لويس التاسع قائد الحملة الصليبية التاسعة , رسم إل غريكو، متحف اللوفر باريس.

مسلمات استشراقية في الثقافة العربية

استهلال:

هذا مقال قديم للدكتور محمد شاويش المقيم في برلين\ألمانيا ، كان قد نشره في  جريدة السفير اللبنانية تاريخ  15/12/2000 ،ثم أعاد نشره في كتابه  الصادر باللغة العربية بعنوان “نحو ثقافة تأصيلية-البيان التأصيلي“. ( الدار العربية للعلوم, 2017), وقد تكرّم د. محمد شاويش، مشكوراً، بالسماح لنا بنشره هنا

الطريقة التي استقبل فيها كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” في الساحة الثقافية العربية هي مؤشر نموذجي يشخّص حالة هذه الساحة بدقة يندر أن تتوافر في طرق أخرى.

ذلك أن ردود الفعل كلها ذات دلالة ساطعة: رد الفعل الغالب وهو عدم المبالاة (وهو ناتج عن عدم الفهم من جانب وعدم رؤية أهمية الموضوع أو بالأحرى الاعتقاد بعدم أهميته من جانب آخر).

ورد فعل ثان هو رد فعل عدائي عبر عنه ممثلون “بارزون” للاتجاه الحداثي العربي مثل “صادق جلال العظم”.

ورد فعل ثالث يكتفي بالتحمس للكتاب كمجموعة من الوثائق التي تدين الرؤية العنصرية الغربية.

وكما في الكثير من الحالات يشكل ما يمكن أن نسميه “رد الفعل الغائب” مؤشراً هاماً أيضاً ونعني به رد الفعل الطبيعي على حدث ما حين يتخلف وقوعه، و”رد الفعل الغائب” هنا نراه في رد فعل رابع كان يجب أن يرى العلاقة الوثيقة لموضوع الكتاب بالثقافة العربية الحديثة، العلاقة الداخلية لا الخارجية. فإن تحليل الاستشراق ليس تحليلاً لذلك “التراث البحثي” الغربي فقط، بل هو أيضاً تحليل لمكون أساسي من مكونات الثقافة العربية الحديثة، مكون نتج عن “اجتياف” أو “استبطان” وجهة النظر الغربية في المجتمع والثقافة العربيين التقليديين. والتحليل الذي يتناول ردود الأفعال المذكورة أعلاه يمكن له أن يكون (بل يجب أن يكون) موضوع بحث مستقل هو إسهام في الحوار مع هذا الكتاب الهام الذي لا يمكن تخطيه لأنه التصق بموضوعه التصاقاً غير منفصل (بعض الكتب يلتصق بموضوعه فلا ينفصل عنه حتى لو كان الكتاب لا يحتوي نظرية صحيحة تماماً تحيط بموضوعها فلا تترك منه شاردة أو واردة وذلك بسبب قوة العمل النظري المبذول فيه ومن أمثلة ذلك “احتكار” كتاب فرويد لتفسير الأحلام لموضوعه و”احتكار” كتاب ماركس “رأس المال” لموضوع تحليل الاقتصاد الرأسمالي بحيث لا مهرب للباحثين من ذكره ولو من باب المعارضة عند كل محاولة لتحليل هذا الاقتصاد).

هذا التحليل ليس موضوع هذا المقال بل أنا هنا أريد إظهار بعض أوجه استبطان النظرة الاستشراقية في الثقافة العربية وهذا ما يبدو لي بكل صراحة أجدى بكثير من تحليل ما يكتبه الغربيون عنا فأساس مشاكلنا وأساس حلها أيضاً هو تصحيح نظرتنا لأنفسنا ولكن هذا موضوع آخر..
سأتناول إن شاء الله ثلاثة جوانب من جوانب استبطان النظرية الاستشراقية في الثقافة العربية الحديثة:

أ-شرقنة الشرق:

أحد المفاهيم الأساسية التي ابتكرها إدوارد سعيد في كتابه المذكور هو مفهوم “الجغرافية التخيلية”: “ذلك أن مواضيع وأقاليم وأقساماً جغرافية كالشرق والغرب، من حيث هي كيانات جغرافية وثقافية ،دون أن نقول شيئا عن كونها كيانات تاريخية، هي من صنع الإنسان”(1). “إن الشرق يشرقن” ومن البديهي أن أحداً من الشرق “لم يكن يعرف” أنه من الشرق قبل الغزو الأوروبي العسكري ثم الثقافي (وأحياناً الثقافي ثم العسكري.. إلخ)

ومنذ ذلك الحين صار من المألوف أن تقرأ في الكتابات العربية وتسمع في الأحاديث اليومية وترى في السينما عبارة “نحن الشرقيين ..” ومن يتابع النتاجات الثقافية العربية في مطلع عصر النهضة فسوف يرى مفهوم “الشرق” يستعمل بديلاً عن مفاهيم نستعملها الآن مثل “العروبة” و”العالم الإسلامي” إلى آخره وهذا يشمل على حد سواء المستغربين في الثقافة العربية النهضوية والأدباء المتمسكين بالتراث العربي الإسلامي ومن أمثلة النوع الثاني أمير الشعراء شوقي الذي يكثر في قصائده هذا التعبير مثلاً: “كلنا في الهم شرق” وفي شعر حافظ عن مصر:

أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودراته فرائد عقدي

ومن الشعر الذي يتضح فيه التداخل بين مفهوم “الشرق” وما ندعوه الآن الوطن العربي:

كلما أنّ في العراق جريح         لمس الشرق جنبه في عمانه

والاستمرار في نسبة الذات إلى هذا الموقع “الجغرافي التخيلي” مستمر إلى الآن فكثير من عاداتنا نسميها “العادات الشرقية” وكأننا حكم علينا أن لا نستطيع تعريف هويتنا إلا بصورة سلبية: “إننا ما يقابل الغرب” أي “ما ليس غرباً” وهذا معنى “إننا شرق”.

ومن الهجائيات الجالدة للذات التي ازدهرت خصوصاً بعد هزيمة عام 1967 ما كتبه نزار قباني:

قتلتنا في مقاهي الشرق حرب الكلمات ..

إن كثيراً جداً من الهويات الزائفة ظهرت بالترافق مع “الهوية الشرقية” ولنسمها توازياً مع مصطلح الأستاذ سعيد “الهويات التخيلية” وإذا كانت “الجغرافية التخيلية” نتاجاً لبنى اجتماعية سياسية قسمت العالم وفقاً لمناطق نفوذ تمتلكها جماعات بشرية كبيرة متميزة فإن “الهويات التخيلية” عندنا لم تنتج مثل “الجغرافية التخيلية” عن عوامل داخلية لها على كل حال أصل مادي موضوعي ما بل نتجت هذه الهويات التخيلية عن عامل استلابي محض هو محاولة الذات لبس ثوب الهوية التي تعجب المرجع  الاستلابي الذي هو الغرب. مثلاً لم تظهر هوية تخيلية مثل “الهوية الفرعونية” بسبب وجود الآثار الفرعونية أو ترجمة نصوصها وفك رموزها وإنما ظهرت لأن المثقفين الذين اعتبروا “الفرعونية” هويتهم تلبسوا بهذه الهوية بعد أن لاحظوا إعجاب الغرب بالأثار الفرعونية (الفرنسيون أحبوا الأثار الفرعونية لأن الفراعنة لم يهاجموهم في معركة المنصورة ولم يأخذوا قديسهم لويس التاسع أسيراً في دار ابن لقمان تحت رعاية الطواشي صبيح الرؤومة فقد بدا لهم تاريخ مصر القديم حليفاً ضد تاريخها الإسلامي تماماً كما حاولوا بلا نجاح أن يتخذوا من تاريخ المغرب الكبير الأمازيغي قبل الفتح حليفاً ضد تاريخ هذا المغرب الإسلامي) وما ينطبق على الهوية التخيلية الفرعونية في مصر ينطبق على الهوية التخيلية الفينيقية في لبنان وعلى هويات تخيلية أخرى أقل حظاً بالرواج

إن اعتبار المرجع الغربي هو الحكم الفاصل الذي يصدر أحكام القيمة على كل شيء محلي بما فيه أحداث التاريخ (كم تم الاستشهاد بعبارة غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ أرحم من العرب) والإنجازات العلمية (اكتشاف أهمية ابن خلدون بعد أن قال عنه توينبي ما قال) والأدبية (ما هو السر في أن ألف ليلة وليلة وهي الوحيدة من القصص الشعبية عندنا التي اشتهرت في الغرب هي الوحيدة التي نتباهى بها؟ وهل كانت لتساوي شيئاً لولم تتلق ختم المصادقة على أهميتها من المرجع الأوروبي؟) هو سمة عصرنا إلى الآن فنجيب محفوظ تختلف قيمته بين ما قبل اليوم الذي أعلنت فيه لجنة نوبل منحه الجائزة وما بعده.

وحتى الفلاسفة الغربيين لا نعترف بقيمتهم حتى يعترف بهم الغرب (أعطوني مثالاً واحداً على فيلسوف غربي مغمور في بلاده اكتشفه مفكر عربي وفي الحقيقة ما يجري عندنا هو أن الفيلسوف تظل له قيمة ما دامت له قيمة هناك وانظروا إن شئتم إلى صعود سارتر ثم هبوطه عندنا فنحن “صعّدناه” لا لأننا كنا حقاً قد رأينا بصورة مستقلة قيمته ونحن “هبطناه” لا لأننا رأينا بصورة مستقلة عيوبه بل نحن ببساطة استوردنا تقويمه كما نستورد كل شيء).

مع ظهور الثقافة العربية الحديثة اختفت قدرة العرب على تقويم أنفسهم، إن التقويم يجب أن يأتي من المرجع، حتى لو تمثل بشخصية متواضعة نسبياً، آثاري فرنسي مثلاً:

في رواية توفيق الحكيم “عودة الروح” يعرب مفتش الري الإنجليزي عن احتقاره للفلاحين فيتولى الآثاري الفرنسي الدفاع عنهم “شق قلب فلاح من هؤلاء وستجد سبعة آلاف عام من الحضارة”. وهذه العبارة هي بالنسبة لبطل الرواية المصري “محسن” المعبر عن وجهة نظر الحكيم والمتحول لاحقاً في رواية أخرى له إلى “عصفور من الشرق” القول الفصل. هذا القول الفصل لا يمكن للفلاح طبعاً أن يقوله لأنه ليس الطرف المؤهل لقوله، ليس لديه الختم الذي يختم به الشهادة وكشف العلامات إن جاز التعبير وهو غير قادر- كما يتضح من الحوار- حتى على معرفة “أن قلبه يحتوي على سبعة آلاف عام من الحضارة”!

ب-“العلة الجوهرية” التي تسبب التخلف:

إذا كان “الشرق المشرقن”- كما يبرهن إدوارد سعيد عبر كل صفحات كتابه- هو بالنسبة للمستشرقين جوهر ثابت لا يتغير في الزمان والمكان، وهذا الجوهر معتل علة لا تقبل الشفاء، فإن هذا الافتراض استبطنته الثقافة العربية الحديثة كمسلمة من مسلماتها، آخذة طبعاً أولاً بأول الحجج التي كانت تساق للتدليل على هذه “الحقيقة” وبصورة مازوشية غريبة لا تصدق.

في أيامنا هذه تم التعتيم على حقيقة معروفة بل بديهية لدارسي الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر وهذه الحقيقة هي أن هذا الفكر كانت تسوده النزعة العنصرية بشكلها “البدائي” الذي هو ببساطة يقوم على نظرية الحتمية البيولوجية التي تقسم البشر إلى أعراق منفصلة كل شيء في نتاجاتها الاجتماعية والعقلية يتحدد ببنيتها البيولوجية الوراثية. وهذا التقسيم اعتبر “حقيقة علمية” على أساسها يتم تحليل كل الظواهر الثقافية اعتباراً من أكبرها مثل الدين حتى أصغرها مثل نص أدبي محدد لكاتب معين (فنحلل نص ابن حزم “طوق الحمامة” بأنه نتاج وجود “دم آري” يسري في عروق المؤلف).

إذا كان “أرنست رنان” قد كتب في هجاء العرب الصفحات الطوال واعتبرهم حين نقارنهم مع الآريين “مثل اسكتش بقلم رصاص مقارنة مع لوحة ملونة غنية” فإن هذا لم يمنع حداثياً عربياً مناضلاً متحمساً مثل الشاعر الزهاوي أن يعده واحداً من الأدلة على أن غير المسلمين يجب أن يدخلوا الجنة:

أيلقى “رنان” في الجحيم و “بخنرو”دروين” من عن أصلنا كشف السترا!

ثمة كتاب مشترك بين الشاعر إبراهيم ناجي والدكتور إسماعيل أدهم عن توفيق الحكيم(2) والدكتور إسماعيل أدهم يعرف في الصفحة الأولى من الكتاب- بالمناسبة- بأنه “مستعرب عربي”!

الدكتور أدهم في دراسته يلقي أهمية كبرى على كون والدة توفيق الحكيم تركية الأصل ذلك أن “الذهنية العربية تنقصها الطاقة على التجرد من الذاتية وجعل الظواهر الموضوعية في طبيعتها الموضوعية –وللقارئ أن يلاحظ أسلوب هذا “المستعرب” العربي غير القويم!. (م)- فمن هنا كان الفن العربي مظهراً لتفتح ذاتية الفنان عن نفسه، ومن هنا كان في أغراضه فردياً، لأن الفنان يعيش في حاضره، ولا تتجلى له الأشياء في تطورها التاريخي، ولهذا كانت القصة والمسرحية غريبة على فن العرب”(3).

وبالمناسبة يظهر أن هذا “المستعرب” يعتقد أن الأتراك آريين وهذا كما يعرف اللسانيون غير صحيح ويبقى للقارئ أن يتأمل في الأواليات النفسية التي قادت هذا “الباحث الموضوعي” إلى هذا الخطأ في بديهيات التقسيم اللساني للغات والشعوب بين ما هو “آري” أي “هندي أوروبي” وما هو غير آري أي ليس هندياً أوروبياً مثل الساميين والفنلنديين والهنغاريين والكوريين والأتراك إلخ.

وهذا الحديث عن الفروق بين الساميين والآريين يتردد عند كبار المثقفين فالسمات الأساسية لشعر ابن الرومي تؤخذ عند الناقد الكبير إبراهيم عبد القادر المازني من كونه ذا أصل آري والأمثلة كثيرة جداً بل لا يكاد يوجد أمثلة أخرى مختلفة فلنكتف بذكر مثال واحد نجلبه من باحث إسلامي محترم هو أحمد أمين:

في كتاب أمين المشهور “ظهر الإسلام” تحليل للفرق بين الصوفيين العرب والصوفيين الفرس وهو يستند في التحليل صراحة إلى أحد المستشرقين: “وقد كان الأدب الصوفي نتاجاً لجنسين مختلفين الجنس السامي ويمثله الأدب الصوفي العربي، والجنس الآري ويمثله الأدب الصوفي الفارسي. وبين الجنسين اختلاف كبير في التصوف والإنتاج والمزاج. ومع كراهيتنا لإرجاع الخصائص إلى الجنس، فإننا نقر إلى حد ما أن الساميين بحكم نشأتهم أقوياء الحس في الغالب، ضعاف الخيال بينما الآريون واسعوا الخيال، كبر في أذهانهم جلال القوى الطبيعية لأنهم نشؤوا في أقطار ذات مناظر طبيعية جميلة جلية فخمة غريبة. وهم أقدر على وصف خلجات النفوس والساميون أقدر على تشبيه ظواهر الأشياء”(4).

وهو يعيد القارئ بعد التفصيل في هذه المحاكمة إلى مرجع موثوق: “انظر براون في كتابه “الأدب الفارسي”.

أما التمييز بين الآريين (“العرق التخيلي”!) والساميين فليس هو ما يلفت انتباهنا في نص أحمد أمين فهذا أمين تمييز عادي (أرثوذكسي كما يمكن للأستاذ إدوارد سعيد أن يضيف) وما نريد التركيز عليه ولفت انتباه القارئ إليه هو الأوالية النفسية التالية التي تسود المحاكمات الحداثية العربية لحد الآن والتي تظهر واضحة في النص

أولاً: ثمة افتراض علة جوهرية مسبقة في “الشرق” أو “المسلمين” أو “العرب” أو –أخيراً “الساميين”.

ثانياً لا يتم بحال البرهان على هذه العلة، على وجودها بحد ذاته، بل يتم “التأكد” من وجودها إما باكتشاف الفروق بين أي صفة من صفات هذه الهوية التخيلية الدونية والصفة المناظرة للهوية العليا-المرجع: الغرب- الآريين- إلى آخر هذه الهويات التخيلية، أو يتم اعتبار الفروق برهاناً على وجود هذه العلة. وإذا كانت الخطوتان الأوليتان للتعامل المعرفي مع الفروق بين الهوية الدنيا- هوية الذات والهوية العليا- هوية الآخر- المرجع هي اعتبارهما دليلاً على وجود العلة الجوهرية في الذات ومؤشراً على وجودها فإن الخطوة الثالثة هي الدعوة إلى التخلص من كل سمة مميزة للذات لأنها سبب ونتيجة للدونية.

وكما في نص أحمد أمين يتم بصورة تعسفية من جهة خلق فروق بدون برهان كاف (فلماذا –مثلاً- كان المتصوف العربي محيي الدين بن عربي “قوي الحس ضعيف الخيال”! أين البرهان على هذه المصادرة!) ومن جهة أخرى خلق تفسير لهذه الفروق المخترعة (فلماذا-مثلاً- لم يفعل “جلال وجمال وفخامة المناظرة الطبيعية” في الأندلس موطن ولادة ابن عربي وفي دمشق موطن وفاته فعله في الآريين الفرس!).

لنفرض أن تلميذين في صف ما اختلفا في درجة التفوق في الرياضيات: وفقاً لمنطق قد نقول إنه هو في أن يماثل التأويل الاستشراقي وتأويل التلاميذ العرب للاستشراق قد يكون سبب التفوق الأول طويل القامة والثاني قصيرها.

غير أن الواقع أسوأ حتى من هذا المثال إذ أن “جلالة المناظر الطبيعية” لا يسهل تعريفها و “حدها”- على الطريقة المنطقية الصورية- كما يسهل تعريف “القامة الطويلة” و “القامة القصيرة”.

غير أن أحمد أمين يبدو متأكداً من أن “الصحراء” أقل “جلالة وفخامة” من الغابة فمن أين أتاه هذا اليقين- الذي هو فيه مخلص كل الإخلاص-؟
نجد المفتاح في تأكيد ابن خلدون في “أن النفس تعتقد الكمال في من غلبها” وبالتالي بكل شاراته وعاداته (أي بلغتنا المعاصرة: بكل سماته المميزة بما فيه تلك السمات الموجودة بالصدفة والتي لا علاقة لها بواقعة الغلبة).

غير أن لهذا سبباً آخر –نفترض أنه ينبني على هذا السبب- وهو الاحترام الخارق للمرجع الغربي واعتباره معصوماً علمياً لا يأتي أقواله الباطل، وهو، حتى حين يقرر أن العرب- مثلاً- بتكوينهم الجسدي البيولوجي بالذات ذوو مكانة دونية حتمية فإن المثقف العربي الحديث كان يقبل هذا القول على أنه قول العلم غير المنحاز ويستشهد به ويعده أرضية أساسية للبحث.

صفق المثقفون العرب الحديثون طويلاً للإجراءات “الإصلاحية” التركية التي قام بها مصطفى كمال. وهذه الإجراءات يمكن لكل صاحب عقل سليم (أي لأي شخص غير المثقف العربي الحديث!) أن يرى فيها حماقات مضحكة ونكتة كبيرة. غير أن هذه النكتة الواقعية كانت تعكس عصاب المرحلة الجماعي عندنا وعندهم.

يمكن للإنسان بغض النظر عن موافقته أو رفضه أن يرى معنى للقضاء على نظام الخلافة، لفصل الدين عن الدولة والمدرسة، غير أن أيّ إنسان حتى لو كان معادياً للدين ولكنه لم يفقد عقله بصورة نهائية لا رجعة فيها لا يمكن أن يرى معنى لتحويل يوم العطلة من الجمعة إلى الأحد ولا لمنع الطربوش واستبداله بالقبعة!

هاهنا نرى هذه الأوالية البسيطة التي سار عليها الحداثيون الأتراك والعرب: كل ما يميزهم هو بآن علامة على التقدم وسبب له، وكل ما يميزنا هو بآن علامة على التخلف وسبب له وعلى هذا الأساس حاول الحداثيون عندنا إلغاء الأحرف العربية ووضع أحرف لاتينية مكانها.
لنفرض أن الولد القصير هو المقصر في الرياضيات: إن “مصلحاً” يفكر بطريقة المثقف العربي الحديث سيلتمس وسيلة لجعله متفوقاً ليس بتعليمه أصول الرياضيات ولكن بتطويله! وعلى سرير بروكوست هذا أراد مثقفون عرب بالفعل في بداية القرن العشرين تمديد المجتمع العربي ليقصروا منه ما طال ويطولوا منه ما قصر بحيث تزول الفروق بينه وبين المجتمع الغربي: “الطريق واحدة فذة ليس لها تعدد وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره.. ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع”(5).

الدكتور طه حسين اشترك في هذه الدعوة إلى احتذاء طريق الغرب بقضه وقضيضه مع سلامة موسى غير أنهما كانا على قدر كاف من المنطق لينتبها إلى أن الأطروحة الأساسية: “الشرق هو شيء مختلف كلياً عن الغرب ولا يمكن له بحكم طبيعة جوهرية فيه أن يتغير ويصبح غرباً” لا تنسجم منطقياً مع متطلبات دعوتهما هذه إذ هي والحال هذه تشبه دعوة القرد أن يحذو حذو الإنسان!

الحل الذي وجداه كان باتباع أوالية تكاد تشبه أوالية “الإنكار” التي يتحدث عنها التحليل النفسي بصفتها إحدى الأواليات الدفاعية -العصابية- للأنا: لقد أنكرا أن تكون مصر شرقيّة: طه حسين قال إن مصر يونانية وسلامة موسى قال إن مصر آريّة! وهذا الزعم الأخير استفز الأستاذ ساطع الحصري الذي ذكره بأن بعض الشرق المحتقر آري مثل إيران وأفغانستان والهند على حين أن بعض الغرب المحترم غير آري مثل هنغاريا وفنلندا وإستونيا(6)

ج-تمثيل مجتمع أخرس:

وسمت الثقافة العربية الحديثة منذ نشوئها بسمة الانفصال التام عن المجتمع. لقد كان المثقفون الأوائل في العادة خريجي معاهد ومدارس ذات ارتباط وثيق بالسلطة الاستعمارية (مدارس تبشير، مدارس حديثة فرضت عليها المناهج الغربية) وأما من حيث النسبة العددية لهؤلاء المتعلمين فقد كانوا قطرة في بحر من الأميين (فوق التسعين بالمائة في جميع الحالات)

إن الانفصال بين “العالم” و”العامة” كان قديماً غير أن هذا الانفصال كان مختلفاً في طبيعته كل الاختلاف عن مقابله الحديث سواء أفي وظيفة “العالم” أم في وظيفة “العلم” فخلافاً لحال المثقف الحديث لم يكن العالم في خدمة قوة مهيمنة غريبة (من خارج المجتمع) وخلافاً لحال الثقافة العربية الحديثة لم يضع العلم العتيق على نفسه مهمة الهيمنة على المجتمع ومحاولة تغييره انطلاقاً من نموذج غريب جاهز.

وحتى العالم الديني الحديث “حدّثت” المدارس العليا التي اعتادت أن تخرجه بحيث فقدت استقلاليتها  التي كانت تتيح لها التعبير المستقل عن مصالح الجماعة الأهلية أو عن الرؤى الدينية القويمة بلا تدخل هوى السلطان. ونتائج التحديث نشهدها في المثالين الذين سنضربهما مراراً: “الأزهر” و”الزيتونة” وهما ليسا الوحيدين.

إذا كانت الثقافة العربية الحديثة كما قلنا قامت على أساس المسلمة الاستشراقية نفسها التي تقول إن الشرق يشكو من عيب جوهري يجعله غير قادر على أن يتجاوز وضعه المأساوي على الأقل طالما هو محتفظ “بجوهره الشرقي” فإنه ينتج من ذلك منطقياً أن هذا الشرق يجب أن يمنع -لغرض إصلاحه!- من التعبير عن ذاته الحقيقية لأن هذه الذات تتناقض مع نموذج الأصل الأساسي (الغرب) ومن هنا كان من الملائم عد المجتمع الأهلي مجتمعاً ينبغي إسكاته وترك “النخبة” تتكلم بالنيابة عنه لأنه إن نطق فلن ينطق إلا بلغة “لا تعبر عن عصرها” (: العصر “في الاستعمال المعاصر في الثقافة العربية هي كلمة مرادفة لكلمة “الغرب” فالعصر هو الغرب والغرب هو العصر ومن لم يتطابق مع الغرب فهو لم يتطابق مع العصر والذي لم يتطابق مع الغرب يعيش خارج الزمن المعترف به فالزمن مضبوط على الساعة الغربية حتى لو كانت الشمس تشرق عندنا أولاً)

اللغة الوحيدة المعترف بها هي “لغة العصر” ومن هنا كان مجتمعنا أخرس منذ عصر النهضة فهو لا يتقن لغة العصر لذلك فما هو إلا الطفل يحتاج إلى وصيه ليعبر عنه وهذا الوصي تمثل في النخب المستغربة بتجلياتها العديدة وأسمائها وأيديولوجياتها المتباينة التي تلتقي في نقطة واحدة هي نقطة الاستيراد الجاهز والتي لها طبيعة واحدة هي الطبيعة الوصائية التي تنقلب في التطبيق إلى أنظمة اجتماعية-سياسية شمولية لم تزل قائمة في أماكن عديدة من بلادنا لا يتغير منها إلا أشكالها وأسماء قادتها.

ومحاولة “إنطاق الأخرس” أي التعبير من جديد عن هذه الهوية المكبوتة: الهوية الخاصة المغايرة للمجتمع الأهلي، “الذات الحقيقية” هي المهمة الأجل للتيار الثقافي التأصيلي العربي.

هوامش
1- “الاستشراق”-المعرفة-السلطة-الإنشاء-إدوارد سعيد-ترجمة كمال أبو ديب-مؤسسة الأبحاث العربية-طبعة ثالثة-1991-ص40.

2- “توفيق الحكيم”-د. إبراهيم ناجي، د. إسماعيل أدهم-مكتبة الآداب-1984-القاهرة-دراسة “أدهم” نشرت أولاً في مجلة “الحديث” الحلبية لصاحبها الدكتور سامي الكيالي الذي كتب مقدمة للكتاب تاريخها 15/1/19945.

3- المرجع نفسه-ص12.

4- “ظهر الإسلام” -أحمد أمين-الجزء الرابع-الطبعة الخامسة-مكتبة النهضة المصرية-1982-القاهرة-ص170.

5- “مستقبل الثقافة في مصر”- د. طه حسين-دار الكتاب اللبناني-بيروت-1982-ص54.

6- انظر مقالاً شيقاً عن هذا السجال الذي دار في العشرينات و رافق إنشاء ما سمي “بالرابطة الشرقية” ومجلتها في مصر: “الرابطة الشرقية وتهمة الإلحاد”- د. عبد العظيم أنيس-مجلة “اليسار” المصرية -العدد الثالث- مايو1990.

عن محمد شاويش

شاهد أيضاً

جداريات السوري اسماعيل الرفاعي: طقوس وحدْس وطباشير طفولة

يقول اسماعيل الرفاعي، المولود بمدينة الميادين في سوريا عام 1967: «مشروعي الفني التشكيلي التعبيري ارتبط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *