غلاف كتاب السفرنامة

سفر نامة – ناصر خسرو

تلخيص : و ليد يوسف

مقدمة

جميع الشعوب في التاريخ عرفت أدب الرحلات ، ووصف الأديب المرتحل ما شاهد و نقله لنا . و عند اتساع العالم الاسلامي اعتباراً من القرن الثاني الهجري، بدأ ينشط التنقل بين جوانب الدولة (كان راسهم مرتاح من جواز السفر وتأشيرة الدخول) ، و أول رسالة أدبية نعرفها عن أدب الرحلات هي رسالة ابن فضلان، التي ذهب بها موفداً من الخليفة إلى بلاد الرس (يعني الروس ) و التي سوف أستعرضها إن شاء الله.

هنا سوف أعطي ملخصاً عن رحلة ناصر خسرو إلى بلاد الشام و مصر. وبسبب الاختصار، سوف تكون في جميع البلدان مختصرة وسريعة مع بعض التوسع في وصف قرى ومدن فلسطين حصراً، مع أن الكتاب يتوسع في شرح الجزء المتعلق  بمصر، فقد أحب القاهرة، بل اعتنق الأفكار الفاطمية هناك. وحج خمس حجات خلال سبع سنوات.

قبل أن أصف ما كتب، من الجيد أن نعرف أن الرجل لم يكن من عامة الناس، بل هو شاعر و فيلسوف له كتب و مؤلفات. كتب هذا الكتاب باللغة الفارسية، و ترجمه إلى العربية المترجم المصري الدكتور يحيى الخشاب في أربعينيات القرن العشرين.

بدأت الرحلة من مدينة (مرو ) عام 437 هجرية، أي ما يوافق عام 1045 ميلادية، و استمرت الرحلة سبع سنوات أي انتهت عام 444  هجرية ( ثلاث أربعات، حلو هالتاريخ)، أي عام 1052 ميلادية. مع ملاحظة أن جميع التواريخ و الأزمنة تمت في الكتاب وفق التأريخ الهجري. ويوجد برامج تحويل على الإنترنت بين الميلادي والهجري.

ومن الملفت  للنظر أنه لم يمر من بغداد، مع العلم أننا في القرن الحادي عشر، يعني كانت لا تزال (اسمياً) عاصمة العالم الإسلامي. وكذلك لم يمر أيضاً من دمشق، مع العلم أنه سار على الطريق من منبج إلى حلب إلى حماه جنوباً لكن من هناك اتخذ طريق الساحل، والمفاجأة الأكبر أنه على الرغم من أنه مر من مدينة بيروت، لكنه لم يكتب عنها كلمة واحدة لا إيجابية ولا سلبية.

أخيراً لا بد من القول إنني حافظت هنا على الكتابة بلغة المتكلم، مثل طريقة الكتاب الأصلي، وهي أفضل من التكلم عنه بصفة الغائب التي لا تخلو من قليل من الجفاء والحيادية، بينما هذه الطريقة مثلما نقول بالعامية من راسك لرأسه.

الرحلة

 انطلقتُ من مرو إلى نيسابور وزرت مشهد ثم سمنان وهناك تعرفت على رجل من أهل العلم يدعى النسائي الذي يقول عن نفسه إنه تلميذ ابن سينا، لكني لما ناظرته وجدته لا يعلم شيئاً فتعجبت كيف يعلّم الناس. (صفحة 48)، ثم إلى بلخ و منها إلى الري. وفي الطريق من الري إلى آمل التي يوجد فيها جبل اسمه دماوند، و له قمة اسمها لواسان، و على القمة يوجد بئر يستخرج الناس منه النشادر والكبريت. ثم وصلت مدينة قزوين وهي مدينة جميلة حدائقها غناء وكثيرة وأسواقها جميلة. ثم إلى شميران حيث كان الأمن والعدل مستتبان فيها، بحيث لا يستطيع أحد أن يغتصب شيئاً من غيره، بل إن الناس يذهبون إلى المسجد ويتركون أحذيتهم في الخارج ولا يأخذها أحد، وتعرفت فيها على رجل طيب اسمه أبو الفضل بن علي الفيلسوف وأكرمنا بضيافته. ثم وصلت تبريز وهي من ولاية أذربيجان ، وهي مدينة عامرة وفيها تعرفت على شاعر اسمه قطران لكنه لا يجيد الفارسية. ثم ذهبت إلى وسطان التي يباع فيها لحم الخنزير كما يباع لحم الضان ويجلس رجالها ونساؤها أمام الحوانيت ويشربون الخمر بغير حياء.  ومن هناك بلغنا مدينة اسمها أخلاط هي على الحدود بين بلاد المسلمين وبلاد الأرمن، و كان الناس فيها يتكلمون ثلاث لغات هي العربية والفارسية والأرمنية، وأظن أنها سميت هكذا لهذا السبب.

ثم سرنا إلى ميافارقين، دخلناها في جمادى الأولى عام 438 هجري (توافق شهر نوفمبر عام 1046)، وهي مدينة عظيمة لها سور عظيم، عليه كل خمسين ذراعاً برج حراسة، وعمارة المدينة من الدقة بحيث تقول إن يد بناء ماهر قد أكملتها اليوم. ثم من ميافارقين قدمنا إلى مدينة اسمها آمد، ولها أربعة أبواب، من الجهات الأربع. ولم أرَ بحياتي مدينة مثل آمد ولا سمعت . ومنها انتقلنا إلى حرّان، ومنها سرنا إلى مدينة اسمها قرول، وهناك تعرفت إلى رجل أعرابي كريم عمره ستيني أضافنا في بيته، وطلب مني أن أحفظه القرآن، فلقنته، ولكن بقيت كلما ألقنه آية ينسى آية ولم يتعلم أية آية. ثم توجهنا إلى مدينة يقال لها سروج، ثم عبرنا الفرات في اليوم التالي، وبعدئذٍ توجهنا إلى مدينة منبج، وهي أول مدينة في الشام، ومنها سرت إلى حلب وهي مدينة كبيرة ومنها إلى قنسرين، ثم إلى سرمين ثم إلى معرة النعمان فشاهدت على بابها يوجد عمود ضخم، مكتوب عليه كتابة غير عربية، فسألت ما هذه الكتابة؟ فقيل لي: إنها طلسم العقرب، فهي حامية المدينة من العقارب، فلا يأتي إلينا عقارب، و إن حضر عقرب بالخطأ فإنه سوف يهرب فوراً، و رأيت بهذه المدينة رجلاً أعمى اسمه أبو العلاء وهو حاكمها، و كان أهل البلد كله خدماً له، أما هو فقد تزهد واعتكف في البيت، وكان قوته خبز الشعير لا يأكل غيره أبداً، ولا يمنع نعمته أحداً، يصوم الدهر ويقوم الليل، ولا يشغل نفسه مطلقاً بأمر دنيوي، و أقرّ له جميع الشعراء والأدباء في عصره، ووضع كتاباً اسمه الفصول والغايات، ولما لم يفهمه الناس اتهموه “بأنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن” . ومن هناك سرت إلى حما (حماة)، وهي مدينة جميلة على شاطئ نهر العاصي، ومن حماة يوجد طريقان أحدهما يتجه جنوباً وينتهي إلى دمشق والآخر يتجه غرباً وهو الطريق الذي سلكته حتى بلغت مدينة يقال لها عرفة، وبعد فرسخين منها غرباً لقينا البحر فسلكنا الطريق الساحلي باتجاه الجنوب لمسافة خمسة فراسخ إلى أن وصلت طرابلس. وكانت محاطة بالمزارع و البساتين. ويكثر فيها قصب السكر والموز، وشوارعها وأسواقها نظيفة وجميلة، حتى تظن أنك في قصر مزيّن. والأطعمة والفواكه أحسن من تلك التي في بلاد العجم بمئة مرة. وفي سوقها مشرعة (منهل ماء) ذات خمسة صنابير، يفيض ماءها إلى البحر. ويصنعون هنا الورق الذي هو أحسن من الورق السمرقندي. وسكان طرابلس كلهم شيعة. ومنها غادرت إلى الجنوب حتى بلغت مدينة جبيل، و هذه المدينة لها سور حصين شاهق الارتفاع. ثم تابعت تقدمي نحو الجنوب وقبل أن أصل إلى بيروت، شاهدت طاقاً حجرياً شق الطريق في وسطه (واضح أنه يقصد النفق الجبلي الذي شمال جونية، وأنا شخصياً مررت به مرات كثيرة، و وصف هندسة بنائه وصفاً دقيقاُ) فسألت ما هذا؟ فقيل لي هو باب حدائق فرعون وهو قديم جداً. (الغريب هنا أنه على الرغم من مروره في بيروت فإنه لا يذكرها ولا بسطر واحد ولا كلمة ولا كم مكث فيها، فوراً يبتقل إلى صيدا. شيء مفاجئ جداً، أليس كذلك؟). ووصلنا صيدا وفيها سوق جميل جداً والمدينة جميلة، فعندما سألت أهلها هل سوف يأتي السلطان حتى تزينت المدينة؟ قالوا لا، هي كذلك كل العام. ثم تابعنا إلى الجنوب حتى وصلنا مدينة صور. وكانت معروفة بالثراء، و جميع أهلها من الشيعة.

وبعد أن سرنا سبعة فراسخ من صور بلغنا مدينة عكا (ويكتبها أهلها عكة)، وهي مشيدة على مرتفع عن ماء البحر، ومسجدها الكبير (مسجد الجمعة ) يقع في وسط المدينة وهو أعلى مبنى فيها، وجميع أعمدتها من الرخام. وخارج هذا الجامع و بالقرب من المحراب يوجد قبر النبي صالح عليه السلام. وعند الباب الشرقي للجامع يوجد عين ماء اسمها عين البقر، ينزلون لها ست وعشرين درجة. وفي الطريق الذي يتجه من عكة شرقاً باتجاه الرملة يوجد جبل فيه قبور الأنبياء، فذهبت وزرتهم مبتدئاً بقبر عك باني المدينة، وهو أحد الأولياء الصالحين. ثم بلغت قرية البروة، وهناك زرت قبر عيش وشمعون عليهما السلام. ومن هناك بلغت إلى قرية الدامون فزرت قبر ذي الكفل عليه السلام. ومن هناك إلى قرية عبلين (ولا تزال حتى اليوم وهي شمال قرية شفاعمرو اليوم)، التي فيها قبر هود عليه السلام وكذلك زرت قبر النبي عزيز. ومن هناك انتقلت إلى قرية اسمها حظيرة (واضح من الشرح الذي يأتي بعدها – صفحة 64 – أنه يقصد قرية حطين ) حيث زرت قبر النبي شعيب وقبر ابنته التي كانت زوجة النبي موسى (لم يذكر اسمها، ولكن أظن كان اسمها صفّورا حسب الكتب السماوية، ومعروف أيضاً أن قرية حطين فيها قبر النبي شعيب وابنته وهذا المقام مزار لجميع الدروز القادرين على الزيارة اليوم، أقصد دروز فلسطين والجولان المحتل). ومنها توجهت إلى قرية اسمها أربل (لا تزال حتى يومنا هذا، وتبعد عن مدينة طبريا حوالي 3 إلى 4 كيلومتر )، وسرت في وادٍ شرقاً فوصلت إلى مدينة طبريا (واضح أنه يقصد وادي الحمام من دون ذكره بالاسم) وهي تقع على بحر صغير (يقصد بحيرة طبريا أو بحر الجليل) تشرب منه المدينة. ولطبريا سور حصين، وفي بحرها سمك كثير. وفيها حمامات ماؤها ساخنة، فلا يستطيع المستحم أن يصب الماء عليه دون أن يمزجه بماء بارد. وفيها مسجد اسمه مسجد الياسمين لأنه محاط بالياسمين، وفي الجانب الشرقي للجامع يوجد قبر يوشع بن نون، وتحت ساحة المسجد يوجد قبور سبعين نبياً قتلهم بنو إسرائيل. وفي طبريا يصنعون الحصير الجميل، ومنه حصير الصلاة. وخارج المدينة من الجهة الجنوبية يوجد قبر أبي هريرة، لكني لم أتمكن من زيارته، لأن الناس شيعة، وهناك يتحرش الأطفال بمن يزور القبر ويقذفونه بالحجارة. لكني من هناك زرت قرية اسمها كفركنه ( كفركنا) وزرت فيها قبر النبي يونس عليه السلام. ثم عدت إلى عكا، وبعدت مدة ذهبت فزرت حيفا وبها أشجار نخيل وأشجار أخرى كثيرة وأهلها يصنعون السفن البحرية. ومن هناك زرت قيسارية وهي مدينة جميلة ، بها ماء جارٍ، ولها سور حصين وفيها أشجار كثيرة وخاصة النارنج. ثم انطلقت من هناك إلى مدينة الرملة. وهي مدينة كبيرة، وسورها مرتفع و حصين، والمدينة ليست على البحر مباشرة، بل تبعد عنه حوالي ثلاثة فراسخ (يعني حوالي 15 كيلومتراً) وماؤها تجميع لماء المطر، لذلك كل منزل يبني حوضاً لجمع مياه المطر فيبقى ذخيرة دائمة، وأيضاً لمسجد المدينة يوجد أحواض خاصة ممكن أن يأخذ منها من يريد مهما يريد. وتشتهر الرملة في الرخام والتين، فلم أرَ أحسن منهما في أي مكان أبداً، وخاصة أنهم يصدرون تينها إلى جميع البلدان. ثم بلغت قرية اسمها خاتون (وهي نفسها التي تغيّر اسمها وأصبح اللطرون )، ثم من هناك توجهنا إلى بيت المقدس، التي يسميها الناس بالقدس، التي يحج إليها من لا يستطيع الحج إلى مكة. وهي في الشرع سُنّة وليست فرضاً، ويحضر لتأدية هذه السُنّة، في بعض الأعوام، عشرين ألفاً، فيذهبون إلى هناك ويضحون أضاحي العيد مثل طقس الحجيج تماماً.

ويأتي لزيارة القدس الكثير من النصارى واليهود، فالنصارى يزورن كنيسة ضخمة سوف آتي على شرحها و اليهود يزورون الكنيس الخاص بهم. وبساتين القدس كلها جبلية، فيها الكثير من الأشجار يغلب عليها الزيتون والتين، اللذان ينبتان من دون ماء. والخيرات فيها كثيرة ورخيصة. وعرفت فيها بعض أرباب العائلات الذين يملكون الكثير من زيت الزيتون، ويحفظونه في آبار وأحواض خاصة، ثم يصدرونه إلى جميع أطراف الدنيا، ويقال إنه لا يحدث قحط في بلاد الشام أبداً.

والقدس مشيدة على جبل، وماؤها فقط من الأمطار وأرضها مبلطة بالحجارة، تنغسل عندما تمطر . يوجد صنّاع كثيرون في المدينة، لكل جماعة منهم سوق. ويقع الجامع شرق المدينة، وسوره هو سور المدينة الشرقي، والأرض المستوية خارج الجامع يسمونها “الساهرة” ويقول أهل القدس هنا سوف يكون المحشر يوم القيامة. وحوالي هذا السهل يوجد مقابر كثيرة لناس قدموا عند موتهم هنا حتى عندما تقوم الساعة يكونوا جاهزين أو في أرض الميعاد (وهذا حسب علمي أقدم نص تاريخي نجد فيه هذا التعبير الذي استخدمته الدوائر الصهيونية بعد عدة قرون لتعني بها، كذباً وزوراً وبهتاناً، عودة اليهود إلى فلسطين). ورأيت قبة من الحجر المنحوت على بيت لم أرَ مثلها من قبل، ويسميها العامة بيت فرعون. والوادي الذي يحدها اسمه وادي جهنم، فلما سألت من أطلق عليه اللقب؟ قالوا : سيدنا عمر بن الخطاب. ويقول العوام إن من يسير فيه إلى نهايته، فسوف يسمع صياح أهل جهنم، لكني مشيت فيه إلى آخره ولكني لم أسمع صوت أحد. وحين يسير المرء جنوباً نصف فرسخ سوف يجد عين ماء اسمها عين سلوان. وفي القدس مشفى عظيم، عليه أوقاف طائلة ويصرف لمرضاه العلاج والدواء مجاناً، ويأخذ الأطباء مرتباتهم من الوقف أيضاً. وإن سار المرء قليلاً بحذاء الجدار الشرقي إلى جهة الجنوب، فسوف يجد مسجداً بهيئة سرداب، ينزل إليه بدرجات كثيرة، سقفه من الحجر مرفوع على أعمدة من الرخام، فيه مهد عيسى، وهو السرير الذي تكلم فيه عيسى المسيح مع الناس وأمضى به طفولته، ويقال أنه ولد هنا أيضاً، وعلى عمود من الأعمدة يوجد نقش لإصبعين، يقال هما نقش أصابع مريم عندما كانت تضع مولودها في هذا المكان، فشدت بيدها على العمود حتى تركت الأصابع هذا الأثر. وبه قناديل كثيرة من النحاس والفضة توقد كل مساء. وللمسجد عدة أبواب، أحدها يكون الشرقي، ويسمونه باب العين، لأنه قريب من عين ماء سلوان. وماؤه شديد العذوبة. وتحت الأرض يوجد باب يسمونه الحطّة وهو الباب الذي أمر الله بني اسرائيل أن يدخلوا منه إلى المسجد، وذلك حسب الآية الكريمة :”وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين” .

أما وصف قبة الصخرة، فهو بيت مثمن (ذو ثمانية أضلاع) طول كل ضلع ثلاثة وثلاثون ذراعاً، وارتفاعه عشرون ذراعاً، فيه أربعة أبواب تفتح على الجهات الأربع. والصخرة غير منتظمة الشكل، لا هي بالمربعة ولا بالمستديرة، ولونها يميل إلى الأزرق، يوجد بها انخفاض من جهتها القبلية، لم يطأها أحد بقدمه إلّا اسماعيل عندما كان طفلاً فمشى عليها، وآثار أصابع قدميه فيها، كما تبدو على الطين الذي عليها. ويوجد داخل بيت الصخرة قناديل كثيرة، هدية من سلطان مصر. وسلطان مصر يرسل كمية كبيرة من الشموع كل عام، وأنا رأيتها مضاءة ويكون الشمع مخلوطاً بالكافور والعنبر. وبعد ذلك قررت أن أزور مدينة الخليل ابراهيم، وهي إلى الجنوب من القدس، فسرت على الطريق الجنوبي، وكان عليه قرى كثيرة وبساتين كثيرة أيضاً وحدائق وشجر بري لا يحصى من عنب وتين وزيتون وسماق. ووصلت في مساء نفس اليوم الذي قمت به من القدس إلى مدينة يسمونها(بيت اللحم) وهو مكان للنصارى يعظمونه كثيراً، ويقدمون فيه القرابين ويقصده الحجاج من بلاد الروم. بعدئذٍ تابعت مسيري إلى مشهد الخليل إلى أن وصلته. فوجدت أن المكان عبارة عن عدة قرى متصلة، والمقام موجودة بواحدة اسمها مطلون، لكن لا أحد من أهل الشام يقول اسمها هكذا (لكن

أسماء القرى هذه نعرفها من الكتاب الذي أمر به النبي لعلي بن أبي طالب أن يكتبه وأقطع فيه النبي تلك المنطقة لتميم الداري، الذي قدم عليه و سأله أن يقطعه حبرون، فأجابه وأمر بكتب الكتاب وأشهد عليه أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وجاء نصه : هذا ما أعطى محمد رسول الله، صلى الله عليه و سلم لتميم الداري وأصحابه، إني أعطيكم بيت عينون وحبرون والمرطوم ومطلون وبيت ابراهيم بذمتهم وجميع ما فيهم، لهم ولأعقابهم من بعدهم، أبد الآبدين، فمن آذاهم فيه فقد آذى الله)، وفي هذه القرية عين ماء تخرج من الصخر. ومشهد إبراهيم الخليل على حافة القرية من ناحية الجنوب، أو من الجنوب الشرقي. وهو عبارة عن مبنى مستطيل مؤلف من أربعة جدران من الحجر المصقول وأرض المشهد مزينة بالسجاجيد والحصر الثمينة، التي أرسلها أمير الجيوش المصري. ويوجد هناك قبران الأول لإبراهيم الخليل عليه السلام والثاني لزوجته سارة. وأيضاً يوجد قبران متجاوران، الأول للنبي يعقوب عليه السلام والثاني لزوجته. والمزار محاط ببعض المنازل التي اتخذها سيدنا إبراهيم لضيافة زائريه وفيها ستة قبور. ويوجد أيضاً قبر سيدنا يوسف ابن يعقوب عليهما السلام. وأغلب الزراعة هناك هي الشعير والقمح والزيتون والعتب، وهناك من يخبز طول النهار، ثم يعطون ضيوفهم خبزاً وزيتوناً، لجميع الضيوف والمسافرين والزائرين. و كل من يزور المشهد يعطوه رغيفاً مستديراً وطبقاً من العدس المطبوخ بالزيت وزبيباً وهذه عادة بقيت من أيام ابراهيم الخليل حتى الساعة (لا تنسى أن هذا الكلام مكتوب من أكثر من ألف عام، والكاتب يقول هذا. لكني أنا من خلال ثقافتي العامة أعرف وكلي ثقة بمعرفتي، أنه حتى يومنا هذا في الألفية الثالثة، لا تزال هذه العادات موجودة في مدينة خليل الرحمن، حيث لا يمكن أن يبقى أحد جائعاً في هذه المدينة، فعندهم موائد الرحمن المفتوحة على مدار العام، حيث يذهب إليها من أراد ويأكل منها دون أن يسأله أحد حتى يومنا هذا، وهي كثيرة العدد أيضاً. هذه الظاهرة موجودة في بعض العواصم العربية خلال شهر رمضان فقط، هذا حسب ما أعلم. وأظن لن تنتهي هذه الظاهرة من الخليل طالما سكانها، وخاصة أغنيائها، فيهم روح. والله أعلم)، وفي بعض الأيام يكون عدد الزائرين خمسمئة، ويهيأ لهم الضيافة جميعاً. ثم رجعت إلى القدس، وبقيت فيها ثلاثة أيام، ثم خرجت سائراً مع جماعة قاصدين حج بيت الله الحرام، ولن أتكلم الآن في وصف مكة، بل بعد حين. ثم عدت مرة أخرى إلى القدس. و زرت كنيسة القمامة (هكذا يسميها، وواضح أن المقصود كنيسة القيامة) وهي ذات مكانة عظيمة عند النصارى. ويحج إليها الكثير من بلاد الروم، حتى أن ملك الروم يزورها متخفياً. ومرة هدمها عزيز مصر الحاكم بأمر الله  وخربّها، وظلت خربة مدة من الزمن، لكن القيصر بعث إليه رسلاً والكثير من الهدايا وطلب الصلح والشفاعة ليؤذن له بإصلاحها وإعادة تعميرها. وهي كبيرة ويقوم على خدمتها عدد كبير من الرهبان والقساوسة. وفيها لوحة كبيرة مرسومة على نصفين، نصف يصف الجنة وأهلها، ونصف يصف النار وأهلها. ثم غادرت القدس متوجهاً إلى الرملة / ومنها إلى عسقلان، ومنها سرت إلى مكان اسمه طينة، وهو مرفأ للسفن، فركبت السفينة إلى جزرة اسمها تنيس (وهي التي أصبحت مدينة بورسعيد حديثاً، بعد أن هجرها الناس لفترة طويلة بأوامر من صلاح الدين الأيوبي ). وهذه تنيس مدينة جميلة وكبيرة، وبعيدة عن الساحل، بحيث لا تستطيع أن ترى الساحل من فوق سطوحها، وهي مدينة مزدحمة و بها سوق جيلة وفيها مسجدان. وفيها ألوف الدكاكين، وجوها حار، وتكثر الأمراض في المدينة. وهذه المدينة مشهورة بالنسيج وخاصة القصب الملون والعباءات والعمامات. وتشتهر أيضاً بنسيج يسمى البوقلمون، وهو قماش يتغير لونه بتغير ساعات النهار، ولا ينسج في أي بقعة من العالم إلّا هنا. وتحمل أثوابه من هنا إلى جميع دول العالم. وقد سمعت أن قيصر الروم عرض على حاكم مصر مئة مدينة  يختارها مقابل تنيس، أي مقابل القصب والبوقلمون. (راجع كيف وصف المسعودي مدينة تنيس، بأنها جزيرة كبيرة و مأهولة، وأيضاً ما يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان – الجزء الثاني – صفحة 419 و ما بعدها) .

ثم غادرت تنيس راكباً السفينة التي اتجهت بمحاذاة مصر إلى أن بلغنا مصب نهر النيل في البحر فسرنا في نهر النيل، إلى أن بلغنا مدينة اسمها الصالحية، وهي مدينة فيها الكثير من الخيرات والنعم. وهنا يصنعون السفن التجارية الكبيرة. وهنا غادرت السفينة واتجهت إلى مصر بالبر إلى أن دخلت القاهرة. نهر النيل كبير جداً ويعادل ضعف نهر جيحون، ويأتي من ولاية جنوب مصر اسمها النوبة. وعندما يدخل مصر، يدخل أول مدينة في مصر واسمها أسوان. أما النوبة فهي ولاية لها ملك، وأهلها سود البشرة ودينهم النصرانية. يذهب إليها التجار المصريون يبيعون بضائعهم، ويجلبون منها الرقيق. وشاهدت في مصر أن أغلب الرقيق فيها هم إما نوبيون أو روم.

ويقال إن لا أحد يعرف حقيقة منابع نهر النيل، مع أن سلطان مصر أرسل بعثة علمية لتتبع نهر النيل ودراسته لسنة كاملة. وفي كل عام يزداد ارتفاع الماء في النهر لحوالي عشرين ذراعاً، وأحياناً يفيض. لذلك وضعوا له علامات ومقاييس ووظفوا له عاملاً بمرتب ألف دينار، وظيفته مراقبة الزيادة وتسجيلها، ثم ابلاغ أولي الأمر الذين يستخدمون من يطوف وينادي في شوارع القاهرة، بحيث يذكرون كم اصبعاً  كان مقدار الزيادة كل يوم. وحين تبلغ الزيادة ذراعاً كاملاً تبدأ الناس بتهنئة بعضها

فرحاً، وتستمر الأفراح حتى تبلغ أوجها عندما تصل الزيادة إلى ثمانية عشر ذراعاً. وأحياناً أكثر وتصل عشرين ذراعاً. ولا يأخذ لسلطان الخراج قبل أن تصل الزيادة عن ثمانية عشر ذراعا.

أما الاسكندرية فهي تقع على بحر الروم، ومنها تصدر فاكهة كثيرة إلى القاهرة. وشهدت فيها منارة عليها مرآة محرقة ضخمة (المقصود بمحرقة أي مقعّرة)، فإذا غزت سفن الروم فإن هذه المرآة تصيبها بنار فتحرقها. وبذل الروم الكثير من الجهد والحيلة فبعثوا شخصاً فكسر المرأة. لكن جاءه شخص وعرض عليه أين يعيدها كما كانت. فقال السلطان لا داعٍ لذلك طالما أنهم يدفعون لنا الذهب والمال كل سنة ، فنحن وإياهم في سلام وهدوء.

عن وليد يوسف

كاتب و مترجم فلسطيني

شاهد أيضاً

تداعيات حرب 2023/ 2024:ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟

في الحرب تذكرت غير مرة رواية إسحق الحسيني «مذكرات دجاجة» (1943)، وتذكرت أكثر مواقف النقاد …