فصل دراسي ابتدائي يهودي في تل أبيب عام 1973 (الصورة: ويكيميديا)

ما لا يتم تدريسه في المدارس الإسرائيليةـ : وجهة نظر أمّ فلسطينية ـ

ترجمة : عبد الغني بومعزة*

  في صباح أحد أيّام الثلاثاء من الشّهر الماضي، بعد أيّام قليلة من اشتداد الانتفاضة في حيّ الشّيخ جراح في القدس ، اتّصلت بي ابنتي مخبرة ايّاي بأنّ مدير المدرسة وهو فلسطيني من مواطني إسرائيل، رفض دخولها هي وطلاب آخرين إلى المدرسة لأنهم كانوا يرتدون ملابس سوداء ويغطون أكتافهم بالكوفيّة الفلسطينيّة،”اذهبي إلى المنزل أو اتّصلي بوالديك لإحضار زيّك!”، قال، كان الأطفال يرتدون ملابس تضامنيّة مع الفلسطينيين في القدس وغزّة، قد يبدو غريباً أن أفعالهم أثارت قلق مدير مدرسة فلسطيني في إسرائيل، تلخص الحادثة مفارقات الحياة الفلسطينيّة هناك، لطالما قامت إسرائيل بإدارة وصيانة نظامين مدرسيين منفصلين، أحدهما للأغلبيّة اليهوديّة الناطقة بالعبريّة والآخر للأقليّة الفلسطينيّة الناطقة بالعربيّة، في حين أنّ هذا الترتيب ظاهريا قد يبدو أنه يستوعب الاختلافات الاجتماعيّة والثقافيّة، إلا أنه في الواقع يحافظ على الانقسامات التّي تفضّلها الأغلبيّة اليهوديّة، على عكس الطلاب اليهود الذّين يقرؤون أدب وشعر الحركة الصّهيونيّة التّي احتفلت بقيام دولة إسرائيل عام 1948، لا يقرأ الطلاب الفلسطينيون كلاسيكيات الأدب الفلسطيني التي تُدرَّس في العالم العربي، كما أنهم لا يتعلمون النكبة أو التاريخ الفلسطيني، بقدر ما هو مطلوب منهم معرفة المزيد عن القيم والثقافة اليهوديّة، في الواقع، على الرغم من أنّ الفلسطينيين يستخدمون اللّغة العربيّة كلغة للتعليم في مدارسهم، إلا أنّ الطلاب الفلسطينيين يخصّصون ساعات دراسيّة أكثر بكثير لدراسة العبريّة والتاريخ والثقافة اليهوديّة، مقارنة بالأدب والتاريخ العربي، علاوة على ذلك، يقوم السّياسيون الإسرائيليون اليمينيون بشكل روتيني بتشويه سمعة الشّاعر الفلسطيني محمود درويش والذي حاولوا حظر عمله في كلا النظامين المدرسيين، و لقد وصف وزير الدّفاع الإسرائيلي السّابق أفيغدور ليبرمان ذات مرّة قصائد درويش بأنّها” وقود الهجمات الإرهابيّة !” .

  لطالما نظرت الدّولة الإسرائيليّة إلى الهويّة الوطنيّة والثقافيّة الفلسطينيّة على أنها تهديد للطبيعة اليهوديّة لإسرائيل، وبالتالي فان نظام التعليم يؤدي دورا مزدوجا، من جهة فهو جهاز لغرس القوميّة اليهوديّة ومن جهة ثانيّة فهو يلعب دور سلخ فكرة القوميّة لدى الفلسطينيين، فكرة الهويّة ميدان معركة حاميّة الوطيس بين الجانبين، حيث يقوم هذا البرنامج  بالترويج للرّواية والسرديّة الصّهيونيّة ومحو الهويّة الوطنية الفلسطينيّة، لذا فإظهار التضامن مع محنة الفلسطينيين هو تحدي للمبدأ الأساسي لجهاز التعليم الإسرائيلي، بعبارة أخرى، من وجهة رأي منطقيّة فلقد كان مدير المدرسة محقًا، كانت لفتة ابنتي ورفيقاتها الرّمزيّة فعل مقاومة، لقد أصرّ الطلاب على السماح لهم بالدخول، و وافق المدير في النهايّة، لكن هذا كان بقدر ما كان موظفو المدرسة على استعداد للذهاب  إليه، وعندما بدأ الطلاب مناقشة الأحداث التّي تجري في القدس وغزّة، أجاب المدير والمعلمون ” إنّها مؤسّسة تعليميّة، لا يجوز لنا مناقشة الأمور السياسيّة!”، في اليوم التّالي اتّصل بي ابني للإبلاغ عن أنّ نشطاء يمينيين يهود كانوا يستهدفون الطلاب الفلسطينيين في معهد( Technion Israel Institute of Technology)في حيفا، حيث يدرس هندسة علوم البيانات، شعرت بالذعر في صوته، رغم أنّه كان يحاول يائسًا إخفاء ذلك، كان قد طلب العودة للبيت، وعلى الرغم من أنّ لدي ردّة فعل قويّة للتعامل مع المضايقات المستمرّة والتمييز والعنصريّة التّي عانيت منها، إلا أنني لم أكن مستعدة لهذه اللحظة الرّهيبة”إدراك أنني قد لا أكون قادرة على حماية طفليّ عندما تكون حياتهم في خطر لمجرّد أنّهم فلسطينيون”، بدت الرّحلة التّي استمرت ساعة إلى حيفا بلا نهايّة،لم نتبادل أنا وزوجي ولا  كلمة واحدة، استمعنا إلى محطة إذاعيّة محليّة أثناء بثها أغنيّة جوليا بطرس، “أنا بتنفس حوريه، ما تكتي أن الهوى”(أنا أتنفس الحريّة، لا تقطع الهواء)، أخيرًا، وصلنا،”كيف حالك؟”، سألت دون تفكير، كان وجهه شاحبًا ويدّاه ترتعشان، سؤالي التّافه أصبح فجأة لا يطاق، شعرت بالارتياح والرّعب في طريقي إلى البيت .

***

 سواء كنا نبقي أنظمتنا التعليميّة منفصلة أو ندمجها، يجب أن يتعلم الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون كلا من القصص و الثقافات والهويات،أن تكون والدًا فلسطينيًا في إسرائيل يعني أن تشعر بالانشطار إلى قسمين، إن إرادة الوالدين لحماية أطفالهم من الأخطار القاتلة يجعلهما يعيشان في توتّر مع الإرادة الأخلاقيّة لتربيتهم، كبشر يستحقون ويفخرون بأنفسهم و بجذورهم، يتطلب الحفاظ على الإحساس بالحياة الطبيعيّة الإبحار في هذه الالتزامات في حياة مليئة بالصّراع، نحن نسعى جاهدين للتحرّر من دور الضّحيّة المعرّضة على الدوام للابذاء، محاولة إقناع الآخر للتحدث معنا وإسماع أصواتنا، لكن مضطهدينا يواصلون وصف وجودنا كمواطنين في إسرائيل على أنه”مشكلة”، نحن مدعوون باستمرار لتبرير وجودنا في هذا المكان، وكأننا قدمنا إلى هنا من تلقاء أنفسنا ولم نولد على هذه الأرض، هناك صراعات يجب التفاوض بشأنها داخل مجتمعنا المتنوّع دينياً وثقافيا، على الرغم أنّ هذا التنوّع المرحّب به يفرض تحدّياته الخاصة، الأهم من ذلك، تتوقع منا الدّولة أن نكون مواطنين صالحين يحترمون القانون بينما يتمّ التعامل معنا رسميا وعمليا كمواطنين من الدّرجة الثانيّة في بلد يعرّف نفسه على أنّه دولة قوميّة للشعب اليهودي، نحن نتحدث العربيّة كلغتنا الأم، لكنّنا نقوم بأنشطتنا اليوميّة – التعليم والعمل والخدمات الطبيّة والتسوّق- بلغة الدّولة الرّسميّة، العبريّة، نتعاطف مع تاريخنا، لكنّنا مجبرون على تعلم وتعليم أطفالنا تاريخ آخر تفرضه علينا وزارة التربيّة و تبطل تجربتنا كفلسطينيين .

  بينما أكتب، أسمع أصوات الآباء الإسرائيليين اليهود يلفتون الانتباه إلى معاناتهم ومصاعبهم، صحيح أن ما أشعر به كوالدة فلسطينيّة لا يلغي معاناة الآخرين،على العكس من ذلك، أعتقد أنه من خلال حسّنا السّليم في التربيّة، يجب أن نكون قادرين على فتح مساحة عاطفيّة لإمكانيات جديدة ومستقبل أفضل وأكثر عدلاً، للعيش في مجتمع مفخّخ بالصّراع آثار عاطفيّة واجتماعيّة وحتّى وجوديّة على المدى القصير والطويل، يجب على جميع مواطني هذه الدّولة السّماح بتغليب إنسانيتنا على طريقة حياتنا، وإلا – كما حذّر مارتن لوثر كينج ذات مرّة من الانقسامات العرقيّة في الولايات المتّحدة- فسوف”نهلك معًا مثل الحمقى”، اليوم، بعد أسابيع من أحداث العنف في أيار(مايو)في إسرائيل وفلسطين، تطالب الأصوات في كلا الجانبين بمداواة الجراح، لكن لا يمكن أن يكون هناك عدل،ولا علاج دون اعتراف واسع بعدم المساواة العميقة بين الفلسطينيين واليهود في إسرائيل، في غياب مثل هذا الاعتراف، يمكننا العمل عليه من خلال اكتشاف الأطر الأيديولوجيّة التّي تدعّمه، تسمّي نانسي فريزر هذه الجهود بـ” العلاج التحويلي”، أعتقد أن التفكير النقدي في النظام المدرسي الإسرائيلي هو العلاج التحوّلي الجوهري، وأحاول أن أشارك في هذا المشروع المأمول من خلال تطوير أساليب التّدريس التحويليّة،تعليمي الخاص وخبرتي في التدريس هما مصدر أملي في علم أصول التّدريس وفي نفس الوقت انعدام الثقة به .

***

  ولدتُ في الناصرة لعائلة فلسطينيّة من الطبقة الوسطى، وُلِد والدايّ قبل النكبة الفلسطينيّة عام 1948 – والدي من الناصرة ووالدتي من حيفا ـ ولقد اعتقدا دائمًا أنه على الرغم من الصّعوبات، فإن الحوار والتعاون هما أفضل مواردنا البشريّة، وللحفاظ على هوّيتهم الفلسطينيّة،حرصوا على أن أعرف أنا وإخوتي بجذورنا الفلسطينيّة، فضلاً عن هوّيتنا كمواطنين إسرائيليين، قرأنا الأدب الفلسطيني وسمعنا قصصًا من المجتمع، استمعنا للموسيقى العربيّة الشّرقيّة، وتناولنا الطعام الفلسطيني، وتابعنا الإعلام العربي، وفوق كلّ شيء، تحدثنا العربيّة الفلسطينيّة، لذا بصفتي مواطنًة فلسطينيًة وإسرائيليًة أدعو إلى تغيير جذري في نظام التعليم في إسرائيل، لقد عزّزت تربيتي في داخلي احترام التعلم والتعليم وتقدير الآخرين في العالم، وتقدير الأشخاص المختلفين عنّي، اخترت التخصّص في اللغة الإنجليزيّة لأنني اعتقدت أن الانضباط سيفتح الباب أمام الفرص عبر الثقافات، لكن سرعان ما تحوّل افتتاني باللغة الإنجليزيّة وكلّ ما اعتقدت أنه يمثله إيجابيًا إلى تحقيق نقدي .

  أثناء عملي كأستاذة للغة الإنجليزيّة في المدارس الثانويّة الفلسطينيّة الواقعة في الجليل الأعلى، اضطررت لاستخدام الكتب المدرسيّة والأدب المرخّص به من قبل وزارة التعليم الإسرائيليّة،من خلال هذه النصوص، بدأت أتساءل عن التمثيل الثقافي في الخطابات التعليميّة الإنجليزيّة وعلاقتها بإعادة الإنتاج الاجتماعي للسّلطة والسّيطرة،كان الدرس الأصعب الذي تلقيته هو إدراك أنه على الرغم من حماسي للغة الإنجليزيّة، إلا أنني لم أكن موجودًة في الكتب المدرسيّة باللغة الإنجليزيّة، كما قال “أدريان ريتش” بشكل مثالي، أثار هذا الكشف عملي الأكاديمي حول طرق مكافحة إعادة إنتاج الايدولوجيا في الخطاب التربوي وتسهيل التحوّل الاجتماعي، أعتقد أنّ ممارساتنا التعليميّة يجب أن تعزّز أولّاً قدرة الطلاب والمعلّمين على الانخراط في حوار نقدي، مستوحى من باولو فريري، أفهم الحوار على أنه حاجة وجوديّة لمنح طريقة للمعرفة وليس فقط للتعلم، مهمّتنا الأخلاقيّة النهائيّة كمعلمين، يعملون ويعيشون في مجتمعات تعاني من صراع طويل الأمد، هو جعل الحوار فلسفة حياة، عندما يشارك الطلاب في الحوار، يصبح التفكير النقدي والعمل أمرًا روتينيًا، ليس فقط حول القضايا الملحة في حياتهم الخاصة، ولكن أيضًا حول الاحتياجات والتحديات الأخرى .

 إن السّماح للطلاب من إسرائيليين وفلسطينيين على حد سواء بفحص بعين ناقدة اختلافاتنا، تناقضاتنا، وفي نفس الوقت ما يجمعنا وما يقرّبنا كشعب متعدد الأعراق مطالب بالعيش والتعايش، وكيف يجب أن نتحمّل جميعًا المسؤوليّة عن التأثير في التغيير الاجتماعي، يشكّل الأساس لأصول تعليميّة حاسمة للتحوّل بدلاً من الاستمرار في معاملة الآخر على أنّه”مشكلة”… يجب أن يتعلم التلاميذ قبول الآخر على أنّه”مختلف”، لكن أيضًا، قبل كلّ شيء، تعليمهم اننا جميعا متساوون، لذا أعتقد إن تعليم الطلاب التشكيك في الممارسات السّائدة ليس مجرّد تمرين تدريبي متنوع، بل هدفه خلق عوامل التّغيير، من المشكوك فيه ما إذا كان مثل هذا الحوار ممكنًا، أودّ أن أقول أنّه ضروري، على الرغم من علاقات القوّة الغير المتكافئة التّي أبرزتها الأحداث المأساويّة التّي وقعت الشّهر الماضي، فقد كشف الناس على الجانبين عن مستويات مقلقة من”التعصّب والعنصريّة والكراهيّة “، مع ذلك، أعتقد أنه يمكن للطلاب تعلم رؤيّة بعضهم البعض على أنهم مختلفون وفي نفس الوقت يكونون فيه متساويين و جديرين، يبدو لي أنّ جوهر المشكلة اليوم هي السّرديّة الحصريّة التّي يرويها كلّ جانب، فالاحتفال”بالاستقلال”لدى الإسرائيلي بالنسبة للفلسطينيين هو عكس ذلك، هو روايّة النكبة، الكارثة، مهمّتنا هي التعرّف على هذه القصص وإشراكها في الحوار، في بدايّة التّاريخ العربي، بحسب روايات محمد أبو زهرة، تنافست الجماعات الدّينيّة (يهود، مسيحيون، مسلمون) للسيطرة على الأراضي العربيّة، ومن خلال”الجدال”، فن الجدل، تمكنت هذه المجتمعات من تسويّة خلافاتهم، تقول الكاتبة المغربيّة الناشطة في مجال حقوق المرأة فاطمة المرنيسي أنه “حيثما يُستخدم الجدل، لا تكون القوّة ضروريّة”، في قلب التربيّة النقديّة التحويليّة يوجد كلّ من الحوار كمبدأ فلسفي، والجدل، كأسلوب تربوي، لهذا،أشارك قصّتي الخاصة، فلقد نشأت مع قصّة النكبة في منزلي ومجتمعي، شعرت دائمًا بالمسؤوليّة عن نقلها إلى أطفالي، تمامًا كما فعل والدايّ لي ولإخوتي، كان ذلك ضروريًا لهوّيتنا، و كنت أخشى أنه بدون هذه الرّواية سينمو أطفالي دون الشّعور بالانتماء وتقدير الذات، مع ذلك فأنّ الهويّة الفلسطينيّة منبوذة و مطموسة في الأماكن العامة الإسرائيليّة، لذا فلقد عزّزت، مثل الفلسطينيين الآخرين في إسرائيل، إحساس أطفالي بأنفسهم كفلسطينيين في إسرائيل بشكل أساسي وخصوصا في بيتنا .

***

  لقد حاولت المؤسّسات الإسرائيليّة الرسميّة ضمان نزع الجنسيّة عن المجتمع الفلسطيني من خلال نظام مراقبة متطوّر تمّ غرسه في المدارس الفلسطينيّة، سادت المراقبة بشكل مباشر خلال الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على المجتمع الفلسطيني بين عامي 1948 و1966 ، ممّا قيّد حركتهم وتنظيمهم السّياسي وحصولهم على سبل العيش، ولا تزال بقايا هذه الفترة تحكم العلاقة بين المجتمع الفلسطيني ومؤسّسات الدّولة حتّى يومنا هذا، في الواقع، تعمل سياسة النظام العسكري في شكل نظام استطرادي متجذر بعمق في الوعي الفلسطيني، ممّا يصعب من مهمّة الفلسطينيين في التعبير عن هويّتهم وتجربتهم،

يدفعني هذا للقول بأنّ الأحداث التّي وقعت في الأسابيع القليلة الماضيّة هزّت إيماني وزادت من قناعتي بأنّ تنميّة هويّتنا و التعبير عنها على انفراد أمر كافٍ وأخلاقي،يدعو هذا الموقف المهتز إلى طرح مجموعة من الأسئلة، لماذا بصفتي أحد الوالدين ، يصبح التأقلم مع فعل المراقبة/الإشراف، هو رفض/ اعتراض مناسب لفعل محو عام لسرديتنا / تاريخنا؟، ما هي المسؤوليّة التّي تقع على عاتقي بصفتي أكاديميّة وأستاذة لإسماع صوت أطفالي ومجتمعي والنضال من أجل حقنا في تعليم أطفالنا بحريّة وفخر؟، من نكون ومن أين قدمنا؟، وما هي مسؤوليّة تمكين مثل هذه الأصوات والتّي من البديهي هي مسؤوليّة تقع على عاتق الأكاديميين والمربّين اليهود الإسرائيليين الذين يمتلكون معظم السّلطة في المؤسّسات الأكاديميّة وصانعي السّياسات الإسرائيليّة ؟،هل يمكننا أن نتحدث بصدق عن رغبتنا في تحقيق”السّلام”و”التعايش”مع العلم أنّ سرديّة واحدة فقط مشروعة والأخرى مرفوضة؟ ….

 أدرك أنّ هذه الأسئلة ليست سهلة لأي من الجانبين، كلنا، يهود إسرائيل وفلسطينيون مشحونون بالخوف، نخشى أن يؤدي التعرّف على سرديّة ما قد تفضي(حسب مخاوف الآخر)إلى إبطال سرديّة الآخر، نخشى أن يؤدي فتح الباب لمثل هذه المناقشات في النهايّة إلى تنازلات أساسيّة(أو إلى ما نعتقد أنه أساسي)، ليس هذا فقط، بل أيضا نخشى الخروج من مناطق”الآمان”لدينا لأنّ حل النزاع يتطلب تفانيًا وجهدًا هائلاً، مرورا بالخوف من أن نكتشف إنسانيّة الآخر عندما نقبل أنظمة الآخر السّائدة، وهذا يحيلنا إلى خوف آخر، انه الخوف من الثمن الباهظ الذي قد نضطر لدفعه مقابل التحدّث علنًا ضدّ المؤسّسات الإسرائيليّة التّي غالبًا ما تضطهد الفلسطينيين والإسرائيليين الذين يدعّمون الفلسطينيين في نضالهم من أجل العدالة الاجتماعيّة والمساواة، باختصار، انه الخشيّة من التحوّل الاجتماعي، لكن بالتحديد من خلال السّعي لكسر قيود هذه المخاوف يمكننا تعزيز علم أصول التدريس التحويلي النقدي .

  يمكن للمدرّسين الفلسطينيين، على سبيل المثال، أن يبدؤوا بالسماح لطلابهم بأن يسألوا ويتعلموا عن تاريخهم وهوّيتهم كفلسطينيين، بالمقابل يمكن للمدرّسين اليهود الإسرائيليين أيضًا أن يبدؤوا بمساعدة طلابهم في التساؤل عن نزعة الجانب الواحد للقصص التّي يتعلمونها في المدرسة، قد يتحدى الانخراط في هذه الحوارات الطريقة التّي تميل بها الكتب والمناهج الدراسيّة إلى محو الرّوايّة الفلسطينيّة، جميعنا يهود إسرائيل وفلسطينيون ممتلئون بالخوف،نخشى أن يؤدي التعرّف على قصّة الآخر إلى إبطال قصّتنا، لا أتظاهر بمعرفة كيف ستنفذ هذه الاستراتيجيات، ومع ذلك، أنا مقتنعة بأن التغلب على مخاوفنا سيسمح لنا برؤيّة الأطر الأساسيّة التّي تولّد الظلم الاجتماعي بوضوح، وللقيام بهذا العمل، نحتاج إلى معلمين مصمّمين على تحويل أنفسهم ومدارسهم – الطلاب والآباء،وكذلك المجتمع ككلّ -من متلقين سلبيين للأيديولوجيات السّائدة إلى عوامل إبداعيّة للتغيير الاجتماعي .

 يحتاج المعلمون المتحوّلون إلى تفكير جاد في أخلاقيات مهنتهم وكذلك في دورهم كوسطاء في بناء المعرفة عن الآخر، و بصفتي مواطنة فلسطينيّة وإسرائيليّة،وأم ومعلمة نقديّة، وعضو في أقليّة وأخصائيّة اجتماعيّة، أدعو إلى تغيير جذري في نظام التعليم في إسرائيل،سواء كنّا نبقي أنظمتنا منفصلة أو ندمجها في نظام واحد، يجب على الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين تعلم الرّوايات والسّرديات والثقافات والهويات، كما أدعو المعلمين والأكاديميين اليهود الإسرائيليين إلى الاهتمام بصوت مجتمعي المضطرب، الاستماع شرط للحوار بين الأنداد، بالطبع الحوار لا يعني الموافقة، لا يحتاج الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون لقبول قصّة بعضهم البعض كقصّة خاصة بهم، لكن يمكنهم مع ذلك فهمها وتقدير معناها لمن يختبرونها، يجب أن نكون مستعدّين للحفاظ على هذه التوتّرات بين وجهات نظرنا للعالم، مهما كانت عميقة ومخيفة، هذا إذا أردنا التعرّف على أنفسنا .

 طوال حياتي كنت فخورة بكوني فلسطينيّة وكجزء من المجتمع الإسرائيلي، وعملت على جعل هذه الهويّة ممكنة للآخرين، و عندما توقف احتجاج ابنتي وتعرّضت حياة ابني للتهديد، لم يبدُ أي شيء ممكنًا، أن تكون فلسطينيا في إسرائيل أصبح يمثل خطرا واضحًا لدرجة أنني شعرت بأن الأرض مفتوحة تحتي، عندما كتبت هذا، أعدت اكتشاف قناعاتي، لا أعرف كيف أحقق المساواة للفلسطينيين، لكنني أعلم أننا قادرون على العيش على هذه الأرض كشركاء،  حسب رأيي تتمثل الخطوة الأولى في تبنّي طرق تربويّة تحويليّة في نظام التعليم الإسرائيلي، بحيث يجب أن ينفذها الفلسطينيون وأن يركزوا على إرادتهم الحرّة وقدرتهم على المشاركة كمواطنين مشاركين بالكامل في إسرائيل .

***

هوامش

رابط النص الأصلي :

http://bostonreview.net/global-justice/muzna-awayed-bishara-israel-education

العنوان الأصلي: What Isn’t Taught in Israeli Schools

الكاتب: مزنة عويد بشارة Muzna Awayed-Bishar: دكتوراه من قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة حيفا، اهتماماتها البحثيّة الرّئيسيّة هي دراسات الخطاب النقدي، تعليم اللغة الإنجليزيّة كلغة أجنبيّة في السّياقات العالميّة والمحليّة، تعليم أصول التدريس الفريري(نسبة لباولو ريجلوس نيفيس فريري / Paulo Freire‏، معلم برازيلي وصاحب نظريات ذات تأثير كبير في مجال التعليم)، التواصل اللغوي والثقافي وسياسة اللغة والتخطيط في سياقات الصّراع، وهي حاليًا زميلة ما بعد الدّكتوراه في جمعيّة مارتن بوبر للزملاء في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، الجامعة العبرية في القدس  .

***

*عبد الغني بومعزة ( كاتب و مترجم من الجزائر )

مختص في الكاموية ( ألبير كامو ، النص والإشكال والظاهرة )

–  مجموعة قصصيّة ” مجزرة في ساحة الملوك ” سنة 1999 عن دار الفنك.

– رواية الأميرة والغول, سنة 2009، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين ..

– كتاب في السينما “ إطلالة على سينما الآخر “ دار التنوير سنة 2012.

– كتابات في السّينما والصورة الفوتوغرافية والتّرجمة منشورة في الملاحق الثقافية الوطنية والعربية   .

– كتابة سيناريو فيلم وثائقي “أبو القاسم الشّابي، الرحلة الأخيرة” بالاشتراك مع القنصلية العامة التونسية ، سنة 2009 ..

– رئيس جمعية ثقافية جسور للثقافة والفنون.

ـ رئيس لجنة تنظيم مهرجان الأهراس للأفلام الوثائقية و القصيرة 2015 .

عن عبد الغني بو معزة

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *