مقاطع من سيرة ذاتية (12).

الورقة الثانية عشرة.

طريقي الحميم.

“يا طيرة طيري يا حمامة

وانزلي بدمر والهامة

هاتي لي من حبي علامة

ساعة وخاتم ألماس….”

طوبى لأبي خليل القباني على تلحينه لهذه الأغنية التراثية. والمجد للتراث الفوركلوري الذي على بساطته، فهو في كلمات أهازيجه وأغانيه وفنونه، يلخص غالباً ما تردده الأنفس، وما يتماهى مع أرقى المشاعر وأصدقها.

طريقي الحميم، أجهل سر دهشتي به وعشقي له. يبدأ الطريق من أول ربوة دمشق، ويوصل إلى لبنان. عشقته قبل أن أذهب إلى لبنان .  طريق ” الربوة- دمر” هكذا كانت لوحة الباص الذي ينطلق من شارع النصر وحتى يصل إلى دمَر. تلك هي المسافة التي كانت تدهشني، إن كنت راكباً أو ماشياً على الأقدام. مشيت به طفلاً، من أول طريق الربوة وحتى حدود بلدة دمر، وعلى كتفي ” علبة الأسكا” لأبيع أيام الجمعة عشرين حبة أسكا لأطفال مع عائلاتهم يتنزهون على ضفة نهر بردى. لم تكن المنتزهات قد انتشرت على ذلك الطريق. على جانبه الأيسر كان مجرى بردى وسكة القطار القديم المتجه إلى الزبداني وسرغايا، والجانب الأيمن ، تتمدد عليه صخور أطراف جبل قاسيون. وتبدو على واحدة من تلك الصخور المشرئبة عبارة مكتوبة باللون الأسود وبالخط العريض”أذكريني دائما”. لقد احتارت مخيلة الناس ورواياتهم عن سر تلك العبارة، رغم الاختلاف كانت تلفت الأنظار وتثير الأسئلة. وفي الخيال أن من كتبها ألقى بنفسه من فوق الصخرة منتحراً.

صعدت وزملاء لي إلى تلك الصخرة، لامسنا حروف”اذكريني..” ومكثنا جانبها أكثر من مرة. كنا نأتيها من فوق أحياناً، من المهاجرين، عند قبة مقام تعرف” بقبة السيار”، ننزل من الأعالي لنقف عند تلك الصخرة. إنه البحث عن الغموض والأسرار. ندقق بالحروف ونتلفت إلى كل الجهات، ثم ننحدر إلى طريق الربوة لنمشي بين ظلال الحور والصفصاف، بجانب قضبان سكة حديد القطار. إنه طريق آسر، خاصة حين يمر القطار فوق سكته، ذهاباً أو إياباً.

وفي مرحلة الشباب مشيت به لسببين. التنزه أيام الصيف، ثم مرافقة قضبان السكة الحديدية، من أول نقطة في شارع الربوة، مشيا على الأقدام وصولا إلى سهل الزبداني، بعد اجتياز قرى وادي بردى، حينها كنت واحدا من المسحورين بفكرة” حرب العصابات” والاستعداد لها بالتدرب على المشاق، وكان المشي” المسير” هو أول الخطوات لمحاكاة غيفارا وماوتسي تونغ وهوشي منه.

مصادفة تعييني معلماً في مدرسة الديماس، جعلت ذلك الطريق الجميل والمدهش، يتعزز في ذاكرة حواسي أكثر. كنت أعبره ذهابا وإياباً، يومياً، أو كل أسبوع مرة على الأقل عندما كنت أسكن في الديماس مكان عملي.

هل عشقت ذلك الطريق لأن حدسي، منذ وقت مبكر، وبشكل غامض، قال لي أنه الطريق الذي سيفضي إليها؟

أما أغنية” ياطيرة طيري ياحمامة..” فكانت نغماتها وكلماتها تغمرانني بالبهجة والفرح. أسمعها في الراديو فأنتشي، وفي الأعراس ترقصني ألحانها، وكلما كنت أرددها تذهب متاعبي وتتجلى روحي على إيقاع دقات قلب فتي. في دمَر كانت تسكن الصبية التي أصبحت شريكة حياتي وأم أولادي، ” آمنة دعيبس”. هي قريبتي، بنت خالتي، ماكنت أتوقع الزواج من قريبة لي. ولم أتزوجها لأنها قريبتي. لقد سحرتني عندما زارتنا في بيتنا مع صديقة لها في المدرسة. بعد تلك الزيارة غيَرت رأيي بفكرة الابتعاد عن زيجة الأقارب، تلك الفكرة التي كانت تسكن عقلي ووعيي. يومها، عندما حضرت إلى منزلنا، لم أكن قد رأيتها لسنوات. حين شاهدتها، وتحدثت إليها بشأن درس باللغة العربية، طلبت مني مساعدتها به، سلبتني شخصيتها، وخلال حديثي إليها عن الدرس الذي تريد المساعدة به، كنت أنظر إلى عينيها، وأصغي لعذوبة صوتها، وأطيل أطيل الشرح لها، لأكسب وقتاً مفتوحا لا ينتهي في جلستي معها. كانت بعمر الستة عشر عاما، أما شخصيتها وكلماتها فكانتا أكبر من ذلك. إثر تلك الزيارة، عشقت الطريق الحميم أكثر، وصار ميلي لزيارة بيتها يلازمني، عكس سنوات سابقة. حتى أراها كثيراً، أخذتني قدماي، كلما أتيح لي، إلى درب مدرستها، مدرسة حيفا في شارع خالد بن الوليد، وفي أيام كثيرة، كنت أنتظرها وهي ذاهبة إلى المدرسة صباحاً، ثم في موعد انتهاء دوامها المدرسي. أصعد في باص دمر، بينما هي تجلس على المقعد المزدوج، تاركة المقعد الداخلي محجوزا، فأجلس جانبها. أحيانا تسبقني صبية للجلوس الى جانبها، فأخسر متعة تبادل الحديث معها وأنا بجانبها. لم أكن أفكر بالزواج، فقط كانت تسكنني، وتشعل روحي، وتعطي معنى لأيامي، فاليوم الذي لا أراها فيه كان يمضي فاترا ورماديا.

وقت عطلة المدارس بفصل الصيف، كنت أستغل الطريق الحميم مشيا على الأقدام جانب سكة القطار، في مسير جماعي لنا، نحن المأخوذين ” بغيفارا وهوشي منه”، لنعد أنفسنا لأمر كبير، هو حلمنا الوطني. أما أنا فكان لي غايتي الخاصة أيضاً، من المسير، زيارة بيتها في طريق العودة، وأترك رفاقي يتابعون مشياً على الأقدام من دمر حتى الربوة، وهناك يستقلون الباص إلى دمشق ليذهبوا إلى بيوتهم.

أسرعت لطلبها للزواج اضطرارا، فالتقاليد المحافظة لم تكن تتيح لي اللقاء معها خارج أوقات الدوام المدرسي، وزيارتي لبيتها باتت تطرح أسئلة وتلفت الأنظار. حين تقدمت لخطبتها ماكنت أظن أن أقدم على الزواج بسرعة. كانت التقاليد المحافظة لاتسمح بظهوري الدائم في زيارة بيتها، كما في طريق مدرستها وعودتها منها. فالخطبة كانت ضرورة لممارسة حقنا في اللقاء، وغالباً في بيتها مع أسرتها. غير أن الأمور مضت بسرعة نحو الزواج، بعد سنتين من الخطبة. ومن تاريخه 1972، وحتى 2007، عشنا معاً، في السراء والضراء، ثم عاجلنا القدر بمعركة شرسة ومريرة جداً مع الخبيث” السرطان” الذي هاجمها دون علمنا، كما هو دائماً. وأقول في نفسي، كما غيري ربما، إن اللغة العربية لم تشتق مصطلحا أدق من ” الخبيث” اسماً للسرطان. حتى حروف وإيقاع كلمة” سرطان” عندما تدخل في مسمعي أشعر بوحش أسطوري خرافي ينهش من لحمي ويفتك بعظامي ويغلق على أنفاسي.

عندما أقول أنها عاشت معي السراء والضراء، أقولها كحقيقة وبصدق كامل. لم أكن ميسورا ماديا، ولم تعرف حياتي الاستقرار إطلاقا. صبرت عليَ فترة غيابي في المعتقل عند المخابرات السورية ” سنة ونصف” منذ أيار 1974 حتى كانون أول 1975. ثم بعد ذلك انتقلت إلى لبنان لتعيش معي ظروف الحرب الأهلية، متنقلين بين بيروت وعاليه وصور وصيدا. في عاليه أصيبت بشظايا  قذيفة نزلت تحت بلكون البناية التي نجتمع فيها.

في عدوان إسرائيل على جنوب  لبنان حضرت الحرب هناك ( آذار 1978)، وكنا نسكن  في بلدة البازورية، وأصبحت، بفترة قصيرة جداً، صديقة حميمة لشابات وشباب البازورية وحتى النساء والرجال. بفضلها وبحكم طبيعتها، كان بيتنا هناك محطة تستقبل على امتداد ساعات النهار والليل الزائرين، فبوجودها كانت الحياة تتدفق في أرجاء الحي، وكان بيتاً لاتنطفئ أضواؤه، ولا يعرف الصمت . والأهم من ذلك كله، كان بيتها- بيتنا مطرحا آمنا ومريحا للعشاق من  شابات وشباب البلدة. منهم من مضى عشقهم إلى الارتباط الزوجي، ومنهم من عبروا إلى التباعد والانفكاك.

أجمل وأروع تجربة حب احتضنتها آمنة وأنا، قصة العشق بين محمد شمس الدين،  الفنان التشكيلي الموهوب، إبن البازورية،وبين الشابة إلهام غريب، الجنوبية، إبنة بلدة شقرا. قصة كانت تزين البلدة، وتحضر في أحاديث ناسها. كانت قصة حب متمرد و متدفق كنهر صاخب، يحفر مجراه،  بغزارة ولا يعرف مصبه أبداً، قل لا يبحث عن مصب، فمصبات الأنهار نهاياتها.

بعض الصداقات مع آمنة، ومعي بفضلها، استمرت مع عدد من أبناء البازورية والجنوب ولبنان. من البازورية كان محمد وإلهام والصديقة، الغالية جدا لآمنة، ندى جبارة وزوجها يوسف حدرج، وفوزية مروة من الزرارية، وما انقطعت زيارتهم لنا حتى رحيل آمنة 2007، وبعد رحيلها.

كارثتي الأكبر في الحياة أن ترحل آمنة وهي في عز نضجها واكتمالها. لقد هاجمها السرطان القذر المتوحش. قاومت المرض عشرة أشهر، وكان تقدير الطبيب، الأخصائي بجراحة أورام الجهاز التنفسي، نزار عباس، بعد إجراء الجراحة، والتدقيق بالأورام التي استأصلها، أنها إذا لم تنج ستعيش أربعة أشهر فقط. وعندما زرته بعد رحيلها بأيام، صارحني بأن إرادتها للحياة والبقاء، هي التي مكنتها من العيش في مصارعة المرض عشرة شهور، وزاد أن المتابعة القصوى والسريعة لحالتها هي أيضاً عاملا مساعدا على مصارعتها المرض طوال تلك الفترة قبل رحيلها.

لقد بدأت الكارثة باكتشاف الورم الخبيث. كانت البداية سعال شديد وألم في الصدر، ذهبنا لطبيب الصدرية الناجح والمميز محمد غنام في مخيم اليرموك. طلب صورة عادية للصدر، وبنتيجتها أعطاها كورس مضاد حيوي من أقوى الأنواع، وطلب منا صورة للصدر بعد انتهاء الحقن مباشرة. حين دقق بصورة الصدر همس” لاحول ولا قوة إلا بالله”.

فهمت من العبارة أن خطراً غير عادي تتعرض له آمنة. وطلب منا فورا صورة طبقي محوري، كانت نتيجتها سيئة، ذلك ما أبلغني إياه الدكتور غسان الغضبان مسؤول قسم الصدرية في مشفى الأسد الجامعي.

توقفت الحياة بالنسبة لي عند معركتي مع المرض في محاولة، رفضت فيها الاستسلام لليأس، لهزيمة المرض. لكن الفشل كان حتميا، هكذا جاءت النتائج الأخيرة. لقد غادرني النوم طوال فترة العلاج، إلا قليلاً.

أجرى لها الجراحة الدكتور نزار عباس، وحاول بكل دأب ودقة أن ينقذها، لكنني حين نظرت إلى عينيه وهو يريني ما استأصله من القصبات والرئة، اجتاحني الرعب، مع العلم بأنه كان يحاول طمأنتي بحدود ما إلى احتمال أن تتعافى. حين سألته عن نسبة الشفاء التام، صمت قليلا قبل أن يقول لي، “مع حركة من أصابع راحته” : 40%. فاعتبرت النسبة أقل بكثير، لأن واجبه كطبيب إبقاء الأمل عند المريض وذويه.

لن أنسى ما بذله الدكتور نزار عباس من جهد لإنقاذها، بدءاً من توسيع عملية الاستئصال، بعد أن فتح الصدر فوجد أن كتلا سرطانية موجودة في الشريان الأبهر، لم تكن ظاهرة في الصور. من داخل غرفة العمليات كان يتصل بي ليطمئنني أن هناك تأخير بسبب تمديد وقت العملية حتى لانقلق. فعلاً اشتغل ساعتين إضافيتين لتخليصها من الكتل الموجودة على الشريان الأبهر.

بعد أول ثلاث جرعات من العلاج بالكيماوي أخذت له التحاليل، وأبلغني، بعد قراءة التقرير الطبي، أن النتائج جد إيجابية، وشجعنا، كان شهر كانون الأول، على أن نحتفل بالأعياد ونحن مطمئنين. لم تكن نتائج تحليل الورم المستأصل تقول ذلك، لأن التقرير ينص على أنه من النوع”المضيء” وسألت ماذا يعني ذلك، ففهمت من طبيب المختبر انه مرشح للتنقل والانتشار. وهو ما حصل بسرعة.

الانتقال الأول ذهب إلى الدماغ. وبنتيجة الصورة الطبقية تبين وجود كتلتين في مقدمة الرأس. أخذت تقرير مركز الصواف، وكانت هي تنتظر النتيجة في البيت، فقررت بالاتفاق مع شقيقها عبدالله إخفاء النتيجة عنها، وزورنا تقريرا، يظهر نتيجة إيجابية، لنطلعها عليه ريثما نراجع الطبيب المعالج .

بدأنا بعلاج ورم الدماغ بالأشعة، وكذبنا عليها بأن الدماغ سليم لكن جلسات الأشعة لمعالجة خثرة دموية قديمة خشية تحولها إلى ورم خبيث.

علمنا، عن طريق وسائل التواصل، أن علاج أورام الدماغ متوفر في مركز متخصص في ألمانيا. راسلنا المركز وكان الرد سلبياً لأن المركز المذكور لا يعالج الورم إذا كان منتقلا من جزء آخر في الجسم، فقط لو كان قد بدأ بالدماغ فهم قادرون على علاجه. واستمر العلاج بالأشعة أكثر من شهرين، عدنا بعدهما للعلاج الكيماوي بإشراف الدكتورة زاهرة فهد. هي ماهرة بالمهنة لكنها جشعة ولا إنسانية.

في آخر مراجعة لي عندها، ولم تكن آمنة معي، قرأت نتائج التحاليل المطلوبة، وصمتت قليلا، ثم نطقت: ” الله يكون بعونك ويصبرك”. نزلت علي العبارة كجبل سقط فوق رأسي، سألتها السؤال الأخير عن الحاجة إلى المورفين لتخفيف الآلام، فشرحت لي مثل” ميكانيكي يوضح للزبون أن سيارته لا تحتاج إلى الفرامل لأنها سوف لن تتحرك”، فكانت عبارتها : لا داعي للمورفين لأن مركز الأعصاب في الدماغ شبه ميت!

وقف أصدقاء كثر إلى جانبي مادياً ومعنوياً، ولم يتركوني عرضة للعوز من أجل العلاج. أحد هؤلاء الأصدقاء العزيزين جداً ( م. تميم)، طرح علي علاجها في الخارج، وأبدى استعداده، وهو صادق، لدفع أية تكاليف من المليون حتى عشرة الملايين. كنت قد بحثت مع الأطباء تلك الفكرة، العلاج في أوروبا، كانوا مجمعين على أن لا داعي لذلك، وما هو متوفر في سوريا كعلاج هو ذاته ما يمكن الحصول عليه في أي بلد في العالم.

طبيا لا أمل بالشفاء، روحيا ونفسيا كنت أحاول إقناع نفسي بحدوث المعجزات وشفائها . في الأيام الأخيرة تركز كل اهتمامي على تجنيبها الألم قدر الإمكان، وعرفنا عن طبيب اختصاصي بوقف آلام المريض، وكان واضحا معنا بأنه لا يفعل شيئا يعالج المرض لكنه يستطيع تخفيض مستوى الألم إلى حد بعيد. نجح بذلك أما الحقيقة التي رفضت قبولها، وتجنبت الاقتناع بها: أن الألم ينتهي مع انتهاء السرطان، وهذا الأخير لن ينتهي إلا مع انتهاء حياة المريض…

رحت أردد مع المتنبي:

(كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا،  وحسب المنايا ان يكن أمانيا).

ثم أصحو على نفسي شاتماً المتنبي وفلسفته. وأختم الشتيمة بسيل من الدموع أخفيها عن آمنة وعن الموجودين من الأهل.

عاشت آمنة آخر أسبوعين على جهاز كهربائي للتنفس، رئتاها شبه توقفتا عن العمل، انقطع الأوكسجين لولا الجهاز. قبل يومين من رحيلها ، وكان يوم الإثنين( الرابع من حزيران 2007) توقف نطقها تماماً، تحاكينا بعينيها وهي تتألم من عجزها عن النطق. وفي يوم الأربعاء، السادس من حزيران ،الساعة الثامنة صباحا شهدت اللحظة الأخيرة من حياتها، ورفضت تصديق أنها ماتت و لن تعد  إلى الحياة.

في الليلة الأولى لوحدتي، انشغل تفكيري بما كانت تبحث عنه في يوميها الأخيرين. بعينيها كانت تنظر، وهي مستلقية على سريرها، إلى ظهر الخزانة وتومئ لنا بعينيها، تريد شيئاً، عجزت، كما الجميع من المتحلقين حولها، عن معرفة ما تقصد وما تريد. لم تفارقني تلك اللحظة المريرة إذ عجزت عن تلبية طلب لم أفهمه في حينه.

تمددت على السرير كما كانت تتمدد في مرضها، ورحت أنظر إلى ظهر الخزانة. لم أعرف ماكانت تريد. ثم وقعت عيناي على برواظ بداخله صورة لها ولي، التقطناها تحت شجرة أسكيدنيا، وجانب شتلات ورود، في مزرعة بعدلون جنوب لبنان. البرواظ مصمم كنافذة تغلق وتفتح، انتبهت أن البرواظ مغلق والصورة مخفية. نزلت عن السرير فتحت نافذتي البرواظ فبدت صورتها ابتسامة طافحة وساحرة. حزنت لحظتها، وشعرت بغبائي وتحسرت على وجعها في ساعاتها الأخيرة، لأنها كانت تكابد لإيصال طلبها لنا بعينيها، تريد فتح نافذتي البرواظ، وكأنها تريد الاستمرار بالحياة من خلال النافذتين المفتوحتين، لتتأمل صورتنا معاً. صورة التقطناها في أجمل أيام حياتنا .

من تلك اللحظة أبقيت نوافذ البرواظ مشرعة . ومن يومها لم تغلق أبداً.

كانت آمنة امرأة قوية وذكية وجميلة ورقيقة. هي كزوجة وشريكة تتمتع بالإخلاص والوفاء والقدرة على الفرح وعلى تحمل المسؤولية. وعليه فلقد كانت بيت الأسرار للصديقات والقريبات ولبعض الأصدقاء، عندها كانت أكثر مشاكلهن في الحياة تجد لها حلا سليماً وعملياً. حتى أنها خلال تلقيها العلاج في مشفى البيروني لعلاج السرطان، تأتيني بكم هائل من قصص المريضات اللاتي يتلقين العلاج، وصرن ينتظرن موعد جرعتها اللاحقة ليبحن لها بهمومهن، ويتبادلن معها الأحاديث الخاصة بالنساء.

كانت بكل المعاني الإنسانية أفضل مني، وتحملت ماسببته لها، في فترة قبل مرضها بعقدين، من وجع، الذي هو من ذلك النوع الأصعب من كل وجع يلحقه الرجل بزوجته، وجع لا يفوقه أي وجع. وقلل من عذابي النفسي تكرارها القول لبعض صديقاتها وقريباتها: إن مصطفى أخرج كل الوجع من داخلي.

عذاب نفسي أخر لازمني بعد رحيلها لفترة، وحتى اليوم كلما تذكرت القصة أدين نفسي. لماذا ارتكبت تلك الحماقة قبل رحيلها بشهر تقريباً، ورفضت السماح لها تدخين سيجارة.. وتكرر واحدة فقط.. ثم تتنازل لنصف سيجارة فأرفض.

حماقة وغباء. وكأنني اعتقدت حينها أن السيجارة ستكون سبب موتها، لماذا لم أحاور نفسي عن كمية السعادة التي كانت ستحصل عليها لو أنها تمتعت بتحقيق طلبها بسيجارة  واحدة أو نصفها؟

طريقي الحميم صار عاديا فاتراً بعد رحيلها. وأغنية ياطيرة طيري ياحمامة، لم تعد تبعث الفرح في نفسي. إنها كلما سمعتها تثير أشجاني… لكنني لا أهرب من الإصغاء لها.

طريق قبرها أخذني عن طريقي الحميم. واظبت على زيارتها. أقعد على حافة القبر، أدخن أكثر من سيجارة، أحدثها وأعتقد أنها كانت تسمعني. قلت لها قومي لأشعل لك سيجارة هي دين لك عليَ.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

في جدليّة الكاتب الإنسان والكاتب الاصطناعي

لا شكّ في أن الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي قد تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *