هنادي زرقة.. بصمة حداثية جديدة.. خارج الرتابة والمألوف الشعري النسوي.

لكل أدب طبيعته الخاصة، ولكل لغة شعريتها التي تحقق لها الاختلاف والتمايز، من سواها،

ويتحقق الإبداع تبعا لما يمتلكه المبدع من لغة يعبر من خلالها عن رؤيته وأفكاره، وهواجسه وأهوائه، وما يتمتع فيه من مقدرة تقنية، وفنية تتحول معها تلك العناصر الشعرية إلى حاضر حي وملموس، أشد كثافة من الماضي، و صلة الوصل الأهم مع المستقبل.

( هنادي زرقة ) :

شاعرة سورية من مواليد اللاذقية   1974 ، حاصلة على بكالوريوس هندسة زراعية عام

   1998صدر لها ديوان ( على غفلة من يديك ) عام    2001 وديوان (إعادة الفوضى إلى مكانها)، الذي نالت عنه جائزة محمد الماغوط عام  2004 ، أما جائزة احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، فنالتها عن ديوانها ( زائد عن حاجتي) عام 2008.

تتميز تجربة هنادي زرقة بموهبة واضحة، ورؤيا خاصة شكلت أكثر عناصرها الشعرية  بروزا، تمثلت ما تمتلكه الشاعرة من عمق معرفي وثقافي شامل، ووعي حاد، ولغة غنية أفصحت بها عن مخبآت نفسها، وما تحتويه من قيعان، وذرى نفسية ووجدانية، لغة تنبثق من ذات الشاعرة لا من خارجها، سخرتها بما تمتلكه من حرفية ومهارة في خدمة فكرتها،

عبر قصائد تتكون من صور شعرية قصيرة أشبه بالخاطرة،  تمكنت فيها تحميل قليل من المفردات، الكثير من الأفكار والشعر، كقصيدة ( عيد ميلاد )، وفيها تقول:

(شمعة

شمعة

أضع سنيّ على قالب حلوى

أفكر

هل بإمكاني

أن أبدأ

من الشمعة الأولى ؟!)

اعتمدت الشاعرة في التعبير عما يعتريها من هواجس، وأفكار، وأهواء، أسلوب المباشرة في كثير من الأحيان، بمصداقية، تجاوزت فيها بمهارة، ما تحمله المباشرة من فتور، وركود،  وتطويل، فغدت قادرة على منح صورها الشعرية مزيدا من التشويق والفتنة، والدهشة، والمفاجأة من جهة، وإحساسا بتتابع الزمن، ووحدة التجربة الإنسانية، وتكرارها عند القارئ من جهة أخرى، بتصاعد تدريجي نحو النضوج الشعري الواضح، عبر تمازج فريد مابين واقعها من جهة،  وكوامنها الروحية القلقة المراوغة من جهة أخرى،  تقول في قصيدة ( فراغ ):

(أفتح الباب

أرتطم بالفراغ

أرتبك

الفراغ كان ضيقا عليّ

 الفراغ كبير وقاسّ

الأماكن لم تعد تزدحم

كانت تنهدل وتنكسر

فيما أنزع شعري عن الوسادة

الوسائد تنعم بالذكريات.)

وتصور الشاعرة الصراع الأزلي مابين الريف والمدينة، وما تبثه المدينة من إغواء، تتداعى معه رغبات شباب الريف، بالتوجه نحو المدينة، وما تخلفه تلك الظاهرة من قلق في نفس الأمهات، والأبناء بآن معا، تقول في قصيدة (مدن ضائعة) :

(بقرط صغير

في أذني

وبدعوات أمي

خرجت من القرية

وعند باب المدينة

أضعت القرط

هززت جذع السماء

تساقطت

دعوات أمي

ومطر

غسل رائحة القش والتراب

من عيني)

يكشف النقاب عما تخبئه مرئيات المدينة، من جفاف روحي وعاطفي، ينتج بدوره إحساسا بالغربة والوحشة، وفوضى من الانتماء العاطفي لدى الأبناء، تقول في قصيدة (اللاذقية):

(كان على أشجارها

أن تحمل زفيرها

ورغبتنا

في حرق

كل ما هو

أخضر وحيّ

كل ذلك

لم يمنعنا

من مغادرتها

في

أول حافلة.)

بوعي، وحرية، وجرأة، وتمرد، تغوص الشاعرة في عوالم المرأة الخفية، وما يعتريها من رغبات نفسية، وجسدية، تكبحها غالبا الأعراف الاجتماعية، والتسلط الذكوري، فتتقمص بآن معا دور القاضي، والضحية، بسيادة وأناقة، مغرد ة خارج السرب النسوي المألوف، من رثاء الذات، والبكاء على أطلال الحبيب، والاستمتاع بدور الضحية، مؤكدة ما بين فكرة وأخرى، ما تتمتع فيه من فطنة وذكاء، وتقنيّة وحرفيّة شعرية، عبر ما تحمله جملها من أفكار مفاجئة، جعلتها أكثر فاعلية، وتشويقا، وفتنة، ودهشة،  تقول في قصيدتها ( فتاة أخرى ):

(عندما ترجمني

بحجر غيابك

تأكد

أنني

لن أدور كبركة راكدة، لأن عواصفا

كثيرة تعتمل داخلي

ستبتلع حجر غيابك

وترميه

بعيدا عن قلبي.)

وهذا ما تحمله قصيدة  (زائد عن حاجتي ) :

(فراشي أسنان

منافض سجائر

ثياب

رجال

أملك أشياء كثيرة

زائدة عن حاجتي

لا أعرف لمن أعطيها.

ومع قناعتي أنها زائدة عن حاجتي

مثل ظفر طويل يسهل قصه

أخاف أن أمنح شيء منها

فتنقص وحدتي.)

بثقة وكبرياء وشموخ، توجه للآخر (الرجل)، خطابها الحاسم فقول في قصيدة ( بيان ):

(أنا ..هنا

اقرأني

فضيحة

كنت أم فضيلة.

مازال الخيار حرا أمامك

أما أنا

فقد وهبتك مفتاح التجربة.)

تشكل ثقافة الشاعرة الشاملة،الرافعة الأساس لمشروعها الإنساني والشعري ، فعلى الصعيد الاجتماعي، تتجاهل هذه الأنثى الشاعرة، ما يعيق مسيرتها من تأويل وترّهات، تقول في قصيدة (تأويل):

(أمسد الضوء.

أفرشه على بساطي

أقذف كل تأويل خارج الدرب

أرسم كرمة

أدلي منها العناقيد

وأهم بصنع النبيذ.)

تفصح الشاعرة عما يخلفه ذاك الصراع مابين مكوناتها وأمنياتها الذاتية، ومكونات واقعها المرفوض،  من ألم ، تلجأ الشاعرة في تصويره للتشبيه، فتشبهه بكائن حي، سكن نفسها منذ نعومة أظفاره وصولا إلى مرحلة الهرم، للدلالة على حالة مزمنة من الألم، نأت معها الأحلام بعيدا، وهذا ما تصفه الشاعرة ب( الرغبة المؤجلة )،  فتقول في قصيدة بعنوان ( ألم ):

(الألم يهرم

لا يجف أمام العتبات

تحت شمس الظهيرة

الألم يكبر رغما عنا

ينشر بقعة من دقائقنا

يندفع في موج أحلامنا

يكسر شجر أنوفنا

نتبعه نحن الغاوين

الألم وحده ألف لا تلتف.)

تحمل بعض قصائد هنادي زرقة إلى جانب النضوج الشعري، نضوجا فكريا وسياسيا، هو حصيلة حالة من التفكر والتأمل الطويلين، ووعي حاد بما يحيط بها من واقع.

تقول في قصيدة ( كارل ماركس ) :

(/ إلى أين ترتفع الصلوات والابتهالات /

لرأس المال

مكان آخر

غير الرفّ

لرأس المال

دورة أخرى…

لا يكفي

لإطعام

الجوعى المبتهلين

أمام القديسيّين

الخيار ليس سهلا

كارل ماركس على العتبة.)

هكذا نرى أن هنادي زرقة، قد تمكنت من خط علامات فارقة في تأسيس كلاسيكية نسوية جديدة، في مسيرة الحداثة الشعرية، خارج الرتابة والمألوف الشعري السائد، عبر تجربة قوامها (الموهبة، والثقافة، والوعي، والجرأة)، ملامح خاصة، أضافت للساحة الشعرية مزيدا من الجدة والتطوير، مشكلة حلقة التواصل المفقودة،  مابين فكرة الحداثة من جهة، والتراث الأدبي من جهة أخرى، حيث تمكنت من تحريك الراكد والساكن في الحياة الثقافية، ونفض شيئا من الغبار الذي يعتري القصيدة السورية الحديثة.

عن سلام شربجي

شاهد أيضاً

تداعيات حرب 2023 / 2024: رغيف خبز الفلسطينيين المغمس بالدم

 (بنيامين نتنياهو) بعد أحداث 7 أكتوبر، وعزز قوله هذا وزير دفاعه (يوآف غالانت) حين قال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *