التصويت على قانون القومية

يهوديّة الدولة: اليهودي الأبيض في مواجهة الفلسطيني آخر “الساميين”

لم يكن قانون القومية في إسرائيل استجابة، فقط، لشعار أو مشروع “دولة يهودية لشعب يهودي”- باعتباره رد فعل على ما تعرّض له اليهود الأوروبيين من مجازر غضون الحرب العالمية الثانية وبدافع الحاجة إلى ملاذ آمن يضمن عدم حدوث هولوكوست جديد- بل تكمن جذور هذا القانون المندمجة في المطلب القومي \ الإثني ( الذي يمكن الجدل في رفضه ضمن سياقات أخرى كـ “سياسة هوية”) في المنشأ المتناقض للصهيونية نفسها الذي ينادي باستثناء إلهي أو مسياني لم يعد مسموحاً به في أطر الشروط المقبولة عادةً للدولة الليبرالية العلمانية. غير أن ما يبدو مناقضاً يمكن تفسيره من منظور آخر نلمح شروطه في نموذج الاستعمار الاستيطاني الذي يمتلك، في الواقع، قوة تفسيرية مميزة في توصيف كلٍّ من الظاهرة وتناقضاتها الواضحة في فلسطين الحالية الخاضعة لاستعمار استيطاني أوروبي واضح. فمن حيث المبدأ، لا يمكن حلّ المأزق الذي واجه الصهاينة الأوائل إلّا من خلال الاستعمار، والمقصود بالمأزق، هنا، هو تلك الحالة الشاذة لـ “شعب\ أمّة” يفتقر إلى أرض يشغلها بصورة متواصلة في أي لحظة في التاريخ الحديث (لا يستطيع الصهاينة ومن يدعمهم أن يبرهنوا عملياً على وجود “يهودي” معتبر في فلسطين قبل مئة أو مئتي عام على أبعد تقدير وهو الأمر الذي لا يجد عرب فلسطين صعوبةً في إثباته).

لقد كان من الأهمية بمكان تحديد الأرض الني يمكن أن يكون قد شغلها شعب آخر، على الرغم من أن هذا الأمر -أين ستقع هذه الأرض- لم يحمل مغزىً حاسماً للصهاينة العلمانيين، فقد تصوّر هرتزل، في البداية، تحديد الدولة اليهودية في الأرجنتين. وقد نجحت الصهيونية، بفضل تضافر شروط ذاتيّة موضوعيّة لسنا في صددها هنا، في  فر    ض هذا الملح-أي تحديد الأرض- كشرط أولي للتفكير في فلسطين ككيان مستقل ذو سيادة، إذا بات يبدو الآن ومن الناحية الموضوعية عدم إمكانية التفكير  في فلسطين بمعزل عن التفكير في إسرائيل كمرجعيّة إلزامية، فإذا كان من الممكن التفكير في دولة فلسطينية و| أو جنسية\ قومية فلسطينية بصورة عامة، فمثل هذه الإمكانية غير متاحة إلّا بقبول إسرائيل. وعلى هذا، يستبعد تماماً التفكير أو الحديث عن فلسطين مثلما نتحدث عن أية أمّة أخرى وعن معاييرها.

ما نجحت إسرائيل فيه، هو حرمان فلسطين من أن تكون وعاء لأمة\ شعب له حضور عقلي وثقافي حتى لو بدون دولة، وبالتالي حرمانها من السيادة، فعمدت إلى احتجاز فلسطين، كفضاء خاضع ليس للقانون فحسب، وإنما لمتاهة متناثرة من القوانين، مما يجعلها تفتقر لمنح ذاتها القوانين أو الحق في منح سكانها المواطنة الكاملة، ويعني افتقار الفلسطينيون للسيادة، العيش في ظل الحرمان من المواطنة أو الحصول الجزئي عليها. ويواجه من يعيش منهم هذه المعاناة داخل إسرائيل مثل هذه اللعبة القذرة الخبيثة المتمثلة في حصولهم على الجنسية الرسمية “للدولة” في الوقت الذي يحرمون فيه من حق الحصول على “السمة القومية” المخصصة لليهود فقط، فضلاً عن خضوعهم لديناميكيات تحدد العلاقة الجوهرية اتي تربط المستعمَر بالمستعمِر في سياق تلخيص مكثف للسياسات العنصرية الراميّة إلى التخلص التدريجي منهم، حيث تعتمد هيبة وشرعيّة المستوطنين على قناعة راسخة بتفوقهم على السكان الأصليين، سواء من حيث قيمهم الأخلاقيّة وثقافتهم المتطورة العالية أو من حيث تفوق حضارتهم المادية، وهذا ليس مجرد تفصيل طارئ، أو محض نتاج استعماري، بل هو جزء هام من النزعة الاستعمارية وتعميق لها والتي تعمل في إطار ذاتي يستمد قوته من وجوده المتفوق  على الأرض، وتشكل هويته الإيديولوجية من الطبيعة العنصرية المتمثلة في تعميق الهوة بين ثقافة المستعمِر و المستعمَر، واستغلال هذه الاختلافات لصالح المستعمِر. واعتبار هذه الاختلافات معاييرٍ للحقيقة المطلقة، ومنطلقاً لشرعة الاستعمار \الاحتلال باستحضار مصفوفة “المُثل الحضارية والالتزام بتطوير أو تحسين شروط حياة وأرض المستعمَرين”، كما يرى هرتزل، حيث يعتبر ،هنا، أن السكان الأصليين( أي العرب) جماعات بدائية ومتخلفة، لكنه يأمل في أن تعود المنافع الاقتصادية بين السكان العرب على المشروع الصهيوني في فلسطين، بيد أن مصير مثل هذه “القيم العليا”، سواء كانت صادقة أم من طبيعة انتهازية، يتحدد حسب العقلية التي سيتم بموجبها تصنيف المجتمعات المستعمَرة، ففي سبيل مواجهة أي مقاومة، فعلية أو متخيّلة، على المستعمِر أن يبقى على أهبة الاستعداد وفي حالة يقظة وحراسة على الدوام خلف “جدار حديدي” تحافظ على مأسسته على مفهوم أقليّة استعماريّة داخل بنية الدولة ذاتها. ومع مرور الوقت يمر مجتمع المستوطنين في حالة تصلب تدريجي لهياكله المؤسساتية والنفسية، بدلاً من اكتساب الثقة والانفتاح على إمكانات التغيير والتكيف الذي قد يؤمن له القوة والأمن، وعوض عن توسيع نطاق الحريات الديموقراطية وشموليتها، يميل التجمع الاستعماري نحو التطرف والعسكرة و إحكام “حالة حصار” على المستعمَر، ويصبح شكل القوانين أكثر وحشيّة وتصبح القيود أشد وطأة، لاسيما عند الحديث عن الحقوق السياسية و”القومية” للمستعمَرين، مما يذكرنا بالمقولة الشائعة التي ترى أن كل دولة استعمارية تحمل في أحشائها “بذور الإغراء الفاشي”، فما كان صحيحاً بالنسبة للفرنسيين في الجزائر والوحدويين في إيرلندة الشمالية ولأفريكان وغيرهم من البيض في جنوب أفريقياـ يثبت أنه اكثر واقعية بالنسبة لليهود الإسرائيليين في فلسطين التاريخية المستعمَرة.

في الـ 14 من أيار/مايو 1948 أعلن ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل. ومما قاله نذاك: “لم يفقد الشعب اليهودي الأمل مطلقاً. ولم تنقطع صلواته للحرية وللعودة إلى وطنه. واليوم عاد اليهود إلى وطنهم الأصلي. وصار لهم دولة خاصة بهم”.

تظهر إسرائيل، للمراقب الخارجي الموضوعي، كنتوء كرثي في الجغرافيا السياسية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويطرح وجودها، كما هي الآن وهنا، العديد من الأسئلة، بدءً من مسائلة وجودها وظروف تأسيسها ونشأتها ونموها وتوسعها وصولاً إلى دورها الوظيفي الكلاسيكي في الصراعات الإقليمية والدولية وعلاقات الهيمنة لاسيما حين يتم تعريفها كمنظومة استعمارية تنتمي لذات الهيكلية الاستعمارية التي سبقتها في الوجود، فضلاً عن أن تعريفها كدولة لليهود يستحضر، بالضرورة، الأصول الإيديولوجية للحركة الصهيونية المشبعة بتجاذبات النزعة القومية الأوروبية التي تنوس تحت وطأة ثقل احتلال واستعمار العالم خارج أوروبا و\ أو الانكفاء الكولونيالي داخلياً وتحديد لمعالم القومية للمجتمعات الأوروبية الوليدة. وُلدت الصهيونية، إذن، ضمن هذا المناخ على فكرة الإيمان بالقدر التاريخي لشعب معين من حقه السيادة على ” أرضه” وتقرير مصيره السياسي. وترافق مع هذه الإيمان، الذي يصفه بنديكت أندرسون بالإيمان “المتخيل”، اعتقاد شبه ديني بوجود صلة عميقة شبه صوفية بين الناس والأرض واللغة، وهو اعتقاد يجد جذوره لدى منظري السياسة الثقافية و القومية الجرمانية مثل يوهان غوتفريد هيردر “مؤسس حركة الاقتحام والاندفاع التي كان لها أثر كبير في تاريخ الفكر الجرماني” ويوهان غوتليب فيخته “الذي ينظر له بوصفه اب القومية الألمانية الحديثة.” وبالنظر إلى هذا الإرث، فقد حملت النزعات القومية الأوروبية، بوجه عام، تحيّزاً حاداً ضد التمازج العرقي بما يتناقض مع الإرث التنويري للمزاعم الليبرالية القائمة على النظرة الديمقراطية والعلمانية للدولة.

وتبدي الصهيونية (وإسرائيل)، لاسيما في هذه النواحي السابقة، خصائص تكوين قومي أوروبي نموذجي, غير أن الصهيونية، وعلى خلاف القوميات الأوروبية العلمانية التي تأثرت بها، كانت مشبعة بإرث وأدبيات النزعة الميسيانية. ولاينبغي أن يفهم من هذا على أنه ينطوي على إيمان بالمصير التاريخي لليهود لجهة عودتهم من الشتات إلى صهيون فحسب، بل يربط أيضاً، تلك العودة بظهور “الميسيا” وتنصيبه ملطاً في آخر الزمان، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان للتيار العلماني الصهيونية الإفلات من قبضة مفردات هذه النزعة الدينية التأملية الميسيانية، ولا حتى، في معظم الحالات، من دلالاتها. وفي الواقع، لطالما كانت التقاليد الخلاصية الميسيانية تطارد الصهيونية، بحيث يمكننا أن نميز اللغة التي تبنتها النسخة العلمانية من الحركة الصهيونية عن لغة التدين العلماني للقوميات الأوروبية، فالإشارة إلى هرتزل ” العلماني” على أنه “موسى المعاصر” أو “المسيح الصهيوني” تظهر دمج المزاعم العلمانية والدينية للصهيونية وتخلق نبرة خلاصية أخروية عمادها “العنف الإلهي المقدس”، الذي يقابله قناعة بأن كل صراع ينطوي على تهديد وجودي لـ “إسرائيل”  قد لا يعني نهاية الزمن فحسب، بل نهاية هذه الإسرائيل نفسها، وهو ما اتخذ طريقاً له في السياسات الإسرائيلية بصيغ مختلفة: دينية وعلمانية، لتسويغ التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، من أجل إفساح لطريق لـ “جمع اليهود” كمقدمة لعودة المسيح باستخدام مقولات ميسيانية غير قابلة للنقاش ، مثل ” دولة يهودية لشعب يهودي” بما يربط مصير الدولة الاستثنائي و تكريس القومية الإثنية والنبوءة الدينية والدفاع عن هذا المصير. ومن الأهمية بمكان أن نلحظ أن هذا الربط الاستثنائي سبق ظهور الهولوكوست بفترة طويلة، وهذا ما شكّل بحد ذاته ،حتى ستينيات القرن الماضي، “حرجاً” لزعماء إسرائيل الصهاينة مثل بن غوريون واعترافهم بأن مصير اليهود الأوروبيين ( الذين لم يُقيّض لهم رؤية مستقبلهم، على وجه العموم، فضلاً عن عدم خلاصهم بالهجرة إلى فلسطين) قد يكون تم استغلالهم لغايات سياسية.

ومن هنا، يظهر الصراع في فلسطين كمشهد يومي متكرر من مشاهد الاعتداء الاستعماري النموذجي بطبيعته، والفج في علاقته بالمعيش اليومي للفلسطينيين، غير أن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فالصراع ينفتح على مستويات عميقة الجذور وعلى تاريخ متشابك يبدو كأنه غير قابل للفصل بين ما هو ديني وما هو قومي وما هو سياسي، وأية ملاحظة نقدية يمكن توجيهها لإسرائيل سوف تواجه بالعداء و التبرم من قبل الطبقة السياسية الحاكمة في تل أبيب التي ترى في مثل هذه الانتقادات انقاد لليهود أنفسهم ونوع من “معاداة السامية”، لأن إسرائيل -في نظرهم- هي “الشعب اليهودي” وسياساتها هي سياسات “يهودية” وكذلك منجزاتها، [ وبالتالي، من باب أولى أن توصف جرائمها بأنها كذلك، أي جرائم :يهودية]، بل أن اعتبار إسرائيل تمثل جميع هذه الادعاءات باسم اليهود، فهذا يعتبر أحد أكثر المزاعم المعادية للساميّة على الإطلاق. ليس هذا فحسب، بل تضع هذه الطبقة الحاكمة “مواطنيها” على فوهة المدفع بتشريعها لقانون القومية، وهي بذلك تعلن، دون مواربة، عن حقيقة مشرعها الصهيوني لفلسطين وللمنطقة ككل. وه حين تروج لدعاية صاخبة-غير دقيقة في معظمها- عن معاداة الساميّة ورفعها لمستوى مشروع قرار دولي ، بدعم من الدول الغربية، تصرّ فيه، ومعها الغرب، على أنّه لكي يكون هناك سلام في الشرق الأوسط، يجب أن يصبح الفلسطينيون والعرب والمسلمون، مثل الغرب، أي يتبنوا وجهة النظر الإسرائيلية بخصوص قانون القوميّة ويتحولوا إلى “معادين للساميّة” من خلال تبني الرؤية الصهيونية للمنطقة و مستقبلها، والاعتراف بمطالب إسرائيل “المعادية للساميّة”. ولا يخفى على أحد أن الفلسطينيون تعرضوا، أكثر من غيرهم، لمثل هذا التحريض المعادي للساميّة، وهم ومن معهم من الأحرار العرب و القليل من اليهود المناهضين للصهيونية يرفضون هذه الادعاءات الإسرائيلية لقانون القومية، ويرون في التواجد الاستعماري الصهيوني في فلسطين جريمة تتحمل مسؤوليتها إسرائيل كمؤسسة استعمارية و أن جرائمها ضد الفلسطينيين هي جرائمها “هي” وليس جرائم “اليهود”. ولهذا لا يكلّ الفلسطيني عن اتقاد إسرائيل وإدانة سلوكها ومواجهته بإمكانياته ودعوته لمحاكمة هذه المؤسسة وقادتها بسبب جرائم “حروبهم” المستمرة، ولا يعبّر هذا عن موقف تسجيلي أو دعاية مجانية، ولا هو حرث بلا طائل، بل هو تتويج وتجسيد لنضال امتد على مدار قرن تقريباً ومازال مستمراً. وحين يؤكد الفلسطينيون على مقاومتهم لإسرائيل وتجلياتها الاستعماريّة الصهيونية، إنما يمثلون، بطرقة ما، ورثة نضال يهود ما قبل الحرب العالمية الثانية باعتبارهم “آخر الساميين”، كما يصفهم جوزيف مسعد [ الباحث في جامعة كولومبيا الأمريكية وأحد أهم منتقدي الصهيونية وإسرائيل واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة] قبل عدة سنوات وبمناسبة الذكرى الخامسة والستين للنكبة الفلسطينية وذلك في مقال له نشره موقع “الجزيرة” الإنكليزي بعنوان The last of the Semites (1)، ثم ما لبث الموقع  أن حجبه، ويقال أن السبب يعود لإملاءات وضغطات تعرضت لها المحطة من جهات صهيونية وأمريكية، ولم يطل الأمر حتى قام الموقع بإعادة نشر المقال بسبب موجة الانتقادات الشديدة، من طيف واسع من القراء و المهتمين، واتهامها بالخضوع للرقابة المؤيدة لإسرائيل. وقد ترافق إعادة نشر المقال بتنويه من مدير الموقع عماد موسى في نافذة “مدونة المحرر”(2) نفى فيه أن يكون حجب المقال يعد لـ “ضغوط سياسيّة” من أي نوع أو حتى لـ “رقابة معينة”.

ما يهمنا من مقال جوزيف مسعد _على أهميته بالمجمل- هو التشديد على تأصيل فكرة أن الصهيونية حركة “معادية للساميّة” من حيث الجوهر, والتأكيد على ذلك عبر قيامها بتحالفات مشبوهة مع أنظمة “أوروبية” تشترك معها في معاداة الساميّة. ويرى مسعد أن يهود أوروبا المعارضين للصهيونية أدركوا اشتاك هذه الأخيرة ، منذ نشأتها، في تعيين الخطوط العامة المعاداة السامية حين تحاول تشخيص ما يعرف بـ “المسألة اليهودية” (وهو مصطلح من اختراع أوروبي غير يهودي على كل حال). بيد أن ما اثار غضب اليهود المناوئين للصهيونية هو المساهمة التي قدمتها هذه الحركة من أجل “حلّ” لمسألة اليهودية وفقاً للمقاربة التي طالما دافع عنها  وتمناها الأوروبيون “غير اليهود” المعادون للسامية، أي طرد اليهود من أوروبا.

يظهر الاستعراض العميق لتاريخ الوجود اليهودي في أوروبا الدور الجوهري الذي لعبه هذا لوجود في ظهور إسرائيل، نظرياً وعملياً على حد سواء، وهذا ما يجعل من شرعية إسرائيل والصهيونية أمر مفروغ منه وغير قابل للنقاش، رغم أن وجود إسرائيل بحد ذاته يمثل من ناحية تذكيراً مستمراً بالماض الاستعماري الأوروبي، ومن ناحية أخرى، مثالاً سيئاً على مجمل الفكر القومي الأوروبي الذي اجتاح العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر. وكما يقول إيريك هوبسباوم: “تربط إسرائيل أوروبا بماضيها وتعوقها عن تخيّل مستقبلها العالمي. وواقع الحال يشير إلى أن ما حدث من مجازر في الحرب العلمية لثانية لم تقض على أغلب اليهود فحسب، بل قضت في سياقها على أغلبية اليهود المناهضين للصهيونية والسامية، ولعل موتهم على وجه التحديد يعود لرفضهم الاستجابة للدعوة الصهيونية وخياراتها بالتخلّي عن بلادهم ومنازلهم، ومنع من بقي منهم حيّاً من الدخول إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة(3).

ظهرت أصوات في أوروبا، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبإلهام من حركة الإصلاح البروتستانتي التي عملت على إحياء الكتاب المقدس (العبري)، تدعو إلى الربط “القومي” ليهود أوروبا المعاصرين بفلسطين، فتمت صياغة القالب لقومي لكتابة التاريخ اليهودي على يد مؤرخ اليهودي هاينريش غريتز الذي كان كتابه “تاريخ اليهود ن أقدم العصور حتى الوقت الحاضر” أول محاولة لإنتاج مروية تاريخية كبيرة عن “الشعب اليهودي” ليس بوصفهم جماعة دينية فحسب، بل بوصفهم، ولو جزئياً على الأقل، أمّة حديثة. وتم تأويل الكتاب المقدس باعتباره مصدر تاريخي موثوق، وساهمت جهود علماء اللغة في القرن الثامن عشر عن عائلة اللغات “الساميّة” والتي تتضمن العبرية والعربية في تعزيز هذا الربط في اعتبار اليهود المعاصرين أحفاداً للعبرانيين القدماء. ووفقاً للتصورات الألفية البروتستانتية، ينبغي على هؤلاء اليهود الذهاب إلى فلسطين للتعجيل لمجي المسيح وقيام مملكة الرب. ومنذ ذلك الحين، تم اعتبار اليهود المعاصرين “ساميين”. وسوف نلاحظ ظهور العديد من “الاكتشافات” البيولوجية و”القفزات” المتنوعة في العلوم البيولوجية ونظريات العرق والوراثة التي ستجعل من اليهود الأوروبيين جماعة تنحدر مباشرة من العبرانيين القدماء، على حد قول مسعد. وبرغم جهود العديد من الباحثين مثل يوليوس فلهاوزن في تقويض مثل هذه الأفكار التي تصنف اليهود كأنه ذات ماضٍ بطولي، إلّا أن الموقف العام في أوروبا كان يتهيأ لقبول فكرة “عودة” اليهود إلى فلسطين، لاسيما الأوساط السياسيّة العلمانيّة كما يسميهم مسعد: من نابليون بونابرت إلى اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني إلى أرنست لاهاراني السكرتير الخاص لنابليون الثالث، حين سعوا جميعهم للتخلص من يهود أوروبا وجمعهم في فلسطين كعملاء للإمبريالية الأوروبية في آسيا، وستلقى هذه الفكرة صدى لدى العديد ممن يعتبرون “معادين للساديّة”، وهي الصفة، أو الدلالة الجديدة التي اختارها العنصريون الأوروبيون المعادون لليهود بعد اختراعها في العام 1879 على يد صحفي نمساوي مغمور يقيم في فيينا ويدعى “فيلهيلم مار” الذي أصدر كُتيباً سياسيّاً بعنوان “انتصار اليهودية على الجرمانية” حرص فيه على فصل معاداة السامية عن كراهية المسيحيين الدينية\ التاريخية، ويرى “مار” -بحسب جوزيف مسعد- أن التمييز بين اليهود والآريين كان عنصرياً بامتياز وفقاً للفلسفة الساميّة والنظريات العرقية في القرن التاسع عشر. تبنّى العديد من الرواد الصهاينة الأوائل مثل موسى هس وسيمون دوبناو وغيرهما هذه الأفكار من خلال مقاربة صهيونية خاصة تميل للعلمانيّة أكثر وترفض الإيمان الأرثوذكسي اليهودي، لكنها لا ترى ضيراً من استخدام الدين باعتباره “ثقافة قومية” توحّد يهود العالم، ويرى شلومو ساند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي” أن العديد منهم قاموا بتأويل السرديات الكتابية على أنها توصيف لأحداث وعمليات تاريخية حقيقيّة: على الرغم من أن العديد منهم قاموا بذلك على سبيل المجاز و بصورة رمزية.

يتابع جوزيف مسعد استعراضه بالقول أن بعض الأفكار التي حملتها معاداة السامية، كانت، في جوهرها، من طبيعة عنصرية ومنحازة لجهة الاستغلال السياسي للتاريخ وتصرّ على اختلاف اليهود عن الأوروبيين المسيحيين، فواقع الال يشير إلى أن اليهود لم يكونوا أوروبيين على الإطلاق وأن وجودهم في أوروبا هو ما يتسبب بمعاداة الساميّة، وأن مظلوميتهم التاريخية في افتقارهم لبلد ينتمون له ويتأسس عليه ولائهم كان السبب في العديد من المشاكل التي خلقوها للمسيحيين.  ومع الانتشار القوي للأفكار القومية، في فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، تم تصور اليهود كتشكيل كاذب ضمن الجسم الأوروبي لا يتناسب مع التشكيلات القومية الآخذة في النمو والتكوّن، وأن وجودهم سوف يمزق، لاشك، “النقاء” القومي والعرقي الضروريان لنهضة القوميات الأوروبية الحديثة. وبناء على ذلك ، سوف يسبب بقاء اليهود مزيداً من العداء و التصدع للمجتمعات “المسيحية” الأوروبية القومية الوليدة. وإذن، يتمثل الحل الوحيد لهذه المعضلة في إخراجهم من القارة وإنشاء وطنهم “القومي” الخاص بهم. وغني عن القول إن اليهود المتدينين والعلمانيين عارضوا هذه الفكرة المعادية للساميّة. فاليهود المتدينون والإصلاحيون واليهود الاشتراكيون والشيوعيون واليهود الثقافيون الكوزموبوليتانيون واليهود الذين ينتمون لثقافة الييديش اتفقوا جميعاً على أن هذا الحل يعبر عن إيديولوجية عدائية خطيرة تسعى إلى طرد اليهود من أوطانهم الأوروبية، ما يقول مسعد، وإن كان من الصعب عملياً تحديد تاريخ دقيق لمثل هذا التحول لدى القوميين الأوروبيين في نظرتهم تلك لحل المسألة اليهودية والدعوة لعودتهم لـ “وطنهم القديم”، وتبني بعض القراءات الحرفية للكتاب المقدس التي ظهرت في أعقاب حركة الإصلاح البروتستانتي وما تلاها من أفكار لاهوتية حول خلاص العالم والنظريات الألفية والاعتقاد بأنه على اليهود اعتناق المسيحية في نهاية المطاف والعودة لوطنهم، لأرض الهيكل الثاني. وقد بدأت تظهر أفكار من قبيل العثور على قبائل بني إسرائيل، حيث رأى فيها المسيحيون إشارات تدعو لإعادة بناء هيكل سليمان، ورافق هذا بروز تيّار متشدد في بريطانيا وهولندة يدعو لعودة الشعب اليهودي على الأرض المقدسة(4)، وأن هذه العودة ليست حلّاً للمسألة اليهودية في أوروبا فحسب، بل هي التي سوف تؤدي لظهور المسيح، وساهم رجال الدين المسيحي-بسبب مطالعاتهم المستمرة لقصص الكتاب المقدس- بالترويج لمقولة ترى في اليهود جماعة استطاعت أن تنجو عبر التاريخ الطويل في الشتات من الذوبان(5). ويؤرخ القرن التاسع عشر أيضاً، لظهور حركة التنوير اليهودي “هاسكالا” التي دعت -من أجل التخلص من هيمنة الحاخامات على يهود شرق أوروبا- إلى اندماج اليهود (وليس طردهم) في فضاء ثقافي علماني أوروبي والخلّي عن المكوّن الثقافي اليهودي الي ينتمي إلى ثقافية قروسطيّة، وفي خضم هذا الاضطراب الفكري، بزغت القومية “اليهودية” في شكل الصهيونية أو في شكلها الصهيوني كمظهر مباشر من مظاهر القومية الأوروبية. واستطاع القادة الصهاينة استغلال المد القومي الأوروبي بانتهازية واضحة لصالح أجندتهم السياسية و تبنيهم للأفكار الأوروبية، بما فيها معاداة الساميّة دون أن يتخلوا عن فكرة أن اليهود هم “ساميّون” وأنهم أحفاد العبرانيين القدماء وينتمون لحقبة الهيكل الثاني، ودعم تيار ما سيعرف لاحقاً بالصهيونية الدينية ( من أبرز دعاتها الحاخام أبراهام كوك) والدعوة إلى العودة إلى فلسطين من خلال الجهد البشري ورأى هؤلاء أن مثل هذه العودة تمثل الخلاص النهائي كمشروع مشترك بين الرب والإنسان. وهكذا، سيصبح تيار الصهيونية الدينية طريقاً وسطاً بين الصهيونية السياسيّة ومعاداة الصهيونية، كما سيكون وسيلة لبعض اليهود المتدينين لدعم وتعزيز الصهيونية العلمانية وتبريراً للانتقال إلى فلسطين، سواء بدافع الاضطهاد ومعاداة السامية، أو من خلال الرغبة في العيش في “أرض الميعاد” و”ارض الأجداد”، على الرغم من رغبة هرتزل بتبني اليهود جميعهم اللغة الألمانية، في حين رغب يهود شرق أوروبا الصهاينة اللغة العبرية. وتبنى الصهاينة، في فترة ما بعد هرتزل، بل حتى أكّدوا على أن اليهود لا ينتمون عرقياً للأوروبيين الآريين. أما بالنسبة إلى اليديشية ( لغة معظم الجاليات اليهودية في أوروبا) فقد اتفق جميع الصهاينة على ضرورة التخلي عنها، وبهذا لم تعد اليهودية سبباً لوجود اليهود، بل-كما يرى ويرغب الصهاينة- أصبحت اليهودية نتاجاً للوعي القومي اليهودي، وهذا في الحقيقة ليس سوى استبدال وهم بوهم، استبدال وهم علاقة الفرد مع الرب بوهم علاقة الفرد مع الجماعة. واستمرار للمرادفات المتنوعة للقومية الأوروبية (وصولاً، في مراحل لاحقة، للتفسير الصهيونية لآراء لينين حول الإمبريالية والتصنيع الذي يولّد القومية).

لم يؤيد يهود أوروبا، في معظمهم، هذه الأفكار، بل واصلوا مقاومتها من خلال فهمهم لها كأفكار ومبادئ معادية للساميّة واستمراراً لسعي دعاة التنوير لدمجهم في الوسط الأوروبي، منقطعين عن ثقافتهم. لم تقم الهاسكالا بالحديث عن “إكسودس” حديث من أوروبا نحو فلسطين- ولعل هذا هو الفرق بينها وبين الصهيونية-. وسوف يصبح حزب البوند (اتحاد العمال اليهود العام في ليتوانيا وبولندة وروسيا الذي تأسس في أواخر العام 1897) بعد أسابيع قليلة من انعقاد أول مؤتمر صهيوني في بازل، من الد أعداء الصهيونية وسوف ينضم إلى الائتلاف اليهودي المناهض للصهيونية المكوّن من الحاخامات الأرثوذكس والحاخامات الإصلاحيين الذين كانوا قد كثفوا جهودهم، قبل بضعة اشهر، لمنه هرتزل من عقد مؤتمره في ميونيخ، مما أجبره على نقله إلى بازل. ويستعرض مسعد ما طرحه هرتزل في كتيبه التأسيسي “دولة اليهود” حول مستقبل اليهود الأوروبيين، بأن اليهود، وليس أعدائهم المسيحيين، هم الذين ” يسبّبون” معاداة السامية، وأنه “في حالة عدم وجودها، سوف يحمل اليهود [معاداة الساميّة] في سياق هجراتهم”. في الواقع، إن “اليهود التعساء، يحملون بذور معاداة السامية إلى إنكلترة، لقد أدخلوها بالفعل إلى أمريكا”، وأن اليهود “أمّة” عليها مغادرة أوروبا لاستعادة “دولتها” في فلسطين أو الأرجنتين، و “إن حكومات جميع البلدان التي تعاني من معاداة السامية ستهتم اهتماماً شديداً بمساعدتنا في الحصول على السيادة التي نريدها”، ويتابع القول: “ليس فقط اليهود الفقراء” سوف يساهمون في صندوق هجرة اليهود الأوروبيين، بل أيضاً “المسيحيين الذين يريدون التخلص منهم”. ويقرُّ هرتزل في مذكراته [دون أن يرف له جفن]: “سيصبح المعادون للسامية أكثر أصدقائنا الذين يمكن الاعتماد عليهم، وأن الدول المعادية للساميّة ستصبح حليفة لنا”، ليس هذا فحسب، بل سوف يلتقي مع عتاة المعادين لساميّة، مثل وزير الداخلية الروسي فويتشسلاف قسطنطينوفيتش فون بليف في العام 1903 (وهو من أشرف على المذابح المعادية لليهود في روسيا)، فضلاً عن اللورد بلفور المعادي للساميّة والذي كان رئيساً للحكومة البريطانية في العام 1905 والذي أشرف شخصياً على القانون الخاص بالتعامل ع الأجانب الذي وضعته الحكومة، والذي منع يهود أوروبا الشرقية الفارين من المذابح الروسيّة من دخول بريطانيا مبرراً ذلك بقوله أنه يقوم بإنقاذ البلاد من “شرور صرفة” سوف تسببها “الهجرة التي كانت في معظمها من اليهود”، ويرى البعض، في سياقات أخرى، أن أحد دوافع اللورد بلفور لوعده المشهور في العام 1917  الداعي لإنشاء “وطن قومي” لـ “الشعب اليهودي” في فلسطين، إنما يعود لرغبته في منع اليهود من تقديم الدعم للثورة البلشفية في روسيا ووقف تدفق المزيد من المهاجرين اليهود غير المرغوب فيهم إلى بريطانيا.

ن يكون وصمة عار عار لأوروبا أو مثال سيء السمعة لماضيها الاستعماي أو حاى اعتذار عن وعي كاذب احتاح العالم على شكل القوم عل

 يؤكد مسعد أن النازيين لن يكونوا استثناء في سلسلة معاداة الساميّة هذه، وفي الواقع، سيعقد الصهاينة صفقة مبكرةّ مع النازيين في العام 1933 من خلال اتفاقية ترانسفير [هعفارا] لتسهيل نقل اليهود الألمان وممتلكاتهم إلى فلسطين وهو ما سمح للصهيونية، بعد أقل من خمس سنوات، من تلك الاتفاقية من امتلاك نحو 229 ألف دونم في فلسطين وتهريب كميات كبيرة من الأسلحة ( كشفت منها حالتان: الأولى بتاريخ 15\3\1930 والثانية بتاريخ 16\10\1935)، فضلاً عن أن هذه لاتفاقية اخترقت المقاطعة اليهودية الدولية لألمانيا النازية التي بدأها اليهود الأمريكان. وفي سياق هذه الاتفاقية وما تمخض عنها زار فلسطين مبعثين نازيين للاطلاع، عن كثب، على مدى نجاح الاستعمار اليهودي للبلاد. وعاد أدولف ايخمان من رحلته إلى فلسطين في العام 1937 وهو يحفظ العديد من القصص عن “إنجازات الكيبوتز الأشكنازي” حيث زار أحدها كضيف عند الصهاينة. وعلى الرغم من المعارضة الساحقة لمعظم اليهود الألمان، كان الاتحاد الصهيوني لألمانيا، هو الجماعة اليهودية الوحيدة التي دعمت قوانين نورمبيرغ للعام 1935 بتوافقهم مع الطروحات النازية بأن اليهود و الآريين ليسوا سوى أعراقاً منفصلة غير ذات صلة، ومن غير الممكن استيعاب أحدهما للآخر، ومن الضرورة بمكان إخراجهم من أوروبا، لم يكن هذا مجرد دعم تكتيكي أو محسوب على أجندة سياسيّة معينة، بقدر ما كان يستند إلى تشابه إيديولوجي واضح وألفة بين العقيديتين الصهيونية والنازية، علماً أن الحل النهائي النازي لليهود كان يرى بضرورة ترحيلهم إلى مدغشقر، في حين أن الغالبية من اليهود استمروا في مقاومة معاداة السامية المستندة إلى الصهيونية وتحالفاتها.

أخيراً، يرى جوزيف مسعد أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وبعض الدول الأخرى، سوف يواصلون تبني السياسات النازية المؤيدة للصهيونية، ففي الواقع لم يحدث انقطاع في تلك السياسات، باستثناء المزاج العام الرافض لمبدأ الإبادة الجماعية والمجازر، لكنه في ذات الوقت مؤيد لمبدأ إبعاد اليهود خارج أوروبا، “نحو وطنهم التاريخي القديم”، ليكونوا بمثابة حصن “أبيض” في مواجهة “البربريّة” الآسيوية \ الشرق أوسطية\ الإسلامية.. إلخ.

لقد مثّلت الحرب التي شنّها هتلر انعطافة حادة، بطريقة ما، نحو الداخل، أي نحو البر الأوروبي ذاته. ولم يجد الغرب نفسه أمامه سوى التصالح مع الذات من خلال إعادة تأهيل ضحايا الحرب في أوروبا، ومن ضمنهم ليهود باعتبارهم “بيض”، وكان من أهم ما قامت به أمريكا في خضم حربها الباردة مع المعسكر الاشتراكي هو إعادة تأهيل اليهود الأوروبيين كجزء من بروباغاندة صاخبة، وظهرت مقارنات متوازية تم بموجبها تصنيف الشيوعية “السوفييتية” كنسق شمولي مثله مثل النازية مما يتيح اعتبار يهود الاتحاد السوفييتي ضحايا نظام استبدادي لا يختلف عن ضحايا النازية، وسوف تستغل إسرائيل هذه المزاعم إلى أبعد الحدود من أجل دفع اليهود السوفييت نحو إسرائيل، ومن خلال تجليات تفوق الرجل الأبيض ظهر في الحقل الأكاديمي ما صار يعرف بالحضارة “ليهودية المسيحية” التي هي استمرار لما سبقها، أي الحضارة “الإغريقية” والحضارة “الرومانية” في عملية خلط غريبة عجيبة بين ما هو ثقافي وماهو ديني ما هو إثني في كلٍّ واحد هو “الرجل الأبيض”، الأمر لذي كرّس تصنيفاً جديداً لشعوب العالم يستند على إملاءات عنصرية ضد السكان الأصليين للمستعمرات في أفريقيا و آسيا أمريكا، كما تم التأكيد على الدور الوظيفي لإسرائيل ودعمها كمشروع استيعاب اليهود في دولة استعمارية استيطانية “بيضاء” بعيداً عن أوروبا، وهذا يعني استمرار للسياسات الاستعمارية التي كانت سائدة في فترة ما قبل الحرب. وبهذا فإن ضحايا النازية من اليهود الذين قتلوا في أوروبا لا يشبهون من كان ضحية للنازية و قتل خارج القارة، وأن أهوال الهولوكوست هي مرعبة فقط كونها تسببت في مقتل اليهود الأوروبيين بوصفهم “بيض” وبات من الضروري مطابقة هؤلاء الضحايا مع المسيحيين البيض الأوروبيين في إعادة تصويرهم في الأدب والمسرح والسينما “لاسيما السينما الأمريكية” بوصفهم مثقفين ينتمون للطبقة الوسطى يمتلكون المواهب و المشاعر الرقيقة و الأحاسيس المرهفة ولا يختلفون عن المسيحيين البيض الأوروبيين والأمريكيين الذين ينبغي، بل يجب، أن يتطابقوا معهم.

تصرُّ إسرائيل، معها الغرب، على أن اليهود الأوروبيين لا ينتمون إلى أوروبا، بل إلى “وطنهم القديم” أي فلسطين، ويقابل هذا إصرار فلسطيني يرى في أن اليهود لا ينتمون إلى هذه المنطقة، إنما ينتمون إلى جغرافيتهم التي أتوا منها، ولم تستطع الصهيونية أن تقنع اليهود بالقدوم إلى فلسطين إلّا بتبني سياسات معادية للساميّة، والزعم أن اليهود [الأوروبيين مثلاً] لا ينتمون لأوروبا وهم عرق أو سلالة أو إثنية منفصلة عن المسيحيين الأوروبيين، في الوقت الذي يصرّ فيه الفلسطينيون على أن اليهود الأوروبيين لا يمكنهم أن يكونوا سوى أوروبيين ولا علاقة لهم بفلسطين أو شعبها أو ثقافتها. ويثبت المشروع الصهيوني في فلسطين فشله – رغم النجاحات هنا وهناك- في إقناع الفلسطينيين بأنهم عليهم أن يكونوا معادين لسامية ويعتقدون كما اعتقد وفعل النازيون وإسرائيل ،وحلفائها الغربيين المعادين للسامية، بأن اليهود جنس مختلف عن الأجناس الأوروبية، وفلسطين هي بلدهم، وأن إسرائيل تتحدث باسم جميع اليهود

………………….

1- http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2013/05/2013521184814703958.html

2- http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2013/05/2013521165744741348.html

3- صوتت هذه الدول لاحقاً لصالح مشروع التقسيم في العام 1947 رافضين مشروع القرار الذي قدّمته الدول العربية الداعي للاهتمام بشأن اليهود الناجين من الحرب، وهذا ما يفسّر توجّه ليهود نحو جهة واحدة ووحيدة: فلسطين.

4- كان اللورد شافتسبيري من بين أولئك الذين دعوا “إلى عودة” اليهود لفلسطين، وتبنى هذه الدعوة لاحقاً اللورد بالمرستون، ولكن لدواع استعمارية وليس دينية

5- كتب تشارلز جيرام، طالب اللاهوت في كامبريدج، في العام 1795 مقالاً يزعم فيه أن اليهود يتمتعون بحق مطلق غير قابل للتصرف بحيازتهم الأبدية لأرض كنعان، وهو يرى أن بعد أن يحوزوا على الأرض سوف يعتنقون المسيحية ( الأمر الذي سوف يعدّ جوهريّاً فيما بعد بالنسبة للصهيونية المسيحية).

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

الصراع على أوكرانيا – الجزء الثاني

في  طبيعة ترابط  السياسات الاستراتيجية للولايات المتّحدة الأمريكية تجاه أوروبا والصين  ومنطقة الخليج . لتكريس …

2 تعليقات

  1. أحمد فريد يوسف

    في الدراسة أو المقال إجابات على كثير من الأسئلة حول تعاطي الحكومات العربية بشكل خاص والعالمية بشكل عام مع “إسرائيل” كمسمى/كيان رسمي.. إنما يحتاج لقراءة ثانية وثالثة بتأن أكثر لفهمه.
    شكرآ جزيلآ لك!

    • محمود الصباغ

      لا يمكنك أن تأكل البيضة دون أن تكسرها , لابد أن تتلوث يديك , هكذا يجادل المؤرخ الإسرائيلي المثير للجدل “بيني موريس” وهو يحاول أن يفسر عمليات التطهير العرقي الذي رافق حرب العام 1948 “لا يوجد أي مبرر للاغتصاب أو للمجازر. هذه جرائم حرب. ولكن في بعض الحالات [و الكلام هنا لـ بيني موريس] لا يعتبر الطرد جريمة حرب. لا أعتقد أن الطرد الذي حصل في العام 1948 يعد جرائم حرب … هناك ظروف تاريخية تبرر التطهير العرقي. أعرف أن هذا المصطلح هو سلبي تماما في خطاب القرن الـ 21، ولكن عندما يكون الخيار بين التطهير العرقي والإبادة الجماعية، الإبادة الجماعية لـ”قومي” فسوف أختار التطهير العرقي “*.انتهى الاقتباس
      يمكن تفسير مثل هذا القول-الصادم للبعض -بمعايير العنف الإسرائيلي “المبرر” ضد الفلسطيني عندما يتم الحديث عن الصراع الفلسطيني\الإسرائيلي. فقتل الفلسطيني وعدم قتله لا يشكل فرقا جوهريا هنا نظرا لاقترابهم الشديد من تعبير “الإنسان العاجز” الذي هو بالأساس تعبير قانوني يعود للفقه الروماني يصف الأفراد الذين تفتقر حياتهم إلى أي قيمة ويمكن التخلص منهم و قتلهم دون أن يعاقب أحد قاتلهم . و يمكن تعميم هذه الحالة إسرائيليا بالقول وفقا لإيهود باراك بأن العرب محكوم عليهم بالهمجية بينما إسرائيل ومن خلال تقويمها الذاتي الباذخ لنفسها تمثل “طليعة الحضارة ضد الهمجية… إنها قصر وسط غابة.. إنها “جدار حماية” للغرب. وهذا يتطلب أن تكون إسرائيل دولة “استثناء”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *