كيف لا نتحدث عن غزة

كولين دايان

ترجمة: محمود الصباغ

I

يشبه الحديث عن غزة، الحديث عن الرب: فنحن أمام ما هو فوق أي وصف، ولا نستطيع التحدث عما نراه، ولو فعلنا ذلك فسوف نتهم بعدم تمتعنا بالفطرة السليمة، وبالفشل في اقتفاء مقاربة واقعية لما هو غير واقعي وغير منضبط. ولكن ما هو هذا الشيء غير الواقعي، بكلام آخر، ما طبيعة هذه المشكلة؟، وبحسب العنوان، المشكلة هم الفلسطينيون. يستطيع من هم في السلطة وفي مواقع صنع القرار، أن يصنفوا الفلسطينيون بأنهم “إرهابيون”، مثلما يصنفون كثيرين آخرين في عالمنا اليوم، لذا فإن القوة المميتة هي القاعدة والعنف الشديد -أو الاستخفاف المقصود- التي يمكن توجيههما عشوائياً ضد المدنيين وغير المدنيين على حد سواء. المشكلة ليست بسيطة. ولكن إذا اعتبرناها كذلك، فهذا يعني مجازفتنا بشرعنة سلوك من يضعون إسرائيل في وضع غير عادل، أو ربما أسوأ من ذلك، الذين يشككون في حقها في الوجود. وفي الاحتجاج على سياسة الحكومة الإسرائيلية، وإبداء درجات عالية من تعابير الاستهجان والرعب بسبب تجاوزاتها الوحشية، وبهذا فإننا نخاطر بأن يتم إدانتنا على أننا “معادون للسامية” أو ما هو أسوأ، “يهود كارهين أنفسهم”.

المناظرات المتعبة حول تاريخ الصهيونية وتهديد الحركة الوطنية الفلسطينية – أو، بصراحة أكثر، حول نهاية إسرائيل وما يسميه جوناثان إس توبين “حرباً لانهاية لها ولا أفق ضد الإسلاميين الفلسطينيين” – تجاهل ما هو محدد حول أكثر من أربعة عقود من الهيمنة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. تنعكس، بشكل خاص في هذه النقاشات أشكال مختلفة ومتنوعة من العنف المستخدم للسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول / سبتمبر 2000. نفذت إسرائيل، باسم “الأمن”، ما يمكن تسميته الوضع المستديم من حالة الطوارئ، حيث تتعايش القوة الغاشمة، إلى درجة كارثية في بعض الأحيان، مع الممارسة المنهجية للتمييز والمراقبة والاختفاء، وخلف هذه الحواجز- وهي مبثوثة في كل مكان – تعيش دولة إسرائيل المحصورة والمغلقة بعيداً عن منطقة المراقبة.

II

كيف يمكن الحديث عن بداية الانتفاضة الثانية؟

قام أرييل شارون في الثامن والعشرين من أيلول\ سبتمبر 2000 بزيارة الحرم الشريف في البلدة القديمة في القدس، لم يكتف شارون  بمثل هذه الإهانة المدروسة والاستفزاز الفاضح [المشاعر الفلسطينيين]، بل أعلن أن “الحرم القدسي في أيدينا”، مستعيداً أصداء البث الإذاعي [أثناء حرب] حزيران\ يونيو 1967، عندما احتلت القوات الإسرائيلية آخر أجزاء الأراضي الفلسطينية التي لم يتم احتلالها في العام 1948. ومثل أشياء كثيرة  أخرى في إسرائيل، غالباً ما تزداد قوة الإملاءات السياسية مع اقتراب الانتخابات. لكن تلك الزيارة لم تخلو من دورات عنف عشوائي تلتها، وسرعان ما فتحت القوات الإسرائيلية النار على حشود المتظاهرين العزل المتجمعين في الحرم القدسي، مما أسفر عن مقتل سبعة وجرح أكثر من 100 آخرين. كام استخدمت القوات الإسرائيلية الذخيرة الحية ضد الحشود -التي رشقت الجنود بالحجارة- في جميع أنحاء الضفة الغربية وغزة. وبعد خمسة أشهر، في السادس من شباط\ فبراير [2001]، تم انتخاب شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وفي الثامن عشر من أيار \مايو، أطلقت  طائرات الـ F-16  الحربية الإسرائيلية نيرانها، لأول مرة، ضد أهداف فلسطينية في غزة. وحديثي هنا عن المشهد الأصلي للانتفاضة الثانية، أي الحدث المسبب لها، ليس بهدف تبرير الهجمات الانتحارية ضد الإسرائيليين التي أعقبت ذلك في السنوات القليلة المقبلة، وإنما لإثارة العديد من الأسئلة المثيرة للقلق حول استخدامات القوة المميتة وحدود الإذلال المتعمد. فقك كانت زيارة شارون لقبة الصخرة [وللمسجد الأقصى]، بالنسبة للفلسطينيين تعدياُ غير مقبولاً. وقد بدا أن عقابيل هذا لاستفزاز-بالإضافة إلى القتال المسلح- أمر لا مفر منه، بدأت إسرائيل، على إثره، بناء الجدار الذي ابتلع، في الواقع، أجزاءً كبيرةً من الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من تسميته بـ “السياج الأمني” أو “الجدار”، وأن مبررات إنشائه استجابةً للمخاوف الأمنية، إلا أن هذا التشويش الخطابي أو التعبير الملطف لا يخفي هدفه الحقيقي. وكان جون غارد، المقرر الخاص للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسانـ قد كتب، في العام 2003، “يجب مواجهة الحقيقة بأن ما نشهده حالياً في الضفة الغربية هو ضم واضح وبادٍ للعيان للأراضي بذريعة الأمن”.

III

لا أستطيع سماع أصوات الضربات الجوية على غزة بواسطة الطائرات بدون طيار أو مروحيات الأباتشي أو F-16 أو مشاهدة الانفجارات أو الصور ومقاطع الفيديو للقصف بينما توسع إسرائيل نطاق أهدافها دون أن أسأل: هل هناك سابقة لهذا التهور من إلحاق الضرر والأذى المصحوب بالإعفاء من اللوم الذي يجب أن يوجه إلى إسرائيل؟. يبدو الجواب واضحاً. فمن خلال مشاهدة الحملة الإسرائيلية، وازدياد عدد الضحايا، أتذكر عدم وجود تقارير خلال الهجوم الأخير على غزة، في العام 2008. والتي بدأت بعد يومين من أعياد الميلاد. وبعد يوم واحد من فتح الحدود لإيصال المساعدات الإنسانية، بدأت إسرائيل في قصف غزة بطائرات F-16 ،وكتن الهدف المعلن، ظاهرياً، وقف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل. سيول من الدخان، وأمطار من القذائف، وناس يركضون وسط تحطم البيوت. مقتل النساء والأطفال الأبرياء والمقاتلين الفلسطينيين. لقد بدأت الهجمات في منتصف النهار، حيث كان حفل تخرج طلاب الشرطة، وحيث كانت النساء يتسوقن، وحيث كان الأطفال يغادرون مدارسهم.

لقد عشت في عالم بديل لا علاقة له بما كان يحدث [في غزة]. ومع تحول المزيد والمزيد من المدنيين إلى أهداف لتجاوزات العنف، أعلنت وزيرة الخارجية آنذاك تسيبي ليفني، “لا توجد أزمة إنسانية”. وفي اليوم الرابع، ووسط مشاهد لدمار العميقة والمجازر الواسعة، نشرت صحيفة نيويورك تايمز ما أسمته “الصراع في غزة”. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، تُجنب اللغة اللطيفة القراء الحاجة إلى مواجهة الحقائق. وعندما يتعلق الأمر بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين، يلوذ الناس نحو مطارح يستخدمون فيها التعابير الملطفة. فيتحول الخطاب العام حول الفظائع الصارخة التي ارتكبت ضد أعداد كبيرة من المدنيين إلى نوع من المراوغة وغير ملتزم، عندما يكون هؤلاء المدنيون فلسطينيين. فالقسوة واللامبالاة لها ما يبررها كرد معقول على نيران حماس الصاروخية.

في الثلاثين من  كانون الأول \ديسمبر 2008، الذي يصادف اليوم الرابع من الهجوم الإسرائيلي، الذي أطلقت عليه قيادة الجيش “عملية الرصاص المصبوب”، كانت الأمطار تتساقط، بينما كنت أشق طريقي من فندق أمريكان كولوني في القدس الشرقية إلى مطار تل أبيب. كان سائق التاكسي يعيش في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية حيث هدمت الجرافات الإسرائيلية بضعة منازل فلسطينية أخرى. وعندما سألته ما إذا كان مع حماس أم فتح ، أجاب: “أنا مع زوجتي وأولادي”. في الشيخ جراح، تشكل أكوام التراب المقلوبة والأسلاك الشائكة والقمامة وشظايا الزجاج تذكيراً دائماً له بأنه لا يوجد شيء آمن، ولا شيء مؤكد. في هذه الرحلة إلى المطار على طول الطريق 443، ارتفع الجدار بجانبي. يمكن للإسرائيليين أن يقودوا سياراتهم إلى تل أبيب دون رؤية البلدات العربية. قد يتخيل أي سائح  يزور البلاد لأول مرة أنه لا يوجد شيء بين القدس وتل أبيب سوى هذا الطريق. تدمج شبكة الطرق السريعة و “الطرق الالتفافية” التي تبلغ تكلفتها 3 مليارات دولار الكتل الاستيطانية في المناطق الحضرية في تل أبيب وموديعين والقدس. لكن كل مدينة أو بلدة أو قرية فلسطينية تشكل منظراً طبيعياً محطماً، مقسماً إلى كانتونات محددة وفقاً لمصطلحات إسرائيل، وتتصل مع بعضها البعض بروابط هشّة. في ذلك اليوم غادرت إسرائيل للمرة الثانية خلال عامين. لم أزرها من قبل حتى العام 2006، عندما سافرت إلى القدس لمقابلة عائلة زوجي. لم يرغب والدي، رغم أنه يهودي، في الذهاب إلى هناك. لقد ولد ونشأ في حلب، سوريا، ولا يزال يتحدث العربية. شرب العرق بنكهة اليانسون؛ ولعب طاولة الزهر ويردد بشكل دوري على مدار اليوم آذان المؤذن للصلاة. كل شيء مرتبط بطفولته كان ثميناً بالنسبة له. في أتلانتا – يدعوها “صحراء الجنوب” – يتمسك بالذكريات. قام بتغيير اسمه، بعد حرب الأيام الستة عام 1967، من “ديان” إلى “طويل” عندما كان يزوره أصدقاءه العرب. لقد كانت شريان حياته للموسيقى وطاولة الزهر وجلسات السمر الدافئة. هذه هي الطريقة التي أتذكر بها سعادة والدي لما كان، كما كنت أظن دائماً حياة غير سعيدة.

IV

أثناء حديثي مع سائق التاكسي، تعلمتُ شيئاً مما أطلق عليه جون بيرغر الشهير “موقف اليأس غير المهزوم” في وصف جمال ومعجزة الحياة الفلسطينية في المناطق. كما قال لي السائق: “يمكن أن تكون قصص [الناس هنا] قاسية، لكنها حقيقية. لهم تاريخ يحكون عنه”. إسرائيل، المستوطنات -معاليه أدوميم ، آرييل ، مودعين علييت، بيتار علييت- الأراضي المحتلة، لكل موقع قصة تروى. تلك القصة تروى من خلال المناظر الطبيعية.

كيف تصبح الأرواح قابلة للاستهلاك؟

لقد تم تجريد الفلسطينيين من منازلهم وأراضي أجدادهم وتم وصفهم بأنهم غرباء وأعداء، ولم يعد الفلسطينيون سوى فائض. حتى لو بقيت أحيائهم مدمرة ومليئة بالحطام. اقتلاع أشجار الزيتون. أغصان وجذوع أشجار الفاكهة المتعفنة. ألواح من الخرسانة تنتصب خارج الأرض مثل شواهد القبور. أسوار وجدران وحواجز طرق وحواجز أرضية ونقاط تفتيش وخنادق – سافرنا عبر برية من الحواجز، كما لو أن ساحراً مجنونًا قرر أن يلائم كل نوع مما سبق في أصغر مساحة من الفضاء.

V

اليوم، في العام 2012، تتساقط المنشورات مع استمرار القصف بالقنابل على غزة، تحذر، تلك المنشورات، المدنيين من الابتعاد عن الطريق وتؤكد لهم أنهم ليسوا هدفا للقنابل. لكن لا  مكان للهرب. في الصور، منشورات التحذير تتساقط كالثلج. وتبدأ المنشورات بعبارة “إعلان هام لسكان قطاع غزة”. إنهم يلومون حماس على العنف ويحذرون المواطنين بالابتعاد عن منشآت حماس: “من أجل سلامتكم، تحملوا المسؤولية عن أنفسكم وتجنبوا التواجد بالقرب من نشطاء ومنشآت حماس والمنشآت التابعة للمنظمات الإرهابية الأخرى، وجودكم هناك يشكل خطراً على سلامتكم.” خطر على السلامة؟ في سجن غزة المفتوح، هناك 1.7 مليون شخص غير قادرين على الدخول أو الخروج. قوبلت مقاومة الاحتلال بسياسة إسرائيلية متمثلة في  العزل وعدم التمييز. يعيش سكان غزة تحت الحصار منذ فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية في كانون الثاني \ يناير 2006 وسيطرتها على قطاع غزة في حزيران \يونيو 2007 ، ويتعرضون لتهديد دائم بالعنف -من خلال عمليات قتل مستهدفة و “أضرار جانبية”. وكان إيهود أولمرت قال في اليوم الأول من هجوم العام 2008  الذي استمر ثلاثة أسابيع “سكان غزة لا يستحقون المعاناة”. وبعبارة أخرى، هذه التجاوزات ليست عقابية. حتى الطاعة لن توقفهم. وقبل كل مرحلة جديدة من هذا الهجوم، كانت المنشورات تحمل تحذيرات مهذبة موجهة إلى “سكان المنطقة”. وتردد تلك المنشورات كلمات بعيدة عن الواقع وتتعارض مع الإحساس: “من أجل سلامتك أنت مطالب بمغادرة المنطقة على الفور.”

ولكن، إلى أين؟ المغادرة إلى أين؟ لا مكان آمن. هذا هو الرعب بعينه.

VI

نفذّت إسرائيل، حتى العشرين من تشرين الثاني\ نوفمبر  وفقا لإحصاءاتها الحكومية، أكثر من 1350 هجوماً منذ شن الهجوم الحالي. يتجلى شغف الانتقام في سبيل عدالة مطلقة لكنها اعتباطية بطريقة ما. اكتساحه الواسع يشمل عواقب لا حصر لها. كما  يبتلع  في تعميمه، والحديث دائماً عن الانتقام، جميع الأفراد على اختلافهم.

لماذا يجب أن تكون إسرائيل في مأمن من النقد؟ إن الحجة التعويضية السياسية للدفاع متأصلة في هيمنتها وفي عدم قدرتنا على مواجهة عنفها الصريح: تحتاج إسرائيل إلى إعادة بناء الردع حتى لا يمكن إطلاق المزيد من الصواريخ عليها، هكذا يتحدث أوباما عما يحصل باعتباره الرد المناسب من بلد له الحق في الدفاع عن نفسه.

لكن هناك بدائل للمجازر العشوائية، بما يشبه الدعوة إلى “تسوية كل غزة بالأرض”، كما كتب غلعاد شارون، نجل أرييل شارون، في افتتاحية  جيروزاليم بوست في 18 تشرين الثاني\ نوفمبر. لقد وافقت حماس على هدنة غير رسمية، كما لاحظ كثيرون، قبل أن تقرر إسرائيل قتل أحمد الجعبري. ويوضح غيرشون باسكن، الذي تفاوض مع حماس بشأن إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير غلعاد شاليط، “في صباح اليوم الذي قُتل فيه، تلقى السيد الجعبري مسودة اقتراح لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، بما في ذلك الآليات التي من شأنها التحقق من النوايا وضمان الالتزام”. فما الذي ينتقم  الجيش الإسرائيلي منه إذن؟ لماذا يحرم السكان من البنية التحتية بأكملها؟ كيف، كما يسأل ريتشارد فولك في مقابلة مع إيمي غودمان في موقع ديموكراسي ناو Democracy Now! ، هل هذا الانتقام كفيل بإنتاج الأمن؟

VII

“فأُرْسِلُ نَاراً عَلَى أَسْوَارِ غَزَّةَ فتَأْكُلُ حُصُونَهَا. ( عاموس 1:7)

كل هجوم إسرائيلي على غزة يحمل اسمتً يوصل رسالة لا تعني فقط أولئك المحتجزين هناك، ولكنها رسالة أيضاً للآخرين في إسرائيل وفي بقية العالم. ماذا تخبرنا هذه الأسماء؟ “عملية مطر الصيف” في 27 حزيران\ يونيو 2006. “عملية غيوم الخريف” في 1 تشرين الثاني \ نوفمبر 2006. “إِذَا امْتَلأَتِ السُّحُبُ مَطَرًا تُرِيقُهُ عَلَى الأَرْضِ” هكذا يقول الحكيم في سفر الجامعة( 3: 11) ، وغالباً ما تكون الأسماء غنائية/ كأنها أبيات من قصيدة هايكو، تنذر بأن الطبيعة أخطأت: فالمطر الذي لا يبلل الأرض يحرقها؛ والغيوم التي تعد برعب صارم بحيث لا يمكن لأي موسم أن ينجو منه. لا حريف بعد اليوم، ولا شتاء. دفعت “عملية الرصاص المصبوب” بسلسلة مختلفة من الأشياء ذات الصلة، ليس فقط الإسرائيليون القدامى في معاركهم الكتابية ضد الكنعانيين والفلسطينيين، بل مجموعة كبيرة من التحولات الأخرى. وأستطيع أن أذكر منها ترنيمة موسى في سفر الخروج(15:10) بعد أن أنقذ الرب إسرائيل من أعدائهم: “نَفَخْتَ بِريحِكَ، فَغَطّاهُمُ الْبَحرُ، غَاصُوا كالرَّصَاصِ فيِ مِياهٍ غامِرَةٍ” ويسمى الرصاص “ملح زحل” في الخيمياء، وهو ينذر بالظلام والبؤس. إن الجثث التي تتحول إلى رصاص، أو تلك المدفونة في أعماق البحر أو تلك التي تُلقى في أشكال جديدة لا تتشكل على صورة الرب، بل تتحول إلى معادن عادية، أشياء غير طبيعية وجاهزة للتدمير.  ربما تنقلنا طقوس التسمية هذه من عالم الواقعية، أي حقائق التجربة التي لا يمكن إنكارها -بمعنى  ما نراه ونسمعه ونعرفه- إلى مصطلحات ما أسماه كينيث بيرك “الطريق الصاعدة”. نظراً لأننا نتجاوز مجرد التجريبية، ونستجيب لنداء أعلى، فيتم تعطيل حكمنا. يختفي الضرر الواضح عندما ندخل إلى عالم خاص مغلق أمام الآخرين. ننسى الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. لا يمكنهم استنفاذ طاقتهم في سبيل إقرار إلهي آني. الاسم الرمزي التوراتي المختار لهجمات غزة الحالية هو” עמוד ענן”، وليس “عمود الدفاع” كما تتم ترجمته، ولكنه في الواقع “عمود السحاب”. يمكننا أن ننسى سحب الدخان من المباني المحترقة، والقنابل المتساقطة، وإطلاق القذائف من الطائرات بدون طيار. الدفاع هو سحابة الرب الوقائية، السحابة التي أخفت بني إسرائيل من الأذى أثناء خروجهم من العبودية في مصر. ونحن، الآن، ننضم إليهم، محميين من كل ما هو خارج ملاذنا الرائع. يتضاعف الخطأ في الترجمة من خلال الاستخدام الأصلي للاسم الرمزي ويحوّله.

وعلى الرغم من ما هو حقيقي – أي القوة الواضحة وغير المتكافئة للأسلحة الموجهة ضد سكان غزة- فقد أعيد ضبط أعمدة النار والدخان في إسرائيل كدفاع شرعي وضروري، بغض النظر عن التكلفة.

حقاً إن حديثنا عن غزة يشبه حديثنا عن الرب.

العنوان الأصلي: How Not to Talk about Gaza

المصدر: https://bostonreview.net/world/how-not-talk-about-gaza

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

بيان بيدرسون في الذكرى السنوية “للصراع السوري”

في  ذكرى ” الثورة المغدورة”، لا يجد هذا الفَقِيه الأممي ما يقدّمه للسوريين سوى  الإصرار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *