولى السمرة إدارة الجامعة الأردنية فترة ما، ثم وزيراً للثقافة، وله عشرات الكتب والبحوث العلمية. أما سهام اليحيى فهي ابنة أحد أبرز محامي فلسطين في تلك الفترة وهو محمد توفيق اليحيى. وتعلمت في رام الله بعد أن أنهت دراستها في مدارس حيفا. وفي حيفا وقع حبها الأول والدائم لمحمود السمرة ابن قريتها، فارتبطا بشركة الزواج.

كتب محمود السمرة سيرته الذاتية بعنوان “إيقاع المدى” موجزة وتقريرية في غالبيتها، مع محطات عبّر خلالها عن ألمه ووجعه وتعاطفه مع قضية شعبه. أما سيرة سهام اليحيى فحملت العنوان “أيامي معك”… وهي في سيرتها هذه وكأنها تعيد بناء سيرة زوجها بطريقتها المليئة بالعواطف والأحاسيس والخواطر التي غابت عن زوجها، أو أنه لم يرغب في إظهارها. فبين “إيقاع المدى” و”أيامي معك” (الكتابان صدرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت) ننكشف على المدينة الفلسطينية، وفي مقدمتها “حيفا” ثم رام الله فالقدس وعكا ونابلس وسواها. إلا أننا سنخص “حيفا” بما ورد من نصوص في السيرتين اللتين تعكسا سير وسيرورة الحياة في فلسطين، وبوجه خاص ذاك التمازج بين القرية والمدينة. تمازج شبيه بنسج قطعة قماش لتكون لوحة فنية تحمل صورة تتقاطع بين حضارتين داخليتين في فلسطين: الحضارة القروية والحضارة المدنية.

  • كيف رأى وعاش محمود السمرة المدينة؟

سؤال هام ينقلنا مباشرة إلى النصوص التي أشار فيها إلى ذلك. يكتب: “أنا الآن في حيفا، المدينة الصاخبة، العامرة بالحياة. فلاح بسيط، خجول. يتحدث بلهجة قروية، ينطق أحياناً ألفاظاً تثير ضحك الطلبة… أين أنا من هؤلاء الطلبة، البادية عليهم النعمة والراحة؟! وكان عليّ أنْ أعيش في هذه المدينة الصاخبة وحيداً، وعمري لم يتجاوز الحادية عشرة”.

ولكن السمرة يؤكد تضامن أهالي قريته العائشين في حيفا ووقوفهم جنباً إلى جنب، وهذه طبيعة المجموعات المهاجرة من قرية ما إلى المدينة أن تتجمع وتسكن في حي واحد أو شوارع قريبة من بعضها البعض ليسود الشعور بالأمان فيما بينها في مدينة أكبر من قريتهم عشرات المرات. يكتب: “تم ضمي إلى  أسرة من القرية تقيم في حيفا لأعيش معها لقاء جنيه فلسطيني في الشهر. كانت ظروف هذه الأسرة صعبة وقاسية، فيدقعهم الفقر إلى أن يحاولوا التوفير في كل شيء، من ذلك الاقتصاد في إضاءة الكهرباء، فلا نور يضاء بعد الثامنة.. “.. فاتخذ محمود القرار بأن يدرس واجباته المدرسية تحت ضوء المصباح في الشارع… فيقول: “الحاجة أم الاختراع”. وهذه هي قوة الإصرار على التعلم في أي ظرف يكون فيه الفلسطيني بعيداً عن الدلال، حتى إن توفرت الحاجات المادية له.

كيف رأى المدينة؟ “حيفا مدينة جميلة، ميناؤها واسع، وكان الميناء الأول بين موانئ البحر الأبيض المتوسط، يأتي قبل الإسكندرية ومرسيليا. من أجل هذا، لم أشعر بغربة عندما ذهبت إلى مدن كبيرة مثل القدس، والقاهرة ولندن”. هذا التقرير يوضح جلياً ما تفعله مدينة كحيفا في سكانها والوافدين اليها، من بناء قدراتهم المدينية، ما يُسهل عليهم العيش في أي مدينة أخرى.

أقام في شارع عباس، قريباً من حدائق البهائيين الغناء والجميلة ومنها كان يرى الخليج والميناء وملاعب كرة القدم المشهورة والتي كانت تقام على حد وصفه “دون انقطاع، وما ان تبدأ المبارة حتى ننزل من الجبل راكضين”.  كانت ملاعب كرة القدم في حيفا في منطقة تُعرف بـ “الموارس” وخصوصاً ملعب “نادي شباب العرب” بطل فلسطين في كرة القدم.

وتعلم محمود السمرة في المدرسة الحكومية في شارع الجبل، قريباً من مدارس أخرى، “فمن المناظر الفريدة تجمهر طلبة الثانوية بانتظار مرور طالبات المدرسة الإنجليزية، وطالبات مدرسة راهبات الناصرة، وهن غاديات في الصباح، أو عائدات عصراً.  كان منظر الطالبات جميلاً، هل كانت البنات أجمل في تلك الأيام؟” سؤال كان يؤرقه ككثيرين.

ويعتبر السمرة أن ثورة الشهيد عز الدين القسام تركت أثرها على سير حياة المدينة بما حصل لسكانها من ضائقة جراء سياسات التنكيل الإنجليزية والتحريض اليهودي الأرعن على الأهالي لإدخالهم في طرقات الظلمات.

وآلمه كثيرا ما حلّ به وبشعبه في عام النكبة موجهاً سهام نقده اللاذع إلى تدخل ملوك العرب وحكامهم الإنجليز ونثرهم الوعود لشعب الفلسطيني بتحقيق مشروع دولة لهم، إلا أن هذه الوعود البراقة ذهبت أدراج الرياح.

  •  كيف رأت سهام اليحيى مدينة حيفا؟           

  أما سهام اليحيى زوجة محمود السمرة فوضعت مذكراتها برؤيتها ونظرتها وتطلعاتها، بالرغم من أنها عنونتها بـ “أيامي معك”، للاشادة بالحياة المشتركة مع زوجها بكل ما واكبها من ألم وأمل، والأمل أقوى بكثير من الألم. ولنترك لها وصفها لمدينة حيفا التي تعلمت فيها وعاشت ردحاً من الزمن مع عائلتها في أكثر من بيت في المدينة.

“حيفا المدينة التي أحب تتفاوت الآراء فيها، فمنهم من يراها جميلة ومنهم من يرى غير ذلك. أما أنا فكنت أحبها وأرى أنها جميلة جداً، فهي تجمع بين الجبل والسهل والبحر بطريقة ساحرة”.

وتغوص سهام اليحيى في وصف معالم عدة في حيفا وجوارها بطريقة تصويرية موجزة، لكنها معبقة بحب المدينة وكل ما فيها. فتصف لنا المستشفى الحكومي المعروف بلسان العامة بـ “مستشفى الدكتور حمزة” والذي حولت اسمه إسرائيل ليكون مستشفى “رامبام”، تكتب: “وهناك قريباً وعلى الشاطئ يقع المستشفى الحكومي. وقد رقدت فيه مدة شهرين كاملين للعلاج عندما أصبت بحمّى التيفوئيد  الذي كان علاجه صعباً في ذلك الزمن ويستغرق وقتاً طويلاً للشفاء التام. ولا أبالغ إذا قلت بأنك تتمنى أن تمرض لتتمتع بالنوم فيه فهو نظيف جداً،  كل شيء فيه يلمع لمعاناً، هادئ جداً فلا تكاد تسمع فيه صوتاً لا في الليل ولا في النهار، عدا صوت الموسيقى الهادئة في بعض السويعات. وفي الصباح عندما يأتون للتنظيف كان ينبعث من الراديو صوت يردد: يا ما أرق النسيم لما يداعب خيالي”.

أما شوارع المدينة فحظيت بوصف في مذكراتها حيث كتبت التالي: “أما الشوارع الرئيسية فهي شوارع واسعة مسفلتة نظيفة وأهمها شارع الملوك، فهو الشارع الذي يوصلك شمالاً للبنان ولمدينة بيروت، وجنوباً ليافا ولكل البلدان من قرى ومدن ساحلية. ويتفرع كذلك ليوصلك لمدن غير ساحلية مثل القدس وجنين ونابلس وطولكرم ورام الله. وفي هذا الشارع في حيفا،  كان مكتب والدي وكنت أقرأ اسمه على يافطة كبيرة تشير إليه (المحامي محمد توفيق اليحيى)، وكان هناك مكاتب أخرى لمحامين يهود في العمارة نفسها”. ثم تتوسع سهام اليحيى في وصف شوارع أخرى في المدينة وتقدم لنا وصفاً لشارع في الحي اليهودي أكثر العرب من زيارته قبل النكبة ووجدوا فيه علامات وأشكال الحداثة في العمران والتنظيم والمحلات التجارية. وأقامت عائلتها فترة من الزمن في حي “هدار الكرمل”: “وهو من الأماكن النظيفة المرتبة المنظمة. وسكانه خليط من المسلمين والمسيحيين، ولكن الأغلبية من اليهود. وتقع في هذا الحي أرقى المحلات التجارية التي يملكها كلها اليهود، وفيها أجود الملبوسات والبضائع وأثمنها، وقد أقمنا في هذا الحي سنوات طويلة وتعلمت فيه اللغة العبرية وكنت أتكلمها وأفهمها جيدا”.

أما الشوارع الشعبية والعامة في الأحياء العربية فكان لها نصيب في هذه المذكرات، ما يؤكد زيارة كاتبتها إليها لأغراض متنوعة، ومنها: “حي وادي النسناس ووادي الصليب والحي الشرقي وشارع الناصرة الذي فيه مدرستي (مدرسة الحكومة للبنات) والحليصة”. وسكنت العائلة في نهاية 1946 وبداية 1947 في بيت في شارع عباس “كان يسكنه المحامي محمد نمر الهواري، وهو متزوج من ابنة خالة الوالد، وقد انتقل إلى يافا… البيت في شارع عباس يبعد خطوات قليلة عن مدرسة راهبات الناصرة، ويشرف على البحر والمدينة، فهو على سفح جبل الكرمل مرتفع ومنظر حيفا والسهل والبحر من بلكونة غربية في مشهد رائع. وكذلك كان يشرف على مقام البهاء عباس الذي يتوسط حديقة كبيرة غنّاء جميلة، ويطل كذلك على شارع الكولونية الألمانية بمنظر جميل في النهار وفي الليل عندما تتلألأ الأنوار”.

وتوجه نقداً لاذعاً إلى الأسلوب التجاري العربي من خلال إشارتها إلى أنه “في محلاتهم التجارية لا يوجد سعران وإنما سعر واحد ثابت، للجميع وهذا منذ أكثر من ستين عاما”.

  • حياتها اليومية في المدينة

أما حياتها اليومية فلها نصيب جميل الوصف حيث تشير إلى أن عائلة يهودية سكنت في عمارتهم وأن هذه العائلة من أصول حلبية، وإنها أي سهام قد تصادقت مع “باتيا” إحدى بنات هذه العائلة. وكانت بين العائلتين علاقات مودة وتبادل زيارات. ومن الواضح أن سهام اليحيى قد أصابتها الصعقة والصدمة من جراء ما وقع لحيفا وسواها من مدن وبلدات فلسطينية في عام النكبة، لدرجة أنها كتبت: “لم يخطر ببالنا، أو في بالهم بأننا عرب وهم يهود. كما لم يكن ليخطر في بال أحد بأن هذه العائلة مسيحية وتلك مسلمة، كنا نعيش مع بعضنا البعض في سلام وآمن وكل له دينه لا يناقش أحد الآخر في أمور دينه…”. وتبرز اليحيى أهمية الجيران في بناء شبكة العلاقات فيما بينها بخلاف العلاقات القائمة في القرية والتي أساسها معرفة أخبار الكل في الكل.

وهناك الكثير من المواضيع التي لها صلة بالمدينة (حصرياً حيفا) عرجت عليها اليحيى، ما يشير إلى مكانتها في حياتها، وما أحدثته المدينة من تغييرات في رؤيتها الاجتماعية والثقافية وسواهما في المستقبل. فابنة الطنطورة التي توفرت لها كل تسهيلات الحياة، بقيت حافظة عهدها لقريتها و لمدينتها الأولى التي وطئت قدماها فيها، نعني حيفا.

نصوص كهذه، وسواء تلك التي وضعها محمود السمرة عن حيفا، وفيها طابع الإيجاز والمعلومة، أو تلك النصوص التي وضعتها سهام اليحيى، وفيها التعمق في صلب نمو وتطور الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية، ما يبين أن لكل طريقه في الوصف، ولكل علاقته بالمدينة، ونعني هنا علاقة تأسيسية لعلاقات مستقبلية سوف يعيشاها معاً ف مدن عربية وعالمية متعدة صقلت شخصيتهما.

عن د.جوني منصور

شاهد أيضاً

متحف الآثار الإمبراطوري في القدس من 1890 حتى1930: رواية بديلة

  بياتريس سانت لوران، همّت تاشكومور(1) ترجمة: محمود الصباغ تمهيد تعتبر قصة تأسيس أول متحف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *