من أوراق مخيم اختصر وطناً: بعيوني وعلى لساني(3)

الورقة الثالثة

ما زلت أذكر عصر ذلك اليوم من كانون، حين كانتا سيارة الطحين وشاحنة المازوت متوقفتان عند جامع البشير بانتظار السماح لهما دخول المخيم، كانتا محملتين بنحو خمسة عشر طناً من الطحين وحوالي خمسة آلاف لتر من مادة المازوت، تكفي لسد رمق المخيم وسكانه من الخبز لمدة أسبوع على الأقل.

“لن يدخل الطحين إلى المخيم ولو على جثتي”.. هكذا صرخ أحد مسلّحي القيادة العامة، الذي كان واقفاً قرب عناصر الحاجز العسكري السوري.  ” ما على كيفك!” رد عليه أبو خطا بذات وتيرة الصراخ وهو يناول كتاب نائب رئيس مجلس الوزراء إلى مسؤول الحاجز، الذي تفحصه مليّاً و قلّبه ثم ابتعد خطوات ليجري اتصالاً مع “المعلم”، وأخيراً عاد وهو يقول: “لازم تلحقوا تنزلوا الطحين وتفضّوا المازوت قبل ما تعتّم الدنيا”. وسرعان مت تحركت سيارة المازوت لتتبعها سيارة الطحين وما إن تجاوزت هذه الأخيرة مبنى البنك العربي ببضعة أمتار حتى صارت أسبه بدريئة رصاص جاءها من جهة الحاجز. اعتبرنا ذلك مجرد رد على “نزق” أبو خطّاب. والشيء بالشيء يذكر، ما زلت أذكر ما قاله لنا، في أحد اللقاءات د. طلال ناجي الأمين العام المساعد للجبهة الشعبية-القيادة العامة بأن: “أكثر قادة المجموعات الذين كانوا محسوبين على جبهتنا أصبحوا الآن إما في الأمن الجوي أو في الدفاع الوطني”، ولا أعلم، في الواقع، فيما إذا كان هذا القول يبرّئ جبهته أم يدينها أكثر.

استقبل أهالي المخيم السيارتين بالأهازيج و الزغاريد.. وجرى توزيع حصص الطحين والخميرة والمازوت على ثلاثة أفران: فرن أبو فؤاد في شارع اليرموك وفرن أبوصيام في شارع الجاعونة و فرن الجزيرة في شارع الـ 15.

وعلى جري العادة، مثلما استُقبل شباب الهيئة الذين أدخلوا الطحين والمازوت بوابل من رصاص وقناصة ميليشيا النظام، استُقبلوا أيضاً، باتهامات مغرضة دنيئة، لا تصدر بمطلق حال عن نفوس نبيلة، اتهامات من مناضلي ربع الساعة الأخيرة، مرتزقة فصائل المعارضة المسلحة في المخيم، متهمة أعضاء الهيئة بالعمالة للنظام(1).

نجاح الهيئة بإدخال الطحين والمازوت وتشغيل الأفران، بالتوازي مع بدء المدارس البديلة، عزّز ثقة الأهالي بأدائها وزاد من التفاف الناس حولها، كما شجّع المزيد من الشباب على الانخراط في لجانها. ونظراً للإقبال المتزايد للمتطوعين، أصبح مكتب الجبهة الديمقراطية أضيق من أن يستوعب أعداداً إضافية، واقترح حسام جلبوط أن تنتقل الاجتماعات إلى استراحتين واسعتين كان يملكهما ( السلام والنواعير) والواقعتين في ندخل شارع لوبية من جهة شارع اليرموك. ولا أحسبني أبالغ إن قلت عن هذا الحسام أنه مجموعة أشخاص في شخص واحد، وهو، لمن لا يعرفه، أحد الفعاليات الاقتصادية الهامة في المخيمـ يبلغ العقد الرابع من عمره , خلوق ووسيم و أنيق اللباس، هادئ ويمتلك قدرة عالية على المحاججة، وكشأن سائر رجال الأعمال، كانت تربطه علاقات مميّزة مع ضباط المخابرات، وكما كان يوظّف علاقاته هذه في تسهيل أعماله ومشاريعه، فقد استطاع أيضاً أن يثمّر هذه العلاقات، بشكل ما و بمستوى ما، لخدمة المخيم. ويمكنني القول، واثقاً، أن ما قام به حسام جلبوط، وبزمن قصير، من أجل المخيم، عجزت عنه الفصائل الـ 14 بأكملها عن القيام به، ليس لأنه يتمتع بقدرات خارقة، بل لأن تلك الفصائل وضيعة وجبانة(2)، فقد نجح ف إقناع العميد سهيل رمضان، رئيس فرع فلسطين، آنذاك، في السماح بعودة ن يرغب من الأهالي في يوم “الرجعة الأولى” إلى المخيم(3).

ومثلما كان لنجاح الهيئة صدىً طيباً لدى الأهالي، كان لهذا النجاح وقعه السيئ و الممض عند قادة الفصائل الفلسطينية  في دمشق، وهذا منطقي وله ما يفسّره، ولا أقول ما يبرره. إذ كيف لمجموعة من المستقلّين و بعض أعضاء فصائل م ت ف أن تحقق هذا الانتشار الواسع و تحرز هذه “المكاسب” للمخيم، في الوقت الذي من المفروض أن تكون هذه الأعمال جزءً من وظيفة قادة الفصائل أنفسهم، وهم المتفرّغون الذي يتقاضون مخصصاتهم من رام الله من أجل توفير حاجات شعبهم المختلفة وخاصة في أوقات الأزمة!؟، وكما يقال ” الحلو مابيكملشي”, فقد شهدت الهيئة بدءً من هذه اللحظة تدخلت فصائلية سافرة سوف تكون بمثابة مسمار أخير يُدق في نعشها، ومنذ أن بدأت الهيئة أعمالها و أنشطتها، ضمّت في صفوفها أفراداً من منابت و مشارب سياسيّة واجتماعية مختلفة، كان منهم المستقل والمنظّم والمحزّب، مثلما كان منهم الغني والفقير ومتوسط الحال، إضافة إلى تواجد لافت لأصحاب مهن واختصاصات متنوعة.. إنما، وللحق، شكّل الشباب جسم الهيئة الأساسي مما منحها قدرة واسعة على الحركة والسرعة في أداء مهامها، وللحق أيضاً، فإن ما جمعهم وجعلهم على قلب رجل واحد هو قضية مخيم اليرموك الذي بناه آباؤهم و إخوانهم بجهد وتعب مضنيين، ربما من أجل هذا طانوا يقبلون على العمل بعزيمة لا تلين و تصميم قلّ نظيره، وهذا باعتقادي ما غاب عن قادة فصائل دمشق، أي القضية الجامعة التي ربطت شباب الهيئة بقوة و شدّتهم لبعضهم البعض. فإذا كان غياب القضية هو ما حال دون أن يكونوا على قلب رجل واحد. وهو أيضاً ما كرّس، ولازال يُكرّس وسيستمر، حالة التشتت والتباعد بين الفصائل عموماً وبين فتح وحماس بصورة خاصة. فهذا يؤكّد، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، إن قضيّة فلسطينيي سورية، شأنها شأن القضيّة الأم كانت  آخر همّهم، لتتقدّم بدلاً عنها قضيتهم هم، أي المناصب والامتيازات والمكاسب التي غنومها خلال عقود، وعلى جثث مئات آلاف الشهداء وعشرات آلاف الأسرى والمصابين.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت حاجة المخيم إلى فريق عمل موحّد يقف على مختلف متطلبات سكّانه قد تجسّدت في الهيئة الأهلية، فهذا لايعني، بأي حال، أنها كانت الوحيدة، فقد شهد المخيم تجارب مهمة لكيانات وهيئات شبابية نشيطة لم تكن أقل شأناً، منها:

*الهيئة الخيرية الفلسطينية: وتتبع حركة الجهاد الإسلامي، لها عدّة مراكز في دمشق لتوزيع الإعانات. وكان يقع مركزها في المخيم في مدرسة الفالوجة في شارع المدارس. ومن ابرز نشطائها على ما أذكر: أبو العبد عريشة، أبو العبد شمدين، أبو أيمن شمدين، والأخوين التوأمين الرائعين جداً دياب ورضوان عيسى، عدنان قاسم (سائق الميكرو لخاص بالهيئة) شاب في مقتبل العمر صاحب قلب حاضر، كان يتنقل بميكرو الهيئة الخيرية، الوحيد في المخيم، بسرعة مذهلة بحثاً عن إصابات إثر سقوط كل قذيفة، لينقلها إلى مشفى فلسطين أو إلى مشفى الجمعية الخيرية الفلسطينية قرب حديقة جامع عبد القادر الحسيني.

*هيئة فلسطين الخيرية: وتتبع حركة حماس، وكان لها مركزان لتوزيع المواد الغذائية : الأول في مدرسة الجليل بجانب جامع عبد القادر الحسيني، والثاني خلف الجامع المذكور مباشرة، وكان من أبرز نشطائها، أبو صهيب الحوراني وأبو معاذ الشرعان.

*التجمع الأهلي الفلسطيني: وكان مقره في مركز مكافحة المخدرات، خلف إعدادية المنصورة، وقد ضمّ نخبة من مثقفي المخيم الأنقياء ، وأذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، أبو سلام السعدي، لؤي الكبرا، وفيق النعيمي، عادل عمر، محمود شواهين، نبيل إبراهيم، أبو العبد عصام، ماهر الشهابي، وعبدالله الطيب.

*مؤسسة جفرا: وكان مركزها في استراحة جفرا في شارع اليرموك بجانب مكتبة الرشيد, وكانت تضم ناشطين شباب منهم: أحمد برغيس، أسامة موسى، أحمد عبّاسي، ياسر عمايري.

*مؤسسة بصمة: وكان مقرّها الرئيسي بجانب صالة السّوار من شارع الثلاثين باتجاه سوق الخضار، وكان مجمل نشطائها من الشباب المتحمس مثل: أحمد كوسا، منير الخطيب، فراس ناجي، سمير عبد الفتاح، يزن عريشة، قصي قاسم، خليل أحمد، أحمد حجّو، معتصم أبو خميس، أبو سلمى خليل، عبد الله الخطيب.

وما ميّز الهيئة الأهلية عن غيرها من الهيئات و المؤسسات المذكورة طابعها الأهلي “المخيمجي” البحت، فضلاً عن وقوفها على مسافة واحدة من طرفي الصّراع، بالإضافة إلى اتصالاتها المباشرة مع الفصائل الفلسطينية بدمشق ومع الحكومة و المعارضة (رغم المخاطر الهائلة التي كانت ترافق هذه الخطوة)، وفوق كل هذا، كان تمويل ودعم الهيئة -على شحّه وندرته- من الفصائل الفلسطينية، بينما الهيئات و المؤسسات الأخرى آنفة الذكر كانت تتلقى تمويلاً من جماعات وافراد وهيئات وجهات فلسطينية وعربية وأوروبية مختلفة. والآن، على فرض أن ما سبق ذكره يسجّل في ميزان إيجابيات الهيئة الأهلية، فثمة ما يجب تسجيله هنا، للحق، على أنه في ميزان سلبياتها، هذه المرّة، سلبيات من النوع الذي قد يرقى إلى مستوى الجرائم، خاصةً عندما يتعلق الأمر باستغلال حاجات الناس وعوزهم الشديد لأغراض لا أخلاقية(4).

خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الأزمة، قدّمت م ت ف سلالاً غذائيّة على ثلاث دفعات، كانت المدة الزمنية الفاصلة بين كل دفعة حوالي السنتين، بالإضافة إلى تقديمها مبلغ 1500 ل.س على دفعتين أو ربما أكثر، فلست متأكداً من عدد الدفعات المالية، لكن من المخجل فعلاً الحديث عن هكذا مبلغ تافه، ومع ذلك ثمّة من هو بحاجة إليه، وما علينا سوى أن نقدّمه من فم ساكت، كما يقال، أولاً لأنه من حقه، وثانياً لأن ذلك من واجبنا أولاً وأخيراً.

وحين تقوم السلطة الفلسطينية بتقديم الإعانات للمخيم فلأنها تعلم أن ناك ارتفاع ملحوظ في معدلات البطالة و تراجع ملموس في سوق العمل، وبالتالي، ازدياد عدد ذوي الاحتياجات المادية إلى حدٍّ كبير. وحتى تنفذ السلطة عملية توزيع السلال الغذائية والأموال النقدية وسواها، يفترض، والحال هذه، أنها ستحتاج إلى أفراد أو جماعات يتمتعون بمؤهلات محددة كي يتمكنوا من إنجاز مهمتهم على نحو أمثل و بما يعود بالنفع أولاً وأخيراً على عموم مستحقّيها. ومن هذه المؤهلات باعتقادي:

-رحابة الصدر ورجاحة العقل و البال الطويل.

-التواضع الجم، وإشعار الناس أن وظيفتك هذه من أجل خدمتهم و ليس للتسيّد عليهم أو استغلال حاجتهم.

– حسن التواصل اللفظي والمرونة العالية أثناء تلبية حاجات الناس.

-ليس بالضرورة أن يشارك من لا تتوفر فيه  الصفات السابقة في العمل، فلو قعد في بيته لن يلومه أحد بلا شك. وهذا أمر ممكن و أقل من عادي.

وأزعم، هنا، أن هذه المؤهلات غير متوفرة ولا تنطبق على من عيّنته حركة فتح ( وأقصد السيد علي العبدو الشهابي، أبو محمد)، لتوزيع إعاناتها المالية ومساعداتها الغذائية، لا بل كانت ممارساتها في هذا السياق تناقض ذلك وعلى طول الخط. فحيث يجب أن يكون حليماً وطويل البال، كان نزقاً سريع الهياج وشديد الغضب(5). وفي الوقت الذي يفترض فيه أن يكون خادماً متواضعاً لأبناء شعبه المكلومين تجده متغطرسا متسيّداً  فاقداً أدنى درجات اللباقة. وإذ ينبغي ان يكون حلو اللسان لطيف الحديث كان شتّاماً سبّاباً إلى أبعد الحدود. وفي هذا السياق عليّ أن أذكر نقطة لا تخلو من الطرافة؛ فجميع الهيئات التي كانت تصلها مساعدات غذائية؛ كانت توزّعها بسلاسة وهدوء من فم ساكت ومن غير أي ضجيج، إلا المساعدات التي كانت تصل الى الهيئة الأهلية ويقوم على توزيعها السيد علي عبده الشهابي، لا أبالغ إذا قلت أنكم سوف ترون فضيحة ماكنتم لتتخيلوها بإطلاق!.. فوضى وتدافع وصياح وصراخ وبهدلة وقلّة قيمة لها أول وليس لها آخر..

لا شك أن الاحتكاك المباشر بالناس الذين يعانون نقصاً في احتياجاتهم المادية ليس بالأمر السهل إطلاقاً، وإن العمل الأهلي هو من أقسى الأعمال الاجتماعية وأكثرها إجهاداً وارهاقاً وذلك لعدة أسباب؛ منها ما يتعلق بانعدام الوعي الجمعي عند أغلب السكان، ومنها ماله علاقة بصعوبة إرضاء جميع الأفراد والأسر، ومنها ما يرتبط بحاجتهم الضاغطة ذاتها، إذ ليس عبثاً قيل أن “صاحب الحاجة أرعن”!، إلّا أن ضبط النفس أثناء التوزيع مع قليل من الإرشادات الجماعية والفردية بين الحين والآخر إضافة إلى بعض التعزيزات الايجابية أو السلبية في آنٍ؛ لا بد وأن ينعكس إيجاباً على سير عملية التوزيع. وأذكر أنني، ومعي زكريا عبدالله (ابو ربيع) وأبو أحمد هواري، تعرّضنا لتجربة توزيع سلال غذائية لمدة أسبوع كامل، من الساعة السادسة صباحاً ولغاية الخامسة مساءً، أي كلما كان ليل كانون يدنو من سماء المخيم. وبعد ذلك الأسبوع الشاق والعسير، تنفست الصعداء ما أن انتهينا من توزيع جميع المواد، لابل أعترف أنني شربت وأبو ربيع ليتراً كاملاً من عرق الريان، بعد أن أقسمت على ألاّ أكرر التجربة ثانية مهما كان الثمن !، وقد بدأت الحكاية عندما حاولت، كتيبة من لواء أبابيل حوران (أحد فصائل الجيش الحر)، الاستيلاء على كميات هائلة من المؤن الموجودة في مستودعات مركز الإعاشة التابع لوكالة الغوث  (الأونروا)، والمخصصة عادةً للأسر عديمة الدخل في المخيم. (علمنا ، فيما بعد، انه كان من المفروض ان توزّع على مستحقيها في موعدها المحدد إلا أنه وبسبب مغادرة موظفي المركز على أثر “ضربة الميغ” بقيت المؤن في المستودعات على حالها. ويبدو ان أحد جواسيس الجيش الحر قد بلّغ عنها، تماماً مثلما كان لنظام الأسد جواسيسه ومخبريه في المخيم، فقد صار للجيش الحر عملائه وعواينيّته أيضاً). ففي صبيحة ذلك اليوم وأثناء محاولة نقل المؤن إلى الشاحنات المتوقفة بجانب المركز في شارع القدس، أحسّ الجيران، والنساء بخاصة، بمحاولة السرقة فما كان منهم إلا أن هجموا على المسلحين بالعصي والحجارة.. ومنعوهم من سرقة المؤن؛ لا بل وأجبروهم على إعادتها الى المستودعات كما كانت، ولكم ان تتخيّلوا المشهد لو كانت إحدى كتائب الأسد هي من يقوم بعملية السّطو وليس الجيش الحر، هل كان ليكفيهم قتل جميع سكان الحي؟!. نبّهت هذه الواقعة الهيئة الأهلية الى ضرورة العمل على إفراغ المستودعات وذلك بتوزيعها على السكان وبسرعة، قبل ان تأتي كتائب أخرى، مشبوهة وغير مأمونة الجانب، كعموم ألوية الحجر الأسود وخاصة لواء صقور الجولان ولواء الجولان وتستولي عليها. ومنذ البداية، جرى الاتصال بمسؤول عمليات الإغاثة بمكتب الأونروا بدمشق آنذاك (السيد عبدالله اللحام) حيث أحيط علماً حول رغبة الهيئة في إفراغ مستودعات مركز الإعاشة وتوزيعها على سكان المخيم(6)، خاصة وأن الجميع في فاقه وعوز شديديْن، بعد الموافقة تم الاتفاق على توزيع الكميات بالتساوي وإرسال جدول تتضمن أسماء الأسر مع الرقم الرمزي لكل أسرة(7). كانت المستودعات مليئة بأكياس الطحين والسكر والأرز والفاصولياء والعدس وكراتين ضخمة تكدّس فيها أعداداً هائلةً من علب حليب الأطفال وعبوات زيت عباد الشمس. وبالإضافة لشباب الهيئة تبرّع عدد كبير من الجيران للمساعدة في إعداد السلال الغذائية وتجهيزها للتوزيع. كان أغلبهم من النساء وخاصة ممن منعنَ المسلحين من الاستيلاء عليها. وما لم تخني الذاكرة ، تم توزيع نحو 4500 سلة غذائية تضمنت كل سلّة على: 5 كغ طحين و5 كغ سكر و5 كغ أرز و4 كغ فاصولياء و4 كغ عدس و3 علب حليب أطفال (وزن العلبة 1 كغ) و5 عبوات زيت. كنا في كل يوم ما أن ينتهي نهار التوزيع حتى نغلق أبواب المستودعات بإحكام وننبه الجيران على أن يبقوا متيقظين، ونعود في رتلين متجاورين إلى مكتب الهيئة القريب. لأخذ قسط من الراحة مع الشاي وتحضير جداول التوزيع لليوم التالي. وهكذا صارت الهيئة محل  ثقة واحترام الناس، وهذا ما دفع بمتطوعيها إلى أن يبذلوا جهداً مضاعفاً  كي يكونوا عند حسن الظن وذلك بأن يتعرّفوا واقع الناس أكثر؛ ويقفوا على متطلباتهم وصولاً إلى تلبية احتياجاتهم دون أي إبطاء.

عاش سكان المخيم لأكثر من عشرة أيام في اكتفاء غذائي، كانت الأسر تتبادل المواد فيما بينها تبعاً لحاجتها الضرورية وضمن مستوى لافت من الإخاء الإنساني والتكافل الاجتماعي، فالأسرة التي لا أطفال لديها كانت تعطي أكياس الحليب للأسرة التي لديها أطفال، والأخيرة كانت تعطيها زيتاً أو طحيناً أو عدساً وهكذا..

لم تتوقف القذائف عن استهداف أحياء المخيم، لا بل أصبحت أشبه بزائرٍ ثقيلٍ كريه يثير السخط والهلع معاً؛ كان من الممكن أن يكون غير ذلك، أو بالأحرى أخفّ وطئاً، لو منح “مستقبليه” فقط بضع دقائق بدل الثواني القليلة التي تسبق قدومه الغدّار والمدمّر.. إنما بجميع الأحوال سيبقى قاتلاً أشرّاً في ضمائر من فقدوا فلذات أكبادهم وأحبائهم. إحدى تلك القذائف  كانت من نصيب بيتي عندما سقطت على غرفة النوم بعد أن كنت قد رتبت فراش سريرها الوثير، على غير عادتي، قبل أن أغادر المنزل (لحسن حظي كان أفراد أسرتي- آنذاك- قد غادروا المخيم إلى مدينة دمشق) فنقلت مكان العيش إلى الطابق الأرضي حيث كانت تقيم الوالدة قبل أن يتوفاها الله في شهر تموز 2011. وقد علم الصديق زكريا عبدالله  بأمر تلك القذيفة الرعناء، فأصرّ على أن أنتقل إلى شقّته الأرضية، التي كان يستخدمها كمكتب تجاري، والواقعة خلف محلات الأهرام مباشرة في شارع القدس، لنتشارك العيش معا. شقة ارضية من عدة غرف وصالون. مدخلها الوحيد كان من حارة مغلقة زرع فيها شجرة ليمون وشجيرة ياسمين وزنابق ملوّنة وبعض الغراس الفواحة متل الريحان والكالونيا، وعلّق على حائطها المقابل قفصاً واسعاً لكنار صدّاح أضفى على المكان ألفة وعذوبة. اتفقنا على أن تكون الغرفة المطلة على هذه “الحديقة” الباذخة مطرحنا الثابت. في زاويتها اليمنى تقبع طاولة مكتب متواضعة، عليها هاتف ومنفضة سجائر كريستال، وأريكتان متقابلتان تتوسّطهما  طاولة خشبية “تربيزة”، أصبحت طاولة متعددة الأغراض تفاديا لإشغال بقية الغرف وما يترتب عنه من تنظيف ومسح وشطف وخلافه.. علماً بأن الترتيب والتنظيف والمسح وتغيير أماكن الأثاث.. من أبرز صفات صديقي (أبو ربيع) إنما أيضا كان من أكثر أسباب  اختلافنا.. سوف تظلُّ هذه الغرفة ملاذنا الآمن طوال شهور حصار المخيم القاتل والرهيب . كما ستكون شاهداً على عديد من النقاشات والسهرات اللطيفة حتى أوقات متأخرة من الليل؛ على ضوء اللّيدات أو الشموع (8) قبل أن تصبح أثراً بعد عين، نتيجة قصف الطّيران الكثيف الذي أتى على جميع الأحياء خلال حرب “تحرير” المخيم من عشرات الدواعش الذين رحّلهم النظام إلى شرقي السويداء في وقت لاحق!.

منذ القدم شكّل توفّر الغذاء والماء أهم عوامل استقرار الانسان. كان الماء، على قلّته، متوفراً وبات إدخال سلّة غذائية واحدة أشبه بمعجزة نظراً للعراقيل التي كانت تحول دون إدخالها. سواء من جانب حواجز النظام المحيطة بالمخيم، حيث كانت تتعامل مع من بقي من سكان المخيم بوصفهم “بيئة حاضنة” وبالتالي فإن الإعانات “ستذهب إلى المسلّحين” وفق فهمها ! او من جانب فصائل المعارضة المسلحة ، بحجة ان هذه المساعدات “مشبوهة” والهدف منها التحريض عليهم، ومعلوم أنه في تلك الفترة قرر عناصر حاجز شارع نسرين التابع للنظام، والمتمركزين عند مدخل المخيم  الشمالي من جهة  مركز الشهيدة حلوة زيدان، منع إدخال الكراتين الغذائية المقدمة من حملة الوفاء الأوربية، فاقترحنا إدخالها من جنوبي المخيم، من جهة حاجز الكابلات، واضطرت النساء إلى السير حوالي 8 كلم، ذهاباً وإياباً، للحصول على حصص أسرهن منها؛ بعد استلام حوالي 20 كرتونة جرى تبادل إطلاق نار من مسلحي الحجر الأسود وقوات النظام فتوقف التوزيع. وأمام هذه الصعوبات  الكبيرة في تأمين دخول المساعدات، وجدت الهيئة أن دعوة السكان، الذين غادروا المخيم، إلى العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم قد يكون حلاً منطقياً لعدة اعتبارات:

– الضغوط المادية الهائلة التي واجهت هؤلاء ستدفع بهم إلى العودة.

– تبديد فكرة “البيئة الحاضنة” عمّن بقي من سكان المخيم.

– ازدياد نسبة السكان قد يضع الحكومة والفصائل الفلسطينية أمام ضرورة تأمين احتياجات هؤلاء أو تسهيل مرور الإعانات إلى المخيم بالحد الأدنى.

– رجوع السكان إلى بيوتهم يجعل من بقاء فصائل المعارضة المسلحة في وسط المخيم أمراً صعباً، مما يدفعهم إلى التمركز في المحيط وعند نقاط الاشتباك.

وبناء على ذلك جرى الإعلان عن “يوم العودة إلى المخيم”  عن طريق نشطاء و أصدقاء الهيئة في احياء مدينة دمشق المختلفة ومن خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. ومن خلال  تشجيع أقارب وجيران من بقي في المخيم، على ذلك، تم الاتفاق على أن يكون يوم السّبت الموافق لـ 12-1-2013  يوم العودة الموعود(9).

ويا له من مشهد: سحب داكنة ملبدة تتدافع في سماء المخيم تمهّد لعواصف رعدية وهطل مطري شديد، حشود هائلة تجمّعت صباح ذلك السبت بمحاذاة جامع البشير عند دوار البطيخة. الأوتوستراد الممتد من البطيخة شرقا باتجاه الزاهرة الجديدة كان قد غصّ بالسيارات الخاصة والعامّة، الميكروباصات والشاحنات والعربات.. جميع هذه الأفواج المختلطة كانت تنتظر اشارة الدخول إلى المخيم. فجأة سمعنا صوت رشقات رصاص متتالية تنبعث من جماعة الجبهة الشعبية-القيادة العامة، المتمركزة في بناية البنك العربي (يسار مدخل المخيم).

– “هييييي انت ويّاه ، وَلْكُم ليش عمّا اطّخوا” !! صرخ أبو أحمد فؤاد، نائب الأمين العام للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين الذي كان يقف مع بعض قادة الفصائل الفلسطينية بمحاذاة جامع البشير.

– “محتفلين بعودة الناس للمخيم” رد عليه أحدهم بصوت يشبه خوار البقر.

في هذه اللحظات بدأت الجموع بالتقدم إلى داخل المخيم، المشاة من الطريق الأيمن والسيارات من الأيسر، استؤنف إطلاق الرصاص بكثافة، لكن هذه المرّة من الطرفين ( كانت فصائل المعارضة تردّ على ميليشيا النظام من مواقعها في ساحة الريجة.). سادت الفوضى ودبّ الهلع والذّعر بين النّاس، طغى عويل النسّاء على ما سواه حتى على أصوات السيارات التي كانت تمخر الشارع من غير تقدم يُذكر بسبب كثافة الازدحام. خلّف هذا “الاستعراض” بالرّصاص الحي العديد من الضحايا المدنيين بين قتيل وجريح؛ لتصبح سيطرة “القبيح بعد إسكات المليح” أحد أهم تداعيات الصّراع الفجائعية، المدنيون فيه كالأيتام على مائدة اللئام. وقد ذهب ضحية هذا الاشتباك  خمس شهداء وضعفهم من الجرحى. اذكر من الشهداء صاحب دار الشجرة الكاتب غسان الشهابي، وناصر فوزي حميد، وربا عدنان قنو، وعلياء أبو الشكر وكنّتها.

عائلات كثيرة عادت إلى بيوتها بعد مضي نحو سنة عن مغادرة المخيم وإقامتها في الأماكن المجاورة؛ لتقع فريسة جشع سماسرة البيوت وتجّار الأزمات، فقد فاقت أجرة البيوت كلّ تصوّر، فالبيت الذي كانت أجرته لا تتجاوز العشرة ألاف ل.س، أصبح بثلاثين أو أربعين ألفاً. كل شيء أصبح خاضعاً للعرض والطلب! . و أغلب العائلات العائدة إلى المخيم كانت تقيم في حارة المغاربة وحارات شارع صفد، وللمفارقة فإن أغلب القذائف التي كانت تتساقط على المخيم كانت تستهدف هذه الأماكن بشكل أساسي؛ وكأن ثمّة من لم يكن راضٍ عن عودة هؤلاء إلى المخيم !، بدا ذلك جلياً من الاستعراض الدّموي الذي ترافق مع دخول الأهالي إلى المخيم، وأيضاً من خلال الاستهداف اليومي المتكرر للأحياء التي يقطنون فيها. وإذا عرفنا أن جميع الميليشيات التي تحاصر مداخل المخيم تابعة ، بشكل او بآخر ، للحرس الثوري الإيراني وان المخابرات الجوية والفرقة الرابعة وملحقاتهما من فصائل المعارضة المسلّحة، مثل لواء الجولان وصقور الجولان والنصرة ولاحقا داعش؛ مع خيار الحسم العسكري الأمني؛ بالضد وعلى طول الخط عن الخيار السياسي والذي يمثله قدري جميل وفريقه على ضعف وانعدام تأثيره بسبب افتقاره الى الأنياب والمخالب.. إذا عرفنا ذلك يصبح مفهوماً سرّ تواصل القصف على أكبر تجمع فلسطيني في الإقليم وليس في سوريا وحسب. مّما يسمح بالاستنتاج أن عودة المخيم إلى سابق عهده أو بالحد الأدنى عودة سكان المخيم إلى بيوتهم وممتلكاتهم؛ لم يكن من ضمن أجندة طرفي الصراع، بالأحرى قد يكون اجتثاث المخيم برمّته واحد من القواسم المشتركة بينهما.. لمَ لا؟!

………….

هوامش

1- لكي يتم تقريب الصورة أكثر، كانت مثل هذه الاتهامات الكاذبة و الخادعة و المضللة كافية لزج صاحبها في سجن جبهة النصرة الرهيب في الحجر الأسود، مثلما حصل مع أبو خطاب نفسه، مسؤول الانضباط في الهيئة ، وربما ذات الأمر حصل مع أبو هاشم زغموت من لواء زهرة فلسطين ولاحقاً القائد العسكري للعهدة العمرية.

2- أذكر أنه خلال أحد اجتماعات لجنة العلاقات العامة في الهيئة بالسفير أنور عبد الهادي، دار بيني و بينه الحوار القصير الآتي:

– الأمن لديه قناعة راسخة أن اليرموك منطقة عسكرية

– تمام، هذه قناعة الأمن، أنت كسفير شو قناعتك؟

– يا أخي قناعتي ليست مهمة، المهم قناعة الأمن

– كأنك سفير الأمن علينا مش العكس. .. وقد قلت جملتي الأخيرة بغضب واضح.

3- لن أنسى، ما حييت، ذلك اليوم الماطر من أيام كانون الثاني 2013 حين أحضر حسام جلبوك تركساً ضخماً إلى “ساحة البطيخة” لإزالة الحواجز الترابية من الطرقات، تمهيداً لتفعيل حركة السير، عشيّة إعلان الهيئة عن “يوم العودة” لقد كان حساماً في منتهى الحماس وهو يتسلق التركس ويجلس بجانب لسائق مرشداً له و موجهاً.

4- من الجريمة استغلال حاجة الناس لأغراض دنيئة وغير أخلاقية، خاصة وأن الإعانات أتت من أجلهم، فلولا وجودهم لما كان هناك إعانات اصلاً.

5- أذكر أنه تعرض أكثر من مرّة لردود أفعال جسدية خشنة كانت، بكل تأكيد، تثير حنق وغضب شباب الهيئة على المعتدين. وعلى أمل أن يعدّل من سلوكه، لكن الطّبع كان يغلب التطبّع دائماً.

6- سبق هذا التنسيق مع مكتب الإغاثة لقاء بعض نشطاء المخيم، في دمشق  بالسيد مايكل كينجسلي نيناه، مدير شؤون وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، كان قد مهّد له السيد علي مصطفى مدير الهيئة العانة للاجئين الفلسطينيين.

7- بطاقة التسجيل في الأونروا “الكرت الأبيض” وعليه الرقم الرمزي الخاص بفلسطينيي سوريا المسجّلين في الأونروا. وللحق، كان مكتب الأونروا متعاوناً ، إذ حين علم أن ثمة أسر سوريّة داخل المخيم ( وهي بطبيعة الحال  ليس لديها مثل هذه البطاقة والرمز)؛ جاء الرد “في هذه الحالة يرجى كتابة اسم رب الأسرة الثلاثي ومكان سكنه في المخيم”.

8- أبرز من كان يتردد على هذا “المكتب”: أبو خلدون هللو، أبو أحمد هواري، أبو خطاب، بسام القربي، أبو نسيم عبود، أبو الجاسم قواريط، علي عبده الشهابي، محمود يونس، أبو محمد سليم (امبراطور الغاز) وحمودة الشهابي و بشار الحسن.

9- سبق أن دعت الهيئات والمؤسسات الأهلية إلى دعوة مشابهة بتاريخ 22-12-2012 ، وكان عدد الذين دخلوا واستقروا في المخيم أكبر ممن خرجوا منه.

عن ياسر جلبوط

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *