سوق كفر سوسة من ألبوم الكاتب

مقاطع من سيرة ذاتية (4)

الورقة الرابعة

” الحقبة الكفرسوسانية” في كفرسوسة.

على ظهر عربة خشبية بدائية،”الطنبر” يجرها بغل، ويقودها رجل من فلاحي المزة، حمَلنا ” أثاث بيتنا”، وأنزلناه في مستقر سكننا الجديد في بلدة “كفرسوسة”. وفيها أمضينا عقدين ونصف تقريبا، قبل أن نمتلك أرضا صغيرة 144 متر تقريبا، في مثلث يقع بين داريا والمزة وكفرسوسة، أطلق عليه اسم ” حي المهايني”، نسبة لمالك الأرض السابق، وعليها شيدنا أول بيت نملكه، متجاوزين خسارة حقنا في قطعة أرض في مخيم اليرموك،  لتعنت جدي ورفضه للتملك في أرض ليست لنا ، كما هو حال أكثر عائلات اللاجئين الفلسطينيين.

كفرسوسة أكثر قربا لدمشق قياسا بالمزة، وإن كان الفرق في المسافة لايزيد عن كيلو ونصف كيلومتر.

كيف اتسعت تلك العربة الصغيرة لأثاث بيت أسرة تتكون من خمسة أشخاص( أبي وأمي وشقيقتي خديجة وشقيقي أحمد). أما جدي ومعه جدتي فلقد بقيا في غرفتهما بالمزة، فهي موجودة في بستان مفتوح على الهواء الطلق، وكان جدي يقضي نهاره خارج الغرفة إلا وقت النوم، وفي الصيف ينام خارجها على ” مصطبة، وتسمى أيضا القصة”. وان كان الفصل ربيعا، كان جدي يقرأ الطقس ودرجات الحرارة من النظر إلى السماء ليلاً، وبعدها يقرر إن كان النوم خارج الغرفة ممكنا.

أعود لأثاث البيت الذي اتسعت له عربة خشبية صغيرة يجرها بغل. أثاثنا لا أسرة فيه ولا خزن، لا سجاد ولا كنبات، لا براد ولا غسالة ولا راديو ولا تلفزيون. أثاثنا ثلاث فرشات ومثلها من الألحفة،(والرابع هو لحافي في الطفولة الأولى الذي أصرت أمي على ترحيله معها في تراكتور عارة وعرعرة) وبعض البطانيات، وطنجرتي المنيوم ومقلاة وعدد من الصحون والملاعق،وإبريق شاي وكاسات، وصندوق خشب مغلف بالمخمل والمعادن، فيه ثيابنا الداخلية والمناشف، وعدد من ” بقج الثياب”.

في اليوم التالي ” للحقبة الكفرسوسانية” حضر لزيارتنا عبده نزهة، ابن المرحومة أم اسماعيل نزهة، صاحبة بيتنا في المزة، ليدعونا وبإصرار للعودة إلى بيتنا- بيتهم، في المزة، فهو حين رحلنا لم يكن موجودا. كان غاضبا من انتقالنا، يريد لنا البقاء عندهم، وكم كان شهما هو وأمه وأخويه اسماعيل ومحمد، كانت معاملتهم لنا كجزء منهم، ولما عجز عن إقناع أبي وأمي، غادر وهو حزين على فراقنا، وعاد لزيارتنا أكثر من مرة، محاولا إقناعنا أن نعود إلى المزة، لكنه لم ينجح، واستمرت علاقتنا معهم ونحن في كفرسوسة، نزورهم كلما قمنا بزيارة جدي الذي أصر على البقاء في المزة، وكانوا هم يقصدون زيارتنا للاطمئنان عن أحوالنا، ودائما يحملون معهم الخيرات التي ينتجونها من أرضهم في مختلف المواسم.

في انتقالنا الى كفرسوسة كان أبي مترددا، وكان ميالا للبقاء في المزة، لكنه تحمس عندما اكتشف أن طريقه من كفرسوسة إلى شارع البدوي، المتصل بالشاغور، هو الأقصر. في شارع البدوي كان حلاقه الفلسطيني” محمد السولمي” الذي يعرفه أبي من حيفا.  وبين الحلاق والمسجد الأموي كانت المسافة قصيرة. كل يوم جمعة يذهب الى الحلاق باكرا ويتابع الى صلاة الجمعة، ومنها إلى سوق الهال ليشتري لنا: التمر والكستناء والموز، وهذه المواد كان يقصدها في محل “أبو ابراهيم الأسود” وهو أيضا حيفاوي كان يعمل في حسبة الخضار. وأقدر أنني أكلت من الأصناف الثلاثة، في مراحل الطفولة، بقدر ما أكلته طوال حياتي الباقية.

أمي كانت هي الأكثر حماساً للانتقال من المزة إلى كفرسوسة، وبوقت مبكر عللت ذلك الحماس بوجود عدد من أقربائها، وباحتمال فرص أفضل لتعمل في خياطة الثياب للنساء والأولاد. لكنها في زمن لا حق كشفت عن السبب الجوهري لرغبتها تلك، وسأاتي عليه في صفحات قادمة.

لم أشعر بفارق كبير بين إقامتنا بالمزة وإقامتنا في كفرسوسة. زملائي في المزة بقيت على اتصال معهم في مدارس وكالة الغوث في دمشق، خلال المرحلة الإعدادية, أو في نقطة وسط بين بساتين البلدين، حيث نقصد السباحة في فروع بردى, أو نقطف ثمار وفواكه البساتين, ونتمتع بها. لم يكن الفلاحون يمنعوننا من تناول مانشتهي، أما أن نأخذ كمية الى البيت فكانوا يتذمرون ويرفضون.

في كفرسوسة لم تكن الباصات الألمانية والسويدية تعمل في النقل الى دمشق وبالعكس. الباصات فرنسية لكنها حديثة وقوية.

في الحقبة ” الكفرسوسانية” ماعدت ملزماً بارتداء” مريول – صدرية” المدرسة، ففي الصف السادس كانت حرية ارتداء الثياب، وانتهى عصر الحليب وزيت السمك الصباحيان شبه الإلزاميين. كذلك تخلصنا من المادة الكبريتية الصفراء، ذات الرائحة الكريهة، التي كانوا يعفروننا بها في المدرسة الابتدائية، وقاية من الأمراض الجلدية، ومن بعض الحشرات التي ساد الظن أنها تتكاثر على أجسادنا. كما لم نعد ملزمين بحلاقة شعرنا” قرعة” على النمرة واحد. كما لم يعد أبي يعارك الصخر بالفولاذ والبارود ليحصل على ليرات قليلة، فلقد أصبح عاملا في الشركة الخماسية(أعظم شركات صناعة الغزل والنسيج في دمشق، وربما في سوريا). أما التطور الأهم في تلك الأيام،هو تحول إضاءة المنزل من قنديل الكاز إلى اللمبة الكهربائية، فبعد أقل من سنة على سكننا في كفرسوسة وصلت خطوط الكهرباء لإضاءة المنازل، الإضاء فقط، فلا أدوات كهربائية في بيوتنا على الإطلاق( غسالات برادات راديوهات تلفزيونات)، وعليه لم نشعر بالفارق بين القنديل وضوء الكهرباء في حينه.

 مكواة الثياب فقط، كانت القطعة الأولى التي دخلت بيتنا، قبل سواها بسنوات.  يعود الفضل في حضورها لحياتنا  إلى والدي، لأنه لم يكن يقبل ارتداء القميص إلا مكوياً وقبته منشَاة، وكذلك البنطال. ومن حسن حظ أمي، التي كانت تكوي الثياب، أن الثياب اليومية لوالدي، كانت ثياب العمل التي تعطيه اياها الشركة، ولا مشكلة في ارتدائها دون كيِها، يبقى يوم الجمعة وأيام الأعياد لأفضل الثياب، ويجب أن تكون مكوية. معها، المكواة الكهربائية، ماعادت أمي مضطرة لتحضير جمرات الفحم أو الحطب لتوليد الحرارة على معدن المكواة البدائية ، ولا بتسخين النوع الآخر على “البريموس”.

في ذات” الحقبة الكفرسوسانية”، كان تطور في مصادر المياه. عندما كنا في المزة كانت تمر من داخل مساحة البيت، المفتوح على بستان واسع، ساقية ماء صغيرة، على حافتها كان جلي الأواني القليلة، ومنها نأخذ الماء للغسيل والاستحمام، بينماء ماء الشرب والطبخ كنا نذهب الى حنفية ماء نسميها” الفيجة”، ولم نكن نعرف مامعنى الفيجة إلا بوقت لاحق، حيث تدل على مياه عين الفيجة، وكنا نظن ونحن صغارا أن كلمة فيجة تعني حنفية” صنبور” الماء، نملأ ” الجرة، أو “الحق” كما كنا نسميه، ونعود الى البيت، وان خلصت الكمية نعاود الذهاب إلى الحنفية في أول سوق المزة، خلف الجامع. أما في كفرسوسة فاختلفت المصادر. مياه الاستخدام العام( الغسيل والجلي والاستحمام) كان في كفرسوسة مناهل ماء عدة قريبة من بيوتنا، وكان أهل البلد يسمون المنهل” الطالع”، وماؤه من فروع بردى أيضا، وكانت بعض الآبار التي نرفع منها الماء بدلو يدوي أو بذراع معدني يسمى” الكباس”، وكان هناك حارة اسمها حارة الكباس. لكن مياه الشرب” الفيجة” قبل مد الشبكات الى داخل المنازل، كنا ننتظر عصرا صهريج ماء الفيجة، الذي ترسله المحافظة، يأتي ويوزع الماء فنملأ تنكات أو أوعية أخرى بعرض الاستخدام الغذائي.

لقد شهدْتُ حروب المياه في كفرسوسة قبل أن نتعرف إلى حروب المياه الكبرى ، حول حصص الفرات والنيل، وحول مياه نهر الأردن بين العرب وإسرائيل. والسبب في تلك الحروب، عندما يأتي صهريج ماء الفيجة، كان الخلاف على الدور، أو على عدد الأواني التي يأتي بها رواد مياه الشرب، ففجأة تسمع” صليل” التنكات والطناجر، وصولا الى الاشتباك بالأيدي، فيوقف سائق الصهريج ضخ الماء حتى يتوقف الاشتباك، وينتظم الناس بأدوارهم. أما عند الآبار فكانت الاشتباكات أقل، وتحدث عندما يريد أحدهم تجاوز الطابور الذي ينتظر الدور. غالبا النساء هن من كن يتجاوزن الدور، خاصة دور الأولاد أو الفتيان الصغار، فيعلو الضجيج والصراخ ويمتلئ المكان بالشتائم.

بيتنا في كفرسوسة كان قريب جدا من حمام السوق، فكنت أستنجد به أحيانا لجلب الماء من داخله، فالماء فيه وفير. وبذلك أتجنب معارك المياه اليومية، وأكتشف مساحات واسعة من أجساد النساء.   كان توقيت دور النساء في الحمام  صباحا من التاسعة حتى الخامسة عصرا، وهو وقت احتياجنا للماء.  ” الحجة” مسؤولة حمام النساء كانت تأذن لي بالدخول، بعد أن تجوِل نظراتها على مساحة قامتي، وتختم بإسقاط نظرة منها إلى بؤبؤ عيني. دون قصد في البداية، كنت ألمح أجسادا، أو جزءا منها عارية، وباللاشعور أمضي للاكتشاف، فيطفح الوعاء وعيناي مشغولتين بمشهد آخر. وفي ذاكرتي كان أجمل مشهد حين تكون امرأة تهم بالدخول من البهو إلى غرف الحمام، وتبدأ بالتعري قبل أن تضع المئزر على وسطها، وكان ما يستهويني تعري أجساد نساء  “ثلاثينيات وأربعينيات” فأرى ما أرى وهن لا يأبهن أو يخجلن من سيل نظراتي على ما يظهر من أجسادهن،(لأنهن، كما أعتقد، كن ينظرن إلي” طفلا بريئاً). وتصرخ الحجة علي: “امتلأت التنكة وين عيونك”. وسوف تمنعني بعد فترة من الدخول فتأخذ مني الوعاء وتطلب مني الانتظار. أنتظر، لكن أمسك “برداية” المدخل الخارجي”الستارة”، وأبعدها عن احتجاز طريق نظراتي إلى الباب المؤدي إلى بهو الحمام الخارجي، في البهو كانت النساء تنزعن ملابسهن قبل الدخول إلى غرف الحمام، أو يرتدينها عند الانتهاء من دلق الماء والصابون على أجسادهن. من خلف زجاج الباب الداخلي تبدو مناظر الأجساد وكأنها تسبح في الغيم، واكتشفت من حينها أن:  ” كل النساء من خلف الزجاج جذَابات “.

في مراحل لاحقة سوف أكتشف خبرة مخرجي أفلام السينما، حيث يصورون مشاهد مشوقة وحميمية، من خلف الزجاج لممثلة ترتدي ثيابها أو تنزعها، أو لعناق ممثل مع ممثلة، فتبدو الأجساد وحركتها أكثر دهشة وجاذبية. وها أنا أكتشف ذلك في حمام النساء في السوق.

خلال حرب المياه تلك، نشأت في داخلي رغبة دائمة في رفع الدلاء من البئر، لي، ولفتاة بعمري، تطلب مني مساعدتها في رفع دلوها فأفعل، ثم صرت أتطوع لمساعدتها دون أن تطلب ذلك. وبعد امتلاء الوعاء العائد لها، كانت ترفعه على رأسها، أحس بان ذلك يتعبها، فأرفع الوعاء( التنكة أو السطل الصغير) وأضعه على رأسها فتشقل ذراعيها لتمسكه، وتسري في دمي لحظتها دماء حارة، من مشهد صدرها، قبل اكتمال نضج ثدييها، فأرى ” ثمرتي كستناء خلف بلوزة بلون نهدي، من قماش قطني منسوج مع المطاط، والنايلون، يسمى” ستريتش”. وتطاولت بالجرأة حين شاهدتها ببلوزة سوداء، ووشوشتها”هديك البلوزة أحلى”, ابتسمت وأدارت وجهها دون أن تجيب. وها أنا أسأل نفسي عن سر دهشتي باللون النهدي، هل هو آت من ذاكرتي البعيدة، في يوميات رفع الدلاء، أم من عصارة شقائق النعمان حين نقطفها من حقول الربيع، وندعكها بين أصابعنا، ونظن أننا يمكن أن نحولها إلى حبر، فيكون النهدي بتدرج مختلف عن نهدي بلوزتها. ولعل مكان آخر ناءً في جسد أمرأة تصعد السلم فيبدو اللون على قماشة صغيرة بين فخذيها، في أعلاهما، فأبطئ مشيتي لأرى اللون حتى منتهاه، فيدهشني لأنه مختلف عن السروال الداخلي النسائي الذي أعرفه (قطني أبيض، أو كتاني يغطي الفخذين حتى وسطهما، وعليه تطريز لوردات على حافة الفخذين). كانت كلاسين النساء لون واحد وكأن الأحمر والأصفر والأسود والنهدي، وسواهم، لا ترتديهن النساء.

أولاً بأول، تطور قماش السراويل النسائية الداخلية، وتكاثرت ألوانها. فدخلن عصر النايلون، “والكيلوت” بألوانه المثيرة والمغرية، فكانت حبال الغسيل على أسطحة المنازل مكانا حتميا لعرض الوان السراويل بقصات النايلون المثيرة، ومعها دخلت “البزازيات” كما كان اسمها عند عامة نساء الفقراء، قبل تطور اسم البزازية إلى اسم آخر هو”السوتيان”.

  حين اكتشفت أن النهدي ينتج عن امتزاج الأحمر بالأزرق، خلال بداية عملي في ورشة الدهان الأولى في العطلة الصيفية، شرعت باختبار تدرجاته بزيادة الأحمر أو تخفيفة, أو الأزرق والاقتصاد به فصنعت براحتي كل تدرجات النهدي.

أأما التطور الكبير في الحقبة” الكفرسوسانية” فهو ازدياد أفراد الأسرة (ثلاثة أولاد في أربع سنوات)، فأصبح تعدادنا ثمانية أنفار. خلال خمس سنوات أنجبت أمي ثلاثة بطون كما يقولون. الأول إبراهيم، الثاني محمود ( استشهد في لبنان 1979), والثالث عبدالله الذي حمل اسم جدنا لأبينا، حسب وصيته لأبي وأمي قبل أن يرحل عن الحياة قبل ولادة أمي لعبدالله في العام 1964. في السنوات الخمس اللاحقة تباطأ الانتاج لأفراد جدد في قائمة العائلة فلم تحمل أمي سوى بطنين، لتولد اخت جديدة لنا أسماها أبي أسماء، وأخ آخر، هو آخر العنقود اسماه أبي طه.

في هذه الحقبة كانت فرصة المعاشرة الزوجية بين أمي وأبي أكثر يسرا نسبيا، قياسا بالحقبة المزَاوية نسبة إلى المزة. في كفرسوسة كان لنا بيت من غرفتين، وما يشبه مطبخا، وكذلك مساحة مترين ونصف لما يمكن أن أسميه الحمَام.

مع اتساع مساحة البيت، ماعاد رفع البطانية حاجزا في الغرفة الواحدة، للتمويه على مايجري في فراش الوالدين، عشيات الخميس، ولا لتناوب نومنا، نحن وأولاد ابن عم أبي، مرة ننام عندهم ليلة الحمعة، والمرة الأخرى ينامون هم عندنا، لتخلو الغرفة للآباء والأمهات، يعيشون ليلتهم دون خوف من انكشاف أمرهم.

أما أهم تطور في حياتي ، في الحقبة الكفرسوسانية، كان دخولي إلى ” مطحنة” أخرى، هي مطحنة السياسة . فابتعدت عن “طواحين الماء” التي تنتشر بين المزة وكفرسوسة، وسأبقى في الطاحونة السياسية، أسمع ضجيجاً وأنتظر ” الطحين” دون جدوى.

سأكتب عن هذه الطاحونة في نص مستقل عن هذه الأجزاء من سيرة الحياة.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

تعليق واحد

  1. جميل جدا توصيف وتفصيل حروب المياه. شكرا لكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *